تشخص رواية «روائح ماري كلير1» للروائي التونسي الحبيب السالمي، المقيم في فرنسا، قصة حب في باريس بين محفوظ، شاب ينحدر من قرية «المخاليف» بتونس، وماري كلير فتاة فرنسية . محفوظ يشتغل ليلا في الاستقبالات في فندق يملكه مهاجر جزائري، وفي النهار يشتغل كأستاذ متعاقد في الجامعة الفرنسية يلقي دروسا في الأدب العربي. استقر في المهجر الفرنسي، لأنه يخاف العودة إلى بلده تونس، فيتم الحجز على جواز سفره (كنت أخشى إن عدت إلى تونس أن أبقى محبوسا هناك لفترة طويلة وأن أنقطع دفعة واحدة وبشكل حاد عن زيارة باريس، فقد كانوا يحجزون جوازات كل الذين يعودون إلى تونس بعد فترة طويلة من الإقامة خارجها للتأكد من عقولهم لم تتلوث وأن حبهم للوطن لا يزال صادقا) (15).
ماري كلير، شابة جامعية تجاوزت الثلاثين (انقطعت عن دراسة التاريخ والجغرافيا في جامعة نانتيز من دون أن تكمل الليسانس، لأنه لم تعد تريد أن تصبح أستاذة مثلما كانت تحلم بذلك. عينت منذ أشهر قليلة موظفة في دائرة البريد والبرق والهاتف في شارع مونبارس بعد نجاحها في مناظرة للوظيفة العمومية. اختارت العمل في البريد لأن القطاع العام يضمن لها خلافا للقطاع الخاص الشغل طوال حياتها.. فماري كلير لا تحب أن تجد نفسها في يوم من الأيام عاطلة عن العمل..كان بإمكانها مثلا أن تعثر على شغل في القطاع العام له علاقة بما درسته في الجامعة بعالم الكتب والمدارس. أمينة مكتبة مثلا. لكنها اختارت البريد تحديدا لأنها تحب الرسائل والطرود والبرقيات وكل ما له علاقة بالبريد منذ صغرها.) (16)
ذات يوم في مقهى بباريس، وبينما محفوظ مستغرق في القراءة، يلفت نظره وجه ماري كلير في المرآة المقابلة للطاولة التي يجلس فيها. كانت تجلس خلفه وهو يسترق النظر إليها في المرآة. وبفعل قانون الجذب، بدأ يهتم بها (وحين رفعت رأسي من جديد بعد وقت طويل بدأت أهتم بها ..العنق الطويل المستقيم هو أول ما لفت انتباهي..ولكن بالرغم من ذلك شعرت بشيء يجتذبني في هذا الوجه المدور..ركزت بصري على وجهها. وكلما نظرت إليه ازددت انجذابا إليه.).
يبتسم لها، وترد عليه بابتسامة، ينتقل إلى طاولتها، ثم يشرعان في الكلام كإجراء تدشيني لحكاية حب تبدأ بتبادل النظرات. (في ذلك اللقاء الأول وفي ذلك المقهى الذي دلفت إليه مصادفة علمت أشياء كثيرة عن أول امرأة حقيقية في حياتي.) (16) .
من هذا اللقاء/ الصدفة تنشأ بينهما علاقة حب حقيقية، حيث تقرر ماري مع تعمق الصداقة بينهما،الانتقال للعيش معه في بيته، وتبدأ حكاية الحب: (أحب وجه ماري كلير لا بسبب الشفتين اللتين كنت أشتهيهما باستمرار، ولا لأنه ينطوي على قدر من الجمال، وإنما لأنه مدور أنثوي وخصوصا مريح. منه يشع خليط من الألفة والعفوية والهدوء والذكاء. أحيانا أنظر إليه فأشعر كما لو أني أنظر إلى وجه طفلة لا وجه امرأة تجاوزت الثلاثين.) (ص 8/9)
تنمو هذه العلاقة بشكل طبيعي مفعم بالحب والشفافية والألفة، لكن مع مرور الشهور، وبفعل قانون الرتابة، يتعرض مسار العلاقة لبعض التوترات والفجوات، حيث تطفو على سطح العلاقة بعض الاختلافات التي تم إرجاؤها في غمرة نشوة الحب ودهشة الإعجاب. تتطور هذه الاختلافات وتقع القطيعة أحيانا بينهما، ورغم محاولات ترميم العلاقة من طرفهما، إلا أنها تنتهي إلى الفراق.
وإذا كانت بعض مظاهر الاختلاف الثقافي بين العاشقين تتجلى في طرائق العيش، مثل المطبخ، والعلاقة بالجسد والبيئة، والنباتات، والاحتفال بالعطل، فإن هذا الاختلاف الثقافي لم يمثل عائقا في تواصل الطرفين، بل شكل «فضاء ثالثا2» بتعبير «هومي بابا» لإنتاج خبرات تبادلية أغنت العلاقة بينهما، بما قدمته من أفق جديد للانفتاح على ثقافة الآخر: « لما تعمقت صداقتنا وصارت حميمية أكثر من أي وقت مضى. أبديت دهشتي. وشيئا فشيئا أقنعتها بأن تتخلى عن هذه العادة السيئة. الطعام شيء مقدس. الطعام نعمة ربي كما تردد أمي كنت أقول لها. ولا بد أن نكون نظيفين لتناوله. بعد فترة قصيرة أصبحت أكثر حرصا مني على الاغتسال قبل تناول أي شيء. « (ص5/6)
في التفاعل مع هذا الأفق الجديد الذي تطرحه زمنية الاختلاف الثقافي، تعيش الذات تجربة اكتشاف الآخر، وعبر هذه التجربة المعاشة بوعي مزدوج، تتم إعادة بناء الذات في ضوء في خبرات متبادلة. وفي سياق هذا الوعي المزدوج الذي يدرك العالم من شرفة الانفتاح، يتم تحويل الغرابة إلى ألفة.
في بداية العلاقة يستغرب محفوظ إصرار ماري كلير على الخروج لتناول الطعام خارج البيت، ولا ويفهم هذا الاحتفاء الجماعي بالطعام، لأنه يختلف عن عاداته الأصلية، لكنه مع عيش هذه التجربة الجديدة وتواليها، سيكتسب خبرات جديدة . إضافة إلى خبرته الأصلية، سينفتح على عالم الفن والمسرح والسينما. وسيشكل هذا الانفتاح ثراء لمداركه وإضافة نوعية لخبرته:( في بعض الأحيان تبدي رغبة واضحة في قضاء السهرة خارج البيت. وبالرغم من أني لا أتحمس كثيرا لذلك..اكتشفت بسرعة أن ما تسميه «الخروج» شيء أساسي بالنسبة إليها…الشيء الوحيد الذي يزعجني هو الذهاب إلى مطعم، فأنا لم أفهم كل هذا الاحتفاء الجماعي بالطعام الذي من المفروض أن يتناوله الإنسان بتواضع بل وبشيء من الاحتشام لأنه نعمة ربي كما تردد أمي.. لكن ينبغي أن أشير الى أن الخروج أفادني، إذ أنه جعلني أكتشف أهمية السينما التي صرت معجبا بها منذ ذلك الوقت، تماما مثلما كنت معجبا بشعر الصعاليك المغمورين». (ص32/33)
إنها تجربة امتزاج الآفاق التي تعاش في زمنية الاختلاف الثقافي بين الآن (أكتشف..) وهناك (كنت معجبا).
تفكيك النسق: من حكاية الثأر إلى حكاية الحب
على نقيض الرواية الحضارية تشخص رواية «روائح ماري كلير» علاقة الحب بين محفوظ وماري، خارج نسق « الشفرة الكولونيالية» التي فرضت جمالياتها المانوية على سياسات التمثيل، بما جعل الذات في الرواية الحضارية تؤكد هويتها في مسار الصراع القائم مع القوى الكولونيالية، وتأكيد اختلافاتها الأنطلوجية والابستيملوجية مع فروض المركز الإمبراطوري. وبسبب ذلك، تبدو رواية «ماري كلير» غير معنية بتفكيك أرشيف الكولونيالية decolonization ، الذي يمثل رهان الرواية الحضارية، بما يقتضيه من طرح استنطاقات وتفكيكات لكثير من التشييدات التي ترتكز عليها تواريخ الشرق والغرب.
وإذا كانت الرواية الحضارية في سياق تموقعها على مسافة ابستيمولوجية من الغرب، اتخذت من السرد إستراتيجية مضادة «للرد بالكتابة(3)» على أطروحات الغرب، فإن بطل رواية «روائح ماري كلير» يكسر هذه المسافة، ويعيش تجربته العاطفية في الغرب متحررا من تواريخ الكولونيالية، بحيث يتحرر السرد من ثقل التاريخ و ينساب في خفة هشاشة جوانية، غير محكومة بسطوة النسق، تتطور في شكل انتقالات مفاجئة يحكمها منطق التجاذبات، الذي يفرضه تذبذب الانفعالات والأفعال وردود الفعل في كل قصة حب بين رجل وامرأة.
ولأن المحكي في «روائح ماري كلير» يتحرر من سلطة النسق، فإن الحب كعلاقة إنسانية أصيلة، يعوض صورة العنف الجنسي الذي هيمن في الرواية الحضارية، التي مثل فيها العنف «رمزا للصراع، حيث لا يتحقق الالتحام إلا بالدمار(4)» لكن رواية « روائح ماري كلير « بإحلالها مجاز الحب محل مجاز العنف، تؤكد أن التفاعل يحدث عبر الحياة المشتركة في سياق الانفتاح والخبرات المتبادلة التي يجسدها عالم الحب بين محفوظ وماري كلير.
لا يعيد محفوظ تمثيل دور «البطل الحضاري»، لأن قصة الحب تروى في نسق النموذج الفردي، مجردة من صراع الشرق والغرب، ولا يسند له فيها دور البطل الشرقي الفحل الذي يثأر لجروح أمته للدفاع عن تراثها وأصالتها . وهو على نقيض «مصطفي سعيد» بطل «موسم الهجرة إلى الشمال»، لا يعاني في الميتروبول « من ورطة الاغتراب الكولونيالي، «أي عدم يقين الموقع الروحي المفروض نتيجة التمايز بين المركز والطرف.(5)»
إنه يقيم في باريس منذ عشر سنوات على تعرفه على ماري كلير، يعيش فيها بشكل طبيعي، متأقلما مع إيقاعها ونمط العيش فيها وزمنيتها الكوسموبوليتية، إلا أن هذا التكيف لم يمح من ذاكرته طفولته ومسقط رأسه في تونس. ففي لحظات الصمت والفتور بينه وبين ماري كلير، كان يلجأ إلى استعادة طفولته في «قرية المخاليف» بتونس، كنوع من الملاذ الرمزي لمواجهة برودة لحظة الحاضر . ولا يعاني محفوظ أية مشكلة في وجوده بالغرب. يعيش حياة عادية في المجتمع الفرنسي، دون حقد تاريخي، مكبل في الاستيهامات الكولونيالية، أو وعي تلقائي واقع في إغراء انبهارات ساذجة.
بالمصادفة الاعتباطية يتورط محفوظ في حب ماري كلير بسحر جاذبية ملتبسة، لا تسلم سوى بمنطقها الخاص، غير معنية بلعبة صراع الشرق والغرب في الرواية الحضارية. يمارس علاقة الحب محررا من جدل القهر الكولونيالي والعنف الجنسي . وبالتالي لا يقع في لعبة المثاقفة الميتروبولية، ويسلم بمنطقها، بتجنيس عملية المثاقفة، والقبول لاشعوريا، « على الأقل بأن يقيم علاقة تساو وتماه بين الثقافة والرجولة.(6)..»
خلافا لهذا المنطق الشرقي الفحولي، لا يقع محفوظ مثل «مصطفي سعيد» في شراك وهم يختلق صورة مجنسة للعلاقات بين الحضارات، تحول العلاقة مع الغرب إلى علاقة جنسية، تقوم بتأنيث الغرب في مقابل ذكورة الشرق على قاعدة التفوق الجنسي للرجل الشرقي الفحل. فالعلاقة بين محفوظ وماري كلير تروى في جوانبها الإنسانية الفردية المشرقة، كعلاقة حب «بما هو هبة المرء للذات ولجسده، هو شيء مقدس، مستبعد من التبادل السلعي، تفترض وتنتج علاقات دائمة وغير مؤقتة.(7)»
في علاقة الحب كعالم يستبدل منطق التبادل السلعي بمنطق التبادل الإنساني، تبنى العلاقة بين الرجل والمرأة في أفق مشترك على قيم المساواة والقبول والتراضي المتبادل، بغض النظر عن سياسات الجنس، واختلاف المرجعيات الثقافية.
وباشتراع هذا الأفق الإنساني الذي تحيل عليه حكاية الحب بين محفوظ وماري كلير في العلاقة مع الآخر، يتحرر محفوظ من الوعي القضيبي الذي حكم سلوك البطل الحضاري، وجعله يتصرف على أن جميع نساء الغرب مباحات له. و«أن كل امرأة بيضاء مشتهاة، ونقاء بشرتها دعوة دائمة للاغتصاب8»، لأنه يريد أن يثأر لنفسه ورجولته وحضارته.
يقود فعل أنسنة العلاقة مع الآخر إلى تجريدها من علاقات الهيمنة الكولونيالية والذكورية، وهذا ما يتيح تفادي إنتاج النسق الفحولي الموجه لعلاقة البطل الحضاري بالمرأة القائم على «تسليمه بأن العلاقات بين الأمم والحضارات هي كالعلاقة القائمة واقعا بين الرجل والمرأة: علاقة قوة وتحكم وسيطرة، وبالتالي استسلام ورضوخ ومعاناة. فكان أن تبنى بدوره التصور المتروبولي القائل بأن المثاقفة مجامعة.9»
في خروجه على هذا النسق الفحولي، يبدو محفوظ على خلاف مصطفي سعيد في «موسم الهجرة للشمال»، حريصا على حب ماري كلير، شديد الحذر من كل ما قد يصدر عنه من سلوك يضايقها ( ينبغي أن أقول هنا إن حضور ماري كلير الدائم في بيتي جعلني في الشهور الأولى سعيدا إلى درجة كنت أخشى معها أن تتحول هذه السعادة إلى نقيضها. لم يحدث أن أحبتني امرأة كما أحبتني ماري كلير.) (ص20). إنه معني فقط بسعادته الصغرى، وغير معني مثل مصطفي سعيد بالثأر الحضاري لأمته، ولا « ينقض على كل امرأة تتاح له دون تمييز وبلا اختيار.10» . وهذا ما يشكل تحولا في تمثيل الآخر من العلاقات المجنسة إلى العلاقات المؤنسنة على مستوى سياسات التمثيل، ومن السرديات الكبرى إلى النموذج الفردي على مستوى الاستراتيجيات السردية.
وإذا ما كان بطل الرواية الحضارية، بسبب وطأة الإحساس بالقهر الكولونيالي «يلوذ بماضيه الحضاري الذي يفترض فيه أنه ينم هو الآخر عن رجولة. ويبعث التراث الأدبي القومي، الذي كان قبل الصدمة الكولونيالية، نسيا منسيا، يخامر مثقف المستعمرة السابقة شعور مزهو بالرجولة، هو بأمس الحاجة إليه إزاء سيادة الثقافة المتروبولية .(11) « فإن رواية « روائح ماري كلير « تغير مسار العودة نحو الماضي، من العودة إلى التاريخ القومي والتراث، إلى العودة إلى سيرة الذات والذكريات الشخصية.
وفي الوقت الذي تتخذ فيه العودة إلى الماضي في الرواية الحضارية مسارا نسقيا، «على نحو سياقي عبر استحضار نظيره الغائب في التراث، لأنه يبدو واضحا أن من خلال هذا الغائب فحسب، وتمكين الدال عليه، تكتسب الذات هويتها، ويكتسب خطابها مشروعيته(12).» تؤكد رواية «روائح ماري كلير» أن الذات تكتسب هويتها السردية من ذاتيتها . وبذلك تستبدل النموذج الكلي النسقي بالنموذج الفردي الشخصي.
في سياق هذه الإجراءات التحويلية، تتم إزاحة العلاقات الجنسية التي تحكمت في تشكيل وعي الذات بالآخر، وتنميط صور التمثيل. و بدل العلاقات الكولونيالية المجنسة التي فرضت تعارض الاستراتيجيات السردية (شرق/ غرب، مركز/ هامش) في حبكة الرواية الحضارية من جهة، و تجنيس العلاقات الثقافية (ذكورة/ أنوثة) بإضفاء مضمون جنسي على وعي الذات وتمثيلات الآخر من جهة ثانية ، تنزاح رواية «روائح ماري كلير» نحو مسرحة علاقة الحب، كحالة « تعليق للعنف الرمزي13» بشكليه الحضاري والذكوري .الحب بما هو حالة أسمى لما يسميه بورديو «اقتصاد التبادلات الرمزية المحمولة إلى ذروة قوتها والتي شكلها الأسمى، وبما هو هبة المرء للذات ولجسده، هو شيء مقدس، مستبعد من التبادل السلعي، والتي لكونها تفترض وتنتج علاقات دائمة وغير مؤقتة، فهي تتعارض مع تبادلات سوق العمل بما هي صفقات مؤقتة وآلية بحصر المعنى…14»
وخلافا لمنطق القوة الكولونيالية، تشخص الرواية لعبة الحب من خلال منطق الهشاشة، الذي يفرض على العاشقين بناء عالم مشترك قائم على سيرورة من التحولات في الكينونة والهوية، تفترض سلسلة من التنازلات والتشييدات الجديدة، يفرضها عالم الحب، بوصفه تعليقا لعلاقات الهيمنة والقوة، وإحلالا لمنطق علاقات الاعتراف المتبادل. الحب بما هو تجسيد «لهذا العالم المغلق والمكتفي ذاتيا على الوجه الأكمل،الذي هو سلسلة متواصلة من (التغييرات والتحولات في نمط الكينونة والوجود) من المعجزات: عالم اللاعنف الذي يجعل من إرساء علاقات قائمة على التبادلية الكاملة ممكنا، والذي يسمح بالتنازل وتسليم الذات والاعتراف المتبادل الذي يسمح كما يقول سارتر، بأن يشعر المرء بأن «مبرر وجوده» مضطلع به حتى في أكثر خصوصياته عرضية أو أشده سلبية، في وبواسطة إطلاق الاعتباطية لاعتباطية لقاء ما(لأنه كان هو، لأنني كنت أنا)،. عالم الترفع الذي يجعل علاقات منزوعة من الذرائعية ممكنا وقائما على سعادة منح السعادة. ويجد في إعجاب الآخر، ولا سيما أمام الإعجاب الذي يحدثه، مبررات لا تنضب لأن يدهش.15)
أسلبة صورة الفحل: من الذكوري إلى الأنثوي
يعجب محفوظ بماري كلير، ويعبر عن إعجابه كطفل مندهش، يكتشف العالم لأول مرة، ولا يتصرف كبطل شرقي يرد بقضيبه على الآخر. وفي صيرورته طفلا، يخضع لمنطق الهشاشة، ويجسد مجموعة من التمثيلات التي تناقض صورة الفحولة. فإذا كانت علاقة البطل الحضاري داخل نسق الفحولة تتميز بخاصية الامتلاء التي تحددها سمات القوة والسطوة، فإن علاقة محفوظ بجسده تقدم صورة بارودية للجسد الفحل. تبدأ هذه الباروديا بتهشيم إطار الجسد في صورة مهتزة بالآلة التفكيكية لسيكولوجية الضعف، التي تشكل مصدر إرباك لمحفوظ في علاقته بجسده وبماري كلير .
وإذا كان البطل الفحل يبني أسطورته على سمة التفوق الجنسي، فإن محفوظ بسبب تهشم صورة الجسد يجد نفسه في وضع مربك ومشوش، يخلق له عقدة نقص. ففي الحضور الطاغي لجسد ماري كلير يبدو مترددا غير واثق من نفسه، في حالة قلق، يهجس كيف يرضيها جسديا، على خلاف الصورة المتسيدة والمتسلطة للبطل الفحل. غير أن تجربته العاطفية مع ماري كلير بما فيها من حب حقيقي، وعمق إنساني مؤسس – كما بينا على اقتصاد تبادلي للخبرات -، سيغير من شكل علاقته بجسده النحيل، المؤسسة على موروث ذكوري، بحيث ستجعله تجربة الحب يكتشف أن الجنس لا علاقة له بالقوة ( كأن جسدي يولد من جديد..إلا أن المثير حقا هو أني صرت أرى جسدي بشكل مختلف…قبل ذلك كنت معقدا بسبب هذا الجسد النحيل الرقيق الهش. لا أنتظر منه الكثير. ولا أعول عليه في اللحظات الحرجة والحاسمة. كنت أتألم في سري وأنا أسمع ما يرويه الرجال حولي عما يفعلونه للنساء. شيئا فشيئا أقنعت نفسي بأن شيئا ما ينقصني في هذا المجال.» (ص83)
إن تجربة الحب، بوصفها عالما بينيا يقوم على خبرات تبادلية، ستغير هذا الوعي الذكوري الموروث، بحيث سيتحول الشعور بالعقدة والنقص إلى شعور بالزهو . (ويرافق كل هذا إحساس بشيء من الزهو. فلأول مرة في حياتي أشعر أنني قادر على أن أشبع امرأة.) (ص83)
في مقابل تباهي الفحل بقوة جسده، لا يجد محفوظ حرجا في البوح بهشاشة جسده، ولا يعتبر ذلك عيبا يستوجب التستر عليه.( إلا أن المثير حقا هو أني صرت أرى جسدي بشكل مختلف أتلمسه دون أي إحساس بالحرج. أنظر إليه بدون خجل. أتحدث عنه بجرأة وبدون مواربة).
يمثل هذا الوعي الجديد انقلابا على نموذج الفحولة الجنسية في الرواية الحضارية. فإذا كان البطل الفحل يبسط هيمنته الجسدية على المرأة، متوهما أنه يخوض معركة انتقام وثأر ضد الآخر، محكوما بإيديولوجيا الذكورة التي ترتب الفروق بين الفحولي والأنثوي، بما يجعل الرجل في العلاقة الجنسية فاعلا إيجابيا محددا بسمة القوة، والمرأة كائنا سلبيا منفعلا محددا بسمة الضعف، فإن علاقة محفوظ بماري كلير، تقلب هذا النظام الفحولي، حين يسلم محفوظ نفسه لماري كلير، ويتركها تعلمه فنون المتعة، وتقوده في مغامرة اكتشاف خرائط اللذة، ( والغريب أن ذلك يحدث بعد فترة طويلة علمتني خلالها ماري كلير أشياء جعلتني أكتشف طاقات وخصائص في الجسد كنت أجهلها. أشياء كنت لا أوليها عناية، وتبدو لي الآن أساسية. دلتني على المواضع الشديدة الحساسية..إلا أن أهم ما تعلمته في تلك الفترة الحاسمة في علاقتنا هو كيف أتحكم في الشهوة.) (ص52/53).
هنا تنقلب أدوار النظام الفحولي، تصبح المرأة في دور الفاعل والقيادة، والرجل في دور المتعلم ووالطفل الذي تقوده ماري كلير إلى اكتشاف خرائط الجسد (لا تقلق صغيري تقول لي..وبعد لحظات تشرع في تقبيلي وتلمس جسدي..تعال. لا تخف.. المسألة مسألة دربة وعادة..تعال كل شيء سيصبح على ما يرام. تستفيق نفسي فأستجمع قواي وأعاود الكرة.) (ص54)
تنقلب المعادلة، فالجسد الممسرح هنا هو الجسد الذكوري، بعدما كان في الرواية الحضارية هو الجسد الأنثوي. هذا القلب في الموضوع، يترتب عنه بالضرورة قلب في سياسات التمثيل. بعد أن كان الجسد الذكوري يشخص في صورة الفحل المترنح ببطولته الجنسية إزاء المرأة، حيث يختزل جسدها في صورة أرض المعركة التي يستعرض فيها فحولته، يطرح الروائي الحبيب السالمي تشخيصا باروديا لهذا النموذج النمطي، تنبثق منه صورة تهكمية وساخرة للبطل الفحل .
في هذه البارودية تنقلب الأدوار، يصير الجسد الذكوري موضوع أسلبة، ويبرز خطاب البوح واعتراف الرجل بهشاشته في صورة طفل متردد ومندهش أمام عالم جديد .
وعبر عملية تأنيث لخطاب الرجل يتم أسلبة الجسد الفحل. اللغة التي يتكلم بها محفوظ تناقض لغة الرجل الفحل . يكشف محفوظ عن هشاشة جسده في خطاب بوح واعتراف، يشظي الصلابة الفحولية في صور عاطفية تحتفي بهشاشة الكينونة، يبدو معها محفوظ جسدا رقيقا ونحيلا. وهي سمات يعتبرها النسق الفحولي من خاصية المرأة، لأنها تعبر عن الضعف وليس عن القوة.
وفي المرحلة الجديدة من حياة محفوظ التي تبدأ بانتقال ماري كلير للعيش معه، نلاحظ قلبا للنسق الفحولي. فمحفوظ وبفعل سحر الحب يترك ماري كلير تغير ديكور البيت، وتعيد تأثيثه وفق هواها، وذلك على خلاف البطل الفحل مصطفي سعيد في «موسم الهجرة إلى الشمال» الذي يحول بيته إلى وكر للأكاذيب للإيقاع بضحاياه من النساء، حيث يؤثث بيته بديكور شرقي (الصندل والند وريش النعام وتماثيل العاج والأبنوس والصور والرسوم لغابات النخل على شطآن النيل..وقوافل من الجمال تخب السير على كثبان الرمل على حدود اليمن..وفتيات عاريات من قبائل الزاندي والنوير..الكتب العربية المزخرفة الأغلفة مكتوبة بالخط الكوفي المنمق، السجاجيد العجمية والستائر الوردية..16)، يعيش أجواء وطقوس الشرق في لندن، كما تتوهمها المخيلة الغربية الاستشراقية، ويتقمص صورة الأمير الشرقي. (أنت مصطفي مولاي وسيدي، وأنا سوسن جاريتك». بحيث لم تكن غرفته «شرقية عادية، بل كانت على نحو ما يتخيل الغرب، غرفة شرقية نمطية ساحرة.17»
على خلاف ذلك، يعيش محفوظ في شقة عادية ومتواضعة، ويترك لماري كلير أن تقوده في عالمها الجديد، وفق هواها ورغبتها، ويتكيف مع طقوس الحياة الجديدة التي ترسي قواعدها. وبذلك ينجح في اكتساب خبرات جديدة. يتغير في العديد من مجالات الحياة، في علاقته بجسده وبالمرأة، وفي العلاقة بالمطبخ والنباتات، والتفاصيل الصغرى. والمهم أنه كان واعيا بهذا التغيير وهو سعيد به. وكانت ماري حريصة على أن تعرف رأيه في كل شيء (دائما تشرح لي الأمر بوضوح مركزة على الأسباب التي تجعلها تفكر في تغييره. ولا تشرع في تنفيذه إلا عندما أبدي موافقتي وخصوصا أشعرها بما لا يدع مجالا للشك أني مقتنع بذلك، فقد كانت تخشى أن تكون موافقتي مجاملة لها فتفرض علي، هي الدخيلة على عالمي كما تقول، أشياء لست متحمسا لها.) (ص 24/25)
يتأقلم محفوظ مع عالم ماري كلير. يتغلب نسق الأنوثة على نسق الذكورة ( ينبغي أيضا أن أعترف بأن وجودها الدائم في البيت إلى جانبي أربكني، فأنا لم أعتد معاشرة النساء..كنت أخشى أن أرتكب حماقة ما فأخيب ظنها في. لذا كنت أحاول أن أظل حذرا في كل ما أفعله ودائم الانتباه لكل ما يبدر منها.. أقعلت أيضا عن عادات لها متعتها الخاصة..صرت أيضا أصغي لما تقول. أبدي اهتماما واضحا لكل ملاحظاتها. أرد بسرعة على أسئلتها. أوافق بسرعة على مقترحاتها. أهرع لمساعدتها كلما دعت الحاجة. أبتسم حين تبتسم.. قررت بيني وبين نفسي أن أكون شديد الحذر لكي أتحاشى كل ما يدفع ماري كلير إلى تغيير رأيها في تلك المرحلة الحاسمة في حياتي.) (21)
المرأة هنا هي سيدة البيت، ومركز العالم الذي يدور في فلكه محفوظ. تصبح فاعلة في العلاقة العاطفية الإيروسية وليس مجرد وعاء سلبي لقضيب الذكورة، تمارس «دورا بنيويا فاعلا.18». وبفعل هذا القلب في النسق الفحولي، تنقلب ثنائية المبدأ الذكوري الفاعل والوعاء السلبي الأنثوي، الذي يسند للرجل دورا ايجابيا في العلاقة مع المرأة، ودورا سلبيا للمرأة. لم تعد المرأة في النص «الموضوع السيىء19»، أي موضوعا نزويا كما يتبدى في الحياة الاستيهامية، يكتسب سماته السيئة من نزوات الشخص الليبيدية أو العدوانية. والجسد الموضوع هنا هو الجسد الذكوري. جسد ينحل في شفافية الهشاشة. ما يخشاه محفوظ هو فقدان هذا العالم الأنثوي الذي أسسته ماري كلير على أنقاض عالمه الذكوري. عالم منقوش بعلامات الرقة والخفة والكثافة، في مقابل صلابة النسق الفحولي .
يعود محفوظ مبكرا إلى البيت، بشغف انتظار ماري كلير، ما إن يسمع حركة المفتاح في الباب، حتى يهرع مثل طفل إلى استقبالها (كنت أحرص على أن أعود إلى البيت مبكرا إن كان ذلك ممكنا، لأنتظر عودة ماري كلير. فقد كانت تحب أن تجدني في البيت. حالما يتناهى إلي صوت المفتاح وهو يدور في قفل الباب أنهض وأنتصب خلفه. تندفع نحوي وهي تصيح فرحا.) (ص 29)
لا يمثل محفوظ صورة الفحل السيد المهيب الجناب، إنه «ذاك الطفل الهرقليطي الذي يمرح في لعبه.20»
لقد كان ايجابيا ومتسامحا في تجربة الحب بما فرضته عليه من خبرات جديدة، تعلم الكثير من ماري كلير كما تعلمت هي أيضا منه الكثير من الخبرات. ولكن الأهم في هذه التجربة الثقافية، أن استجابته لهذا التغيير الجديد في حياته، كانت بالأساس استجابة عاطفية، بأثر سحر الحب الذي يفرض منطقه الخاص على الذات، بحيث لا تتحكم في مسار هذه العلاقة، وليس بدافع الثأر الحضاري» الحقيقة أني لم أكن شديد التحمس لا لتغيير الأشياء ولا لتركها كما هي. ليس لأني أهمل البيت ولا أوليه ما يستحق من العناية، وإنما لأني اهتمامي كان منصبا آنذاك على ماري كلير. على حضورها الدائم الذي لم يترك لي مجالا للتفكير في أي شيء . لكن يجب أن أقول إن شقتي صارت بعد كل التغييرات التي طرأت عليها أكثر دفئا وحميمية.» (ص25)
وهكذا ما يبدو له غريبا في البداية يتحول إلى ألفة. وبذلك يخلق إمكانية بين أناه وبين ماري كلير، بين الخصوصية والغيرية، لكي يقبل بالغرابة الجديدة التي تقتحم عالمه الخصوصي. وهذه الإمكانية لا تتحقق إلا في علاقة الانفتاح، التي تستدرج الغرابة إلى ألفة كل واحد منهما. ويفضي هذا الانفتاح المتبادل إلى حالة من امتزاج الآفاق، أفق الذات وأفق الآخر، « والامتزاج غير الاتحاد، لأن كل أفق يحتفظ على فعله ويتم التراضي بين الأفقين..ويكونان أفقا ممتزجا واحدا..ولا يتم هذا النوع من الانفتاح إلا عندما يتم الانفتاح من الأفقين21». وذلك على خلاف تعارض الآفاق الذي فرضته البنية الاستقطابية للرواية الحضارية، حيث يظل البطل الفحل متمسكا بأفقه الشرقي، بفعل خضوعه لسطوة النسق، وبالتالي يلغي أفق التاريخ (التاريخ لن يزور …ووكر الأكاذيب قد يصلح لأن يكون وكر الانتقام، ولكنه لن يكون بحال من الأحوال ملتقى جنوب بشمال، ولا ملتقى شهريار بشهرزاد… و أكذوبة كذلك غرفة أكاذيب مصطفي سعيد التي تتوهم نفسها مقبرة للشماليات.22) .
ولذلك كانت غرفة مصطفي سعيد في «موسم الهجرة إلى الشمال» فضاء للموت والانتقام والثأر، كمجاز شيطاني لتعارض الآفاق، بينما أصبحت غرفة محفوظ فضاء لشغف الحياة ولسحر الحب الخلاق، كمجاز ملائكي للولادة الجديدة لعالم جديد، قوامه امتزاج الآفاق.
بهذا التغيير في إطار الصورة، لن ترى القراءة الفحولية، في موقف محفوظ سوى انتهاك للمبدأ الرجولي وانتقاص لهيبته، لأن النظام الفحولي لا يتصور الرجل سوى في وضع القيادة والسيادة، بينما المكان الطبيعي للمرأة هو وضع الخضوع والاستسلام والتبعية.
في أثر هذه الانزياحات، يقدم متخيل النص العلاقة الجنسية بين الرجل العربي والمرأة الغربية في صورة معقولة، أقرب إلى التجربة الواقعية. وعبر هذا التغيير في الإطار، يحطم صورة العلاقة النمطية التي تجعل العربي كائنا متفوقا جنسيا.
على خلاف القراءة الفحولية تنتصر رواية « روائح ماري كلير» للمبدأ الأنثوي. ومع كل ميثولوجيا القوة الذكورية للبطل الفحل، تكشف سحر الحب في قلب علاقات الهيمنة بين الرجل والمرأة بما يمنحه من أفق مشترك بينهما مبني على علاقات تبادلية، بحيث «أن النفوذ السحري للحب يمكن أن يمارس على الرجال أيضا.23»، لكنه هنا على خلاف الرواية الحضارية، لا يمارس بفعل قوة الأكاذيب، ولكن كحالة مقبولة ومعترف بها في العالم الساحر والفاتن للحب، وما يمنحه من لحظات سعادة وانكشاف ومكاشفة متبادلة بين الطرفين، وفي العلاقات الحميمية، «بواسطة سحر روابط الوجد التي تنسيهم الالتزامات المرتبطة بكرامتهم الاجتماعية، تحدد قلبا لعلاقة الهيمنة التي بكونها تصدع قدري في النظام الاعتيادي والعادي والطبيعي مدان باعتباره تقصيرا مضادا للطبيعة، أحكم صنعا لتدعيم ميثولوجيا المركزية الذكورية.24»
وهو ما يعني الإفلات من منظور الصراع الذي ظلت الرواية الحضارية مرتهنة لنمط إنتاجه لشروط المعنى وفق اقتصاد علاقات القوة.
و ننتقل هنا من سيرورة لتمثيل العلاقة مبنية على وظيفة الرمز في بعدها العمودي النسقي (السمات الحضارية)، يكون مسار التطور السيميائي فيها» عبارة عن حلقة تكون نهايتها مبرمجة ومعطاة، في صورة أولية، منذ البداية (التي نهايتها هي بدؤها) لأن وظيفة الرمز (إيديولوجيمه) ذات وجود سابق على الملفوظ الرمزي نفسه.25» وهي في حالة الرواية الحضارية علاقات الشرق والغرب، كمحدد لمسار الشخصيات الروائية.
وهذا ما يؤسس لحالة انتقال في تمثيل المرأة الغربية، من الرمز إلى الدليل، أي من رمز يحيل على نسق حضاري غربي، يماثل بين المرأة والغرب، ويشتغل على وحدات رمزية (الشرق/ الغرب، الذكورة/ الأنوثة،) تكون وظيفتها في البعد العمودي (الكونيات- السمات) «وظيفة حصر»، في منطقه الخاص تكون الوحدتان (شرق/ غرب) «حصريتين exclusives26»، لا تتلاءمان ولا تلتقيان، محكومتين بعلاقة الصراع،إلى دليل لا يختزل فيه الدال إلى مرجع حصري، تصبح فيه الذات مفردنة ذات كينونة، بمعنى متحررة من الترميز المتعالي المبني على إضفاء سمات عامة معطاة في صورة أولية، سابقة على فعل التدليل.
منطق الحكي : من الحتمية إلى المصادفة
على مستوى الإستراتيجية السردية، تنبثق قصة الحب بين محفوظ وماري كلير من اعتباطية المصادفة « أية مصادفة عجيبة التي جمعتنا؟..باريسية مولودة في مينيلمنتون وريفي من دوار تونسي صغير..» (ص34). وتخضع قصة الحب كعلاقة لمنطق خاص، لا يتحكم الطرفان في مساره، هو منطق المصادفة (ولأن للحديث منطقه الخاص ولا أحد باستطاعته أن يتحكم في وجهته خصوصا في مثل هذه الحالات، خضنا في مواضيع كثيرة…في ذلك اللقاء الأول وفي ذلك المقهى الذي دلفت إليه مصادفة علمت أشياء كثيرة عن أول امرأة حقيقية في حياتي.) (16) .
يناقض منطق المصادفة منطق النسق في الرواية الحضارية، حيث تكون مسارات العلاقة محددة وموجهة بسيناريوهات حضارية جاهزة ومقولبة، تجعل الكلية السردية تتحكم في صيرورة الذات .
وبانفلات الذات من نسق السرديات الكبرى، تقترح رواية «روائح ماري كلير» سردية يومية، تبني منطقها الخاص من التباس علاقة الحب بين كائنين مشخصين في كينونتهما الفردية كدينامية داخلية مرهفة وشديدة الهشاشة ( هل أقول لها إنني أسير قوة داخلية غامضة تجتذبني إليها، أم أني أريد أن أعرف كيف كان وجهها في ذلك الصباح، أم أنني بكل بساطة لا أدري كيف قادتني قدماي إلى بريد مونبارس.) (ص 86).
ينجذب محفوظ نحو ماري كلير بقوة داخلية ملتبسة، لا يتحكم في منطقها، متحررا من سطوة النسق في فرض سيناريوهات محددة بشكل أولي سابق على التجربة، وبذلك يعيش تجربة الحب في خفة المصادفة بوصفها « مظهرا لعدم الاطراد، وللتحرر من رمزية العالم الجبرية. فهي تتأسس خارج الوجوب، وتمتاح من الاكتشاف الخاص والحر للحياة في عفويتها، بعيدا عن الغائية بوصفها مردودا لعلاقة الإرادة بالمؤسسة.27»
في سياق رمزية الخفة يشخص الحب بين محفوظ وماري كلير في فضاء زمنية الاختلاف الثقافي، مجردا من أية غائية مؤسساتية يفترضها نسق السرديات الكبرى. فالحب بينهما هو علاقة بين كائنين فرديين، لا ينتميان سوى لذواتهما، ولذلك يركز السرد على ما تسميه «دوريت كوهين» بالشفافية الجوانية28 la transparence intérieure، عبر تجلية الحياة الداخلية للشخصية . وهذا ما يفسر طغيان البعد العاطفي في التشخيص، وتبئير المنظور على علاقة الحب في نمو سيرورتها السيكولوجية التي تتطور من نسيج الوقائع والتفاصيل اليومية، بدءا من لحظة تبادل النظرات الأولى بين العاشقين في اللقاء الأول، مرورا باستقرار علاقة الحب بينهما، وما سيعتريها من موجات اضطراب وقلق ولامبالاة والتباسات غامضة، وانتهاء بلحظة الفراق بينهما.
ينبني السرد إذن، على حبكة سردية بسيطة (لقاء، فعلاقة حب، ثم فراق). وينهض التبئير السردي على رصد دقيق لتطور هذه العلاقة وفق دينامية ملتبسة، من خلال تراكم تفاصيل الحياة اليومية ووقائعها الصغيرة، وعبر بناء شبكة معقدة من الانفعالات والأفعال وردود الأفعال.
ينهض منطق هذه الحبكة على التركيب بين وقائع يومية صغرى، وليس على بناء وقائع كبرى كرستها النماذج الثقافية الكبرى في الرواية الحضارية. وفي سياق هذا الانزياح، تسرد قصة الحب في شكل محكي صغير، متمركز حول عالم صغير في غرفة تجمع بين شخصيتين، نادرا ما ينفتح على عوالم خارجية بعيدة. عالم محدود في فضائه المادي، لكنه متسع في عمقه الإنساني وفي كثافته العاطفية. هذا العالم الصغير الذي يتشكل داخل شقة صغيرة يأخذ مجاز الشرنقة بوصفها «رمزا لسكن محتف بداخليته المغلقة، يعد أيضا دالا على حماية مبعثها الهشاشة، ولهذا لا يطل المتحصن بالشرنقة على العالم من فسحة انفتاحها الحذر فقط، بل يطل عليه أيضا من خلال الهشاشة التي تكونه، وتجعله غير متوافق مع خارج فقد نعومته.29»
وتوضح قصة الحب بين محفوظ وماري كلير أن منطق الحب مخالف لمنطق النسق. إنه منطق المصادفة، الذي لا يتيح لأحد التحكم في مسار العلاقة. في سيرورة هذا المنطق كمظهر حيوي لنظام الخفة، تتطور علاقة الحب بينهما كدينامية ملتبسة، بما يعتمل فيها من مشاعر متناقضة بين الخصوصية والغيرية، الألفة والغرابة ( لا أصدق أن كل هذا المخلوق الجميل الاستثنائي لي. بهشاشته. بقوته. بسحره. بتعقيداته. بغرابته. بتناقضاته. بتحولاته. بأهوائه…) (ص20).
هذا المنطق الهش، هو ما يجعل إيقاع هذه العلاقة متذبذبا يتطور في صيرروة لا خطية، محكومة بتجاذبات الهشاشة. والحب بطبيعته الخاصة، هو هش جوهريا، لأنه مرتبط دائما بصيرورة علاقات عاطفية ونفسانية ناعمة، وطارئة أحيانا في شكل رغبات مفاجئة، أو أحاسيس منبثقة في ديمومة اعتيادية.
وبمنطق الهشاشة، الحب انزياح في الصيرورة الاعتيادية للمألوف. ولذلك يظل معرضا بقوة شديدة للتصادم مع منطق هذه الصيرورة، «ومهدد بلا انقطاع بالأزمة التي يمكن أن تثيره العودة إلى الحساب الأناني، أو مجرد اكتساب الطابع الروتيني30»، أو في هذا التناوب الصعب بين الأنانية والغيرية، بين الخصوصية والمغايرة.
حياة في امتزاج الآفاق :
هذا الخروج عن النسق الحضاري الذي كشفنا بعض انزياحاته في التمثيل السردي، هو ما يمثل الإضافة النوعية في «روائح ماري كلير» في سياق وعي الذات وتمثيل الآخر في مدونة الرواية العربية . ذلك أن الروائي الحبيب السالمي يكتب قصة الحب بين محفوظ و ماري كلير في صيرورة هشاشة جوانية، وليس في صيرورة مواجهة عنيفة، تجلي البعد الإنساني الأصيل في هذه العلاقة، بلا أحقاد تاريخية تفجر عنف المكبوت، على الرغم من أن محفوظ ينتمي إلى الشرق وماري كلير تنتمي إلى الغرب . غير أن سرد هذه العلاقة في الرواية لا يقع في شراك الجغرافية المتخيلة لهذه الحدود الحضارية التي تشكل خلفية سوسيو ثقافية لكل منهما.
وعبر هذا الأفق الإنساني، تقدم الرواية منظورا ثقافيا، يقوم على أنسنة العلاقات بين المرأة والرجل وبين الثقافات، بدل سياسات الجنس التي تقوم على علاقات القوة. وبذلك تطرح مفهوما للحياة يعاش في زمنية الاختلاف الثقافي بقيم التسامح وتبادل الخبرات والحوار الذي ينطلق من انفتاح الهوية، « حيث يمكن، في الحقيقة أن يكون ثمة كرم، ورؤيا، وتغلب على الحواجز، وأخيرا، تكامل وجودي إنساني31.»
1 الحبيب السالمي: روائح ماري كلير، دار الآداب، بيروت، 2008.
2 هومي . ك. بابا: موقع الثقافة، ترجمة ثائر ديب، المركز الثقافي العربي، 2006، ص:
3 بيل أشكروفت وآخرون: الرد بالكتابة، ترجمة شهرت العالم، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2006.
4 سيزا قاسم: روايات عربية قراءة مقارنة، منشورات الرابطة، الدار البيضاء، 1997، ص:39.
5 بيل أشكروفت: الرد بالكتابة، ص:178.
6 جورج طرابيشي: شرق وغرب، دار الطليعة، بيروت، 1997، ص:13.
7 بيار بورديو: الهيمنة الذكورية، ترجمة سلمان قعراني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009ص:163.
8 جورج طرابيشي: شرق وغرب، ص:10.
9 نفسه، ص:16.
10 نفسه، ص:14.
11 نفسه، ص:11.
12 بيل أشكروفت: الرد بالكتابة، ص:21.
13 بيار بورديو: الهيمنة الذكورية، ص:161.
14 نفسه، ص:164.
15 نفسه، ص:163.
16 الطيب صالح : موسم الهجرة إلى الشمال، دار العودة، بيروت، 1976، ص: 148.
17 سيزا قاسم: روايات عربية قراءة مقارنة، ص: 40.
18 جوليا كريسطيفا: علم النص، ص: 33.
19 هومي . ك. بابا: موقع الثقافة، ص: 84-85.
20 جوليا كريسطيفا: علم النص، ترجمة فريد الزاهي، دار توبقال، 1991، ص: 8.
21 أحمد بوحسن: التقليد وتاريخ الأدب العربي، ضمن كتاب التحقيب، منشورات كلية الآداب، الرباط، 1997، ص:84.
22 جورج طرابيشي: شرق وغرب، ص:160.
23 بيار بورديو: الهيمنة الذكورية، ص:162.
24 نفسه، ص:162.
25 جوليا كريسطيفا: علم النص، ص:24.
26 جوليا كريسطيفا: علم النص، ص:24.
27 عبد الرحيم جيران: الكتابة والتمفصل الملتبس، ضمن كتاب رهانات الكتابة عند محمد برادة، مختبر السرديات، كلية الآداب بنمسيك، ص:11.
28 Dorrit Cohen, la Transparence Intérieure, Ed. seuil,1977.
29 عبد الرحيم جيران: الكتابة والتمفصل الملتبس، ص:8.
30 بيار بورديو: الهيمنة الذكورية،، ص:164.
31 إدوارد سعيد: تأملات حول المنفى ، ترجمة ثائر ديب، دار الآداب، 2004، ص:253.
—————
————————————————————
—————
————————————————————