محمد آيت أحمد
مقدمة
تمكنت الروائيات العربيات من تحقيق تراكم كميّ، فيكفينا النظر في الإنجازات الروائية التي اكتسحت قطاعا مهمًا في الكتابة السردية، حتى يتبدّى أن نصيب نون النسوة كان لافتًا للنظر، بيد أنّ السؤال الذي انشغل به الدرس النقدي إلى حدود الآونة الأخيرة، كان حول التيمات النوعيّة وكيفيّات الاشتغال السردي، ولعلها في مصاف القضايا البارزة التي استأثرت ذائقة القراء؟
لو أجْلنا النظر في مجمل الروايات النسويّة، نكاد نعثر فيها على قواسم مشتركة؛ فقد ناقشت كلهن قضايا في رواياتهن «لكن تبقى “تيمة الجنس” من أكثر التيمات هيمنة وبروزًا في معظم ما كتبت النساء، لتفرض هذه التيمة نفسها على كل قارئ لروايات التأنيث مهما كان حرصه على تجنب اختزال المرأة في الجسد» (1)
اختار أدب الحريم( 2) قضايا الجنس والجسد كدعامات وعليها تقوم الهوية السردية، وقد تمّ انتخاب ثنائية «جنس» و «جسد» في إطار فكري أعمق، تروم الروائيات من خلاله استعادة الذات الأنثوية وتصحيح الغلط فيما كرّسته الذكورة، وسوّقت له خطاباتها النرجسيّة لعقودٍ من الزمن.
وبالتالي فإنّ تيمة الجنس والجسد لم تكونا في إبداعات نون النسوة غاية في حد ذاتها؛ إلا في التشبيك والأخطبوط الفكري الذي تتداعى فيها. لقد نوقشت تلك التيمات في إطار المواجهة الثقافية الشرسة لدرء التصورات الذكوريّة، والدفع بالتهم وتقليص مسافة التوتر. «ذلك أن عددًا كبيرًا من الروائيّات العربيّات يرين في الجسد مصدر تفوق يجب توظيفه في الصراع مع الرجل، أو اعتباره المسؤول عن دونية المرأة، ومن ثم احتقاره وإهانته» ( 3) غير أن أشكال هذه الإهانة ستمتد حدّ الانتهاك والقدحيّة والتشويه. فمن الروائيات من قمن بتعرية المستور وتوغلن في خبايا الذكورة باحثات عن ينابيع ضعيفة تكون مصدرا لهن في الرد، وتضعهن في المقابل في كفة الطهارة والبطولة، وذلك غالبا في تمثيل سرديٍّ يُشعرهن بالانتصار، وتقاومن من خلاله الدعاية الجماهيرية(4) حيث تركن زاوية الضحيّة في المعتاد صدًّا لهجمة جماهيرية مرتقبة.
إن المنجز السردي النسوي وإن كان يبحث في أسئلة مشروعة، كأسئلة الهوية، وأسئلة الثقافة والسلطة فإن ذلك يتم في سياسات سردية تحفر عميقا لتنضج «أسئلة تضع صورة الرجل في حالة اهتزاز تجاه ما يرث من ثقافة وسلطة» (5) فتصبح القوة الرمزية التي تكتسيها الأنثى معادلا للسلطة التي تمارس على الأجساد.
هكذا إذن، وقد كان السياق العام للمساءلة الكيفية، يزج بنا في خانتي الجنسي والجسدي، لكن مساءلتنا للكيفية الروائية في جغرافية بعينها كالعراق، نعثر فيها على سمة مميزة، تضمر خطاب الجنس والجسد في علائق جدلية وتوشّجات تتماهى مع وشوم الهزائم وأصداء النضال وإيقاعات السياسة.
لقد عملت الروائيات العراقيات على مقاربة القضايا الذاتية كالحب والجنس والجسد «مقاربة لم تختلف عما ألفيناه لدى الروائيات العربيات بالتركيز على أزمة الجنس، وتأزيم العلاقة بين المرأة والرجل، وتحميل الرجل مسؤولية الأزمة بإظهاره متسلطا محتقرا للمرأة. وإن تميزت الرواية العراقية بإضافة أزمة الواقع الناتجة عن الحروب والهزائم المتتابعة إلى الأزمة الجنسية بين الرجل والمرأة…» (6 )
تعتبر عالية ممدوح واحدة من هاته الروائيات العراقيات التي-ومنذ بداية كتاباتها السردية-(7) زاوجت في رواياتها بين الجنسي والجسدي، السياسي والنضالي، وجعلت هذه المواضيع متشعبة في وجهان لعملة واحدة. وقد تعاملت في رواياتها مع الجسد على غرار أخريات تعاملا متمايزا يطرق الجانب الإيروسي في التعامل مع جسد المرأة.
في روايتها “التشهي”(8) تطرق الكاتبة في جرأة سردية سادها البوح والكشف وطبعها الانصياع للتفاصيل موضوعا ذا حساسية بالغة «تقف عند مظهر من مظاهر أزمة الجنس «العجز الجنسي عند الرجال» من خلال تجربة البطل “سرمد” الذي توقف عضوه التناسلي عن الانتصاب، وهو لم يبلغ الخمسين سنة بعد، ليقضي ما تبقى من حياته على استعادة ذكريات حياته الجنسية…»(9) والحصيلة حينما تنهار ينابيع الذكورة وتتشقق تفاصيل الجسد، تنجرف الذاكرة الأنثوية نحو الاستيهامات والتخيلات الماضوية باحثة فيها عن باكورة جديدة أو عن بذرة علها تنمو، بيد أن الأمر يبدو مختلفا في رواية ” التشهي ” فالذاكرة أججت مغامرة المواجهة وصنعت سرديات بديلة قوامها المقاومة. تعمل دوما على محاولات نزع الوهم الذكوري “Désillusionner” هذا الوهم الأصلي الذي من دون شك أساسه الليبيدو(10) وكرست له الأبنية المجتمعية في «أحكام لها ما يعادلها في القول المأثور “الرجل لا يعيبه شيء أبدا”»(11 )
نقارب في هذه الدراسة نسقيّة هذا الموضوع باعتماد رافد الدراسات الثقافية، ذلك أن فلك البحث في الدراسات الثقافية انصب حول أشكال الهيمنة والمقاومة “”Domination et résistances كما يؤكد على ذلك أرموند ماتلار ( 12) دروب السرد وإبدالات الحكاية.
دروب السرد وإبدالات الحكاية
ينهض المرويّ في “التشهّي” على منازعات شهوانيّة قضت على شخصية “سرمد (سي برهان الدين)” هذه الشخصية التي أنبتت فيها مخيلة المبدعة براديغما للذكورة العربية، في انشطاراتها وآهاتها، وفي متابعة قرائية لها، قد تبين أنها مثقلة بالجسد والجنس والتحول. وتقودنا عوالم السرد إلى «تأمل ماهية الجسد، في رغباته وانفلاته، في تحرره وتمرّده، وفي علاقته بالأنوثة وهرموناتها» ( 13) ويحفل العالم الروائي بالمتناقضات بدءًا من العلامة الاسمية للبطل “سرمد” الدالّة على البقاء الأزليّ، إلا أنّه بقاء أفسده الجسد الشهواني، فأودى به في متاهات الضعف الجنسي وأمراض السمنة المفرطة.
جسد “سرمد” كما تصوّره القرابات السردية في الرواية، يمثل لصورة الجسد العربي القابعة في المخيال النسوي الثائر، جسد ضخم أثقلته الرغبة وأفشلته الشهوة، جسد منهار وأصبح يتعرض للإدانة النسوية بعد اكتشاف نواقصه، وقد قاد ذاك الانهيار الجسدي إلى إفساد العلاقة الحميمة والجدلية التي تكون فيها الأنثى الطريدة، والرجل الصياد. ووفق ذلك تعمل الروائية على إنتاج خطاب جديد حول الذكورة والجسد الذكوري، يصبح معه الرجل الطريد وتمسي فيه الأنثى الصيادة. «فالجسد الميت النتن يرمز في المدونة الميثولوجية إلى الجسد الشرير الملعون، في مقابل الجسد النظيف بوصفه رمزا للطهارة والخلاص» ( 14) وفي أتون السرد نلفي ادعاءات قوية لصراع القوّتين، الذكورية رمزا للشر واللعنة، والأنثوية رمزا للطهارة والخلاص.
فإذا لم يكن بمقدور الأنثى في فصول الرواية أن تحقق هويتها في الانخراط (السياسي…) وكسب المعاملة العادلة، فإنها قد سعت إلى تأكيد هويّتها النسوية، وبدا أن «سياسة الهوية هنا تتحرض بواسطة الرغبة في الحصول على الاعتراف والمعاملة الحرة والعادلة وغير المتحيزة» ( 15) وفي “حكاية البيضاوية” ما يؤكد ذاك التمسك بمعالم الهوية النسوية «كنت أحب أنوثتي، أحب الكشف عن محتويات المرأة التي أحملها» (16 )
يقوم السرد في الرواية على نوستالجيا تزجّ بالمتلقي في وشائج ربطت “سرمد” بباقي الشخصيات، طغت عليها ترنيمة السياسة والجنس، سواء في انخراطه المهني كمترجم، أو في انخراطه العلائقي مع أخيه “مهند” وصديقه ” يوسف ” أو مع “طبيبه الباكستاني”، أو مع صحبته الشيوعيين: “أبو العز” و “أبو مكسيم”، وبما أنّ الدراسة تسعى إلى استنطاق السياسات الأنثوية، يبدو مفيدا إبراز تفاعلات “سرمد” مع بقيّة الأصوات السردية الأنثوية، التي كان لها حضور وازن.
محكي ألف: حبيبة “سرمد” التي طالما كانت له رغبة في الدفع بها إلى القادم من الصفحات، بيد أنها كانت مصدر انزعاج في الحكي وتأبى التأجيل «…لماذا حضرت ألف للتو؟ حاولت دفعها وقيادتها إلى صفحات آتية، لكنها أبت. كنت أتلذذ بغيابها لكن ما إن يحضر اسمها حتى تأخذ جميع الصفحات وتسحب الأرض من تحت أقدام جميع اللاتي عاشرت.»(17) هي أصغر منه بعامين، ابنة الدكتور رياض البغدادي، أشهر جراح عراقي، تزوجت بأخيه “مهند” «تزوجت أخاك مهند فاستوطنتني أنت»(18) إلا أنها ظلت تحبه، بعدما خيب آمالها بطول انتظار منذ تعارفهما الأول في السنوات الأولى من الجامعة، وصفت ابتعاده برحلة الخيانة والتخلي «… لا زالت إلى اليوم “ألف” التي تصورتني رجلا مقداما لكنني خيبت آمالها بالدرجة الأولى وهذه كانت طبيعتي…»( 19) فظل يتخيلها ويشده الحنين إليها في قطاع الرواية كلها، ويحرك في ذاكرته رمادا أطفأه المرض والبعد بعدما كان قبلا لهيب حب جامح «… الشك “بألف” وبالدرجة الأولى. أتلذذ بطريقة ماجنة وأنا أتخيلهما هي ومهند ملتحمين…» (20 ) ومن أجلها سافر إلى باريس مع صديقه يوسف قصد الاستشفاء، لشفط سمنته المفرطة وتقليب خبايا التخلي المفاجئ الذي صاحب ذكره. «من أجل “ألف” فقط وهي بين أنقاض الروث والبلد، من أجلها هي حضرت…» ( 21) لقد كانت حبيبته ألف كغير النساء اللواتي اختلس معهن لحظة شبقية، فكانت الأنس بالنسبة له، وجانبا نيرا للحظة حب امتدت في الزمان والمكان، ولا تكف عن دغدغة ذاكرته التي أنهكها الجنس، وأضعفها الترهل. «”ألف” تبدو امرأة فسيحة مصانة من الفناء وأنثى نزيلة الأحلام والخيالات» ( 22)
محكي فيونا: فيونا لنتون المعلمة الأسكتلندية الأربعينية، الأستاذة المبجلة في المعهد البريطاني الكائن في الوزيرية، تلك التي علمت “سرمد” قوانين الجنس وسنن المداعبة، وأيقظت شهوته في سن مبكر، خلقت في ذهنه ضروبا من الامتزاجات في اللغة والأكل والجنس، فتن بها البطل فكانت مصدر إلهام جنسي فياض قاده إلى الاحتلام والجنون بالشهوة. بقدر ما كانت لقاءاتها الحميمة به “كجسد عربي” ممتعة، فإنها سعت إلى تجويدها ودربت إياه على “شفرات ثقافية” في التعامل مع الأنثوي، وفي التعاطي مع اللذة، وكانت في قطاع الرواية منبع تصورات ثقافيّة حول الجنس والجسد والشهوة.
محكي كيتا: الفتاة البرلينية الناقدة، أحبت شخصية “نسيم جلال”، وتودد وتلذذ بها “سرمد برهان الدين” لم تكن تعرف كيف الجمع بين الاثنين، إذ ترى أن “نسيم” طلق السياسة واتجه للتنظير، في المقابل طلق “سرمد” كل شيء واتجه إليها في البداية. تقودها اعترافاتها في النص الروائي إلى أنها ضحية تآمر سياسي «كنت شابة لطيفة ومشتهاة أيضا، والذي غدر بي يا نسيم هم رفاقي. رفاق الطريق المتعرج، هؤلاء الذين كانوا الأعز في حياتي على الصعيد الشخصي والحزبي والنضالي» ( 23) وقد كانت لها مواقف من المخيلة العربية للسياسة والجنس، وبدت في الحكاية نموذجا لمتأثرة بالثقافة الرومانسية ومتمردة على واقع ميؤوس منه لا يضمن العدالة بعيدا عن التمايزات النوعية «كل شيوعي عراقي قابلته كان يريد أن يحتل موقع الداعية، الأستاذ والمناضل المبجل الوطني»( 24) وفي علاقتها ببطل الرواية، فقد سادها التشظي وإن كانت مبنية على تبادلات شهوانية «أول ما شاهدت سرمد، قلت، هذا يضاجع بصورة مدهشة لكنه لا يغرم البتة، ونحن في سن متقارب، ربما أكبره قليلا أو العكس، لكن من يهتم ؟ بدأ يعاني من خيبات لا أول لها ولا آخر» ( 25)
محكي البيضاوية: هي في التمثيل السردي، أمينة المغربية، والتي لقبها أبومكسيم بالبيضاوية، والدها الثري متوفى وكانت له نفوذ إقطاعية، كان صديق أبو العز الفلسطيني اللبناني صاحب الشركة، حطت قدمها في ربوع بريطانيا عام 1998، تميزت في سرديتها بحدسها الجنسي وطاقتها الشبقية، تحضر في النص نموذجا لامرأة نابها على شهوتها، تحكي تفاصيل نشوتها الجنسية مع شركاء عملها، اتصلت بالبطل سرمد وأكنت له حفنة إحساس ورغبة، كما اختارت الخضوع لنزواته في صورة جدلية آخذة في الحضور والغياب، «تعرف يا سي سرمد، حين أشمك أتصور أنني داخل بقعة جميلة في مكناس مدينة أمي»( 26) وفي المقابل كانت لدى سرمد من أجمل النساء اللواتي ضاجعهن ولم يخترن التنحي بعد هزء الضمور وحكاية الاختفاء المفاجئة «البيضاوية كانت ألذ النساء في حياتي، تشبه الحورية»( 27)
إن هذه الأصوات النسوية وعلى اختلاف مداركها وهوياتها وجنسياتها، فإنها تحضر في النص الروائي هذا بصيغة مزدوجة تؤسس لحضورين: حضور يضمن لهن الاحتفاء بالذات الأنثوية الحرة المتحيزة العطوفة المتعرية، وحضور يضمن لهن التمرد على القوالب المجتمعية الجاهزة التي فوضت للذكورة قراراتهن، وأوكلت لها رغباتهن وانفلاتاتهن.
المواجهة الثقافية وسياسات «الرد بالكتابة»
تعتبر المواجهة جزءا من الحلّ والتسوية، وطريقة نحو حل النزاع، لذلك تنذر الكتابة النسائية عامة عن “مواجهة” إما علنيّة تكشفها الحكاية حينًا، وأحايين أخرى تظل تلك المواجهة مضمرة وثاوية خلف الخطاب.
في سياق ما بعد الكولونيالية، نحت بيل أشكروفت مفهوم “الرد بالكتابة “(28) للإحالة إلى أدب المستعمرات الذي عمل على تعديل تواريخه، وانشغل باستعادة هويته، وتصحيح صورته ردا على الأشكال التي سوق لها المستعمر في خطابات اللغوس الغربي.
يبدو لائقا تبني هذا المفهوم واستعارته للتعبير عن الردود الكتابية في الإبداعات النسوية التي سعت إلى درء الاحتقار الذكوري. وتعطيل الصورة التي تم التسويق لها في الكتابة الذكورية، وقد صاغت في نماذجها سياسات مستحدثة للرد بالكتابة، اشتغلت وفق قوالب فنية ومزايا سردية اختص بها أدب الحريم.
في روايتها “التشهي” لعالية ممدوح يعمل السرد على تسريب سياسات المواجهة، هذه المواجهة التي تسعى إلى تعديل البنيات والأنساق الثقافية، لمأسسة صورة تصبح فيها الأنثى على غير عادتها. فمع امتلاكها سلطة الخطاب، أصبحت قادرة على الكشف والبوح غير تابعة للمركزية الذكورية Androcentrique”” كما سعت إلى تعديل تواريخها والتحرر من صمتها واستعادة ذاكرتها وسرد هويتها من منظورها الخاص. وخلال التأهب لمشروع الاستعادة تتأسس المرافعات السردية، نورد مثالا ما جاء على لسان “سرمد”: في أحد الأيام دفعتني “كيتا” عنها وهي على وشك الصراخ الحاد. وهذا كان خلاف عادتها: «اسمع، أنت لا تضاجع لكنك تنتقم. أخبرني، هل جميع الرجال العرب يمتلكون ضراوة الانتقام هذه وممن يا عزيزي؟» ( 29)
تقودنا تفاصيل الحكاية إلى شخصيات نسوية (ألف، فيونا، كيتا، البيضاوية…) كانت المدار الذي تحركت فيه شخصية “سرمد ” في تاريخها الغرائزي، وهذه الشخصيات النسوية كلها عملت على تعرية نواقص سرمد وأجالت النظر في مواطن ضعفه الجسدي والجنسي، وقد عبرن عن ذلك بجرأة لغوية وأسلوب صاعد أضحى من ممكنات السرديات النسوية. ولتثوير علاقة الهيمنة انشغلت هذه النساء في الرواية بآلية القلب Inversion”” على حد تعبير بيرر بورديو (30)(31) فإذا كانت الهيمنة الذكورية قد شكلت من النساء «موضوعات مضيافة، مبتسمات، لطيفات، مجاملات، خاضعات، محتشمات، متحفظات، وحتى منزويات» (32 ) فإن هذه السرديّة تفسخُ هذا الميثاق وتقلبه، دفاعًا عن الهويّة النسوية، فأعدت عالية ممدوح تبعا لذلك أصواتها النسائية في قالب عنيف غير محتشم ولا متحفظ.
بيد أن الخلفية الابستيمية لهذا البوح الأنثوي تُضمر مواجهة وتعلن عن ردٍّ نسويّ ساخر من الذكورة ورمزا للهيمنة والمقاومة. وقد استطاعت الكاتبة توجيه مساراتها السردية لإعلان المواجهة وبناء الرد وتعتيم الذكورة، من خلال سياسات انتهاكيّة نهضت على ثلاث ركائز:
• المنطق الباثولوجي:
حكمت الكاتبة على شخصية “سرمد” بارتكاسة جنسية، هيّأتها مدخلا يتلاءم وممكنات استعادة الأنثى عنفوانها وقوتها؛ ذلك أن استراتيجية قلب الأدوار كان سرد التأنيث يبحث فيها عن متغيرات بإمكانها أن تنزل الذكورة منزلتها وتقود الأنوثة لمركز القيادة، وهي متغيرات جسدية وجنسية محضة تأسست على مبدأ التحول، كما يبرز في سردية “حكيم الطبيب” وهو يطمئن “سرمد” في انتكاسته «إن أعضاءنا لا تموت أو تختفي، إنها ربما تتحول، التحول هذا أيضا ليس دقيقا، لكنها الكلمة الأقرب» (33 )
هذا ويبدو أن اختلاق هذه الانتكاسة الصحيّة تصحّ فيه قراءة عكسية، حيث ينطوي ذلك في الأساس على فشل نسوي في مواجهة متكافئة الأطراف، ويكرّس لعداء واضح بين الجسد رمزًا للقوّة الذكورية، والكتابة التخيليّة ملاذًا أنثويًّا. ويؤسّس لرفض واضح للتمايز الذي يرى «أن الجسد الأنثوي كيانٌ أضعف وغير منطقي بالمقارنة إلى جسد الذكر القوي والمسموح له بالتفاعل الاجتماعي غير المقيد في أي موقف» (34 )
• سيكولوجية العواطف:
تتمرّد العوالم السرديّة في نص “التشهي” على الجاهز، فالبرغم من انهيار سرمد إلا أنّ الذوات النسويّة، لا تدينه على ضوء حاضره المهزوم، بل تُدينه على ضوء الماضي، ماضيه المتحرّر، ماضي الشهوة ومزالق الشبقيّة، «غاب في النهاية يا سي برهان الدين، شنو تبغي عاد أكثر من هذا برهان؟ الحريّة، ربّما تفعل هذا، الحريّة تجعله يغيب ويروح على هواه…» (35 ) ورغم تحميل الرجل مسؤولية التّسوية، إلا أنّ المرأة أبانت عن انخراطها المتعاطف رغم ما يحتويه هذا التعاطف من “سيكولوجية شماتة وثقافة انتقام” «ولما لم يتحرّك قط بين صوتها وحركات يديها الإلهية بدأت تردد بصوت ضعيف، ضعف كثيرا… فلم أسمع إلا نهايته “أظن ما هو إلا حادث عرضي ولن يدوم طويلا”» (36 )
إن هذا الضعف الرجوليّ كان فرصة سانحة انتهزتها النسوة للردّ بالقوة ولفرض الهيمنة والتعاطي الذي يبلغ الأقصى حينا بالعنف «حاصرتني من أمام ومن خلف فشعرت أنني مجرد حشرة يتم التلاعب بها تم سحقها وبالتالي موتها» (37 ) وأحايين أخرى بالاستصغار ونزع القيمة وخرق الخصوصية، ومما نقرأ في هذا السياق مثلا قول “الماليزية” وهي تراضي سرمد: «أقسم إنك تشبه طفلي، ألبسه الحفاضات ثم اللباس المبطن هو الآخر» ( 38)
• المواجهة النسوية في ضوء تحديات الكتابة الإيروسية:
إزاء هذه الحالة تعيش الشخصيات الأنثوية في أتون هذا السرد تشظيا إيروسيا، فكانت المعادلة السردية شاقة، إما نقل الهزائم الجسدية والجنسية التي وشمت “سرمد” نقلا وصفيا دقيقا يوقعنا في البرنوغرافية، أو مساءلتها بشكل إبداعي، وبما أن «الإيروسية فعل حداثي، فهي فعل للإبداع الذي لا يسقط في البرنوغرافية بشكلها المبتذل، ولكنه يسائل أسئلة الذات وتصدعاتها وانحساراتها عن الفعل كما يسائل تعويضاتها النفسية، وفضاءاتها الاجتماعية»(39)وعليه، فقد انعطفت الكتابة السردية في عمل عالية ممدوح في زاوية إيروسية تعري المرايا الوهمية والوجود المغتصب وفق «منظور يحرر المرأة نفسها، من رؤية الرجل إليها، كعراب أو صانع أكوان، لأن أكوانها في الصنع أكثر دفقا…» ويتأكّد هذا التحدي الذي يطرحه النموذج الإيروسي في الكتابة السردية في كثير من المقامات السردية نورد بعضا منها في الآتي:
– في سردية “البيضاوية”: تحاول الإشفاق على وضع سي برهان الدين قائلة: «…دعني أنا التي تقوم بالتفتيش عن صاحبك بدلا عنك، أنت لا تقوم بذلك بحسب الأصول المرعية (…) دعني هيّا تمدد كالسابق لكن أنا التي تتولاك، أنا التي سأقودك إليه، سوف أدعك تشاهد كنوزه هو لا كنوزك أنت. أنا أعرفه أفضل وخير منك» (40) ويتبدى من خلال هذه التدوينة أن تطويع اللغة النسوية وفق هذا النموذج الإيروسي يضاعف السؤال حول ممكنات اللغة السردية وآليات تكييفها.
– في سردية “فيونا”: في ذاكرة “سرمد” خلال نوستالجيا مغامرات جنسية، يقول عنها البطل الدرامي: «كانت تتصفحني كما الكتب وتريد فتح مجار جديدة لمياهها الجوفية التي كانت لا تعرف كيف تصرف وإلى أين؟» (41 ) ويكفي إمعان النظر في هذا المقطع السردي أيضا حتى يتضح أن المركبات الاستعارية والانزياحات الأسلوبية أضحت لازمة لتطويع الدسائس الإيروسية وإضفاء منطق المقبولية عليها.
– في سردية “البيضاوية”: في علاقتها بشخصية “سي الهادي”، تصبح خاضعة لطاقة أنثوية فوق المعتاد، جاء على لسانها: «أتشهى وأشتهي كما لو أن الذي أمامي هو الشيزبورغر. أصور شريكي هكذا بسوائل حارة وهي تسيح على فمي…» ( 42) هكذا يبرز بجلاء أن في القول والمقول احتياطات تنتصب أمام الكتابة الإيروسية المباشرة، ولكن هذا لم يمنع فيما قل من السياقات من أن تبحر اللغة في تصوير إيروسي انتهاكي، كما نقرأ في سردية “ألف”: في لقاء حميم مع “سرمد” بفندق لندن تفصح قائلة: «هيا يا سرمد ابدأ من سمانة ساقي، بسها، ولا تنس راحة يدي، وبطن قدمي ومفصل الحجل والركبة…» ( 43)
استراتيجيات انتهاك الطابو الذكوري.
إن الجسد وإن كان مآله الوهن في الحتمية البيولوجية، إلا أن التصور الذكوري الثقافي المتغلغل يضفي عليه شرعية الارتكاز والقوة، لذلك لم تكن الحقيقة البيولوجية وحدها كافية في المجتمعات الذكورية لتبرير الضعف الجسدي والجنسي، فأضحت من المهام الموكولة للقلم النسائي نقد هذه الأنساق الثقافية النمطية وصياغة بدائل؟ وبالتالي فإن تصحيح التصور يفرض من القراءة الطباقية(44) “Contrapuntal Reading” للأنثى أن تنقل الجسد من القيمة الجنسية التي يتذوقها الرجل إلى القيمة الثقافية التي تستكنهها الأنثى، ولا شك أن «تحول الجسد من قيمة جنسية إلى قيمة ثقافية أدى إلى ظهور نموذج نسوي فريد هو بمثابة الإبداع النوعي في جنس النساء» ( 45) وقد نهضت آليات تفكيك الطابوهات الذكورية وتقويضها في نص “التشهي” بشكل بانورامي على ما يلي:
• اشتغال الذاكرة النسوية المضادة:
يحيي هذا النص الروائي مقموعات التاريخ النسوي، ويفتح لها المجال أمام التحرر، إذ يعمل على قراءة القيم النسوية الماضوية: (الحشمة والحياء) التي كرست لها الذاكرة الرجولية، ومناهضتها من خلال إنعاش ذاكرة مضادة تتأسس على: (الفضح والهدم) ويتأكد ذلك فرضًا لو تمّت قراءة هذا النص الروائي مع استبعاد هويّة المؤلف، سيتم تحديد النص على أنه ذكوريّ، ذلك أن أسلوب الفضح واستعارة الجنسانيّة كانت إلى عهد قريب من خصائص الأسلوب الرجولي، فاللافت للنظر في الرواية أن لغتها على صفيح ساخنٍ تروم تعرية الرجل وتفتيت شيء من نسقيّته الذكورية التي اكتسبها طواعية. ومع إطلاق عنان الذاكرة المضادة، تعالى الأسلوب الفاضح وتقوّت لغة التعري. لذلك خرق الصوت السردي النسويّ ما لم تستطع الأصوات الرجوليّة قوله عن نفسها، وما ظل مسكوتا عنه في تفاصيل جسدها.
وبالتالي استطاع الإنجاز السردي لعالية ممدوح أن يطرق طابوهات في العالم الرجولي مثل: البدانة، الضعف الجنسي، … من خلال بناء ذاكرة مضادة تهدم الضامن الميتافيزيقي الذي يكرس لامتداد الجنس والجسد الذكوري. وتؤسس في المقابل لمفاهيم الحب كقيمة خالدة، ذلك أن «اكتشاف الجسد عن طريق الحب هو ما يذكي جذوة المقارنة بين الجسد بعاطفة وجسد بلا عاطفة» (46 )
ومع رغبة الكاتبة في إشعار بطلها بالأسف إزاء هذه الطابوهات تتوغل الممارسة الكتابية لتخلق حالة ارتياب تنتاب الرجولة حين فضح نواقصها، ونقرأ بهذا الصدد في محكي “سرمد”: «وقفت أمام المرآة بدون ثيابي، كل شيء وأي شيء غاب عني إلا تلك الحكمة التي كنت أتعامل بها مع هذا الرجل الواقف أمامي المنكسر الضعيف الفاشل» ( 47) ونقرأ في سياق آخر: «…سكتات الدماغ والقلب، أما سكتات الذكر فتلك ظاهرة جديدة بالنسبة له» ( 48).
وحيث اللغة الانتهاكية للقلم النسوي تتطلع -هنا في مثل هذه السياقات وغيرها-إلى رغبة في الإصلاح، إصلاح ذكوري ذاتي ينطلق من جسد الرجل ومن تصوره للجنس، فإنها لا تكف عن نقد الكائن والموضوع، آملة في تجويد الممكن وحصول القيمة. ويتأكد مثل هذا الأمر في خطابات متعددة كهذا الذي وجهه الطبيب لسرمد «ربما لا تأكيدات البتة، أن يعاود عضوك الظهور ثانية، لا أحد يقدر على تأكيد أو نفي ذلك، فكل شيء يحسم على أرضك أنت، أعني جسمك..ها»( 49)
يصل النموذج الإيروسي في الكتابة مداه الأقصى في بعض التمثيلات السردية التي غاصت في دسيسة الأسلوب ومسكوكات التعبير، لكنها في أبعادها الخطابية تشيئ للآخر المتمايز جنسيا ونزع لسمات الآدمية عنه: «ماؤك غزير، ماؤك معطر به رائحة الليمون وصابون، يود وزلال. أنت لا تقدر على شم ذلك. أجل رائحة حيوان أملاحه ألذ من سكرياته» ( 50)
• استراتيجية “اللا مستور”:
الجنس والجسد مكنوناتهما وطابوهاتهما، هي الأشياء التي ترعب الجنسين، رغم أنهما معا عبيد وأسرى لها، وقد ساد الصمت المريب وانحبس البوح الذي لم يستطع السرد الذكوري أن يفصح عنه، يأتي السرد الأنثوي بديلا للتعبير عنه، بعد عياء وملل من المراوغات الذكورية تلك التي لا تتقن إلا إمعان النظر في نواقص الأنثى دون أن تمعن النظر في نواقصها هي، وكذا من لعبة التمويه تلك التي تستمر فيها العقلية الذكورية لإخفاق الكشف، ولأجل إبطال المفهوم الكلاسيكي للفحولة واحتفاء الأنثى باستعادة فرادتها الجسدية التي كانت تابعة وقيد النزوة المترددة للرجل، فإنها تعمل على إزالة اللثام عن الطابوهات الرجولية.
– الاختفاء المفاجئ: يصوغ السرد النسوي هذا الطابو في قالب شوبنهاوري، ذلك أن الذات الذكورية لا تقود نفسها نحو الاعتراف والتقبل، بتعبير شوبنهاور إن «كل حقيقة تمر من مراحل ثلاثة: تكون في البدء مثار سخرية، ثم تواجه بمقاومة عنيفة، وتنتهي بأن تقبل بوصفها حقيقة واقعة» (51) ويتضح ذلك في أشواط التشخيص التي قطعتها شخصية “سرمد” هروبا من حقيقة الأمر. إلا أن الوجود الذكوري وراء الستارة لم يعد محتملا ولا خيار أمامه إلا الانتظار «إن اختفاء ذكرك يحتمل تفسيرات عدة، وعودته، ربما لن تتحقق، ولا خيار أمامك إلا الانتظار» (52) ومع اكتشاف الذهنية الذكورية فقدان ذاتها الجسدية ومقدرتها الجنسية، يتأكد أن الوعي الذكوري لم يكن غاية في ذاته، بل مجرد وسيلة لقضاء نزوة (53) وحيث الاعتراف واكتشاف اللاجدوى والعدمية يصبح الهروب بعدئذ هو الحقيقة الوحيدة التي يمتلكها “سرمد” وهو الملاذ والسكينة.
-التخيلات: في كثير من السرديات الذكورية، نلفي حضور المرأة خاضعة مستلبة من الإحساس تعاني تشييء لا يرى فيها الذكر إلا ملاذا لقضاء حاجياته، ولا يتصورها إلا هيكلا جسديا يرسم تفاصيل الشهوة ويطفئ لهيب الرغبة، ومع هذا كله وفي ظل الصمت المريب الممتد للسرد الأنثوي، يحضر السرد النسوي في هذه الرواية لمتابعة الملحمة الجسدية للرجولة وكشف سياقاتها الدرامية، قصد قلب موازين القوى ومنح تفسير جديد لرؤى الجسد،«…البيضاوية كانت تستطيع بلوغ درجة عالية من الاستحواذ عليّ فتجعلني أتخيّلها مرارا أكثر من الإمساك بها حقيقة …»( 54) تصبح الأنثى بهذا المعنى قادرة على إقبار الشهوة الذكورية، وتزج بها في مدارات التخيّل وتبعدها عن فلك الحقيقة. «بشكل كامل يجمع بين متقلبين، الجسد الذي لا يثبت على حال، والحب الذي يبحث فيما وراء الجسد وما وراء اللحظة» ( 55) حيث بدا أن التصوّر الذكوريّ فيما تمليه الرواية، يذهب صوب اللذة ويجتنب الألم في حين يتوارى النموذج النسوي خلف مبادئ الحب والعاطفة.
البدانة: تنتقد رواية عالية ممدوح على لسان أصواتها النسوية الجسد الذكوري العربي، إذ لا تصوّره جسدا نشطا، بل تقدمه جسدًا مُثقلا جرّاء جماحه المفرط في الملذات وغوصه العنيف في المأدبات، وإذ تفصح الأصوات النسوية عن واقع الجسد، فإن خطابها يضمر نموذجا حالما لم يتحقق بعد، وفي خطاب نسوي موجه “لسرمد (سي برهان الدين)” مثلا نقرأ: «أحد الأسباب ما أنت عليه من شحوم ولحوم…» (56) ويعزى في نظر الصوت النسوي واقع الجسد الذكوري العربي هذا إلى خلل في الثقافة، تقول “ألف” في محكيها محدثة: «كلا، السمنة ليست مرضا فقط، إنها جهل وقلة ثقافة…» (57) وعليه، وفي المقابل تتمادى الذكورة في تمثيليتها راغبة في هذا الجهل وضاربة للهامش فكرة تثقيف الجسد، وقد ورد في سردية “سرمد” بهذا الصدد: «بدانتي أحبها ولا أريد التفريط بها» (58 )
الجسد من التصور الجنسيّ إلى القيمة الثقافية.
إذا كانت السرديات الذكورية قد رأت في الجسد الأنثوي صنما للجنس، فإن المعالجة السردية النسوية لموضوع الجسد الذكوري في هذه الرواية ترتقي وتعلو على هذا التصور النمطي، حيث جعلته موضوعا ثقافيا سحبته من جدلية مقدس ومدنس ومنحته قراءات ثقافية إصلاحية جديدة.
ومما لا شك فيه «أن وجود الإنسان وجود جسدي والمعالجة الثقافية التي يعد موضوعا لها، والصور التي تتكلم من عمقه المخبأ، والقيم التي تميزه، تحدثنا أيضا عن الشخص، وعن المتغيرات التي يمرّ بها»(59 ) ومن ثم استطاع السرد الأنثوي عبر القراءة الثقافية لمداخل الجسد والجنس أن يستوعب متغيّرات الوعي الذكوري وأبعاده الشخصية. ويجعل سياسة الهوية النسوية ها هنا جزءا من السياسة اللانمطية “Queer politics” على حد تعبير سايمون دورين( 60) لأنها تسعى إلى تذويب ومحو الاختلافات الداخلية بين النوعين”Genres”. إن المراوغة التي تؤسّس لها عالية ممدوح في روايتها جدواها تأكيد انهيار رجولي مقابل بناء صرح للاستحواذ النسوي، وهدم للأفكار الذكورية مقابل خلق لأفكار تحررية أنثوية.
ذلك أن زخما من الكتابات الذكورية التي صوّرت المرأة كعنوان للجنس والمتعة، وركزت على الجنس كدعامة أساسية لحضور المرأة داخل الرواية، لقيت ردودا كتابية وفي مثل هذه الرواية فقد اعتمدت سياسات السرد على تذليل الرجل وتقويض سلطته من خلال التوغّل في طابوهاته ومواطن ضعفه.
إلا أنّه ومع محاولة طرح نقاشات الجنس والجسد موضع المطارحة الثقافية التي تبحث في الأسباب وتتغيا إيجاد حلول في شكل ديمقراطي يمهد له الحوار البيني، كما جاء على لسان شخصية “نسيم”: «جميع ما تعلمته في حياتي، تعلمته من النساء. وفي حضرتهن تكتمل إنسانيتي» (61) فلا يمكن أن نتغافل عن تبدل بعض القيم وزيفها، إذ أصبح الرجل «يتعرض لظلم المرأة وعنفها ولممارسات مشوهة ضده، تخل بالطبيعة الأنثوية للمرأة التي هي رديف للحنان والليونة والدفء» (62) وفي التمثيل السرديّ يصل هذا العنف ذروته حتى يصبح لا إنسانيا «فيونا هذه (…) ليست من البشر، آفة هي.» (63 )
بيد أن الواضح في معالم السرد وجود تسليم بأن «ثقافة الكراهية لا تنبع أبدا من حقيقة الاختلاف مع الآخر، فالاختلاف نفسه يمنح الحياة ثراء وتعددا» ( ) فإذا كانت الهيمنة الذكورية قد استطاعت خلق أسمى أنواع الحب والتضحيات، وفي الوقت نفسه ارتكاب أبشع ضروب القسوة والعنف والأنانية، فإن الرد السردي النسوي لم يتجاوز عنه ذلك وكان حريصا على تسويق الصورة نفسها بشكل معكوس، إلا أنه رد يتناسى ما يطرد في القول عادة: «سواء أكان الغير هو الخصم الذي أصطرع معه وأتمرد عليه، أم كان هو الصديق الذي أتعاطف معه وأنجذب نحوه، ففي الحالتين لا أستطيع العيش من دونه ولا أملك سوى أن أحدد وجودي إزاءه»(64 )
بعدما كان الجسد الذكوري فحوليا أصبح رمزا للهزء والفشل وبواعث تأملات ثقافية مضنية، هذه “فيونا” الأربعينية تخاطب البطل الدرامي قائلة: «قل لي، هل تعرف المرأة حقا كما تدعي؟ هل تعرفت عليها فعلا؟ (…) انتبه قد تغشك وتسخر منك، بمقدورها أن تشوهك وتضحك عليك إذا عوملت برياء وزيف فتصير أنت مبعثا للفشل والهزء» (65 )
تصبح الأجساد في هذه الرواية ميادين للصراع الثقافي، أكثر مما هي ميادين للصراع الجنسي، فالأنثى تسعى إلى تغيير الطبائع الجسدية الذكورية، والذكر يروم الحفاظ على ما تبقى من أفكاره النمطية وإرثه الجمعي، هذه “فيونا” في مقام مغاير محدثة سرمد: «أرجوك يا سرمد تعلم الهدوء، هو أكثر قوة واشتهاء. جرب وسوف ترى» ( 66) وفي خضم هذه اللعبة التي يتشابك فيها الإمبريقي والسردي تخوض الروائية بحثا مضنيا في ماهية الجسد لتهذيبه وعقابه في آن واحد على حد تعبير ميشيل فوكو فقد كان هذا الأخير «أبلغ محلل للطرائق التي يمثل الجسد عبرها موقعا للتحكمات الثقافية والسياسية، فهو يكتب في “الضبط والعقاب”» (67 ) في إطار معالجة الجسد كبنية ثقافية.
نقرأ في سردية “فيونا” أيضا في إطار تعضيد السيطرة والتحكم الأنثويين «جميع الأماكن عندك وعندي هي ملك لي بالدرجة الأولى، (…) وما عليك إلا بالقبول» ( 68) يقودنا السرد ختاما إلى فكرة انتصار المواجهة النسوية وإعلان الارتكاسة والعدمية الذكورية، وإلى انتصار القيمة الثقافية النسوية، وارتياب القيمة الجنسية الذكورية، وفي محادثة مونولوجية “لسرمد” نقرأ هذه الهاوية الدرامية التي آل إليها أخيرا بعدما ترتب عن تلك المواجهة العنيفة: «لن ينفعك أن تتقمص روح شخص أو حيوان. أنت سرمد برهان الدين، بلا مرتبة ولا منصب، لا مختلف أو خارق أو غير مألوف. أنت لا شيء. لا عدد ولا حرف، لا رقم ولا كسر الرقم ولا معدل وراثيا ولا جاهز لصناعة شيء آخر.» ( 69)
خاتمة
لقد أصبحت “تموضعات الجسد” في السرد النسوي عامة ضمن تصور جديد يمزج بين الفاعلية السياسية والممارسة الثقافية، وهي القضية التي استأثرت اهتمام “فرانز فانون” لما ركز على الجسد بوصفه مركزا يقع في التفكير الخاص ما بين الفاعلية السياسية والممارسة الثقافية (70). الفاعلية السياسية التي تصرف نقاط الارتكاز والقوة للأنثى، والممارسة الثقافية التي تروم خدش الأبنية الجوانية لنقيض الأنوثة بدعوى «الموضة الثقافية؟»
عامة؛ لقد كشفت رواية “التشهي” بوصفها سرديات بديلة ونموذجا تخييليا عن قدرة الهوية النسوية في مجازات السرد على اختراق متاريس الإسكات الثقافي الذي فرضته الثقافة الأبوية في النسق الإيديولوجي العربي، وبالنتيجة ساهمت في إنتاج خطاب معرفي مضاد عن جملة من القضايا، بما فيها الجسد والجنس والسياسة والثقافة.
وفي ختام مقاربتنا التحليلية نخلص إلى أن “الكتابة السردية لعالية ممدوح” في روايتها “التشهي” أحدثت منعطفا ذو حدين: لائقا من جهة لأنه إثبات للخصوصية الإبداعية وللفرادة التخييلية واستعادة للهوية النسوية الضائعة في زمن تمفصلات الرجل وهيمنته على التمثيلات السردية، ولكنها من جهة ثانية معالجة للثقافي والسياسي، وقعت في المسافة المتوترة من تلك الصراعات المؤدلجة الممتدة في الزمان والمكان، صراعات الجندر بما هي تحريض ثقافي وليس تحريضا طبيعيا.