إلى طبيبي العزيز أ. رودينسكو، في ذكرى تعاونٍ ودِّيٍّ وطبيٍّ أحياناً.
٠٢ أغسطس (آب) 1944.
طلبَ منّي أحدُ الأصدقاء، نيابةً عن بعضِ الأشخاص الذين يريدون إخراج الرَّعويات(٢) في كتابٍ جميلٍ، أن أترجمَها على طريقتي الخاصّة؛ ولأنّهم كانوا حريصين على تناظرٍ من شأنه أن يُظهرَ جليّاً نيَّتهم في إخراج صفحاتٍ ذات بناءٍ صلبٍ ونبيلٍ، اعتقدوا أنّه من المناسبِ أنْ يُقابلَ السّطرَ اللاتينيَّ سطرٌ فرنسيٌّ، وطرحوا عليَّ إشكاليّةَ هذه المساواةِ في الشكلِ والعدد.
بول فاليري ترجمة: عصام يوسف دعنا
شاعر فرنسي (١٨٧١-1945م) مترجم من الأردن
إنَّ اللاتينيّةَ، بشكلٍ عامٍّ، لغةٌ أكثر تكثيفاً من لغتِنا. كما أنَّها لا تستخدمُ حروفَ التَّعريف والتَّنكيرِ، وتقتصدُ في استعمال الأفعالِ المساعدةِ (كما هي الحالُ في الفترة الكلاسيكيّة على الأقل)، علاوةً على إقلالها في استعمال حروف الجرِّ. وتستطيعُ أن تقولَ الأشياءَ ذاتها بكلماتٍ أقلَّ، بالإضافةِ إلى أنّها تقبلُ ترتيبَ هذه الكلماتِ بحريّةٍ تنكرها علينا لغتُنا كليّاً على وجه التّقريب، وفي هذا ما يثيرُ حَسَدَنا. إنَّ هذه الحريّةَ من أكثر الحريّاتِ مواتاةً للشِّعرِ الذي هو فنٌّ إلزامِ اللغةِ باستمالةِ الأذن على نحوٍ متواصلٍ وتلقائيٍّ (وعن طريق الأذن استمالةِ كل ما تثيره الأصواتُ بذاتها) على الأقلِّ بقدر ما تستميلُ اللغة العقلَ. فالبيتُ هو في الآن ذاته سلسلةٌ من المقاطعِ ونَسَقٌ من الكلمات؛ وبالطريقةِ التي ينبغي على هذا النسقِ أنْ يشكِّلَ معنىً مُحتملاً، ينبغي أنْ تنتظمَ هذه السلسلةُ في ما يشبه الصورةَ المسموعةَ التي تفرضُ نفسها، بحتميّةٍ خاصّةٍ وبوصفها مُدهشةً، على طريقة القولِ والذّاكرةِ في الوقت ذاته. من هنا، يتوجَّبُ على الشّاعرِ أنْ يلبّي شرطين مُستَقلَّين، مثلَ الرَّسّامِ الذي يتعيَّنُ عليه أن يقدمَ للعين المحضةِ تناغماً معيّناً، أمّا للعقلِ فعليه أنْ يقدِّمَ شبهاً مع الأشياء أو الناس. من الواضحِ إذن أنَّ حريَّةَ ترتيبِ الكلماتِ في الجملةِ، التي تُعاديها الفرنسيّةُ بفرادةٍ غريبةٍ، جوهريّةٌ في عمليّة النظم. هكذا يفعلُ الشاعرُ الفرنسيُّ ما في وسعه في الإطار الضيِّقِ الذي تسمح به تراكيبُ الجملةِ الفرنسيّة، بينما يفعلُ الشاعرُ اللاتينيُّ، ضمنَ إطار لغته الرّحبِ جداً، تقريباً ما يريد.
كانَ عليَّ أنْ أترجمَ إذن نصَّ فيرجيل الشهير إلى الفرنسيّة سطراً بسطرٍ، وبما أنّي لم أكنْ لأقبلَ، منّي أو من غيري، إلاَّ بترجمةٍ أمينةٍ بقدر ما تسمحُ به الفروقات بين اللغتين، كانتْ ردَّةُ فعلي الأولى الاعتذار عن إنجاز العملِ الذي عُهِدَ به إليّ، لأنَّه لم يكنْ هناك ما يرشِّحني للقيام به. فقد تقلَّصت معرفتي المدرسيّة باللاتينيّة منذ خمسةٍ وخمسين عاماً إلى ذكرى تذكُّرها؛ علاوةً على أنَّ كثيرين من بين الأكثر ثقافةً وإطلاعاً (ناهيك عن الآخرين) كانوا قد انكبّوا، خلال القرون الثلاثة أو الأربعة الماضية، على ترجمةِ هذه الأشعار، ولم أكن آملُ سوى القيامِ بعملٍ أقلَّ جودةً ممّا أنجزوا على نحوٍ أفضل. أضيفُ وأعترفُ أنَّ موضوعةَ الرَّعويات لم تثرْ حماستي بشغفٍ. فالحياةُ الرّعويّةُ غريبةٌ عليّ وتبدو مملّةً بالنسبة لي. والمهارةُ الزِّراعيّةُ تتطلَّبُ على وجه التحديد كلَّ الفضائل التي تنقصني. كما أنَّ رؤيةَ آثار المحاريثِ، حتّى تلك التي يخطُّها قلمي، تُشعرني بالكآبة. إنَّ عودةَ الفصولِ ومظاهرها تعطي فكرةً عن عبثيّةِ الطبيعةِ والحياةِ التي لا تعرف سوى تكرار نفسها من أجل البقاء. كما أنّي أفكِّرُ أيضاً في الجهودِ الرتيبةَ التي يتطلّبها شقُّ التجاعيدِ في وجه الأرضِ الصّلبةِ، ولا يفاجئني أبداً أنّنا رأينا في العقابِ المُنزلِ بالإنسان «بعرقِ وجْهِكَ تأكلُ خبزا»(٣) عقوبةً بدنيّةً ومهينةً، فلطالما بدت لي هذه العبارةُ وضيعةً. وإذا ما لامني أحدٌ على هذا الشعور الذي أعترفُ به ولا أتظاهرُ بالدفاعِ عنه، فسأقول أنّني وُلِدْتُ في ميناءٍ يخلو من الحقولِ، ولم يكنْ هناك سوى الرِّمال والمياه المالحة، أمّا الماء العَذْبُ فكان يأتي من مكان بعيد. ولم نكن نعرف المواشي والأبقار هناك سوى كحمولةٍ في عربات الشّحن، فكانت تبدو مَيْتةً أكثر منها حيّةً، حيوانات لا حيلةَ لها معلَّقة بين السماء والأرض، مشدودة على عجلٍ إلى أعلى تلوِّح بحوافرها في الفضاء، لتُلقى بعد ذلك مذعورةً على غبار الأرصفةِ؛ ثمَّ كانتْ تدفعُ نحو القطارات المُظلمة فتتعثّر بين قضبان السكّة الحديديّة وهي تخبُّ تحت تهديد عصيِّ الرعاة من دون ناي.
غير أنَّ ذاك النّوع من التّحدي الذي كانت تحمله الصّعوبات التي تحدّثت عنها، والمُقارنات ذاتها التي كان عليّ أن أخشاها، عملت كبوصلةٍ ودفعتني أخيراً للإذعان، كما لو كنتُ معتاداً بطريقة ما على الاستسلام لعوامل القدر هذه التي نسمِّيها «الآخرين». فأنا لا أملك إرادةً سوى بخصوصِ مسألتين أو ثلاث مسائلَ قطعيّةٍ ومتأصِّلةٍ عميقاً، وما عدا ذلك فتجدني متساهلاً حدَّ الضعفِ والحماقةِ. والسببُ في ذلك هو ربّما تلك اللامبالاة الغريبة التي ترتكزُ على يقيني بأنّ الإنسان لا يعرفُ ما يفعل، كما أنّه لا يعرف ما سيؤول إليه، وأنَّ إرادةَ شيءٍ ما سرعان ما تعني إرادةَ عدد لا نهائيٍّ من الأشياءِ التي لن يصعُبَ عليها أبداً أنْ تلوحَ بدورها في الأفق. إنّ كلَّ الأحداث في حياتي، التي كانت من صنعي ظاهرياً، هي من صنيعِ شخصٍ آخر وكلُّ واحدٍ منها يحمل توقيعاً مختلفاً. هكذا، لاحظتُ أنّه لا توجدُ ميزات أكثر من المساوئ في أنْ يفعل الإنسان ما يريد، وهذا ما قادني إلى عدم الطلب أو الرفض إلاّ في أقلِّ عددٍ من المرّات. إنَّ القرار الأكثر حكمةً أمام تعقيد الأشياء وتشابكها لا يكون مختلفاً عن القرار نتّخذه برمي قطعة نقد، وإن لم نكتشف ذلك في اليوم ذاته فإنّنا نرى ذلك جليّاً في الشهر الذي يليه.
عدتُ وفتحت فيرجيل الذي أقتنيه منذ أيام المدرسة وهو لا يخلو، كما جرت العادة، من هوامشَ وملاحظات تظهر سعة اطِّلاع أستاذٍ ما، لكنّها لا تُظهرها إلاَّ له، لأنّها في غالبيتها العظمى ستكون مناسبةً على نحوٍ مدهشٍ لزجِّ التلميذ البريء في مشاكلها الفيليلوجيّة وفي شكوكه الخاصّة، إن لجأ إليها، وهذا ما لا يحرصُ عليه التلميذ أصلاً.
آه يا فيرجيل صفوفي المدرسيّة، من كان يصدِّق أنّه سيتوجّب عليّ أنْ أعودَ وأتخبّطَ فيك ثانيةً!
وبما أنني أقسمتُ لنفسي على فيرجيل الطفولةَ هذا أنْ أكونَ مخلصاً ما استطعتُ لنصِّ مقطوعات المناسبات هذه التي جعلتها تسعة عشر قرناً من المجدِ نصوصاً مُبجلّةً وشبه مقدّسة، آخذاً بعين الاعتبار الشرط الذي ذكرت بخصوص المقابلة سطراً بسطر بين فيرجيل وفقاً لفيرجيل وبين فيرجيل وفقاً لي، التزمت بأنْ أنظمَ بيتاً مقابل بيت، وأنْ أكتبَ بيتاً مؤلّفاً من اثني عشر مقطعاً مقابل كلِّ بيت من ستة مقاطع. ومع هذا، لم أفكّر حتى في إقامة القافية، ممّا كان سيجبرني بالتأكيد على أخذ الكثير من الحريّة مع النص، في حين لم أسمح لنفسي بإهمال سوى بعض التفاصيل. ومن ناحية أخرى فقد سهّل استعمال البيت الشّعريّ في مواضع مُختلفة البحث عن إيقاع، وجعل المسألةَ تبدو كأنّها أكثر طبيعيّة، وذلك لأنّ الإخلاص المقصور على المعنى عندما يتعلق الأمر بالشّعر هو نوع من الخيانة. فكم من أعمالٍ شعريّة منقولة نثراً، أي إلى مادة معناها، لم تعدْ، حرفيّاً، موجودةً! وصارت عيّنات للتشريح وطيوراً ميتة. لم أعد أفهم! فالعبث الخالص أحياناً يفرِّخ فوق هذه الجثث المؤسفة التي يكثرها التّعليم ويدّعي بأنّه يغذّي «الدراسات» منها. إنّ التّعليم يلقي في النثر كما نلقي في التّابوت.
ذاك لأنَّ أجملَ الأبيات في العالم تفقدُ معناها ومعقوليتها حالما تنقطع حركتها الإيقاعيّة وتفسد مادتها الصّوتيّة التي تنشأ في وقت الأبيات الخاص بانتشارها المضبوط، وحالما تتمّ الاستعاضة عن الأبيات بتعابير لا موسيقيّة بالضرورة ودون رنين. وسأذهب حدَّ القول أنَّه كلّما حافظ عمل شعريُّ المظهر على قيمة معيّنة بعد تعرّضه للاعتداء بالنقل نثراً قلّتْ الحظوظ في أنْ يكون من صنيع شاعر. فالقصيدة في معناها الحديث (أي كما تظهر بعد تطوّر طويل وبعد ابتعادها عن وظائف الخطاب) يجب أن تُحدث الانطباع بأنها مركّب غير قابل للفصل من الصوت والمعنى، على الرّغم من عدم وجود علاقة عقليّة بين هذه المكوّنات اللغويّة التي ترتبط كلمةً كلمة في ذاكرتنا، أي عن طريق الصدفة، لتكون تحت التّصرّف عند الحاجة، وهذا بدوره أثر آخر من آثار الصدفة.
والآن سأروي انطباعاتي كمترجم بكلِّ بساطة، غير أنّي لن أمتنع في البداية، بحكم آفتي العقلية، عن إرساء بعض القواعد وتحريك بعض الأفكار، من أجل المتعة ….
إنّ كتابة أيّ شيء، طالما أن الكتابةَ تتطلّب التفكيرَ، وليست تخطيطاً آليّاً ودون توقّف لكلام داخليٍّ عفويٍّ تماماً، هي عملية ترجمة تشبه بالضبط تلك التي تعمل على نقل نصٍّ ما من لغةٍ إلى أخرى. ويعود السبب في ذلك إلى أنّه في النطاق الحيويّ للغةٍ ما، والذي يلبي الجميع داخله شروط اللحظة والظرف، فإن الذي يخاطبنا، ومقاصدنا البسيطة أو المركّبة، وتمهّلنا أو عجلتنا، وأمور أخرى، تعدِّل خطابنا. فالجميع يمتلك لغةً خاصةً لنفسه تبتعد قليلاً أو كثيراً عن طرق الكلام الأخرى. فهناك لغة نكلّم بها من نألف، وأخرى من أجل العلاقات الاجتماعيّة بشكل عام، وأخرى نستعملها في المحاكم، وهناك لغة من أجل الحبّ، وواحدة للغضب، واحدة للأمر وأخرى للرجاء، واحدة من أجل الشّعر وأخرى للنثر؛ وخلافاً لذلك فهناك عدة لغات في كلّ واحدة من الفئات السابقة، ولتلك الغايات جميعاً نستعمل المفردات ذاتها (حتى إن اتسع أو ضاق مداها حسب الحالة) تحت قواعد تركيب الجمل ذاتها.
إذا كان الخطاب مُتَأمَّلاً فيه، فإنّه يبدو مصنوعاً من وقفات، فيتقدم من محطة إلى أخرى. وبدلاً من أنْ يعتنقَ العقلُ الاستجابةَ المباشرة لما يثيره، وقبل صدورها عنه، فإنّه يفكّر ويعيد التفكير (كما لو كان في حوار مع نفسه) في الشيء الذي يريد التعبير عنه والذي لا يكون لغويّاً، ويتمّ هذا في الحضور المستمرِّ للشروط التي حدّدها لنفسه.
يكون المرء الذي يصنع الشِّعر معلّقاً بين عالمه المنشود وعدمه، وفي حالةٍ من الانتظارِ الفاعلِ والمُسائل حدَّ أنّ ذلك يجعله مرهفاً، على نحوٍ فريد وإلى أقصى الحدود، تجاه الكلمات والأشكال. ويستمرُّ بلا انقطاعٍ في تنقيح وتشكيل رغبته التي تسعى غايتُها إلى استحضار تلك الكلمات والأشكال من المجهول، أي من المصادر الخفيّة الكامنة في تكوينه بوصفه مُتكلِّماً. حينئذٍ، لا أدري أيّة قوّة إنشاديّة تتطلَّبُ منه ما لا يستطيع التّفكير المُجرَّد تحصيلَه إلاّ من خلال توليفات تُجرَّب تباعاً. وهنا يختار الشّاعر من بينها تلك التي تردِّد على مسامعه ما كان يعرفه مُسبقاً، لا تلك التي تعبِّر عن «فكرته» بأكثر الطرق أمانة (ذاك شأن النثر). بل إنّه يختار تلك التي يعجز التفكير وحدَه عن إنتاجها والتي تبدو له غريبةً، وثمينةً، وحلاًّ أوحدَ لإشكاليّةٍ لا تتجلّى إلاّ بعد إيجاد حلٍّ لها. وتمدُّ هذه الصياغة السّعيدة الشّاعرَ بذات الحالة الشّعوريّة التي أحدثتها فجأة: فهي ليست تعبيراً من خلال الإنشاء، بل نوعاً من السّريان، ومن رجع الصّدى. فلا تعود اللغة هنا وسيطاً يبدِّده الفهمُ بعد أن يؤدي دوره، ولكنّها تعمل بواسطة شكلها الذي يؤدي تأثيره في الحال إلى إعادة تشكيل الفهم وتعرّفه نفسه مجدّداً.
إنّ الشّاعر مترجم من طراز فريد، فهو يترجم الكلام العاديّ، بعد أن يؤثر فيه شعورٌ ما، إلى «لغة الآلهة»(٤)؛ أما عمله الدّاخليّ فيرتكزُ على البحث عن أفكارٍ من أجل كلماته وإيقاعاته الغالبة أكثر ممّا يرتكز على البحث عن كلمات من أجل أفكاره.
على الرّغم من أنّي من أقلِّ المهتمين باللاتينيّة وآدابها ثقة بالنفس، إلا أنّ معرفتي الهزيلة والضّحلة باللاتينيّة عزيزة عليّ إلى حدّ بعيد. من الممكن جدّاً للمرء الذي يجهل اللاتينيّة أن يكتبَ، ولكنّي لا أعتقد أنّه سيشعر بنفسه قادراً على إنتاج ما يكتب بالإتقان ذاته كما لو كانت له معرفة ضمنيّة باللاتينيّة. وبالطريقة ذاتها، نستطيع أن نرسمَ أجساداً بشريّةً دون أن نعرفَ ولو النزر اليسير من علم التشريح، أما الذي يعرفه فلا بدّ أنْ يستفيد من معرفته تلك، حتّى إنْ لم يتجاوز ذلك استغلاله هذه المعرفة من أجل تشويه تلك الأشكال التي يكوِّنها على نحوٍ أكثر جرأة وتوفيقاً. اللاتينيّة ليست أمَّ الفرنسية وحسب، بل هي معلِّمتها في موضوع الأسلوب الرّفيع أيضاً. إنّ كلَّ الحماقات والأفكار اللامعقولة التي أنتجناها من أجل الدفاع عمّا نسميه الإنسانيّات على نحوٍ مُبهمٍ وخادع، لا تؤدّي إلاَّ إلى الإخفاء عنّا حقيقة القيمة الجدّيّة للغةٍ ندين لها بأهمّ المعالم الكتابيّة وأكثرها صلابة في لغتنا الأم. ترتبط اللاتينيّة بالفرنسيّة من طريقين مختلفين، وهذا بحدِّ ذاته أمر فريد ومثير للاهتمام. لقد أدّت اللاتينيّة أوّلاً إلى ولادة الفرنسيّة عبر سلسلة من التّعديلات غير المحسوسة التي طرأت عليها، ودخل أثناء هذا التطوّر عدد من العوامل والإضافات كان يتمُّ إلحاقها وتبنّيها على نحوٍ غير منتظم عبر العصور. وبعد أنْ تشكّلت لغتنا الفرنسيّة جيداً وابتعدت عن الجذر، صادف أنَّ أهل العلم والمؤلفين الأرفع منزلةً في أوقاتهم، انتقوا من التاريخ الطويل للغة اللاتينيّة حقبةً قصيرةً نوعاً ما ولكن غنيّة بالأعمال من أعلى المستويات، ومن ثمَّ كرّسوا تلك الفترة كمثل للكمال في فن الخطابة والكتابة. ونحن لا نستطيع الجزم بأنّهم كانوا على حقٍ، لأنّه لا يوجد دليل على صحة ذلك. غير أنّه من السّهل، ربّما، تبيان أن الانكباب على دراسة كتابات سيسرون وتيطوس ليفيوس وتاسيت(٥) و أنَّ تمثّل أعمالهم شروطاً أساسيّة في تكوين نثرنا المُجرد خلال النصف الأوّل من القرن السّابع عشر الذي يشتملُ على أفضل ما قدمته فرنسا في مجال الآداب وأكثره تميّزاً. ما أشدَّ فقري باللاتينيّة، هذا هو شعوري حاليّاً. ولكنّ الأمر هنا يتعلّقُ بالشِّعر وبفرجيل.
بعد فترة من الوقت، كنت وأنا أتقدّم في الترجمة، أنظم الأبيات، أشطبها، أعدِّلها، أضحّي من هنا وهناك ببعض التفاصيل، لكي أنقل ما رفضته في البداية على أفضل وجه أستطيعه. وعلى الرّغم من حالات الرّضا الطفيف، ومن لحظات الندم، ومن الانتصارات ولحظات الاستسلام التي شعرتُ بها، فقد بعث فيَّ عمل المُقاربات هذا شعوراً مشوّقاً لم أكن أدركه فوراً، والذي يُستحسن ألاَّ أفصح عنه في حال كنت أهتمُّ لأمر قرّاء آخرين غير أولئك الذين يستطيعون تفهّمه نظراً إلى طبيعتهم التّأمّليّة نوعاً ما.
تولّد لديّ أمام فيرجيل إحساس الشّاعر (الذي أعرفه جيّداً) أثناء العمل؛ بين الفينة والأخرى، كنت أحاور نفسي شاردَ الذّهن حول هذا العمل الشّهير والرّاسخ في مجده الألفيّ، بحريّةٍ كما لو كانت القصيدة على الطاولة أمامي من قصائدي. وبينما كنت أتلمَّسُ ترجمتي في بعض المواقع، كانت تجتاحني رغبات في تعديل النصِّ المُبجَّل. كان ذاك حالة من التّماهي السّاذج واللاواعي مع الحياة الداخليّة المتخيّلة لكاتبٍ عاش في عهد الإمبراطور أغسطس. لم يكن ذلك يدوم أكثر من ثانية أو اثنتين، وكان يضحكني. لم لا؟ كنتُ أقول لنفسي بعد أنْ أستفيق من هذا الغيابِ السّريع، لم لا؟ فالإشكاليّات إذا ما نظرنا إلى عمقها تظلُّ واحدةً، أي أنَّ النزعات هي ذاتها، فالأذن الجوّانيّة يقظة تنتبه للممكن، للذي يهمس نفسه «من تلقاء نفسه»، وحالما يُهمسُ به يعود رغبةً من جديد. كذلك فإنّ التردّد يبقى ذاته والتسرّع اللغوي ذاته، والحساسية تجاه المفردات المركّبة ذاتها، كما لو كانت الكلمات متربّصة في الذاكرة تتحيّن الفرصة لكي تجرّب حظها في الوصول إلى الصوت. هكذا، لم أخشَ من نبذ هذه الصفة، أو ألاَّ أحبَّ تلك الكلمة. لم لا؟
هناك في الآن ذاته ملاحظتان تستطيعان إلى حدّ ما تبريرَ هذا الابتعاد غير الاختياريّ عن موضوعنا. فالناقدُ يفسِّرُ نفسَه أمام نفسه عن طريق الشّرود.
أوّلاً، إنَّ الكاتب أنجز الرّعويات في فترة الشباب، ومن ثمَّ هناك وضع الشّعر اللاتينيّ أيّام تأليفها. لقد كان الرجل شابّاً، بيد أنَّ فنَّ النظمِ كان بلغ في روما مرحلةً من النضجِ بحيث أدرك الجميعُ إمكانيّاته حتّى إنّ الغوايةَ في استخدامها من أجل متعة استخدامها وتطويرها إلى أبعد الحدود تجاوزت الحاجةَ الحقيقيّة، الحاجةَ البدائيّة والسّاذجة للتعبير عن النفس. وهكذا صار حبُّ إنتاج الإثارة سبباً، كما لو أنّكم تضعون سلاحاً في يد مراهق لتهربوا منه. وذاك لأنَّ الإحساس بمواضع القوّة يدفعنا لإيجاد وظيفة لها ولأنَّ استغلال السّلطة أمر لا مفرَّ منه حين يتملّكنا الشّعور بأنّنا قادرون على ذلك. وفي مجال الفنون، يظهر أصحاب المواهبِ المدهشون وتظهر معهم لامبالاتهم الفائقة بخصوص المواضيع التي يعالجونها أو يقدمون تأويلات لها.
من أجلِ أن تولدَ حالات إبداعيّة مشابهة، ليس من الضروريّ أنْ تكون المهارة التقنيّة، وامتلاك القدرات المُتحرّرة جيّداً، والحركة الحرّة للألعاب الذهنيّة، أكيدة وراسخةً على الدرجة التي يظنّها الفنّان الصّاعد فقط لأنّه قام ببعض التجارب التي بهرته وسحرته هو شخصيّاً بتهوّرها وجِدَّتها. بل يكفي أن تخطرَ بباله الفكرة وأن يمتلك الجرأةَ كي يشعرَ بأنّه خطفَ من عبقريّته المحتملة بعضاً من أسرار إنتاج الجمال…
لقد أطلتُ قليلاً عن هذا، لأنّه إنْ كان لديّ ما أقوله عن فيرجيل فقد استخلصته من خبرة معيّنة في هذه الصّنعة. فالتّبحّر (وأنا لست من المتبحّرين) لا يستطيع، باختصار، سوى التحقّق وسط الغموض من بعض النقاط التي تخصّ السيرة الذاتيّة أو القراءة أو تفسير بعض المصطلحات، ولهذا أهميّته بالطبع، لكنّها أهميّة خارجيّة. لقد كان مهمّاً دون شكٍّ أن نعرف إنْ كان الشّاعر يحبُّ بنفس الطريقة التي كان ينسبها للرعاة في كتاباته؟ أو إذا كان للنبتة في بيت ما نظيرها الفرنسيّ؟ تستطيع الفيلولوجيا أن تتأمّل مطوّلاً، وبألمعيّة إن أردنا، في هذه المشاكل. أمّا أنا فلا أستطيع أن أتيه إلاّ في دربٍ أخرى، فأنا أتقدّمُ على طريقتي من القصيدة المُنجَزة، ومن جهة أخرى المُخلّدة في مجدها، نحو حالتها الوليدة. وأعترف أنّ هذا من ضروب الخيالِ، ولكنّه خيال روّضته ذكريات أكيدة.
لا أستطيع أن أفكّر بفرجيل، كشاعر شاب، إلا وتذكرت بداياتي. كذلك، فإنّ عمل الترجمة، خصوصاً إذا ما اقترن بالتركيز على مقاربة الشكل، يدفعنا بشكلٍ أو بآخر إلى أن نحذو حذو المؤلف، لا أن نشكّل نصاً ابتداءً من آخر، بل أن نرتقي من النصّ إلى فترة بنائه الافتراضيّة، إلى المرحلة حيث تكون الحالة النفسيّة مناظرةً لأوركسترا تستيقظُ آلاتها، لتكلّمَ بعضها البعض ناشدةً تناغمها قبل بداية الاحتفال. وانطلاقاً من هذه الحالة الخياليّة والحيّة ينبغي الهبوط ثانيةً إلى تكوينها في عملٍ لغويّ آخر مختلف عن العمل الأصليّ.
أعادتني الرّعويات، بعد أن أنستني للحظات شيخوختي، إلى أبياتي الأولى، ووجدت فيها، كما كان يبدو لي، الانطباعات ذاتها، كما اعتقدت جديّاً بأنّني لاحظت مزيجاً من المهارات والهفوات ومن التراكيب الموفّقة وجماليات الشكل مع كبوات واضحة جدّاً، كما لاحظت بعض الإخفاقات المفاجئة والتي سوف أستعرض واحدة منها. وقد تعرّفت في تقلبات الإنجاز هذه على عمر الموهبة الغضِّ، بينما كانت تظهر هذه الموهبة في عصر حرج للشعر. وجاء عصرنا، وأنا في سنّ العشرين، ليجد نفسه بعد أربعة قرون من الإنتاج العظيم مضطرباً أمام قلق تطورات جديدة تماماً. فقد تمّ قبول تعدد كبير لأشكال التعبير، حيث تعرّضَ الفنّ في عصرنا لجميع أشكال التجريب التي كانت تتيحها، بالدرجة ذاتها، الرغبة في التّميّز عن الشِّعريات المطروقة حتّى ذلك الوقت وفكرة إغناء الفنّ بابتكارات غريبة أحياناً، وهي ابتكارات وليدة مختلف أشكال التحليل المتبصّر لخصائص اللغة المثيرة.
لقد أغواني هذا النوع من البحث، وسرعان ما أحببت ذلك وربّما أكثر مما ينبغي من أجل نظم الأبيات الشعريّة ذاته. وصارت هذه العمليّة الإبداعيّة المشوّقة تبعدني عن الهدف الأوليّ للعمل، الذي أصبح ذريعةً، كما أعطتني شعوراً بالحريّة حيال «الأفكار» -وشعوراً بأولويّة الشكل عليها- التي كانت ترضي إحساسي بسيادة العقل على وظائفه. وتأكّدت من أنّ الفكرة ثانوية في الشِّعر، وأنّ الأهمَّ في عملٍ منظوم، والذي ينشده استخدام البيت الشِّعريّ ذاته، هو الكلُّ، أي الطاقة الناتجة عن استخدام التأثيرات المركّبة لخصائص اللغة.
ربّما تكون هذه الشروحات شخصيّة جدّاً، إلا أنّ المقصود منها هو إيضاح أنّني تفاجئت في موقف معهود، لا يمكن تجنّبه، ومذهل إلى درجة ما، أمام عمل من اختصاصي.
أضيفُ هذه المداخلة؛ إنّ الشِّعر اللاتينيّ يختلف عن النثر أكثر مما يفعله الشِّعر الفرنسيّ الذي يلتصق به حتّى إنّه يختلط معه دون مشقّة، على الرّغم من خضوعه بشكلٍ عامٍّ إلى القافية التي تجهلها اللاتينيّة «الكلاسيكيّة». كما أنّ الشِّعر الفرنسيّ قابل للنظم من مادة لغوية لا تُظهِر بالضرورة الجودة الموسيقيّة الخاصة بـِ «لغة الآلهة». فالمقاطع الصوتيّة تتلاحق دون أن يكون هناك في قواعد النظم ما يجبرها على التّتابع بما يضمن أعلى درجة ممكنة من التناغم؛ وهذا الخطأ يقع على عاتق(٦) Malherbe & Boileau اللذين غفلا عن الجوهريّ في قواعدهما، في حين أنّهما حظرا الـhiatus،(٧) وفي هذا ما يزيد حياتنا تعقيداً ويحرمنا من تأثيرات فاتنة مثل الـutoiements (٨) الأكثر ضروريّة. قلة من الشعراء بذلوا جهدهم من أجل استمرار عذوبة الصوت في سطورهم الشعريّة، وظلَّ هذا نادراً وشبه عرضيّ عند معظم الشعراء. وأعترف هنا أنّني أعطيت هذه المسألة أهميّة كبرى، وأنّني ضحّيت بالكثير من أجلها. ولأنّه على لغة الآلهة أن تكون قابلة للتميّز عن لغة الإنسان إلى أقصى وأوضح حدٍّ ممكن، فقد أعدت مراراً أنّه ينبغي، كما أرى، القبول بجميع الوسائل التي تعزّز من تميّزها وتعين من جهة أخرى على التناغم. كما بيّنت أنّني من أنصار تغيير ترتيب الجملة.
لقد اجتاحتني هذه الأفكار، فلم أستطع، أثناء ترجمة الرّعويات، الامتناع عن تطبيق هذه النظرة، التي أطبّقها على الشِّعر الفرنسيّ، كان لغيري أو من تأليفي، على نصوص الرّعويات. أرفض، أو أندمُ، أو أُعجب؛ أغبط أو أحذف، أستبعدُ أو أمحو؛ أكتشفُ وأؤكّد ما اكتشفته للتوّ، وأتبنّاه عندما تكون المراجعة مواتية له.
قد تنضوي بل يجب أن تنضوي مناقشة عمل شهير عن طريق المماثلة على شيء من السذاجة والغرور. وهنا لا أستطيع أن أدّعي إلا أنّ هذه الطريقة طبيعيّة جدّاً بالنسبة لي، وذلك للأسباب التي ذكرتها. بالإضافة إلى ذلك أعتقدُ أنّني من خلال تصوّر حالةٍ لا مستقرّة لعمل تمّ إنجازه وأكثر أساهم بأكثر الأشكال الممكنة وضوحاً في إحياء هذا العمل، لأنّ العمل يموت إذا ما تمّ إنجازه. عندما تدفعنا قصيدة لقراءتها بشغفٍ، يشعر القارئ أنّه مؤلف اللحظة وهذا ما يجعله يدرك أنّ القصيدة جميلة. وأخيراً، خلّصني هذا التّماهي، ودفعةً واحدة، من أجواء المدرسة، ومن الملل، ومن ذكرى الساعات الضائعة والمواعيد المتحجّرة التي تثقل على أولئك الرعاة المساكين، وعلى قطعانهم وغراميّاتهم المتنوعة، التي كانت تعيدها رؤية «كتابي الكلاسيكي» إليّ. لا أعرف شيئاً أكثر بربريّة وعقماً، وبالتالي، حماقةً من نظام تعليميّ يخلط بين ما يزعم أنّه اكتساب للغةٍ وما يزعم أنّه فهم واستمتاع بالأدب. ها نحن ندفع الأطفال إلى تسميع مقطوعات من روائع الشِّعر والنثر ونراقبهم وهم يتعثّرون بكلِّ لفظةٍ فيها، وهم يتيهون في مفردات وتراكيب لا تعلِّمهم سوى جهلهم، في حين أنّهم يدركون جيّداً، وجيّداً جدّاً، أنّ هذه الأعمال الشاقّة لا تفضي إلى شيء، وأنّهم سيهجرون كلَّ أولئك الرّجال العظام الذين حوّلناهم إلى أدوات ضبط وتعذيب، فلا ينتج عن هذه الرّوائع، عندما تُدرَّس إلزاميّاً وقبل الأوان، إلا النفور والاشمئزاز.
دعونا الآن نتوقّف أمام الرّعويات كهواة أغواهم القيام بدور الشاعر، ولا بدّ من بعض الجسارة من أجل ذلك. الشاعر الآن في سنّ تتراوح بين سنّ شابّ وسنّ رجل شابّ، تعرّف على لذة كتابة الشّعر، ويعرف أن يغني لما يحبّ، ويجد لنفسه ألف «لوحةٍ ودافع» في ريفه الإيطاليّ القديم، أمّه ومرضعته، فهو ابنه ويعيش منه، روحاً وجسداً. بالإضافة إلى اطّلاعه على الآداب، لا يوجد من هو أكثر خبرة منه مع الناس، والأخلاق، وأعمال وأحوال ذلك البلد المتنوّع جدّاً، حيث ينمو القمح وتكبر الكروم، وحيث المروج والمستنقعات، وحيث الجبال المكسوة بالخضرة والأراضي الجرداء القاسيّة. كما تتطاول فيه أشجار السرو والدردار، كلٌّ حسب جلاله، وهنالك أيضاً أشجار البلّوط التي تضربها الصواعق أحياناً، وهذا يعني ما يعنيه. علاوة على هذا وذاك، فإنّ هذه الأرض تسكنها أو تقطنها الآلهة وأصناف الكائنات الإلهيّة التي لها دور في تسيير الطبيعة الغريبة التي تسود في أرض اللاتينيّين، التي جمعت، على نحو فريد، بين أوجه الوجود الروحيّة والعمليّة. وكان الدور المشترك لهذه الجاليّة الأسطوريّة هو إضفاء الحيويّة على علاقات الناس مع المنتجات، والتحوّلات، والهفوات والقواعد، والمنافع والمشاقّ، والثوابت والصدف التي كانوا يلاحظونها في العالم من حولهم. لقد كان كلّ شيء حيّاً في تلك الأوقات، ولم يكن هناك ما هو غير حسّاس أو أصمّ بالنسبة لأولئك الفلاّحين، إلاّ إذا شاؤوا عكس ذلك، فقد كانوا يعطون أسماءهم الحقيقيّة للينابيع، وللغابات، وللكهوف، كما كانوا يتقنون مخاطبة الأشياء ومناشدتها وطلبها للشهادة حين يلزم الأمر. وهكذا نشأت بين الناس وبين هذه الأشياء علاقة تبادل للخدمات والألغاز، والتي لا نستطيع أن نفهمها إلاّ إذا فكّرنا «شعرا»، أي بغضِّ النظر عن كلّ القيمة والجديّة التي ينضوي عليها نظام التبادل ذاك. غير أنّ ما نسمّيه شعراً ما هو إلاّ ذاك الذي يبقى لنا من حقبةٍ لم تعهد سوى الإبداع والخلق. فكلّ الشعر يولد من حقبة معرفة إبداعيّة وساذجة، ومن ثمّ يبدأ بالابتعاد شيئاً فشيئاً عن الحالة البدائيّة والعفويّة حيث يكون الفكر خيالاً بكامل قواه. وأظنّ أنّ هذه الطاقة تضعف تدريجيّاً في المدن التي تُساء معامل الطبيعة فيها، وحيث تخضع الينابيع لرجال القانون، وتحاسب شرطة الآداب حوريّات المياه، ولا يلقى الساتير(٩) أيّ ترحيب، وحيث تهان الفصول. وفي أزمان لاحقة، لا تفقد الأرياف خيالاتها الفاتنة والمخيفة وحسب، بل تفقد أيضاً رجالها البسطاء والحالمين، وهكذا يصبح الفلاّح «مزارعا».
دعونا نعود الآن إلى شاعرنا في العام ٠٤ قبل الميلاد، ولنعترفْ أوّلاً أنّ المرء يغني الحياة الحيوانيّة، وحوريّات الغابات، وسيلينوس وبريابوس(10)، بشكل أفضل بدرجات حين يعتقد بسحر الأبيات المتقنة وفتنة اللغة المحبوكة بذوق رفيع، ممّا لو كان يؤمن بوجود تلك المخلوقات.
لقد كان فيرجيل ملاّكاً صغيراً، بيد أنّه يختلف كثيراً عن غالبية ملاّكينا الذين لا يهتمون إلاّ بتحويل عرقهم وكدّهم إلى عملة جيّدة، والذين يستطيعون اجتثاث شجرة جميلة نمت على حافّة حقلهم كما لو كان الحفاظ على تلك الروعة حملاً ثقيلاً على اقتصادهم العبقريّ. كان فيرجيل ذا نظرة مزدوجة، ولطالما شعر بنفسه موزعاً بين نظرتيه المختلفتين اللتين كان يلقيهما على الطبيعة من حوله. فكانت تنتابه أحياناً مشاعر الرّضا، والمخاوف، والآمال التي يحسّ بها المالك، والذي تسيطر عليه غالباً هموم الأرض التي تكفل له عيشه؛ كما كانت تجتاحه تأملات من نوع مختلف تماماً في أحيان أخرى. وهكذا لم تتعلّق طموحاته بالحياة الرّيفيّة وحسب، فهو لم يعد رجلاً بسيطاً كما كان، فقد تولّدت فيه روح مرهفة، ألمّتْ بالحساسيّات الإغريقيّة وأغرتها الصياغات الدقيقة أكثر من أغاني الرعاة التي تفتقر للفنّ. وكان من الممكن له أن يكتب رعويّة حادية عشرة بين نفسه وبينه، غير أنّه كان، أو ما لبث أن أصبح، ضحيّة للإضطرابات التي جرّتها على حياته الحرب الأهليّة ونتائجها المدمّرة.
وهذا هو الوضع الثلاثيّ الأوجه لمؤلف الرّعويات: شاعر تنمو رغبته وتقنياته الفنّيّة؛ رجل من رجال الحقول مهدّد بمصادرة أراضيه وشبه مفلس من جرّاء أعمال النهب التي ارتكبها الجندي المنتصر؛ ومضطرّ لمناشدة السلطات القائمة وللبحث عمّن يحميه. وقد شكّلت حياته الشعريّة إغناءً شفّافاً ولا يضاهى للغة اللاتينيّة ولمواردها الموسيقيّة والتشكيليّة في نطاق تحتلّه القوى السياسيّة. وقد زوّدته أرض الوطن، التي كانت مُرضعاً، ومرجعاً للتاريخ والأسطورة، وكنزاً من الصور، بالحجج والديكورات والقصص والشخصيّات المختلفة في سلسلة أعماله.
أمّا الآن فالوقت مناسب للمرور سريعاً على مسألة العلاقة بين الشاعر والسلطة، وهذا موضوع واسع ويخصّ جميع الأزمان. لو لم أكن تعرّضت للتاريخ كثيراً، لكنت اقترحت أطروحة أو دراسة عنوانها «حول علاقة الشاعر بالأنظمة والحكومات المختلفة». ومن الممكن استحضار واحدة من قصص لافونتين «الشاعر والدولة» الموازية لقصة «الإسكافي والمموّل»، أو استحضار العبارة الإنجيليّة الشهيرة «ما لقيصر…الخ» والتعليق عليها.
لهذه المشكلة حلول بالعدد الذي يتيحه مزاج وحالة كلّ إنسان أو بالقدر الذي تتيحه الظروف. فهنالك الحلول الاقتصاديّة من أجل ضرورة العيش، وأخرى ذات طابع أخلاقيّ، وأخرى لا تتعلّق سوى بالدّوافع الشعوريّة والنفسيّة. فهنالك نظام يغري بإنجازاته الماديّة، أو بوهج انتصاراته؛ وذاك القائد يغري بعبقريّته، وآخر بتصرفاته المتحرّرة، وأحياناً بمحض ابتسامة. وقد تثير حالة الأوضاع العامّة ردود فعل معارضة، فيتمرّد رجال الفكر بدرجات متفاوتة الوضوح، أو يتقوقعون في عمل يفرز حول ميولهم الخاصة ما يشبه العازل الفكريّ. ويمكننا القول، وباختصار شديد، إنّ جميع هذه الحالات ممكنة؛ راسين أحبَّ مليكه، على عكس أندريه شينيّه الذي لعن طغاة عصره، وهوجو اختار المنفى، أمّا كورنيّ فقد تسوَّل بفخر واعتزاز، لكنّ غوته فضّل الظلم على الفوضى. إنّ الجلالة تبهر، والسلطة تفرض، والحريّة تُسكر والفوضى تخيف، وللمصلحة الشخصيّة صوت قويّ. وعلينا أن لا ننسى أنّ كلّ فرد يتميّز بمواهبه يصنِّفُ نفسه، في سريرته، في أرستقراطية من جنس خاص. كما أنّه لا يستطيع، شاء أم أبى، التماهي مع العامة، ولهذه الحقيقة تبعات مختلفة جدّاً. فقد يرى أنّ الديمقراطيّة، التي تدعو إلى المساواة في الأساس، عاجزة عن إعالة الشاعر. وقد يتأمّل في رجال السلطة والرجال الخاضعين لهم، فيحتقرهم جميعاً ولكنّه يشعر بالإغراء المتمثّلِ في قيامه بدور رياديّ في السياسة، والمتمثّل في المشاركة في إدارة الأعمال. وهذا الإغراء ليس بالنادر عند الغنائيّين؛ ومن الجدير بالملاحظة هنا، أنّ هذا الشغل الأكثر نقاءً عند البشر، أي تهذيب النفس والسمو بها عن طريق الغناء، كما كان يفعل أورفيوس، يؤدي في أغلب الأحيان إلى أقلّ الرغبات نقاءً. وفي النهاية، أيّ رأي يستطيع المرء أن يتبنّاه؟ هنالك أمثلة على جميع الحالات، لأنّنا نخوض في التاريخ…
لم يستطع فيرجيل احتمال الفوضى وأعمال السلب، فقد وجد نفسه منهوباً وبيته مغتصباً، كما جرِّدَ من وسائل كسب العيش عن طريق الإجراءات المفروضة والتي لم تكن سوى حِيَلٍ سياسيّة. وهنا رأى أنّ ثمّة ما يهدّد الأوقات التي يخصّصها لكي يكون ذاته ولكي يصبح ما يحلم به، ثمّة ما يهدّد ذلك الشيء الذي لا يُقدّر بثمن، ذلك الكنز الثمين من الوقت الحرِّ والغنيّ بالجمال الكامن الذي يثق بإخراجه إلى النور، ولم يرَ أبعد من ذلك. أنّى له إذن أن يرفضَ هبات الطاغية، وأن لا يمتدح ذاك الذي يكفل له أيّاماً هانئة مُعيداً له هكذا معنى وجوده؟
أعزف ما يحلو لي على هذه القصبة الريفيّة(١١)
لم يتردّد فيرجيل بين استقلاليّة المواطن واستقلاليّة مبدع الأشعار، حتّى إنّه لم ينتبه، ربّما، إلى أنّه ضحّى بشيء ما عندما امتدح قيصر حدّ تأليهه: سيكون دائماً إلهاً…(12)
نستطيع التكهن بجميع الجمل التي تمكن كتابتها دفاعاً أو هجوماً على ذلك الموقف إذا ما حكمنا من موقع الإنسان الحديث، أو أخذنا بعين الاعتبار نسبيّة المشاعر والظروف. لم تكن «حقوق الإنسان» مطروحة بعد.
إنّ إشكاليّة الضمير، التي لا يمكن البتّ فيها، والتي نستطيع تقديمها هنا، تصبح مهمّة على نحو خاص إذا ما حوّلناها إلى مسألةٍ نفعيّة. إذا كان الخضوع للطاغية، القبول بأفضاله، الذي يتحوّل أو يُترجم إلى امتنان ومدائح، شرطاً لإنتاج أعمال من الطراز الأوّل، أيّ قرار نتّخذ، ما العمل، ما رأينا؟ بالكاد يُصاغ السؤال حتّى يلوح عدد لا نهائيّ من الحجج والآراء، سأمتنع عن الخوض فيها.
الهوامش
١- العنوان الأصلي Variations sur les Bucoliques وقد ارتكزت هذه الترجمة على النصّ كما ورد في كتاب Virgile : Bucoliques. Géorgiques الصادر عن دار غاليمار عام ٣٠٠٢، وهو من سلسلة folio classique ويحمل الرقم 2980.
٢- جميع أشكال تمييز الخط وتشديده واردة كما هي في النصّ الأصليّ.
٣- من سفر التكوين، الإصحاح الثالث، رقم 19.
٤- أصلاً عن أفلاطون « الشّعر هو لغة الآلهة، والنثر لغة الإنسانس.
٥- Cicéron أو Cicero، سيسرون هو رجل دولة وكاتب روماني (106-43 ق.م.) له مؤلفات عديدة في الفلسفة والخطابة والبلاغة.
Tite-Live أو Titus Livy تيطوس ليفيوس مؤرخ روماني (59 ق.م- 17 م) من أشهر مؤلفاته تاريخ روما.
Tacite أو Tacitus، تاسيت وهو مؤرخ وكاتب روماني (٥٥-٠٢١م)، من مؤلفاته حوار الخطباء، ودراسته الجرمانيّة.
٦- François de Malherbe (1555-1628): شاعر فرنسيّ، تعتبر أشعاره أصلاً للذوق الكلاسيكي.
Nicolas Boileau (1636-1711): كاتب وشاعر وسياسيّ فرنسي من آثاره «عشق الله، ٨٩٦١» الذي عاد عليه بعداوة البلاط.
٧- Hiatus: هو تتابع حرفين صوتيين ملفوظين في الكلمة الواحدة أو في آخر الكلمة وبداية التي تليها.
٨- Tutoiement: مخاطبة الآخر بصيغة المفرد، أي باستخدام (tu) التي تنتهي بحرف صوتيّ.
٩- Satyre: كائن أسطوريّ، نصفه بشر ونصفه ماعز.
10- Silène et Priape: بريابوس إله الخصوبة والذكورة عند الإغريق والرومان (من أسماء إيروس المتنوعة)؛ سيلينوس من شخصيات الأساطير الإغريقيّة، كان كثير السكر، وله ضلع في إغراق الأتلانتيد؛ وكائنات الساتير من أبنائه.
١١- من القصيدة الرعويّة الأولى، وجاءت باللاتينيّة في الأصل الفرنسيّ:
Ludere quae vellem calamo permisit agresto
وقد نقلتها للعربيّة عن ترجمة فاليري الفرنسيّة.
12- باللاتينيّة في الأصل الفرنسيّ، من القصيدة الرعويّة الأولى بتصرّف:
Erit ille semper deus
بول فاليري
ترجمة: عصام يوسف دعنا