يضم متحف اللوفر الكبير مجموعة إسلامية تعد من أهم المجموعات المتحفية في العالم اليوم ويمكن مقارنة هذه المجموعة بمجموعات عالمية أخرى كمجموعة متحف الميتروبوليتان في نيويورك ومجموعة المتحف البريطاني في لندن. يعود اهتمام اللوفر باقتناء التحف الإسلامية إلى نهاية القرن التاسع عشر وبالتحديد إلى عام 1890 بفضل جهود الأمينين غاستون ميجون وإيميل مولينييه. وهذا الأخير خصص صالة للفن الإسلامي في اللوفر عام 1893، ثم جاءت هبات عدد هام من الشخصيات الفرنسية التي كانت تهوى جمع الفنون الإسلامية لتزيد من قيمة المجموعة التي يقدّر عددها اليوم بالآلاف.
ومع تأسيس مشروع «اللوفر الكبير» في عهد الرئيس الراحل فرنسوا ميتران أصبح للّوفر عام 1993 جناح إسلامي ملحق بقسم الآثار الشرقية الذي يضم آثار بلاد ما بين النهرين وفينيقيا وسوريا. ويخضع الجناح الإسلامي حاليا لتوسيعات ستتواصل حتى عام 2010 حيث سيصبح بإمكانه عرض حوالي ألفي قطعة تعد من الروائع الفنية وهي تختصر الإبداع الإسلامي خلال مرحلة زمنية طويلة تتجاوز الألف عام.
تحف الجناح الجديد تتميز بقيمها الجمالية العالية ويرجع أقدمها الى المرحلة الأموية التي شهدت بدايات الفن الإسلامي وبالتحديد في مدينة القدس حيث شيدت قبة الصخرة عام 691 وفي دمشق حيث شيد الجامع الأموي الكبير بين عام 705 و715 وهو يعد أقدم نموذج معروف بين الجوامع التاريخية التي اعتمدت التصميم العربي للمساجد. من المرحلة الأموية يملك اللوفر تحفاً متنوعة تظهر فيها المؤثرات المتوسطية من جهة والمؤثرات الفارسية وبالتحديد الفن الساساني من جهة أخرى.
تختلف تحف المرحلة العباسية عن تحف المرحلة الأموية لأنها تعكس ولادة جمالية جديدة مغايرة لتلك التي تطالعنا في فنون الحضارات السابقة وخاصة البيزنطية والساسانية. نتعرف على هذه الجمالية الجديدة في عمارة مدينة سامراء – سرّ من رأى- التي شيدها الخليفة المعتصم عام 836 حتى يبتعد عن بغداد، وقد ظلت عاصمة للخلافة العباسية لمدة خمسين عاماً وبنيت فيها جوامع وقصور نافست عمارة بغداد من حيث الروعة والإتقان. قامت هذه الجمالية الجديدة على تحوير عناصر الطبيعة وإعطائها بعداً تجريدياً كما أنها اعتمدت على تقنيات زخرفية مبتكرة أطلق عليها مؤرخو الفن الإسلامي إسم أسلوب سامراء. ومن هذه المرحلة يملك متحف اللوفر باباً عثر عليه في تكريت وكان من أبواب قصر جوسق الخاقاني الذي شيد في سامراء عام 836.
تبين دراسة هذا الباب كيف تمكّن الفنانون من ابتكار أسلوب جديد في حفر الخشب ويُعرف بالحفر المائل ويقوم على تجويف الخشب بعمق. ومن سامراء انتقل هذا الأسلوب الجديد الى مصر وهو يطالعنا في التحف التي أنجزت خلال المرحلة الطولونية 868-905 ويملك اللوفر مجموعة كبيرة منها.
صحيح أن ابن طولون قد تمرد على الحكم العباسي لكنه ظل وفياً للثقافة التي حملها معه من سامراء وأراد أن يشيد في مصر أبنية تضاهي أبنية سامراء فكان الجامع الشهير الذي يحمل اسمه والذي يعد من روائع العمارة الإسلامية.
من المرحلة الطولونية إلى المرحلة الفاطمية التي امتدت من عام 909 الى عام 1171 وعرفت تحولات كبيرة منها تأسيس مدينة القاهرة ليسكن فيها الحكام مع حاشيتهم بعيداً عن الأحياء السكنية. وبفضل علاقاتهم التجارية ذات الطابع العالمي ورعايتهم للفنون ترك لنا الفاطميون مجموعة نادرة من الصروح منها الجامع الأزهر وجامع الحاكم وجامع الأقمر. كذلك لمعت الفنون الأخرى ومنها الحفر على الخشب والعاج والخزف والأقمشة. ويملك اللوفر نماذج نادرة من المحفورات الخشبية التي شهدت ولادة أساليب جديدة على الصعيدين الجمالي والتقني. تتميز هذه المحفورات بكونها مجسدة على بعدين وبتركيزها على المشاهد التصويرية مثل مجالس الطرب ومشاهد الصيد وصراع الحيوانات. إن أسلوب حفر الخشب في هذه التحف وإبراز الأشكال الآدمية التي تأتي على خلفية نباتية من الأوراق والأزهار يؤكدان على لعبة الضوء والظل مما يمنحها طابعاً فريداً وشخصية مميزة.
ضمن هذا الإطار أيضاً يمكن الحديث عن المنحوتات العاجية الفاطمية التي يملك اللوفر نماذج منها وهي تشبه المحفورات الخشبية من حيث مواضيعها الزخرفية والتقنيات المعتمدة مع تركيزها على مشاهد الرقص والصيد وعزف الموسيقى.
لم تتراجع الفنون عند نهاية الحكم الفاطمي بل استمرت في تألقها في مصر وسوريا في زمن حكم الأيوبيين والمماليك الذين ارتبط اسمهم بتشييد مئات الأبنية التي منحت القاهرة مكانة استثنائية بين مدن العالم العربي والاسلامي.
من هذه المرحلة يملك اللوفر تحفاً زجاجية ومعدنية وخشبية نادرة. وتبين دراسة هذه التحف أن فن التعدين كان في صدارة الفنون وهو تطور في المدن الكبرى كدمشق والقاهرة وحلب، وقد ركز الفنانون في عملهم على صفحة المعادن المكونة من البرونز أو النحاس وطعّموها بمعادن أخرى مثل الذهب والفضة. استعملوا المواد المختلفة لابتكار تأثيرات بصرية سواء على مستوى الشكل أو مستوى اللون. تطالعنا في مجموعة اللوفر الشمعادانات والأباريق والمباخر والطاسات المتنوعة الأحجام والأشكال وتكتسب هذه التحف، بالإضافة إلى بعدها الوظائفي، بعداً جمالياً نادراً بسبب زينتها البديعة التي تجمع بين الأشكال الهندسية وتستوحي من الفروع النباتية والخطوط العربية والمشاهد التي تصور البشر والحيوانات. إنها متعة للعين بما تقدمه من رؤية فنية تحكم أدق التفاصيل.
ما قلناه عن فن التعدين ينطبق على فن الزجاج خلال المرحلة الأيوبية والمملوكية التي توصل فيها الفنانون الى مستوى رفيع لم يعرف في الحضارات الأخرى. ويملك متحف اللوفر نماذج نادرة من هذه التحف الزجاجية وهي تتميز بزخرفتها المذهّبة والملونة بمادة المينا. تعتمد الزخارف على الأشكال النباتية التي تشكل خلفية لصور الفرسان والصيادين وهي تمتزج بالخطوط العربية التي لعبت دوراً أساسياً في زخرفة القناديل التي كانت معدة لإنارة المساجد وهي تورد الآيات القرآنية والعبارات التي تمجد السلاطين.
في تجوالنا على تحف اللوفر الاسلامية التي أنجزت خلال مرحلة القرون الوسطى لا بد من أن نتوقف أيضاً عند التحف الأندلسية وأهمها العلب والصناديق العاجية التي أنتجتها محترفات قرطبة ومدينة الزهراء للخلفاء الأمويين وأفراد عائلاتهم وهي مؤرخة وعليها أسماء أصحابها. تشهد هذه التحف على المستوى العالي الذي حققته الحضارة الإسلامية في إسبانيا وهي تتميز بمحفوراتها المستوحاة من عالم البشر والحيوانات ومن أشهرها صندوق يحمل اسم المغيرة وكان من أبناء الخليفة عبد الرحمن الثالث. أنجز هذا الصندوق الدائري الحجم في قرطبة عام 968 وهو يتمتع بشهرة عالمية بسبب زخارفه المحفورة بعمق وإحساس فني مرهف وهي تغطي خارج الصندوق من أعلاه الى أسفله. وردت على غطائه الذي يأخذ شكل قبة العبارة التالية التي مكّنت المؤرخين من تحديد صاحب الصندوق:« بركة من الله ونعمة وسرور وغبطة للمغيرة بن أمير المؤمنين رحمه الله». تركز زخارف الصندوق على صور البشر وتستوحي من مشاهد الصيد وصراع الحيوانات: أسد ينقضّ على غزال، فارسان يمتطيان حصانيهما وتفصل بينهما شجرة نخيل، عازف عود يرتدي ثوبا طويلا… تحيط بهذه المشاهد التصويرية الفروع النباتية والأشكال الهندسية التي تشكل أطراً للصور.
تغطي مجموعة اللوفر الاسلامية جميع المناطق والدول التي برزت فيها الفنون ومنها بلاد فارس والهند وتركيا العثمانية. وتختصر التحف المنفذة في إيران التحولات التي عرفتها الفنون خلال مراحل الحكم السلجوقي والمغولي والصفوي. ونتعرف فيها على نماذج نادرة من القطع الخزفية التي تعكس الدور الهام الذي لعبه الخزف في الفنون الإسلامية. ويملك اللوفر مجموعة نادرة من البلاطات التي كانت تغطي الجدران وتصنع فيها كذلك المحاريب والشواهد.
أنجزت هذه البلاطات في النصف الثاني من القرن الثالث عشر وهي على شكل صليب أو نجمة كما درجت العادة في هذه الحقبة، ورسمت عليها المشاهد التصويرية المكونة من الأشخاص والحيوانات أو من الزخارف الهندسية ذات المنحى التجريدي. صنعت هذه البلاطات في مدينة قاشان التي كانت المركز الأساسي لإنتاج البلاطات الخزفية المستعملة في الأماكن الدينية.
بموازاة صناعة البلاطات ازدهرت صناعة الصحون والأواني الخزفية المنفذة بتقنيات مختلفة والتي تعكس التقنيات الزخرفية المدهشة التي توصل إليها الخزافون المسلمون منذ الحقبة العباسية بسبب تطور العلوم ومنها الكيمياء. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن الخزافين في بلاد فارس استوحوا العديد من زخارفهم التصويرية من أحداث ملحمة «الشاهنامة» للشاعر الفردوسي. وهذه الملحمة التي كتبت باللغة الفارسية المستحدثة عند مطلع القرن الحادي عشر تعد من روائع الأدب الفارسي وهي تمزج بين التاريخ والأسطورة وقد روى فيها الشاعر تاريخ إيران القديم مروراً بسيرة الأبطال الأولين ومنهم سام وزال وجمشيد. ولاقت هذه الملحمة، منذ تاريخ كتابتها، رواجاً كبيراً ليس فقط في إيران بل في أنحاء العالم الاسلامي حيث اعتمدت اللغة الفارسية كلغة للأدب والثقافة كما في الهند وآسيا الوسطى. وتكشف دراسة المنمنمات الفارسية التي يملكها متحف اللوفر أن أحداث ملحمة «الشاهنامة» كانت حاضرة بقوة في رسوم المخطوطات التي نفذت بفضل رعاية السلاطين والأمراء خلال قرون طويلة امتدت منذ المرحلة الإيلخانية التي أعقبت الغزو المغولي للعالم الاسلامي في القرن الثالث عشر حتى المرحلة الصفوية وهي تعد العصور الذهبية للفنون الإسلامية الفارسية.
من الفنون الفارسية إلى الفنون العثمانية التي تمتلك طابعاً خاصاً يميزها عن بقية الفنون الإسلامية، لعب السلاطين العثمانيون دوراً أساسياً في ازدهار الفنون. ولم ينحصر دورهم في الرعاية فقط، بل كانوا هم أيضاً من المبدعين في مجالات الخطّ والتصوير، ومن المساهمين في إحياء المشهد الفني نفسه.
من الفنون العثمانية يملك اللوفر تحفاً خزفية تكشف عن المكانة التي يحتلها فن السيراميك في هذه الفنون، وكان من الفنون الأساسية وليس من الفنون الصغيرة أو الفرعية، كما أنه لعب دوراً أساسياً في زخرفة العمارة الدينية والمدنية حيث كانت البلاطات تغطي الجدران لتكسبها بعداً جمالياً وروحانياً أكيداً.
تبيّن دراسة تحف اللوفر أن اغلب قطع الخزف التي أنتجتها المحترفات العثمانية منذ نهاية القرن الخامس عشر وحتى بداية القرن الثامن عشر يعتمد صنعها على عجينة من رمل الصوان مغطاة بقشرة بيضاء ترسم عليها الزخارف الملونة بمادة الميناء. وتغطى هذه الزخارف بقشرة زجاجية وتوضع في الأفران الخاصة. وإذا كانت التقنية متشابهة بالنسبة الى غالبية قطع الخزف العثماني فإن المفردات والمواضيع الزخرفية كانت على قدر كبير من التنوع. ومن المعروف أن محترفات مدينة إزنيق التي كانت تصنع فيها القطع والبلاطات الخزفية تمكنت في بداية النصف الثاني من القرن السادس عشر من ابتكار أنواع جديدة من الألوان ساهمت في ولادة أشكال زخرفية جدية.
نشاهد في اللوفر مجموعة من الصحون المصنوعة في إزنيق وهي تضم رسوماً لأربع أزهار نالت شهرة كبيرة في الفنون العثمانية وهي: القرنفل والخزامى والنسرين والزنبق. ونلاحظ أن هذه الأزهار فرضت حضورها بقوة على الفنون العثمانية الأخرى كما يتضح في مجموعة اللوفر ومنها الأقمشة والسجاد والمنمنمات… وتختصر روعتها عبارة قالها جوزيف سوستيل المتخصص في فن السيراميك العثماني: «هكذا تنتج محترفات إزنيق قطعاً غاية في الجمال وبريقها لا يعادله شيء. هكذا أيضاً تطالعنا الألوان في كل مكان. في الجوامع… في القصور… وأينما كان، تتفتّح، تزهو وتنتصر أزهار الخزامى والقرنفل والنسرين والزنبق».
يتجلى إبداع الفنانين في استعمالهم لهذه الزهور بأشكال متنوعة إذ تطالعنا أحياناً في اللوفر مجموعة من الصحون التي يتوسط فيها كل صحن رسم لشجرة الشربين الواقفة كحرف الألِف وحولها الأزهار. ثمة صحون أخرى تطغى عليها الخلفية الخضراء وتتوسطها قرنفلة كبيرة يستند إليها عصفور وتحيط بها بشكل دائري أزهار النسرين والزنبق.
أخيرًا، وفي ختام جولتنا على المجموعة الإسلامية في متحف اللوفر لا بد من الإشارة إلى قطع السجاد النادرة التي يملكها وهي تبين أن حياكة السجاد كانت من الفنون الكبرى في الشرق الإسلامي لما تعكسه من عناصر وأشكال بصرية وزخرفية تكشف عن رموز دينية موغلة في القدم وعن معتقدات ومشاعر إنسانية عمي
أوراس زيبـــاوي كاتبة من لبنان تقيم في باريس