حنوش حنوش
“غاية الفن تجسيد الجوهر السري للأشياء، وليس نسخ المظهر”
(أرسطو)
في لوحاتي، ومنذ بدايات مسيرتي في نهاية السبعينيات، تجنبت دومًا استخدام الظل والتشريح والمنظور. في الحقيقة، كنت أسعى لعدم إبداع شيء مشابه للعالم الواقعي، ولم يكن هدفي تمثيل العالم كما هو، وإنما أتطلع لإبداع جمال وحقيقة منبثقة من صور من عالمي الشخصي والمثالي، صور ذات طابع شكلي وكامل ومتوازن، باستخدام ألوان حية ومسطحة وممزقة، بخطوط سوداء تعمل كفاصل بين الأشكال الممثَلة.
في سلسلة “خيوط الضوء” و”الحلم الثالث” و”بابل” و”أغاني لعشتار” و”شهرزاد والليالي العربية” (شعر مرسوم)، وهي أعمالي في السنوات العشر الأخيرة تقريبًا، أستلهم تجربتي الحياتية ذاتها، معتمدًا على ذاكرة العين، كمراقب للعالم الذي يحيطني، مثل طائر يستريح على غصن شجرة ويتأمل محيطه. وكان الشعر الغربي، مثل الشعر الشرقي، أحد ينابيع هذا الإلهام الهامة في عملي، إذ تلقيت الإمكانات الهائلة التي يمنحني إياها تأثيره الحماسي لصنع إبداع سردي في عملي، متعمقًا ومتسللًا في المعنى الشعري للنص، لأكشف بالرسم معاني القصيدة، بخلق بيئة تثري التأويلات المحتملة.
كل السلاسل، مثل لوحاتي السابقة عليها، لها أحجام مختلفة، ومرت بالعمليات نفسها حتى الانتهاء منها، ويجمعها أساس واحد تقريبًا، مع ذلك، فهيئة كل لوحة منها مختلفة. تتميز لوحتي بالعمل في بُعدين، والخضوع لقوانين تحكمها، سواء في السكون أو الحركة، في الإيقاع والتركيب المسطح، باستخدام منظِّمات هندسة الفن الإسلامي، وهندسة فيبوناتشي، ولكن بنتيجة تعتمد بشكل أساسي على الشكل ومع رسمة تعمل بمثابة فاصل ومنسق في تطوير التخطيط الخطي.
إن تحويل الفن إلى صورة يتكون من مزيج من عمليات عشوائية ومتعمدة، تظهر مختلف خطوات إتمامه، مع طبقات تبطل طبقات أخرى، كأنها فضاء جيولوجي، أو كما في أسوار المدن عندما يعلقون عليها كثيرًا من الإعلانات أو آثار الإنسان نفسه.
تبدو لوحات معقدة بعض الشيء، متكلفة، وفجأة وللوهلة الأولى مجرّدة، ولكن عند مراقبتها بدقة، تظهر الأشكال والصور، تمامًا كما يحدث عندما نقرأ نصًا أدبيًا. إنها لوحات هجينة، مثل جميع أعمالي تقريبًا، حافلة بالصبغات الدقيقة والألوان والأشكال المستقلة، تتطلع إلى الانسجام فيما بينها، وتتقاسم المساحة نفسها، وهو الشكل الإجمالي للعمل.
أعتقد أنها لوحات متأثرة بدرجة طفيفة من أعمال الرسام “الجريكو” من الناحية التركيبية. بفضل طريقته الفريدة في العمل، وأصله البيزنطي الشرقي، ابتكر أعمالًا فريدة وأصلية ومميزة نتيجة لهذا المزيج بين ثقافتين، الشرقية والغربية، تمامًا كما يحدث لي مع عملي، مع كل احترامي للفنان الكريتي وبكل تواضع.
أما سلسلة “شهرزاد والليالي العربية” وهي أحدث أعمالي، فتدور بداخلها بعض قصص ألف ليلة وليلة، إنها قصص مرسومة تسرد نفسها عبر اللوحة. لكنها ليست مصممة لتكون مرئية، بل على العكس، فالشخصيات منغمسة في حياتها اليومية، الحياة الثابتة، يحتك بعضها ببعض على مقربة شديدة، وفي الوقت نفسه يظل كل منها مستغرقًا في أحداثه الخاصة. في اللوحة ثمة حقيقة، شخصيات تعطي ظهرها للمتفرج حرفيًا، ولكني آمل أن يثيروا الفضول للكشف عن هويتهم.
هذا المزيج البشري الواضح (الذي يشارك فيه شرقيون وغربيون بالتبادل، وتُدرك فيه الدرجة نفسها من الهيمنة أو الانتماء أو الاحتلال السلمي لنصيبهم من الفضاء)، يتم تقديمه في المواقف الدقيقة الأكثر تنوعًا، وبتبديل دقيق وفي الوقت نفسه بلون مميز.
يتمتع اللون بالقدرة على إبراز أجزاء القصة أو إخفائها، فهو يلعب مع المتفرج وفي الوقت نفسه يوجّهه، إنه المسؤول عن تخطيط تتابع القصة، ويدعو إلى مواصلة قراءتها في نقطة أخرى من اللوحة. يحدد اللون الحكايات القصيرة ويقدمها، ويمكننا القول إنه يفعل ما تفعله الإطارات في تكوين الفيلم، ولكن هنا كل شيء يمكن رؤيته في وقت واحد وعلى نفس المستوى الذي توفره اللوحة.
هذا الاجتماع المتزامن للألوان يسمح لنا بتأمل اللوحة، ويذكرنا على الفور بتقنية الكولاج. إنه يثير في المشاهد خدعًا بصرية بتقطيع الألوان بأشكال غير منتظمة ولكن واضحة، و”إلصاقها” ورصّها جنبًا إلى جنب أو مواجهة أحدها للآخر. باختصار، إنها محاولة للتمكن من استخدام وهمي لتقنيات طليعية مثل الكولاج، إذ تنطلق حصريًا من الوسائل الأكثر تقليدية التي يستخدمها الفنان في صنع إبداعاته، أي الرسمة واللون فحسب، دون إضافة مواد أخرى. إنها المهارة المتباهى بها عند تقديم التعايش لكل طبيعة بين أبناء الشرق والغرب.
في النهاية، أتطلع إلى منح شكل لحكاية ليس من السهل تمثيلها، والتقاط فكرة مهيمنة في السلسلة مع إعادة رسم المرأة بكتاب أمامها وهي تواصل سرد القصص تباعًا، بمعنى، خلال ألف ليلة وليلة، والاقتراب في النهاية من هذه القصة العجائبية وليس العكس، تمامًا كما فعل المخرج السينمائي الإيطالي بازوليني في نسخته السينمائية، وأقول ذلك بكل تواضع.
النتيجة النهائية للعمل، ومجمل أعمالي، تتشكّل بناءً على المواد أو الأصباغ المستخدمة وحالتها السائلة أو غير الدهنية، وكذلك نسيج القماشة، الذي يساعد عمدًا على تمزيق الرسمة الهشة، ويجول بطول العمل وعرضه. في رأيي، سيكون السطح أكثر سيولة وأكثر ثراءً في الصباغات، والنتيجة النهائية تتوقف أيضًا على الأدوات المستخدمة؛ الورق المقوى، علبة الألوان، القماش، الخرق أو الفرشات الكلاسيكية، من بين الأدوات الأخرى، بالإضافة إلى اللون الشفاف والثقيل، بهدف أن تساعدنا هذه اللوحات على التأمل، وتوليد الأفكار إن أمكن.