يقف العامري في تجربته الشعرية على محطتين فارقتين، الأولى تتسم بطبيعة البدايات وما بها من عفوية وبساطة وضعف وهشاشة، تمثلت في دواوينه الأولى ( هودج الغربة، قطرة في زمن العطش، الكتابة على جدار الصمت ) ثم مرحلة انتقالية بين هذه المرحلة وما يليها، تمثلت في كتابه استراحة في زمن القلق، الصادر عام 1989 م، والذي يبلور انعطافة شديدة في تجربة العامري ، ويطرح نوعا من القطيعة مع مسيرة الشاعر السابقة، معلنا عن بدء جديد لمرحلة مختلفة تماما اقترب فيها العامري من جوهر الشعر بمقدار ابتعاده عن اجترار ما هو عادي ومألوف من الصور والأخيلة والرؤى، ولستُ مع الرأي الذي يحدد تحولات الشاعر بديوانه ( الألق الوافد ) بل أجزم أن التغيير الجوهري والمفصلي في تجربة هلال الشعرية قد تم مع ( استراحة في زمن القلق ) وهو رغم كونه مجموعة من المقالات التي نشرت عبر عمود صحفي ، إلا أنه يحمل الكثير من جوهر الشعر وفق رؤى شعرية شفيفة، لعلها كانت مدخل العامري لكتابة قصيدة التفعيلة المتحررة من قبضة الوزن الموسيقي الصارم الموجود في المرحلة الأولى، ممثلا في القصيدة العمودية، وهو تحرر وصل إلى التجريب لكتابة النص النثري أو قصيدة النثر وفق التسمية المتداولة، ولعل كتاب الاستراحة كان مدخلا أيضا للتحول الأسلوبي والدلالي الكبير الذي جسد فجوة كبيرة بين المرحلتين الأولى والثانية، وهو سبب تغير التكنيك الفني الذي اتخذه العامري فيما بعد لمواصلة تجربته الشعرية .
إن ( استراحة في زمن القلق ) هو كتاب يقترب جدا من تخوم الشعرية وينأى كثيرا عن منزلق الخطابية والمباشرة، نستشعر هذا منذ العتبة الأولى المتجسدة في عنوان الكتاب، حيث تسكن مفارقة التضاد العبارة وتتضح أزمة الإنسان الزمكانية الوجودية منذ المقدمة التي ابتدأها الشاعر بقوله ( أزمتنا الزمكانية تقبع في دواخلنا، ومهما نحاول جاهدين إخراجَها تولج من أوسع أبواب إيقاعات العصر الذي نعيشه فتسبب لنا قلقا نبحث به عن محطة نستريح فيها … ) (1)
لقد نضجت التجربة بعد أن نضج وعي الشاعر، وسكنته الهموم الزمانية والمكانية، وهي أزمة وجود إنسانية تخرجه من نطاق الرؤية السطحية، ومن السهولة التي كانت سمة واضحة للمرحلة الاولى، حيث تتدفق الكلمات بعفوية اللحن وبغنائية رومانسية واضحة، ويتكرر نموذج هذه اللغة فيها :
( تعيشين ملء خيالي الكبير
وفي طي روحي كتبتُ المصيرْ
أحسك ملء كياني وكوني
أحسك عبر مياه الغديرْ
أحبك والقلب يخفق دوما
ويبقى جوابُك سرًّا خطير ) (2)
يقابل هذا في الاستراحة خطاب نثري يتوغل في تخوم الشعرية بلا أدنى ملابسات، متحريا ذلك منذ الاسقاط الأول للنص المعنون بـ
( الانشغال باشتعال الدهشة ) حيث اختيار اللغة الايحائية الرامزة :
( داهمتني خيول التاريخ وقوستْ كتفَ الأرض تحت قدمي، فتساقط كلُّ المدى حروفا تنتشلني من الكبوات، تفتلُ خيطا فاصلا بلون الضوء، وكنتُ أسمعُ البحرَ يهجسُ باسمي فأخطفُ استداراتِ الطيفِ… ) (3)
إن هذه النثرية المشحونة بتوترات الشعر من جماليات لغوية وخيال وتصوير، تنم على أن العامري يمرّ بتحول سيشكل عالمه الشعري القادم حيث التجريد اللغوي والترميز الصوري واستخدام تقنيات أسلوبية تتناسب مع هذا التحول الكبير، وهي المرحلة التي ستكون موضع اهتمامنا في هذه القراءة .
بدأت المرحلة الشعرية الثانية في تجربة العامري بدواوينه الثلاثة الألق الوافد، الصادر سنة 1991 م، ثم رياح للمسافر بعد القصيدة 1993 م، ثم للشمس أسبابُها لكي تغيب ، الصادر سنة 1994م، وأحسب أنه لا ينبغي أن ندخل للمرحلة الثانية دون أن نقف وقفة فاحصة للعتبات النصية المتمثلة في عناوين دواوين الشاعر والتي أراها عناوين دالة تخيرها العامري بعناية، وهي عناوين كاشفة للتحولات ولما تموج به أعماق الشاعر النفسية، فديوانه الأول (هودج الغربة) يرمز إلى اغتراب الشاعر المبكر ولعل الغربة هنا مكانية أكثر من كونها ذهنية ناتجة عن الوعي والتأمل والتفكر، بدليل اسناد الغربة للهودج وهو رمز للترحل المكاني، لكن في حنين واضح لزمن أجمل يكمن في مخيلة الشاعر، وتظل مفردة الهودج ترافق الشاعر وتتردد حتى في دواوينه المتأخرة، الأمر الذي يدل على عمق ارتباط هذه الدلالة بلاوعي الشاعر . إذن الغربة الزمكانية لها بواكير في وجدان الشاعر، العتبة الثانية عنوانه ( قطرة في زمن العطش ) حيث الجفاف والعطش ومعاناة الشاعر واحتياجه المُلح ولو لقطرة في هذا الزمن الممحل، والجفاف هنا نفسي مصدره الجفاف المكاني والزماني أيضا، العنوان الثالث : الكتابة على جدار الصمت، وهنا تتعمق الدلالة الاغترابية أكثر فهو يكتب، أو ينبغي أن يواصل الكتابة لكنها كتابة على جدار الصمت، والجدار رمز للعزلة بين الذات وبين الغير، وهو إشارة ما إلى الغربة ، وتتعزز دلالات هذه الغربة عن طريق إسناد هذا الجدار إلى الصمت، والصمت عزلة أخرى، وهو ما يكشف لنا عن معاناة الشاعر من التضاد، فهو مرغم على الكتابة بحكم ضرورة تطهر الذات بالفن، لكن ينبغي أن تظل هذه الكتابة حبيسة الصمت أي دواخل الذات النفسية،غير مصرح بها، بل يكتنفها قيد الصمت ، وهذا ما لا يتفق مع طبيعة الفن التواقة للتحرر من كل قيد، وأسباب التكتم والعزلة لدى الشاعر كثيرة، ستتضح من عناوين كتبه الأخرى، ثم بعد كل هذا الصمت والخوف والقلق من البوح تأتي الاستراحة، فالذات تستحق أن تستريح وتستقر، والاستراحة مكانية، لكنه أيضا سيستريح في زمن القلق، وهي معاناة زمكانية كما أوضح الشاعر بنفسه في مقدمة كتابه، ويدخل العامري للمرحلة الثانية متسلحا بطريقة فنية ارتضاها لنفسه، وبديوانه ( الألق الوافد ) ولأول مرة تصلنا إشارات تفاؤلية من العنوان، لعلها تجسد أن شاعرنا قد قهر اغترابه عن طريق الإبداع الشعري الذي خلصه من القلق، وكذلك راحته فيما تخير من حيلة فنية للكتابة بدون قيود، ومن ثم كان الألق هو الإبداع، والوافد هو البشارة القادمة للنجاة من قلق الاغتراب والوحشة والتضاد، ولهذا كثرت في هذه المرحلة تلك القصائد التي تحمل عناوين فيها توجه ونداء للشعر مثل (يا أيها الشعر، حرفي يغتال علانية .. حرفي يغتال، وللشعر أهتف : يا أيها الشعر، ورياح للمسافر بعد القصيدة ، وقصيدة الشاعر، وخطاب إلى الشاعر) وكثير من الصور المبشرة بالقصيدة الخلاص، المبثوثة عبر العديد من القصائد، ونكتفي بقراءة العناوين عند ديوان الألق الوافد لأن تلك العتبات النصية، قد كشفت لنا أسباب تحولات الشاعر وسبب القفزة النوعية في التجربة ككل .
المرحلة الثانية، استخدام تيار الوعي :
أحسب أن الوضع الاجتماعي القائم على القبلية والمشيخة، وتماس هذا الوضع مباشرة مع الشاعر هلال العامري، الذي يعد أحد رموز ذلك الوضع المتمثل في لقب المشيخة الذي يسبق اسم الشاعر عادة، قد قاد هلال العامري إلى تلمس طريق آخر للتعبير عن ذاته خاصة بعد أن بلغ التوتر الشعري ونضج التجربة وازدياد الوعي درجة عالية لديه، الأمر الذي أوجد تضادا حادا داخل الشاعر بين متطلباته الاجتماعية المحافظة والمؤطرة بالنمطية والتقيد والالتزام، ومتطلبات فنه وهو الثورة على القيود والتحرر منها، للتعبير عن ذاته الحقة وهمومه ورؤاه بمقتضى الحرية التي يتطلبها الفن الصادق، إن هذه الثنائية المتضادة المولِّدة للقلق والتوتر، أحسب أنها هي التي قادت هلال العامري إلى اقتحام المرحلة الثانية، مجسدا تلك القطيعة بينها وبين المرحلة الأولى، ومن هذا المنطلق أيضا سيختار الشاعر أسلوبا يحقق له الأمرين معا، وأقصد بهما المحافظة على الإطار الاجتماعي دون الخدش بأصولياته، والوصول للحرية التي يتطلبها الفن، حيث لجأ إلى حيلة من حيل الفن وهي استخدام تيار الوعي، أو ما يعرف بالتدفق الحر، الذي يرتكز على استخدام اللاوعي باعتباره الخزان الرئيس ومصدر المعلومات المكبوتة سواء أكانت نفسية أو اجتماعية، متجها إلى إبراز تجربته الجوانية النفسية معبّراً عن كوامنه بتحرر وتدفق الانسياب المتواصل للأفكار والمشاعر داخل الذهن . لكنه في الوقت نفسه قد استطاع التحرّر من اللغة الاعتيادية الكاشفة المباشرة، والتي تعتمد على تسجيل ونقل الواقع الخارجي الحسي، تلك اللغة التي تتعارض مع أسلوب تيار الوعي ( الذي يقوم على اللغة المجازية الاستعارية الشعرية الرامزة، والتنقل العفوي بين الأزمنة والأمكنة، ما يدفع في كثير من الأحيان إلى الغموض والتشتت) (4)
إذن لقد استخدم العامري تيار الوعي رغبة منه في اقتناص لغة جديدة تقوم على الصورة والرمز والدلالات الإيحائية، وتحطيم الزمان والمكان، وإهمال علامات الترقيم، ونظرا لهذا أعتقد معظم من كتب عن تجربته بأن لغة هلال مفككة، يقول ضياء خضير (وكأن فراغا انطولوجيا أوليّا يطوّق قصيدة العامري ويجعل تعبيره عن غرضه فيها محاطا بنوع من النقص الذي يجعل اللغة عاجزة، على نحو يشعر معه القارئ أحيانا أن الشاعر قد أخطأ الطريق إلى هدفه، ولم يحسن اختيار موضوعه، بصرف النظر عن طبيعة هذا الموضوع والطريقة المقترحة لمعالجته… وهكذا نجد أنفسنا إزاء هذه الحال التي لا يعرف معها الشاعر ما يقول، مع أنه قادر على القول ) (5)
والحقيقة أن العامري يعرف ما يقول، ولغته غير عاجزة، لكنه قد قصد ما وصل إليه خضير، فالشاعر هنا يقصد قصدا واعيا إلى أن يجعل لغته مفككة، غير منطقية، ولا مترابطة، تتداخل فيها الأزمنة والصور، بحيث يكون من الصعب معها متابعة النص، أو المشاعر التي تكون متداخلة في النص، حتى لا يصل إليها القارئ بسهولة، تبعا للتكنيك وللهدف الذي اختاره ، كنوع من عدم الكشف المباشر لانفعالاته وهمومه ورؤاه، ولهذا سمى بعض الكتاب تيار الوعي بالكتابة المفككة . (6)
يقول سمير سرحان في مقدمته لاستراحة في زمن القلق معللا سبب لجوء العامري لعوالمه الداخلية …
( ولأن النفس البشرية عالمه السحري والغوص في أعماقها متعته الذهنية وعذابات الكلمة الصدق شراعه .. ودافعه إلى تلك الرحلة الممتعة المتأملة في زمان عزَّ فيه التأمل … جاءت استراحة هلال العامري في زمن القلق آهات شاعر وتأملات مفكر تداهم صاحبنا في ذاك الزمن الرديء ) (7)
لربما تكون هذه الفقرة هي إجابة للسؤال لماذا يتجه العامري صوب استخدام اسلوب تيار الوعي فالعامري ابن هذا الزمن الرديء كما وصفه د. سمير سرحان، (حيث يسيطر القلق والخوف والإحساس بالتلاشي على الإنسان ، أمام جبروت المدنية بمصانعها ومداخنها واختراعاتها التي تسلب الانسان يوميا إنسانيته، ومن ثم بدأ الإنسان يتأمل تلك النفس ذات العوالم الغنية التي يحتويها جسده) (8)
ونقف عند أبرز سؤال في هذه الدراسة، ما هو تيار الوعي وما هي أبرز تقنياته الواضحة في شعر هلال العامري؟ ومتى بدأ العامري باستخدامه، ولماذا لجأ إليه للتعبير عن تجربته؟؟
يطلق مصطلح تيار الوعي أو تداعي الذاكرة في النقد الأدبي على ( التقنية الأدبية التي تسعى لإظهار وجهة نظر الشخص من خلال صياغة الأفكار بصيغة كتابية، وهذه الأفكار إما أن تكون محادثة داخلية غير مترابطة، أو تكون متعلقة بأفعال وتصرفات الشخص، وهو اسلوب يفوق في أهميته تيار السرد النظامي للعالم الخارجي وما فيه والذي كان يطبع الأسلوب التقليدي)(9)
ومن المعروف أن هذا المصطلح أطلقه عالم النفس وليم جويس في النصف الثاني من القرن العشرين، واعتمده نقاد الأدب من بعده لوصف نمط السرد الحديث الذي يعتمد على هذا الشكل الانسيابي في الرواية ، ثم انتقل للأدب الروسي والعربي، لكنه انتقل لجميع الفنون الإبداعية فيما بعد .
وفي أسلوب تيار الوعي ( تكون الكتابة أشبه ما تكون بالنهر المتدفق بتشعباتها وتعقيداتها وتفرعاتها وطميها ووحلها وطمثها وأعشابها واسهالاتها وفيضاناتها فلا حاجة لها إلى فصول ولا إلى فقرات ) (10)
( ويلجأ الشاعر لاستخدام تيار الوعي باعتباره منحا إبداعيا بالغ الإثارة، حيث يوغل نحو معطيات اللاوعي في تدفقها من مشاعر وأفكار ورؤى، وكأنها محاولة للرؤية من الداخل ) (11)
يقول: الدكتور مصطفى عطية جمعة (لا يمكن أن نفصل في قراءتنا لجلّ الأعمال القصصية والشعرية المعاصرة عن البعد النفسي الذي يغلّف بنياتها؛ فقد أصبح تيار التداعي، بأبعاده النفسية والتقنية المتعددة، وسيلة لفهم العمل الإبداعي، وفهم طريقة المبدع في بناء وتشكيل عمله، وطريقته في الغوص والكشف والتشريح لشخوصه). (12)
والحقيقة أنه يمثّل لدى الشاعر هلال العامري في المرحلة الثانية من تجربته مدخلاً هامًا للقراءة، وقد استعمله منذ الاستراحة، وهو قد ذكر هذا الاستعمال عدة مرات، بدون أن يشير إلى ذلك بوضوح، كما سنبين فيما بعد .
ولهذا التيار تقنيات متعددة، ومن أبرز تقنيات تيار الوعي لدى العامري ما يلي :
1 – التداعي الحر :
التداعي الحر :هو التقنية التي يعتمد عليها تيار الوعي بصورة أساسية ، ويعني في علم النفس ”أن يوحي شيء بشيء آخر، يتفق معه في صفة مشتركة أو متناقضة على نحو كلي أو جزئي حتى لو كان الاشتراك بينهما يتم بمحض الإيحاء” ( 13)
(إن عدم الانتظام والاكتمال، والجمل المتتابعة غير كاملة التواصل، والانتقالات المفاجئة، وإهمال الترتيب الزمني للأحداث والاعتماد على الترتيب الشعوري يكون من أهمّ مميزات التداعي الحر، وبذلك يكون التسلسل المنطقي والزمني ليس ضرورياً في ما يدور في ذهن الإنسان من ذكرياته أو مشاعره ). (14)
ونتيجة لهذا التداعي يتجاهل العامري الزمن متنقلا بحرية تامة بين الأزمنة، ويتجاهل الترقيم الذي يضعه على كل مقطع، وتتدفق اللغة بلا فواصل عبر جميع المقاطع،(انظر قصيدة وشم في اخدود الوقت) (15)
وكثير من قصائد هذه المرحلة، خاصة في ديوان الألق الوافد .
لقد أضحى التداعي الحر بأشكاله المختلفة من أبرز السمات التي تلوح للقارئ من جملة نصوص العامري في المرحلة الثانية وقد اتخذت هذه التقنية أنماطًا عدة تتمثل في:
أ- التلازم الشيئي :
وهي ”أن يوحي شيء بشيء آخر، أي الترابطية التي تستدعي أشياء متشابهة أو متضادة معها، فالشاعر يستذكر الماضي وهو يشاهد أشياء من الحاضر، فعندما يجسد العامري عبثية حروب الأشقاء، وخلافاتهم مع بعضهم البعض إثر حرب العراق مع الكويت، يتداعى إليه من اللاشعور عبثية الحروب القبلية القديمة، وخلافاتها ممثلا ذلك في حرب البسوس وحرب داحس والغبراء خاصة، وهي تلك الحروب المستعرة التي تمثل خلافات الأشقاء بلا مبرر يستحق …
( يكفينا ان نجتر الأمس
يكفينا أن نخرج من قرص الشمس ذراع
داحس كان يوزع جوعا
يقاوم حزنا
يناجي القطيعة
تراها وقد ضاجعت دجلة
وخرت مضرجة بدماها قتيلة ) (16)
ب – المقارنة :
بين شيئين، في مكانين وزمانين مختلفين، وقد تكون رقعة المكان واحدة ولكن أصابتها التحولات فأصبحت ليست هي بل جديدة على الذات، وتلك المقارنة يقيمها العقل، متلذذا بالذكريات، عندما ينتصر للمكان أو للشيء الذي يحبه ..
( يؤرقني الخوف وهو لباسي
أرى نخل أرض الموالح يحمل كنزته الذهبية
هذا الجمال الإلهي
هذا النضار العجيب
ويمضي …
ولا من سؤال… ! ) (17)
تحمل هذه الصورة مقارنة بين مكان وزمان تمت به التحولات فصار يحمل ملامح مكان وزمان آخر فقد تمت هجرة النخيل بمنطقة الموالح واخذ أهلها يبيعون هذه المناطق الزراعية الخصبة لتتحول إلى شركات ومساكن ومصانع وهنا يتألم الشاعر ويستعمل أسلوب الحذف والإضمار، لأنه لا جواب لسؤالاته وحيرته وتعجبه لاستبدال الإنسان الذي هو أدنى / المدنية الملوثة، بالذي هو خير / الجمال الإلهي أي زراعة النخيل .
ج – المنولوج الذاتي :
يهتم تيار الوعي أساسا بما يرقد تحت السطح، وحين يستخدم الشاعر هذا التيار فإنه يلجأ إلى طريقة مناجاة النفس التي تختلف عن المونولوج الداخلي في) أن المناجاة وإن كانت تتشابه مع المونولوج الداخلي في فكرة التحدث على انفراد، إلا أنها تقوم على التسليم بوجود جمهور خاص ومحدد، مما يجعل الحديث أكثر ترابطا (18)
( أتذكرُ تلك الحواري
وتلك الأزقة والساقية
أتذكرُ كيف دُهمتَ
وأين سُقيتَ السياط
وأين رميتَ بقية أوراقك الباقية
أتذكرُ كيف اعتراك هوانك والمسغبة
وكيف تخونك كي لا تهاجر
أقدامُك المتعبة
وأنت تضاجعُ بردَ انعزالكَ
في الغرفة المفردة ) (19)
والمناجاة تكون بين الواقعي الخارجي والمتداعي، حيث الشاعر لا يكف عن المنولوج الذاتي مع المكان والغربة، والأشياء، كما يتضح من المقاطع الشعرية السابقة، فالخوف من إضاعة الوقت في كتابة الشعر أو القراءة، كما يراها الأهل، والذكرى لسطوة الأهل والشعور بالعزلة والوحدة والاغتراب يتفاعل في الوعي، مع اللاوعي، حيث الشعور بالترصد والمطاردة التي تصاحب ذات الشاعر .
2 – الارتداد للماضي (الفلاش باك):
يمثل الارتداد للماضي التقنية الثانية من تقنيات تيار الوعي لدى هلال، وهي أن تصور حدثا معاصرا ثم تعود بالذاكرة للوراء لتذكر حدثا من الماضي، وقد جاءت عند العامري عفوية، دون فواصل، وفي تداعٍ حر، ناتج عن استحضار الوعي لما مضى، فعندما يتذكر بطولة طفل الحجارة، وهو حدث معاصر، تتداعى إليه نماذج البطولة حيث عنترة بن شداد وحصانه الأبجر، وانتصارات صلاح الدين، وانتصارات الأمة وتضحيات الخنساء، وقد يرتد للماضي السلبي حين يرى موقف العرب، من طفل الحجارة، فيتذكر الحروب ذات الخلافات العربية، كحرب داحس والغبراء والبسوس، وزمن الصعاليك وعصور الدويلات، وعصور الأمم البائدة من الأمة .
( سجى الطفل
معتليا صهوة الصوت
بعد ألف وعام من الموت
تبكي خطاه صليل السيوف
وصوت صلاح بكف البشارة
أتى يرتدي الريح في خطوه
يزف ابتهاج الحجارة
يضجُّ بضوء الصباح ) (20)
3 – تقنية الحلم :
لا توجد مفردة تتكرر بإلحاح لدى العامري أكثر من مفردة الحلم، وأزعم أن كل قصيدة لا تكاد تخلو من هذه المفردة، لكنها ترد وفق السياقات التالية :
( يجنح حلمي بعيدا وأسأله مرة :
ألا تستريح قليلا لانصب من رغبتي
خيمة للصباح ….؟ ) (21)
يعي الشاعر هلال العامري أن هناك تقاطعا واضحا بين أجواء الحلم وتيار الوعي في العمل الإبداعي، وقد استطاع أن يجسد صورا سريالية ترميزية حلمية تنداح من اللاشعور كأنه بين إغفاءة وصحو، لحظات خليط، يتداخل فيها زمن النوم بزمن اليقظة، لتتأتى عنهما حالة من الحضور الغائب أو المعلق .
(ما بين الغفلة واليقظة تولد أشياء عدة … لذا حينما نجد أنفسنا نبحر من النزف يحتضننا الزهو الساطع فيها، إننا في فترة ما بين الغفلة واليقظة، ننتزع اللحظة البكر من الساعة المدهشة لنشغل بتوجسنا تنبوءات الآتي ولينبت الحرف قويا معبرا ) (22)
إن هذه الفقرة التي أوردها الشاعر في كتابه الاستراحة دليل على قصده ووعيه باستخدام هذا التيار، ومن تلك المنطقة الحلمية تأتي مثل هذه الصور :
(جاءها
يرتدي حلمه
يمتطي حلقات الدخان
ليعصر شوقا لديه
بأحداقها الناعسات
والوقت مات
ولما أفاقا من الحلم
طوقها بالمسافة
ألبسها الهجس
في اللحظة الباقية ) (23)
ومن قصيدة (حينما لا يلد الشجر الفيء ) تأتي هذه الصورة ( أريد أن أمحو وشم التجربة … لأنني مسكونةٌ بالإرهاق ولا قدرة لي على الحلم … حتى حينما اضأتُ من الشمس شمعة لأفقأ بها بؤبؤ العتمة … دهشتُ برؤيا إنسان يأكل لحمَه، وكنتُ رأيته في الحلم يعيش كلَّ الأزمنة … لكنه ولدَ مفصولَ الرأس فوق جسر الزمن الآتي ) (24)
ويتضاد تيار الوعي مع تيار الوصف النظامي للعالم الخارجي الذي كان سمة من سمات كتابة المرحلة الأولى لدى العامري . فعندما يجسد لنا هذه الصورة السريالية الحلمية في قصيدة
( نازحة من الداخل )
( تمرين فوق جدار القصيدة
تدوسين أهداب عيني
فيأكلك الصمتُ
أو تأكليه سويا
وتبدو خطاك على كاهلينا عنيدة ) (25)
يجسد لنا كما قال شارل بولوان : ( إن الإبداع الفني عملية انفجارية لاشعورية تتم في الحياة الشعورية لتلك الرغبات التي لم يستطيع الرقيب الداخلي كبحها ) (26)
4 – القص والمونتاج:
( إن الشاعر في تيار الوعي يستخدم التكنيك الروائي عبر المنولوج، وفنون السينما عبر المونتاج لتقديم بعض العمليات النفسية في وعيه عبر المونتاج واستخدام ذاكرة الآخرين ) (27) فحين يلتقط لنا العامري هذه الصور :
(على الحائط المتهادي
أرى صورا للشهامة
أرى سيّدا من وسامة
أرى وجه جدّي
أراه يسير
يسوق الخراف
يسوق القبائل للعابرين
ويرعى الرياح)
هذه صورة يلتقطها، ثم يعمل لها قطع، ويلتقط غيرها ربما ترتبط في اللاشعور بأمر ما يذكره بالجد :
(وفي الباب بعض الثقوب
ثقوب على حبرنا
ثقوب على دمنا
المتصاعد للفاجعة ..
ثقوب علاها الغبار
غبار الحضارة
غبار النظام الجديد
غبار القصائد
غبار النفوس التي أصبحت ضائعة (28)
ثم يعمل قطع للصورة الثانية، حينما تتداعى في لا شعوره صورة جدته الباكية على جده، فيلتقط صورة ثالثة (للجدة) وفي نهاية القصيدة كأنه يعمل مونتاجا للتصوير، حيث ولَّف وركب الصور الثلاث في خيط شعوري واحد من تداعي لاوعيه، حتى بدت لنا مضامين القصيدة كالصورة الفوتوغرافية، وهي قيد التحميض والظهور التدريجي، ونجح في رسم انفعالاته من الداخل، لقد استخدم الشاعر تكنيك القص والمونتاج السينمائي موظفا تيار الوعي لبلورة قصيدته، ولوعي الشاعر بفنياته يسمى القصيدة ( صور .. صور.. )
وينتقل الشاعر أحيانا من صورة إلى أخرى وكأنه يسجل غرابة ما يمر في لاوعيه عبر فيض مشاعره وأفكاره، الأمر الذي يؤدي إلى تدفق الصور غير المترابطة فيما بينها :
( هذا التقهقر يسكن جفني
تضيع البداياتُ من قدمي
أغساقُ الفجر توشوشني
وضياءُ الصبح تكدس فوق الطرقات
حكمة لقمانَ ووجهنا القزحي
وذاكرةُ البحر لم تدركِ الصبحَ فينا
ولم تسبقِ الشرنقاتُ الغسق ) (29)
5 – الترميز اللغوي :
من تقنيات تيار الوعي الهامة الترميز، وقد نتج الرمز كمدلول عن مدلول آخر، وبذلك يكون الرمز هو المستوى الثاني للمعنى المباشر، فالرمز هو ذلك الشيء الذي يوحي بشي ء آخر بفضل وجود علاقة معينة بينهما، وهو أيضا :
(الإيحاء أي التعبير غير المباشر عن النواحي النفسية المستترة التي لا يرغب الشاعر في التصريح بها ) (30)
ويستخدم العامري كثيرا من الرموز لعل أكثرها استخداما ما يلي :
– رمز المرأة :
المرأة التي ترمز للأرض، للوطن، للأمة، للقضية، وفي القراءة الفاحصة لن تجد في تجربة هلال وصفا محددا للمرأة، أي لا توجد امرأة حقيقية أو مجسمة، وكل هذا التأنيث ينصب على الهم العام وهي القضية فهو يرمز لهذه الأمة التي تعذبه وتكسره وتشتت تفكيره، بالمرأة وحتى تلك القصائد التي أشار اليها للمرأة ضمن العنوان لم تخصص معظمها للمرأة، ففي قصيدته سيدة في الدائرة الشرقية ، يحيلنا العنوان إلى امرأة شرقية، لكن ملامح النص لا تكشف عن امرأة بل عن وجعه الدائم، وكأنه يرمز لقضية الشرق العربي :
(كانت تحمل حبي وهجا في الأوصال
والليل محال أن يغمرنا .. الليل محال
وأنا أمتشقُ الرؤيا
كالأطفال
وطريقي لا أعرفها
راحلتي أعياها الترحال
لكني أسمعُ صوتا في الريح الرعناء
يكتب في قلبي ألف سؤال
يكتب موال
من سيدة في الدائرة الشرقية ) (31)
الرمز الثاني الطفل :
وهو رمز البشارة والنصر والفعل الايجابي لنصر الأمة :
(امتطى موعدا للتوحد/ والارض تثقل بالوقت/ لا تنبت الآن غير الأقاويل/ والطفل يبدو وحيدا يلم مداه ) (32)
لقد بدأ الشاعر كل مقطع بفعل ماض قام به الطفل يتلخص في جملة (امتطى) والماضي يدل على انتهاء الحدث لكن الشاعر يحول هذا الطفل إلى فاعل عن طريق استخدام ظاهرة الالتفات من الماضي الى الفعل المضارع يقول مستكملا المقطع السابق ..
( الريح تركض يسبقها حجر
نحو جباه الجنود
يطوي المسافة
ينقش تاريخه
يحكي المواويل
والفجرُ بانت يداه ) (33)
إن تدفق أفعال المضارع يدل على استمرارية الحدث .
( الريح تركض، يسبقها حجر، يطوي المسافة، ينقش تاريخه، يحكي المواويل) تدل على استمرارية الثورة حتى بان الفجر، ويستمر الشاعر متتبعا تكنيك الالتفات في الفعل والضمائر على مدى عشرة مقاطع مجسدا ترميز الطفل للنصر ..
( الطفل يورق فوق الحروف …
علمتنا خطاه
كيفية المشي فوق جباه الطغاة) (34)
الترميز بالشعر للخلاص :
استخدم العامري هذا الرمز أيضا بإسراف مثل رمز المرأة والطفل، (وبي رغبة نحو أشياء أخرى
لكنني طاعنٌ في الكآبة
لأنثر عطرَ القصيدة
وكنت ظننتُ بأن القصيدة َشمسُ الوطن
وأن السحابَ صهيلُ الكتابة، ) (35) .
كما يستخدم العامري رمز الماء، البحر، الموجة، النخيل، للرمز إلى الحياة والخصوبة . ورمز الهودج، والجدران للاغتراب الزمكاني والنماذج كثيرة جدا في أشعاره .
ولا شك أن هذه التقنيات فرضت أشكالاً أسلوبية، مثّلت تميزًا في الأسلوب الشعري للنص المعتمد على الفنيات المتعددة التي يفرضها تيار التداعي، وهي غنية في بنياتها، مثلما هي غنية في دلالاتها، وكان من أبرز الظواهر الأسلوبية المتولدة من أسلوب تيار الوعي :
ا- التكرار : أ – تكرار المفردة ..
ويظهر كثيمة أسلوبية، تمثّل إلحاح الشاعر على أمر بعينه، وينسجم هذا مع توتر الشاعر وقلقه، وإحساسه المتضخم بالمكان والزمان والاشياء حوله، والتحولات التي تمر بها .
ويكثر الشاعر من استخدام هذه الظاهرة حتى في عناوين القصائد مثل (المياه .. المياه .. المياه، وصور .. صور، امرأة .. امرأة، حرفي يغتال علانية .. حرفي يغتال )
يقول ( تطل المياه .. المياه .. المياه ..
مياه تطل بكل الضفاف
وكانت سواقي الدغالي
وبوغول تشكو الجفاف ) (36)
فالتكرار عبر بدقة عن حالة القلق التي تسكن الشاعر وخوفه على المكان (الدغالي وبوغول) وهما فلجان في سمائل، من الجفاف وضياع (غناء دفين لساقية ظامئة) وكأن المكان يدخل في حوار ذاتي مع الشاعر، كأنه يطمئن نفسه، حتى لا يزحف هذا الجفاف على ذكرياته (وبين النخيل
صدى الذكريات
وآخر ما خلفته الليالي بهذا الزمان
رصيدٌ من السحر
بعضٌ من الشعر
يُلغي الظلام
ويملؤنا ثورة ً وثبات ) (37)
ب – تكرار العبارات : وهو يؤدي نوعا من الربط والتناسق والتوازي في الموسيقي، وعادة ما يكرر العامري هذا في تقسيم القصيدة وفق ترقيم المقاطع، الذي تسير عليه، والعامري مولع بتقسيم قصائده إلى مقاطع، وكلما تعددتْ مقاطع القصيدة، تكررت العبارة نفسها، كما في قصيدة سجى الطفل على سبيل المثال، فقد تكررت عبارة سجى الطفل عشر مرات في بداية كل مقطع .
مقطع1 ( سجى الطفل / فوق حروف اللغات / )
مقطع 2 (سجى الطفل / فوق شراع الهزيمة / )
مقطع 3 (سجى الطفل / فوق غصون من اليأس ) وهكذا يستمر على مدى عشرة مقاطع يبدأ كل مقطع بسجى الطفل، ويليه شبه الجملة ) (38)
2-عدم تناسق الترابط البنائي ( التفكك اللغوي ) :
وذلك لأسباب أبرزها لدى العامري عدم عودة الضمائر إلى سابق أو لاحق لها وهي سمة اسلوبية واضحة جدا لديه في المرحلة الثانية، والضمائر تؤدي إلى التماسك والربط، وتسمى الروابط التركيبية وبدونها يتفكك البناء، ففي قصيدة ( وشم في أخدود الوقت ) تبدأ القصيدة هكذا :
(وعند ابتداء مسيرتها أسستْ مدنا / أسست عاصفة )
وينتهي المقطع دون أن نعرف الضمير يعود على من، ومن هي التي أسست مدنا، ويبدأ مقطع آخر هكذا ( دقائقها فتنة / وحين رأت سادن الوقت يمضي / )
ويبدأ مقطع ثالث هكذا ( وكانت تلم قوارير أزهارها / وكانت تجيء مع العاشقين ) (39)
وتنتهي القصيدة دون أن يعود الضمير إلى سابق ولا إلى لاحق لها، وهكذا تسير كثير من قصائده .
ومن المعروف أن الضمير يؤدي دوراً أساسياً في ترابط أجزاء النص وعدم تفككه، فوجوده في سياق الكلام إشارة واضحة إلى أن المتحدث عنه في بداية الكلام –على سبيل المثال- هو نفسه في وسطه أو آخره، وهو في الوقت نفسه يهتدي القارئ من خلاله إلى رؤية ذلك الترابط، ( فالضمير لوحده دون ما يحيل إليه لا يملك تلك الدلالة المستقلة، ولا بد له من تواجد عنصر آخر يحيل إليه أو مجموعة عناصر مذكورة بين أجزاء الخطاب) (40)
3 – الحذف والإضمار:
أسلوب ينقل توترات السياق ، الذي يعكس حال الشاعر وهو يجتذب المتلقي لإكمال العبارة أو الكلمة المحذوفة .
( لك الله يا أيها الشعر
حين تصوغ برمزك أحلامنا
وتعبر …
تعبر …
تعبر … ) (41)
ويقول على لسان محدثته المتخيلة : ( عندها فقط رأيت الحلم يمد يده ليصافح السماء … وقبل أن يسرق أوصاني بأن أعانق هواجسي، لأن للكتابة طفلا سيولد غدا … لكني ما عدتُ قادرة على تحمل الترقب والتنبؤات … والمعبر عن أوجاع الولادات … قالوا … قالوا … قالوا …. ) (42)
فالنقاط تشي بالمحذوف، وتنقل ما يوحي به الصمت، وما بين السطور، وذلك بالاتكاء على فيض العالم الداخلي واستنهاض الذاكرة الباطنة للشاعر والمتلقي .
هذا من حيث البناء الفني ماذا عن المحتوى الدلالي، الحقيقة لابد من التوقف لدى ظاهرتين بارزتين :
– الانطلاق من الخاص إلى العام :
معظم قصائد العامري يندغم فيها الهم الخاص بالعام، إذ ينطلق الشاعر من مشاعره الذاتية الخاصة ليغلفها بالهم العام، ففي قصيدة إلى أبي : يجسد الشاعر هذه العلاقة المتلاحمة ( غادرتنا ياسيدي / والقلب تشعله الجراح/ كل الوجوه غريبة / إلاك في هذا الصباح ) (43)
ثم في المقطع الثاني نضع يدنا على الهم العام :
( فتشتُ عمن يغرس الاحلام في دنيا الصغار
ويؤلق الرغبات في صدر النهار
فتشت عن حب ولكن العروبة طاردتني مرتين
وصرتُ منفيا إلى دنيا بعيده … ! ) (44)
وتطغى هذه السمة في معظم قصائده .
– اختفاء ملامح المرأة :
لا توجد ملامح محددة ولا وصف صريح للأنثى – كما ذكرت أعلاه – إذ تبدو لنا المرأة في تجربة العامري رمزا لمرموز، وإن وجدت فهي مجرد رسم هلامي لا يرغب الشاعر، بالتوضيح فيه تحريا لما ذكرته في مقدمة الدراسة حيث يتعارض الأمر مع العرف الاجتماعي، ووضعية العامري فيه، ومن ثم كان هذا الغموض وعدم الوضوح متعمدا وهو ما يسعى اليه الشاعر فنيا واجتماعيا .
ففي قصيدة ( الصراع الأول ) نجد هذا التصوير الترميزي :
( الأرض توشك بالإقلاع / وأنا مازلتُ بعينيك / مدار نزاع / فرحة يوم لم يأتِ / وبقايا شرق ضاع)
المقطع الثاني : (ما زلتِ الأملَ .. / الملحَ .. / الزيتَ .. / البارودَ .. / بجمجمة الأحداث / وطفلا ضاع ) (45)
من الواضح أن المرأة هنا ترمز لمرموز آخر، فهي ( مدار نزاع، وهي بقايا شرق ضاع، وهي مازالت الأمل لكنها الملح، الزيت، البارود في الأحداث، وهي أمة أضاعتْ أجيالها ) إذن هذا الرمز لا يحمل أية سمة من سمات المرأة سوى ضمير المؤنث المخاطب .
الخلاصة : ان تجربة هلال العامري سخية وعميقة وبها أكثر من جانب يستحق التوقف والبحث والدراسة، ومن أراد أن يتتبع تقنيات تيار الوعي لديه بشكل مكثف عليه أن يعمق القراءة في كتابه ( استراحة في زمن القلق ) ثم يطبق الطريقة على بقية دواوينه في المرحلة الثانية، مع الانتباه بأنه انتقل إلى بناء فني مغاير، واستخدام طريقة مختلفة وتكنيك مختلف، في ديوانه الأخير ( للشمس أسبابها لكي تغيب ) وهو التحول إلى قصيدة الومضة، أو اللقطة، ومن هذا العنوان مهد لنا أسباب التوقف القادم لنتاجه كي يغيب، وهو في ذلك رمز لنفسه بالشمس التي تنير للناس بالكتابة، لكن له أسبابه كي يغيب، ومن هنا جاء قصر وتكثيف وإيجاز قصائد هذا الديوان .
المصادر والمراجع :
1 – هلال العامري : استراحة في زمن القلق، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1989 م، ص 8 .
2 – هلال العامري، ديوان قطرة في زمن العطش، لم تذكر دار النشر، ولا سنة الطبع ، ص17 .
3 – هلال العامري، استراحة في زمن القلق، ص 23 .
4 – أحمد أبو شعر، تيار الوعي، برنامج رشفات، موقع روسيا اليوم، 2013م .
5 – ضياء خضير ، هلال العامري وقصيدة التفعيلة، مجلة نزوى، العدد 46،19 / 7 / 2009 .
6 – تيار الوعي في رواية التفكك، لرشيد بوجدرة، رسالة ماجستير في الأدب الجزائري الحديث، إعداد الطالب : الصالح لونيسي، إشراف : د.الشريف بوروبة، جامعة الحاج لخضر – باتنة – كلية الآداب واللغات، قسم اللغة العربية وآدابها، 2011 – 2012م .
7 – مقدمة استراحة في زمن القلق، د. سمير سرحان ص 6 .
8 – فرجينيا وولف ( القارئ العادي ) ترجمة عقيلة رمضان مراجعة سهير القلماوي ، الطبعة 1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، سنة 1971م
9 – موقع ويكيبيديا الموسوعة الحرة الالكترونية .
10 – رشيد بو جدرة، التفكك، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1984، ص 271.
11-أحمد ابو شعر، تيار الوعي، رشفات، روسيا اليوم .
12 – دكتور مصطفى عطية جمعة/ مجلة المشهد الأدبي، رابط الصفحة :
http://www.almshhad.net/article.php?cat=8&id=103
13 – أحلام حادي، جماليات اللغة في القصة القصيرة، قراءة لتيار الوعي في القصة السعودية، ص59 .
14 – تيار الوعي في رواية التفكك، لرشيد بوجدرة، رسالة ماجستير في الأدب الجزائري الحديث، إعداد الطالب : الصالح لونيسي،
15 – هلال العامري، ديوان رياح للمسافر بعد القصيدة، دار سعاد الصباح، القاهرة، الطبعة الأولى، 1993 م قصيدة وشم في أخدود الوقت ص 63 : 67 .
16 – انظر هلال العامري، ديوان الألق الوافد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1991 م، قصيدة ( البسوس تخونها الذاكرة ص 114 : 121 )
17 – هلال العامري، ديوان رياح للمسافر بعد القصيدة، دار سعاد الصباح، القاهرة، الطبعة الأولى، 1993 م ص 32 .
18- رزان محمود إبراهيم، خطاب النهضة والتقدم في الراوية العربية المعاصرة، دار الشروق للنشر والتوزيع، 2003، ص 127.
19 – هلال العامري، الألق الوافد، ص103 .
20 – هلال العامري، الألق الوافد، ص 42 .
21 – هلال العامري، رياح للمسافر، ص 55
22 – هلال العامري، الاستراحة في زمن القلق ص24 .
23 – رياح للمسافر ص 100 .
24 – هلال العامري، الاستراحة ، ص25 .
25 – هلال العامري، الألق الوافد، ص16 .
26 – أحمد ابو شعر، تيار الوعي، برنامج رشفات ، موقع روسيا اليوم، 2013م .
27 – د. على عشري زايد، استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، دار غريب للطباعة والنشر، 2006 م
28 – هلال العامري، رياح للمسافر ص35 : 37 .
29 – هلال العامري، الألق الوافد، ص66 .
30 – صبيحة عودة زغرب، جماليات السرد في الخطاب الروائي، ص 185 31- هلال العامري، رياح للمسافر بعد القصيدة ص79 .
32- هلال العامري، الألق الوافد، ص .
33- هلال العامري، الألق الوافد، ص 87 .
34- المصدر السابق، ص .
35 – هلال العامري، الألق الوافد، ص 127 .
36 – هلال العامري، رياح للمسافر بعد القصيدة، ص71 .
37 – هلال العامري، رياح للمسافر، ص72 . 38- أنظر هلال العامري، الألق الوافد، ص30 : 43
39 – هلال العامري، رياح للمسافر، ص 63 : 67 .
40 – أ. م مراد حميد عبدالله / من انواع التماسك النصي، جامعة البصرة – كلية الآداب – قسم اللغه العربية ، مجلة جامعة ذي قار، العدد الخاص، المجلد 5، حزيران 2010 .
41 – هلال العامري، الألق الوافد، – ص 60 .
42 – العامري، الاستراحة ، ص 23 .
43 – العامري، رياح للمسافر، ص .
44 – هلال العامري، رياح للمسافر بعد القصيدة، ص 26 .
45 – هلال العامري، للشمس أسبابها لكي تغيب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 1994 م ص 62 .
سعيدة خاطر *