في حديثنا عن الذات والهوية لا بد أن نتحدث عن الآخر، وفي حديثنا عن الذات والآخر، لابد وأن نتحدث عن الجسد، فالجسد هو ساحة الصراع التي تدور بين الذات والآخر، والعقل والروح ساحتان أخريان. وعند حديثنا عن الجسد لا بد أن نتحدث عن حالات هذا الجسد وتحولاته، عن حالاته السوية وغير السوية، وعن تحولاته الإنسانية والآلية والمادية، عن الضحك والفرح وعن البكاء والألم، عن العجز المدرك والبارانويا المجنحة عن الهلاوس والأوهام والتوهمات والأحلام عن الأرواح الهائمة والمهومة في المكان، عن المكان الذي لم يعد مكانةً ولم يعد يعول عليه (ابن عربي) عن الذات عندما تتحول إلى وحش أو مسخ أو شيطان، وعن وحشية الجسد أو مسخه وإفرازاته، عن كونه مخيفًا أو لا سويًّا، متنكرًا، مقززًا، محجوبًا، متهدلاً، متساقطا، حيًا وميتًا، في آن واحد.
وهنا في هذه المجموعة من النصوص: «أرواح هائمة» للكتاب العربي من تونس «كمال العيادي» تجسيد لتحولات الرغبات إلى مخاوف – تبدلات تتم في اللاشعور- للمرغوب الذي يتحول إلى وحش يقتل صاحبه فتتشكل هوية تهيم في المكان وتهوّم فيه.
أولاً: الأرواح الهائمة في المكان:
المدن الحديثة أماكن مسكونة بالأرواح، ليست المدن الحديثة مسكونة بالأشباح التي كانت يعتقد أنها تسكن الأماكن المعزولة والبيوت المهجورة والمقابر والقصور الخربة والقرى النائية الموحشة، المدن الحديث مسكونة بالتكنولوجيا والآلات والميديا وثقافة الاستهلاك والبشر الهامشيين والآخر الذي يزورها أو يسكنها، إنها أماكن غير أليفة على الرغم من كل مظاهر الود والألفة والتقدم البادية منها حيث قد تكون أعماق المدن ساحات للاضطراب وأماكن للسطو والسرقة والاغتصاب وانعدام الأمن وتكون الذات فيها غير مستقرة والهوية غير متزنة.
نحن لنا ذواتنا ولنا هوياتنا أيضًا، لكننا، في الأحوال جميعها ضائعون في متاهة المدينة بين سكانها المزدحمين المحتشدين المتدافعين. هنا نجد الأرواح المزدوجة والمنقسمة ونجد الذات المنقسمة بين هويتين: هويتها الأصلية التي تنتمي إليها ومنها جاءت وهويتها المكتسبة أو المستعارة التي حصلت عليها، وكي تعبر الذات مأزق انقسام الهوية هذا وتحاول أن تتجنب تفككها فإنها قد تنكر أولاً أنها تعاني وتواجه العالم بالسخرية أو الصمت أو الابتعاد أو الإغراق في الشراب أو الانكفاء على الذات والذكريات وقد تعاني التحولات الجسدية، وحالات اضطراب الهوية، وظهور التوهمات والأقران والأشباه وتواجه ويلات مشاعر الخوف والقلق والشعور بالتهديد والرعب والغربة والغرابة والاستلاب والعنف والتطرف والإرهاب.
هنا شخصيات منقسمة ما بين الوجود الخاص لهويتها الأصلية (التونسية كما في القصص) وبين هويتها المكتسبة في ألمانيا، أو روسيا، (كما توضح معظم القصص في هذه المجموعة). هنا أرواح تنتاب المكان، تسكن المكان، تزوره وتهوّم فيه، لكنها تظل دائمًا أرواحًا قلقة قائمة غير مستقرة، لأنها، تظل دائمًا، أيضًا، أرواحًا منقسمة، مزدوجة، مملوءة بالجروح والقروح والشقوق والفراغات والفجوات الإنسانية والاجتماعية والوجودية، هنا، في هذه الأماكن الغريبة التي تقطنها الأرواح وتهوّم فيها وتهيم، نجد أن الزمن قد اضطرب وأصبح ليس كل شيء كما أشار هيجل في تفسيره لشخصية هاملت «ليس كما ينبغي أن يكون».
هنا أرواح هائمة، شبحية الطابع، تغادر مكانها الأصلي، وتقيم في مكانها الجديد وكأنها تزوره، وتزور مكانها الأصلي، وكأنها لم تزل بعد تقيم فيه، بل إنه هو الذي يقيم فيها ويستمر معها حتى لو غادرته أكثر من ثلاثين عامًا (مثل شخصية مبروكة الجوادية)، الأصل في الروح، كما يقول ماكس ستاينر، أكثر المفكرين الهيجليين الشباب راديكالية أن تكون جوهرًا واحدًا ذات مركز واحد، ولها مبادئ أخلاقية وعقلانية معينة، تعكس ذلك الوجود العام للإنسان لكن هذا الجوهر الأخلاقي والعقلاني إنما يطرح كأنه مثال مقدس، شيء ينبغي أن يسعى الإنسان دائمًا للوصول إليه، لكنه لا يستطيع ومن ثم فإنه ينقسم ويتفكك إلى ذات واقعية تسعى وذات مثالية يسعى إليها، ذات عيانية محبطة ومزدوجة وذات أخرى أشبه بالمستحيلات ومن داخل هذا الانقسام يتولد ذلك القلق الوجودي، ذلك الذي يعاود الظهور، مرة أخرى، عندما يوجد الإنسان في براثن حالات من الانقسام بين الواقع والخيال، بين ما يريد، وما يصل إليه من خواء. ومع هذا القلق يكون انعدام الألفة ويكون شعور الروح بأنها ليست في بيتها، ليست في مكانها، بل إنها هائمة في المكان، ثم إنها تحاول أن تخرج من هذه الحالة أو توقفها لأنها لا تستطيع أن تبقى دائمًا، هكذا، هائمة، فهي تحن دائمًا إلى أصلها، إلى جوهرها، إلى كليتها فإنها تحاول أن تخلق من داخلها كيانات متهومة تحاول أن تجعلها تسكن معها عالمها، هكذا يصبح عالمها مسكونًا بالأرواح والأشباح، بذلك القرين الغريب، إنه شيء يعود من الماضي، ماضي الذات الخاص بهويتها الكلية ووجودها الأصيل، هكذا يكون القرين شيئًا يعود من الماضي ويسكن الحاضر، شيئًا أو شخصًا يبدو غير مألوف، ومألوفًا في الوقت نفسه، ينتمي إلى الماضي ويوجد خلال الوقت نفسه، في الحاضر، وإنه لشخص يكرر نفسه، ويكرر ذاته على نحو مألوف، لكنه يصبح أيضًا غريبًا عنها. هكذا يصبح الإنسان نفسه في المدن الحديثة، خصوصًا عندما يكون، في الأصل، غريبًا عنها، شبحًا، أو مكانًا تسكنه الأشباح ولم تعد الأشباح الخارجية هي التي تخيفه فقط، بل أصبحت تصيبه الرعدة من أفكاره هو، من أشباحه هو، من ذاته هو، من هويته هو، لقد أصبح هو نفسه مخيفا، أصبح قريبًا لذاته، روحًا مهومة في مكانه وفي غير مكانه، لأن المكان الذي يظنه مكانه ليس مكانه وليس مكانه لقد اجتاز الحدود واغترب لكنه ظل يحمل معه مكانه القديم وذكرياته القديمة، عواطفه القديمة، قيمه القديمة في هذا المكان الجديد، ومن ثم فقد أصبح روحًا تهوم داخل الذات، وذاتًا تهوم داخل الهوية، وهوية تهوم داخل المكان، ومثلما تهوم الروح داخل المكان، فإنه يهوم بداخلها أيضًا كما حدث للراوي في قصة «صاحب ربطة العنق الخضراء».
صاحب ربطة العنق الخضراء:
يقول الشخصية المحورية في قصة «صاحب ربطة العنق الخضراء»: «كنت وحيدًا ومحبطًا وكان عملي التافه في ذلك الوقت بمصنع بروكن لاك للمستحضرات الكيميائية قد دمر أعصابي تمامًا» بالإضافة إلى أنه كان مستنزفًا في إجراءات الطلاق من زوجته.. ويقول كذلك: «كنت محبطًا وبي إحساس بأنني كيس مبتل من البطاطا المتعفنة»، ثم يذهب إلى إحدى الحانات، وهناك يجد طوائف من البشر التائهين المحبطين المرضى، أرواح هائمة، بل ضائعة أخرى، يصفهم بأنهم كانوا أيضًا في منتهى التفاهة والجهل والكآبة والضياع، «أكوام نتنة من اللحم الفاسد تنتظر يوميًّا موتها، وهي تتلمظ رغوة البيرة البيضاء». والحانة تجلس فيها الساقطات اللاتي يرحن ويجئن، وهناك أيضًا فرانك هانس المريض بالربو، يجلس عند نفس الطاولة منذ أكثر من عشرين سنة. الطاولة الأخيرة يسار المطبخ. مقابل المرحاض مباشرة، وموزر الذي يدعى بأنه كان موظفًا بمصلحة حكومية، «ولكنني مقتنع بأنه كان عاطلا عن العمل منذ ولادته» والذي يظل يشرب «منذ موعد فتح الحانة حتى إغلاقها»، وهانس فيبر الذي ظل في مستشفى للأمراض العصبية متظاهرًا بالمرض حتى طردوه منها ويستغل تسامح صندوق التأمين للأكل والسكن المجاني، وأوتر الذي يجلس على طاولة تقع مباشرة تحت جهاز الألعاب الإلكترونية التي لا يستعملها أحد غير صاحب الحانة أحيانًا، وإنما في حالة سكر مطبق، وهو إضافة إلى تعاطيه المخدرات، لا يكاد يقوى على فتح عينيه، ورانيه الذي ينظر في جمع الاتجاهات ودون انقطاع، يتابع الجميع ويتحدث على الرغم من معرفته بأن لا أحد يستمع إليه.. إنه كما يقول الراوي «أكثرهم نذالة وحقارة بل إنه حشرة قذرة عبئت خطأ في هيئة كائن بشري»، ثم واحد من الغجر يدعى «جاك تشيفونيا» «في الخمسين، يلبس قرطًا فضيًّا بأذنه ويتباهى بوشم قبيح لامرأة حولها ثعبان ورأس كبش مرسوم على ذراعه اليسرى، وإلى جانبه قيثار يزعج بهم الحاضرين كلما عن له ذلك مرددًا أغاني مملة سوقية ولا يمتلك أي موهبة».
كان الراوي يوشك على الخروج من الحانة بعد أن شعر بالدوار من الشراب والاختناق من رائحة دخان السجائر عندما رأى ذلك النقيض لتلك الشخصيات كلها، رآه جالسًا هناك، قبالته، هادئًا، مبتسمًا، محترمًا، وقورًا، أنيقًا، وسيمًا، نظيفًا، أصيلاً، صادقًا، حزينًا، وهكذا يسبغ الصفات الإيجابية كلها عليه فيمضي ويواصل الشراب ويقول عنه «كان يتصرف مثلي تمامًا. يتفرس في وجهي بحذر شديد، محاولاً عدم لفت انتباهي. يبدو أنه كان مرتبكا أيضًا ومصعوقا. أحسست ذلك بثقة استغربت لقوتها»، وتتبدل نظرته للمكان وللبشر الموجودين فيه. يصبحون أكثر حميمية فيرى النادلة جميلة جدًا والنادل عطوفا صادقًا نبيلاً، وكلبه الذي كان منفرًا أصبح جميلاً ورقيقًا، وتتبدل رؤيته للأشخاص الآخرين أيضًا فيصبح «جاك تسيفونيا» عازفا مقبولاً ومناسبًا للجو العام. يظل الراوي ينظر إلى ذلك الشخص الذي كان ينظر إليه ويرتدي ربطة عنق خضراء مثله، ويشعر به يؤازره، ويحميه، ويمنعه من السقوط، ويظل يسبغ عليه الصفات الجميلة والنبيلة كلها، وتتداعى في عقله ووجدانه الأفكار والرؤى والذكريات والأحلام التي قد تحققت فقط في الخيال، يتمنى أن يحكي له عن سالمة حبيبته وحبه للمطربة هيام يونس، في الخيال طبعًا، ورسالته التي كتبها لها ويوشك المقهى أن يغلق أبوابه، ثم يدرك من حواره مع صاحبه أنه لم يكن هناك أحد آخر غيره يرتدي ربطة عنق خضراء. لقد رأى الراوي عبد المجيد السلاوي قرينه، والمثل – النقيض له.
كانت هوية الراوي توشك على التفكك والانقسام: هوية كانت على مشارف الوعي، عند منطقة الازدواج والانقسام، عندما ظهر القرين. والقرين أو «المثل» في التصورات السيكولوجية والفلسفية، كان أصلاً نوعًا من الأمن السيكلوجي الذي ابتكرته الذات في مواجهة عمليات التدمير لها، إنه نوع من الإنكار المفعم بالطاقة لقوة الموت، كما أن الروح الخالدة هي القرين الأول للجسد كما ذكر أوتورانك، هي ابتكار خاص للازدواج والتكرار، نوع من الاستمرارية والمواصلة في مواجهة احتمالات الاندثار، وقد كانت تلك الحالة المركبة المختلطة المتكونة من الخوف من الموت والرغبة في الخلود هي التي قادت بعض الشعوب القديمة إلى تطوير فن صناعة الصور الخاصة بالموتى وتجسيدها من خلال مواد حافظة خالدة دائمة. وعندما تحركت الثقافة الإنسانية وتطورت وتجاوزت المعتقدات الإحيائية الخاصة التي كانت تظن معها أن كل شيء في العالم مسكون بأرواح خاصة، فإنها حولت طاقاتها تلك إلى العالم الخاص بالابتكار للصور والدمى والأقنعة والأدب واللُعَبْ والمسوخ.
هكذا كان من الصعب على هذه الروح أن تبتعد أو تقاوم عملية الإنتاج لا شعوريًّا للكائنات الطيفية، للأشباح والأرواح والأقران، وأن تقاوم كذلك الانبعاث لتلك الطاقات الإحيائية القديمة، وهكذا تصبح للآلات والدمى أرواحًا تحركه كما في «رحلة إلى الجحيم» التي سنتحدث عنها لاحقًا، أو يكون للذات أو الروح قرين يقيم معها أو يجالسها كما في «صاحب ربطة العنق الخضراء». إنه جزء من الذات، من ذاكرتها المرتبطة بهويتها، وقد غاب عنها أو اختفى أو انطمر في أعماق اللاشعور الخفية المظلمة، لكنه يعود الآن ويضيء واقعها، أو بالأحرى، تعيده هي إليه من أجل أن توقف هذا الدوران المحموم لروحها الهائمة.
هكذا تكون الذات الأولى السابقة على ظهور ذلك القرين ذاتًا شقية منقسمة قد وقعت في براثن الكآبة والاكتئاب، لكنها الآن تسعى إلى البحث عن آخر، تقوم بالإنتاج لآخر، تحاول أن تحمي نفسها من خلاله، تسقط نفسها عليه، تجد فيه ما تفتقده في نفسها، تجد فيه ما فقدته في حياتها وافتقدته، تجد فيه هويتها واكتمالها، تكرر ما يقوم به قرينها، تتأمله، تتطلع إليه، تحاكيه، تلعب معه، وتحدث عمليات إبدال وإحلال وإزاحة بينها وبينه، تتحول حالاتها السلبية إلى حالات إيجابية، ويتبدل شقاؤها إلى هنائها وسعادتها وكآبتها إلى بهجتها وحومانها حول المكان وفي المكان إلى وجود مستقر مدرك جميل. هنا أيضًا تجسيد للهوية الأخرى، هوية الظل، أو الهوية المزاحة كما يسميها «أندرووبير» في كتابة «القرين: الرؤى المزدوجة في الأدب الألماني» (2003)، تلك الهوية التي تحل وتدخل منطقة ما، أو بيتًا ما، أو وطنًا، وتزيح أصحابها خارجه، أو على الأقل، تهز استقرار هذا الوطن أو البيت، ويكون القرين هكذا منتميا، أصلاً، إلى ما هو خارج المكان، إنه يأتي من الخارج، يحل على بيت أو وطن، ويسعى من أجل إزاحة أصحابه خارجه، أو هكذا يشعره أصحاب هذا البيت أو الوطن بذلك. ربما كان هذا بعض ما قر في وجدان الراوي في قصة «صاحب ربطة العنق الخضراء» إنه غريب عن المكان، لكنه يحتقر أصحاب المكان الأصليين ويسخر منهم بصفات مقزعة محقرة، وكأنه هو قد صار صاحب المكان، وكأنه أفضل منهم، لكنه يدرك أنه ليس صاحب هذا المكان، إنه ذات تنتمي إلى هوية أخرى، وهويته هنا هوية «مزاحة» أو مبعدة عن مكانها الأصلي، وفي محاولة منها لأن تجد لها هوية بديلة لهويتها القديمة، فإنها تحاول أن تزيح أصحاب المكان الأصليين وتقيم مكانها، لكنها أبدأ تظل هائمة وأبدًا تظل غريبة، وأبدًا تظل سادرة في أوهامها وهلاوسها وغياباتها الإدراكية والوجودية واللاشعورية، وتظل دائمًا تخلق الأوهام. إنها ذات مدمرة منقسمة أشبه بالنتاج الخرب الذي لفظه بيت مدمر، محطم، وطن مهزوم أو منهوك، حالة من اختلال الخيال وغياب الشعور بحسن الحال أو التماسك والاستقرار، إقامة دائمة في الرحيل، وحضور دائم في الغياب.
أقران ومسوخ وأشكال هائمة ومهومة وبشر أشباح وماهم بأشباح، رموز تتكرر، وأرواح تهيم، في عالم غارق في الجهل والتخلف والبدائية والعنف والشراسة على الرغم من مما يدعيه من تقدم ومدنية، فمع زيادة توق الإنسان إلى الوصول إلى نوع من المعرفة العلمية الموضوعية حول العالم، ومع تطور العلم وتراكم المعرفة وتحول الآلات والمنتجات الصناعية إلى وحوش مسيطرة على الإنسان في عالم الاستهلاك هذا الذي بلا نهاية ولا حدود، زاد ولعه أيضًا بالمتع الحسية والأعمال الخيالية في محادثة منه كما يقال لتعويض ما فقده من حيوية وطبيعية ترتبط بعقله البدائي بسبب هيمنة العقل العلمي النمطي الآلي المنضبط عليه. هكذا ابتكر الإنسان الألعاب المسلية والدمى المتكلمة الممتعة التي أحيانًا ما تتحول إلى كائنات مخيفة مرعبة قاتلة، وهذا ما نجده في قصة «رحلة إلى الجحيم».
رحلة في الجحيم:
هنا تصوير للمشاهد الموجودة في مدينة للملاهي، يوجد فيها ما يسمى بـ «بيت الرعب» أو «بيت الأشباح» رحلة تتم عبر مدينة الجحيم هذه فيها يقوم بدور شخصية من الشخصيات التي تقوم بإفراغ الزوار وبث الرعب في قلوبهم يصف حالته ومعاناته من الإفلاس، التام أو الإفلاس الطالح، كما يسميه حين لا يجد المرء معه أي شيء يقيم أوده، أو يمر عليه أسبوع وأسابيع يفكر في كيفية تدبير ثمن علبة السجائر.
بعد استقالته من عمله الأول منذ شهرين ومع براثن تلك الكآبة المرة» التي لازمته اليوم كله بعد أن وصل إلى حالة من اليأس الشديد والإفلاس المريع قرر أن يذهب إلى مهرجان أكتوبر «أكبر مهرجان للاحتفال بمحصول البيرة في العالم والذي يقام بمدينة ميونيج عاصمة مقاطعة بافاريا. إنه مهرجان احتفالي كبير يحتشد فيه البشر والأغاني والرقصات والأضواء، ويتم الاحتفاء به بالبيرة والدجاج والإنسان ومن أجل المبالغة في التعبير عن البهجة والفرح هناك عروض مثيرة أيضًا لإثارة الخوف والفزع، وقد كان اسم ذلك العرض الذي وجد عملا فيه رحلة إلى الجحيم، وقد كان يتم عبر أزقة مظلمة أعرفها، وكنت فيما مضى أخشاها. تركب عربة سوداء تدخل بك في دهاليز وممرات ضيقة تتقافز من أركانها كائنات غريبة ومخيفة» وقد كان الدور المطلوب وكما شرحه له السيد «أوبربارح» صاحب المبنى الذي تتم فيه هذه العروض أن يلبس قناعًا معينًا ويلعب «دور فرايدي السفاح الذي يتسلل في الأحلام ليقطع الأوصال ويمزق الأحشاء بوحشية» والمكافأة منه يورد في اليوم إضافة لوجبتين من الأكل والمشروبات طبعًا».
تقع احتفالات وأعياد البيرة ضمن الإطار العام لاحتفالات الحصاد والتي ربما كانت هي الأثر الحديث المتبقى من تلك الاحتفالات القديمة التي كانت تتم في أوروبا وتحدث عنها ميخائيل باختين وهو بصدد حديثه عن «الكارنفالية» في كتابه عن رابليه وعالمه» حيث ذكر باختين أن الكارنفال كان عيدًا تحتفل به طائفة الكاثوليك الرومان في المسيحية قبل أن يبدأ الصوم الكبير وأن أصل كلمة كارنفال استبعاد اللحم «أو إبعاد أو الامتناع عن تناوله حيث لم يكن مسموحًا بأكله خلال الصوم الكبير. ولكن وقبل أن يبدأ ذلك الصوم كان الكرنفال تتاح الفرصة أو الموسم للمرح الصاخب والابتهال والاحتفال والضحك وإقامة الولائم وارتداء الأقنعة والرقص. ويبدأ عند التقاء الشتاء بالصيف. وفي الأزمة السابقة على هذه الاحتفالات المسيحية، كان هذا الاحتفال الكرنفالي تعبيرًا رمزيًا كذلك عن ذوبان الفروق بين الطبقات العليا والدنيا والأغنياء والفقراء، الرجال والنساء، مثله مثل احتفالات الآله ديونيسوس في الثقافة الإغريقية والإله باخوس (إله الخمر) في الثقافة الرومانية، وقد تجلى ذلك الامتزاج والتفاعل والذوبان بين كل ما يفصله النوع (ذكر وأنثى) والطبقة (أغنياء/ فقراء) وغير ذلك من الفواصل في احتفالات شهيرة منها أعياد الحمار وأعياد الحمقى، وربما كانت احتفالات الحصاد والبيرة صورها العيادي في نصوصه، وكما تحدث في ميونيح هي التجليات الأخيرة لتلك الاحتفالات.
نحو مكانه في «الممر الثالث» بين «بغفوص أبي الثاليل وسلعوط الخرتيت العملاق يقوده «سالمان» ذلك النيجيري «الذي يضحك مقهقهًا بطريقة ماجنة لم أفهم الداعي إليها» «والذي يقول عن نفسه إنه يعمل أي شيء»! عامل بناء، أستاذ لغة إنجليزية، نجار، خراط، ممثل أفلام، شاعر، كل شيء» حين يصلا إلى الممر الثالث يشرح سالمان للراوي طبيعة عمله. «أجلس على هذا الكرسي الهزاز. والبس هذا القناع. وحين تمر بك عربة، عليك أن ترفع ذراعك اليمنى هكذا، وتلوح بالسكين في وجوه الزوار القابعين في العربة، ولا تنس أن تصيح: آآآع. هذا كل ما في الأمر. ولكن رجاء لا تسبق هذه الرتيلاء – يقصد سلعوط الخرتيت- حتى لا تفسد عليه عنصر المباغتة «وحين يطفأ الضوء الأحمر ويشتعل الضوء الكاشف يمكنك أن تصرح».
للغيلان أضواء حمراء وللشياطين أضواء صفراء ويستهوي الراوي دوره ويشعر بمتعة حقيقية وهو يرى تعبيرات الفزع الشديد في عيون ضحاياه، ويسمع كذلك عبارات السباب وهي تنثال من أفواههم عليه. لقد كانت بضاعته المطلوب منه بيعها هي بث الرعب في نفوس الصغار والكبار. وفي داخل هذا العالم الغريب تعرف جميع الزملاء منذ اليوم الأول، تعرف الأحياء منهم والأموات، الشياطين والمردة والزواحف والغيلان، وقد كان هذا الراوي من فريق الأحياء وكان دغفوص أبو التآليل من فريق الشياطين، الذي كان يشتمل أيضًا على الجعلول الأفطس وبرباقوس الأبتر ونفوش أو إصبعين والرحراح والغضفور المزعنف.. إلخ وكان الدرواع والفدسان والخبخب ونقشبتشا واللوذعير من فريق المردة أما الخرتيت سلعوط وحرفوشة أم أربعة وأربعين، واللسوعة والليماني والداهش فهم من فريق الزواحف والغيلان. وكان هناك كذلك زملاء من الأطراف والأجزاء الأرباع والأثمان «وبالرغم من أنني لا أنكر أهمية دورهم وإتقانهم المدهش للعمل، فإنني لم أفكر أبدأ في إعطائهم أسماء خاصة.. ولم يكن ذلك عن تكبر أو غرور، ولكنني بصراحة لست مستعدًا إطلاقا لمعاملة كائنات بلا جذوع على أنها موجودة «إنهم أجزاء مبتورة وأعضاء مقطوعة كتلك اليد التي تتلاعب بها الجرذان الخشبية ومرة تسحبها لأعلى» ثم إنه يفخر بنفسه لأنه ينتمي إلى أعلى الطبقات: طبقة الغيلان الأحياء ويقول إن المسألة «ليست مسألة غرور بل مسألة مبدأ بالأساس، الحي حي والميت ميت. الكامل ليس كالجزء أبدًا ولا ينبغي خلط الأمور لمجرد العاطفة».
لكن هل ظل الحي حيًا وهل ظل الميت ميتًا؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال دعونا نتأمل أولاً في دلالة هذه الأسماء التي يطلقها الراوي على هذه الكائنات من الأحياء والأموات والشياطين والمردة والزواحف والغيلان. قد تبدو هذه الأسماء للوهلة الأولى وكأنها مجرد أسماء تسخر وتتهكم من هذه الكائنات وهذا العالم، لكن النظرة الأكثر عمقًا سوف تكشف لنا أولاً عن أن هذه الأسماء تتسم بكونها: أولاً: أسماء غريبة، ثانيًا: أسماء ساخرة، ثالثًا: أسماء مركبة من موصوف وصفة، وغالبًا ما تكون صفات الموصوفين محقرة لهم مثل أبي الثآليل، الأفطس، الأبتر، أبو إصبعين، المزعنف، الدنف، العطاس…إلخ، فما دلالة الأسماء؟ إنه عالم الكائنات الهجين الذي يصل بين عالمين، حيث بداخله يتم تحويل هذه الكائنات إلى حيوانات وزواحف أي تحويل عالم المتعة إلى عالم مخيف.
هكذا يمكننا القول إن هذه الشخصيات المركبة الهجين المنصهرة والوحوش القبيحة التي تبعث أسماؤها على الدهشة وربما الضحك، تعبر أيضًا عن حالة شبيهة بالكابوس، الكابوس الذي يتميز عن الحلم بأنه مرعب، يستثير حالات فزغ ليلية جسمية وعقلية عالية، صور مجمعة تجسد آلية التكثيف في الأحلام والكواليس كما حددها فرويد، صورًا متراكبة على نحو ما يجمع بين هويتين، في هوية واحدة، نوع من الكثرة أو التكاثر لكائنات وتكوينات لا تتجمع ولا تتجامع ولا تتكاثر هنا تجسيد مسخي للذات في تعددها، ووجودها على أنحاء شتى، أنحاء تجسد تفكك هويتها، مرة تظهر ضاحكة هانئة ومرة كئيبة مخيفة، تجميع وتقسيم وتجزئة ومفردات وأعضاء مبتورة ومتناثرة تضحك وتبكي وتتكلم وتنظر وتتوعد وتبث الرعب وتقتل.
ووفقًا لما قالته ماري دوجلاس فإن الوحوش والمسوخ غالبًا ما تشتمل على شكل مهجن يجمع بين كائنين أو أكثر، وتقوم عملية التهجين هذه بالانتهاك أو المخالفة للمخططات المعرفية الخاصة بالفئات الثقافية أو المحددة (إنسان- حيوان- نبات- زواحف… إلخ). وإنه غالبًا ما يترتب على المزج بين كائنين غير ممتزجين في الواقع نوع من الرجعية والخوف أو نوع من التقزز والاشمئزاز أيضًا، خصوصًا عندما يختلط هذا المزج بإفرازات معينة كاللعاب والدموع والدم والقيء وكل ما هو لزج أو مقرف هكذا تكون الوحوش المسوخ في الغالب مهجنة غير كاملة، في شكلها الخارجي وفي سلوكها وأفعالها، كائنات بينية توجد على الحدود، ومن ثم تظل هكذا غامضة وقادرة على إثارة الخوف في أي وقت، خصوصًا إذا ظهرت ليلاً، وإذا ظهرت لإنسان هجين مثلها يعاني من الكآبة وتصدع الذات وتفكك الهوية وظهرت له في أماكن مهجورة أو غريبة أو موحشة وكما كان الأمر في الممر الثالث في رحلة إلى الجحيم، وقد وظف العيادي الأسماء والشخصيات في تلك القصة كي تؤكد مثل هذا المعنى الخاص للمسخية والتهجين. وكي تجمع أيضًا بين هويتي الميت والحي، والجامد الساكن، والمتحرك الفاعل في هوية واحدة قادرة على إثارة الخوف المصحوب بالضحك لدى زوار مدينة الملاهي تلك وكذلك ذلك الرعب المتبوع بالجنون لدى بعض العاملين فيها.
تدريجيًّا ومع تزايد العمل والتعب نبدأ أسبوعًا من العمل عشر ساعات أسبوعيًّا يشعر الراوي أن دغفوص أبو التآليل، وهو من فريق الشياطين، والذي هو مجرد دمية ملونة من البلاستيك المقوى متجهم وأن سلعوط الخرتيت (وهو من فريق الزواحف والغيلان) يختلس النظر إليه «رغم أنني متأكد بأن وضع رأسه وحركته الميكانيكية لا تمكنه من ذلك» فما الذي يحدث في الممر الثالث؟ ما الذي جعله يشعر بأنه مراقب، وثمة عيون تترصده في الظلام «نظرات مليئة بالحقد والشر أحسها تحيط بي شعور بأن مؤامرة الخوف والترقب يدب التسلل في أطرافه عندما يرى دغفوص أبو الثآليل، الذي هو مجرد دمية ملونة من البلاستيك، ينهض ويلوح بذراعه نحوه وهو يصيح: «لماذا تصرخ قبل انطفاء الضوء الأحمر؟ أنت تفسد الشغل. ألا تفهم؟ ألا تفهم أن دورك بعد انطفاء ضوئي؟ ألا تريد أن تفهم؟» لم تكن هناك عربة في الممر، ولم تكن طبيعة تكوين هذه الدمية. دغفوص أبو الثآليل تمكنها من النهوض هكذا والصراخ هكذا، والتحذير هكذا، فقد كان مبرمجًا مثل كل الدمى الميكانيكية كي يتحرك بطريقة معينة ولم يكن مبرمجًا ليتكلم بل لأداء حركة واحدة ثابتة طيلة الأسبوع وكانت شفتاه ملتصقتين لا تمكنانه، لو أراد، من الكلام. هنا يصرخ الراوي يهرب مذعورًا ويصطدم بالسيد أوبربارج الذي ينظر إليه باندهاش ويعرف منه ما حدث ويعلق مهمهمًا: «مرة أخرى الممر الثالث من جديد؟ هذا أمر لا يصدق» ويعرف منه أن دمية الغول هذه قد فعلت ذلك ثلاث مرات هذا الأسبوع وهذه الرابعة، ويحاول أن يفسر له أن هذه الدمية مصنوعة جيدًا في إسرائيل، وأن خوف الأجانب من الظلام بسبب حكايات الجدات عن الجن والعفاريت، وكذلك المؤثرات الصوتية الموجودة في الممر وكذلك الظلام نفسه قد تكون كلها أسباب لما حدث، ويعتذر الراوي إليه ويعود إلى عمله ويحاول تفسير ما حدث له بأنه كان نتيجة الإرهاق والتعب وأنه ربما قد نام في مكانه انتظارا لقدوم عربة الزوار. وحين يعود إلى الممر يجده مضاء وينظر إلى دغفوص أبو الثآليل فيجده مجرد دمية خرقاء ملونة من البلاستيك تبدو مخيفة ولكنها دمية باردة «لا أكثر ولا أقل» لكن التوهمات لا تتوقف، والمخاوف لا تتراجع، والفزع يتقدم ويهيمن عليه، فيجعله يتوهم مرة أخرى ما حدث من تلك الدمية، ومن ثم فإنه يقوم بتحطيمها مستخدما الكرسي الهزاز الذي كان يجلس عليه ويقتاده أفراد الأمن إلى مركز الشرطة وهناك يقول لهم إن دغفوص أبو الثآليل سب المرحومة أمه «الحاجة هنية بنت عمر الربيعي ووصفها بما لا يليق».
نظرية الأندرويد
تتعلق نظرية الأندرويد Android بكل ما هو حي وصنعه الإنسان كي يقاوم من خلاله الموت، ويحقق من خلاله أيضًا الاستمرار والخلود، ويصل من خلاله إلى المتعة والترفيه والضحك، لكنه الذي يوقعه أيضًا في التكرار، والآلية وفقدان روحه، ونحن نجد أن هذا الفهم نفسه، والمفهوم نفسه، يمكن أن ينطبقا أيضًا على العمل الأدبي والفني وعلى فكرة القرين، على التكاثر والإنجاب، على فكرة الخلود، وعلى المومياوات والمعابد والأهرامات، على كل ما من شأنه التجسيد للخوف من الموت والعقاب والرغبة في الخلود واستمرار الحياة أثناء الحياة أو بعد الموت، ويتعلق ذلك كله كذلك بالنرجسية والأداء والفن بشكل عام.
يمحو التكرار الحدود بين الإنسان والآلة، يحول الإنسان إلى آلة، حالة يقع خلالها الإنسان رجلا كان أو امرأة في نوع من التكرار الغلاب لحركة ما، أو للحركة للفكرة التي تهيمن على الحركة، للدائرة المعلقة التي تحرك الفكرة، والحركة، للنقص الذي تسعى الفكرة من أجل اكتمالها بالحركة، للإغواء أو الخطر للإغواء الخطر، والخطر الذي لا يستطيع الإنسان مقاومته رغم معرفته بأنه مهلك. هنا يقترب الإنسان من «الأندرويد» ذلك المخلّق الذي يتحرك دون إرادة منه، أو دون عقل أو هدف بالريموت كنترول والتوجه الآلي أو الالكتروني. هكذا يسكن الإنسان في براثن هوس التكرار وكذلك يفعل الأندرويد الذي يتحرك بقوة تتجاوز تحكمه الخاص، قوة داخلية في حالة الإنسان وخارجية في حالة الأندرويد. قد تكون هنا متعة ما مصاحبة لهذا التكرار، هذا الولع بالهروب من الوعي، من الأنا، لكن هذه المتعة سرعان ما تتحول إلى ألم، إلى إحساس بأن هذه الحركة المتكررة التي لا تنمو ولا تتطور هي حركة غير إنسانية، حركة ترتبط بوحش أو غول أو عفريت، ليس منبعها الداخل، بل الخارج، ليس مصدرها الآن، بل الماضي، ليس منشؤها الذات بل الآخر، آخر ما، إنسان آلي متحرك مهتز.. هذا هو توتر الوسواس التكراري حيث يتجاذب الروح وتتمزق إربًا بين رغبتين، إحداهما ترتبط بالعلو والمتعة والأخرى تتعلق بالارتجاف والقيد والرعب.
لقد اكتشف عدد من الكتاب والمفكرين في أوروبا خلال القرنين 19، 20، صورًا محاكية ثانوية Simulacra موجودة في شكل المومياوات والدمى وعرائس الماريونيت ووجدوا فيها تحولاً من السياق المقدس إلى السياق الثقافي الإنساني حالة من الامتصاص لعالم الأشباح والأرواح داخل عالم الواقع والتفكير – كما قالت تيري كاسل- نوع من إعادة التفسير للواقع كعالم مادي تكون فيه الصلة المفارقة بين الإنسان والله صلة داخلية وكانت تلك النقطة الفاصلة في الثقافة الغربية. فم تكن النقطة الحاسمة أو نقطة التحول الحاسمة كما يعتقد البعض تلك التي فصلت بين العالم القديم والثقافة المسيحية التي خرجت منه، ولا بين العصور الوسطى وعصر النهضة، ولا بين المجتمع قبل الصناعي والمجتمع الصناعي، ولكن بين الثقافة الغربية التي كانت موجودة قبل القرن السابع عشر وتلك التي جاءت بعده، حركة الاصلاح البروتستانتية في القرن السادس عشر والاتجاهات المصاحبة لها التي أعلت من شأن العقل بوصفه المحرك الكلي أو النهائي للواقع على يد فلاسفة أمثال بيكون وديكارت، مما مهد الطريق لاستكشاف الواقع الأمبيريقي دون الانشغال الكبير بالتصورات المطروحة حول أصل الكون وقد نتج عن ذلك كله الثورة العلمية وما ترتب عليها من نتائج تكنولوجية واختراعات، الثورة الصناعية، وقد امتزجت الدوافع الحافزة لذلك كله منذ القرن السابع عشر وحتى الآن.
يحب الأطفال الدمى، يحبون اللعب بها، فكيف يخافون منها عندما يكبرون !! يخافون منها لو نظرت إليهم وتحركت وتكلمت، يخافون منها ولو بدت نظراتها إليهم شريرة مخدرة منذرة بالأذى والانتقام. عندما يكبر الأطفال يتم تحذيرهم من الاستمرار في اللعب بالدمى ويتم كبت رغباتهم وتعلقاتهم بها، يتم هذا الكبت كما يقول فرويد في اللاشعور، لكن ما يكبت لا يختفي، بل دومًا يعود، يتغير شكله ويتشوه ويصبح محرفا بفعل مرور الزمن، وفي لحظات معينة، قد تتحول تلك الدمى القديمة الجميلة إلى وحوش غريبة مخيفة، خاصة عندما نواجه دمية تتحرك مثل إنسان حقيقي وهو ما يحدث أيضا في حكايات الجدات عن العفاريت والجن والشياطين، إنه ذلك الأثر الغريب الذي رصده هوفمان (1776-1822) وجسده من خلال شخصية أوليمبيا الدمية المتكلمة الراقصة في قصته «رجل الرمل». هنا الدمى وكما تقول «أو لجاتاكيدو» بدائل للأقنعة القديمة التي كان يمكن للإنسان أن يقول من ورائها كل شيء وترتبط الدمى كذلك بفكرة العرائس أو الماريونيت التي تحركها أرواح غامضة وخيوط خفية، تصلها بالأفكار والمخاوف الخاصة بالموت والحياة، الحضور والغياب، غياب البشري وحضور الدمى الخشبية أو النسيجية أو البلاستيكية المخلقة أو الآلية المعدنية المخلقة التي يختفي وراءها الإنسان أو يوجد بداخلها، يظن نفسه حرًا وهو محبوس بداخلها، عبدًا لدمية أو شيطان أو زاحفة أو قناع وهنا تكون حركة الآلي والميت وغير الحي مجسدة لذلك الخوف الغريب في عالم تختلط فيه الأشياء والكائنات فلا نعرف من الحقيقي ومن المزيف من الأصلي ومن الذي يحاكيه، من الآلي ومن العضوي، هنا تهجين يجمع بين الميت والحي، والإنساني والجمادي في التباس قد يثير الدهشة والخوف في كثير من الثقافات الإنسانية وكما يقول سيلثيا بريندينال لعبت علاقة الإنسان بالجمادات دورًا حاسمًا في أعمال السحر والطقوس الدينية والحكايات والأساطير.
فالجمادات وقوى الطبيعة تكون لهما قوة سحرية في أذهان أتباع الثقافات البدائية القديمة والتي يعتقدون من خلالها أن كل شيء في الحياة الأشجار والأنهار والحيوانات والأموات توجد به روح ما، وهي نفسها الفكرة التي يقوم على أساسها الفن في أحد معانيه، من حيث إنه محاولة لبعث الحياة في الهامد والجماد، محاولة لتحريك الساكن والميت والراكد، مجازيًّا وحرفيًّا وخلال الممارسات السحرية القديمة والحديثة لعبت الجمادات دور الوسيط والوكيل، وحيث سحر الصورة المحاكية، أو سحر الشبيه» وحيث يتم الاعتقاد أنه من خلال تدمير صورة الإنسان أو الدمية الخاصة به فإننا ندمره، وعندما نحطم تمثاله فإننا نحطمه، وعندما نصنع صورة له أو تمثالاً فإننا نقوم بتخليده وإحيائه وما صورة الدمية أو تمثالها إلا مجرد أحلام قد تحولت إلى كوابيس نريد أن نتخلص منها بتحطيمها كما يقول بعض النقاد.
هكذا نظر سلافوي جيجيك في دراسته عن «تكشيرات الواقع» إلى الصور الخاصة بالميت الحي، كما في حالة الدمى المتكلمة مثلاً، بوصفها عوامل تقوم بالوسائط بين الفن الراقي والثقافة الشعبية وبوصفها، كذلك، تعبيرات عن الخواء الخاص بالروح أو بالذات في حالتها النقية. كذلك نظر فوكو دويلوز وفيليكي جواناري إلى اللاشعور ومحتوياته على أنه أثر متبق لعمليات إنتاج تاريخية وثقافية، ومن ثم تكون الأعمال الأدبية والفنية نتاجات للتفاعل بين المخاوف والرغبات والآنيات النفسية من ناحية والعمليات الاجتماعية والتاريخية من ناحية أخرى. هكذا تخزن النصوص الأدبية أيضًا، كالأجساد – كما كان فرويد يقول – الذكريات الخاصة بالمخاوف الماضية، مخاوف الماضي، تلك الخاصة بالصدمات البعيدة يعاني الهستيريون على نحو من عود الذكريات، التذكر، هكذا ينتاب التاريخ الشخصي والاجتماعي، الناس، فيتخذ المكبوت دائما حياة غريبة لذاته أو خاصة به.
هكذا قد تكون المومياوات المتحركة، الغيلان، الآلات المتحركة واللعب، نوعًا من التجسيد الصناعي للخيال، صداقة ولا صداقة، مصاحبة ولا مصاحبة، رفيق ولا رفيق، نوع من التجسيد الصناعي للأحلام. إنه نوع من الإذابة والإزالة للحدود بين الإنسان الآلي، أنتج حالات غير مسبوقة من التشوش الإبستمولوجي والفوضى الوجدانية هكذا خضعت صورنا وتصوراتنا حول الجمال الطبيعي لتركيبات غريبة خاصة بالحراجات التحميلية والتطورات البيولوجية، علاقات مع آلات وبشر كآلالات وآلات كالبشر، عرائس ونساء من البلاستيك والقماش ورجال من الحديد والصلب هكذا ضاعت الحدود وانداحت ما بين الظاهري والحقيقي، والحتمية والحرية، والآلي والمستقل، في ثقافة السطح والمظهر وأتمتة الإنسان، أو جعله أشبه بالآلة.
تفكك الهوية في حضور الآخر:
في قصة «آنيتا» رصد لعلاقة الراوي العربي التونسي بزوجته الألمانية حيث العلاقة التي بنيت على أساس المصالح المشتركة والاحتياجات المتبادلة ووصف لعمليات التخفي التي يقوم بها لمشاعره وأفكاره نحوها ومنها: تصنع حالة من الحزن الشديد «كلما فتحت الباب ليلا ووجدتها كالسعلاة أمامي» ثم تحمله لإهاناتها وامتناعه عن الرد على هذه الإهانات، ووضعه لحذائه بعد نزعة بطريقة معينة «محاذرًا أن يكون وضعه قريبا أكثر من اللازم من الحائط، تمامًا كما يليق بزوج يتألم وهو يقول عن ذلك كله «كنت أفعل ذلك بهدوء مسرحي مبالغ فيه، وأتجه إلى غرفتي لأكتب رسائل، دون تدخين، بلغتي العربية التي لا تفهمها، معتمدًا حشوها ببعض الكلمات باللغة الألمانية- تدل- بما لايدع مجالاً للشك- بأنني مقدم على الانتحار». وكأنه يعيد التجسيد لقوله سنيكا الشهيرة: «فاز باللذة من أحسن التخفي. مع تزايد التخفي والعدوان والتظاهر بالألم والرغبة في الانتحار من جانبه يتزايد العدوان لكيفية رده عليها، فلا هي تصدق ما يكتبه ولا هو يهتم بإهاناتها، لكنه محاصر ومضطر للبقاء معها هكذا بسبب الإقامة، ويبالغ في التخيل للرد عليها وتعذيبها وقضم جزء من أنفها المدبب وطرحها أرضًا ورفسها وجلدها بالسوط وشدها من شعرها القصير وتثبيتها على لوح خشبي ودق كفيها إليه بمسامير كبيرة كل ليلة لكنه لا يفعل شيئًا من ذلك على الإطلاق، إن هي إلا خيالات وأمنيات وأوهام ترد إلى عقله وتثري وتسليه وتخفض من توتراته وصراعاته وإحباطاته كل ليلة وهو يقوم بوضع الحذاء الخاص به بجوار الحائط ثم يقطع الممر الطويل «متجها بصمت إلى غرفتي الباردة».
وفي قصة باريسا الكسندروفنا والغرفة 216، يصف الراوي علاقته مع المسؤولة عن مبيت الطلبة حيث كان يقيم في الغرفة 216، وكيف كان مشاغبًا وأوشكت الإدارة على طرده، عندما تأتي هذه المسئولة باريسا الكسندروفنا لتبلغه غاضبة بهذا القرار يدعوها إلى شرب فنجان من القهوة اللبنانية، يتراجع غضبها عند الرشفة الثالثة، كما قال، وتبدأ حوارات بينهما حول صور لوحات للفرعون توت عنخ آمون وبيكاسو ودالي ويونسكو وليرمنتون وبوب مارلي وآلان بارك والحبيب بورقيبة ووالده وغيرهم، يختلق حكايات وتفاصيل حول والده وحول لعنة الفراعنة وكلب كافكا وبيكاسو ويصدقها وتصدقه وتنشأ علاقة حميمة بينما، كانت في الأربعين من عمرها وكانت ابتسامتها تخفي فعل الزمن على وجهها بشكل مدهش». ومثلما كانت المكسرات وسيلته في كسر الجمود بينه وبين صديقة زوجته «مارتنيا» في قصة آنينا، فكذلك تكون اللوحات والكتب والحكايات وسيلته لإقامة هذه الصلات. ليس بين الأفراد وبعضهم البعض فقط بل بين الثقافات وبعضها البعض أيضًا، هنا تكون الأشياء وكذلك السخرية والاختلاق والتوهم والتظاهر والحكايات المختلفة وسائل الراوي المفصلة في الهروب من أسر الواقع وكآبة من ظروفه القاهرة ومن جمود علاقاته مع الآخرين أحيانًا تنجح كما مع باريسا الكسندروفنا، وأحيانًا تفشل هذه الوسائل كما في حالة «مارتنيا».
وهنا في هذه المجموعة من النصوص رصد العالم الذي يتغير والحدود التي تسقط وتتبدل والخرائط القديمة التي لم تعد صالحة كي يدرسها الطلاب في المدارس، ثمة عالم جديد يتشكل الآن ظهرت فيه بلدان جيدة بعد سقوط جدار برلين والاتحاد السوفييتي والهيمنة الأمريكية على العالم والمصالح الآسوية البازغة وغيرها، وفي قصة «حميد متيشكو» يختفي حميد ويبحث الراوي عنه ويتذكر يوم رآه لأول مرة عند البار الخشبي الأسود بمقهى التيركن هوف «متدلق بكتفه إلى الإمام، وهو يتلمط انكسار شفتيه، ناشرًا في كل تضاريس وجهه مرارة مزمنة لا أمل في التخلص منها في أي وقت من الأوقات. مرارة لازمة أبدية وشعرت يومها بأنني سأحب هذا المفلس أبدا، وهذا ما حدث». ويتذكر ما فعله حميد حين كتب رسالة إلى الملكة آنا، حين كان يعمل طباخا في مدريد يحدثها عن ظروفه المادية القاسية لكنها التي لا تمنعه كما قال من أن يحبها من أعماق قلبه، وأنه سيكون أسعد مخلوق لو بادلته عواطفه الصادقة نحوها. كما أنه يدخل في رهان مع أحد الزبائن الأغنياء على نتيجة مباراة في كرة القدم ولم يكن يملك أي مبلغ للرهان لكنه كسبه، يهتم بتكاليف ونفقات العرس الملكي الدانمركي، ويكتب قصصا أو مخطوطات رواية عن قصص حياته ثم يقرر أن يتحول إلى كتابة الروايات البوليسية عن آل جابون والمافيا فقط.. توهمات وأوهام وأحلام وواقع بائس محبط أليم.
وفي قصة «المربوع» نجد بائع الروبابيكيا المولع بالأحلام والأفلام والذي تقوم أمه بتسليمه للشرطة وتخبرهم أنه شارك في مظاهرات الخبر لأن أعوان الأمن قد داهموا الليلة السابقة بيوت الجيران وأخذوا كل من شارك بالمظاهرة بأنها تخشى أن يكون البوليس يبحث عنه، ولأنها تحترم القانون والبوليس أتت بابنها إليهم قبل أن يداهموا البيت، إنه الخوف الذي يجعل حتى الأمهات يضحين بأبنائهن معتقدات إنهن يقمن بحمايتهم في حين أنهن يقمن بحماية أنفسهن تحت دعاوى باطلة، الخوف والتسلط والرعب الذي يجعل الإنسان يفقد آدميته وينسى إنسانيته. وفي «موت بدون وصية» نواجه مجموعة من المولودين في المهجر، أبناء عرب لا يعرفون العربية، إنهم تائهون في الترجمة كما يقال، والراوي يريد أن يعلمهم العربية وهو يعرف أنهم جميعًا وبدون استثناء «لا يتحدثون كلمة واحدة بالعربية ولا باللهجة التونسية الدارجة، ومقابل ذلك فقد كنت لا أعرف من اللغة التي يتحدثون بها أكثر من كلمات معدودة ثم هناك تلك المقابلة والمقارنة والموازنة بين شخصين. الهادي (س) القصير، ومحمد (ب) عندما يذهب إلى طروتسبارج لتدريس اللغة العربية لأبناء العرب في المدرسة «كان هناك رجل قصير، كثيف اللحية ويتكلم بلهجة أهل الجنوب التونسي، أما الآخر فكان عملاقا ضخمًا. عيناه محمرتان إلى درجة ملفتة للانتباه… ويكثر من استعمال يديه حين يخاطبك، ويلوح بهما في كل اتجاه، في محاولة منه لتأكيد ما يقول، في من كان الثاني يصوب نحوه نظرات مليئة بالاحتقار»
وتتوالى الأحداث، يحيكها العملاق الضخم محمد [ب]، يحكي كيف تعرف ذلك القصير «الهادي» [س] الذي لا يترك فرصة دون أن يستشهد خلالها بأحاديث نبوية لا وجود لها ويبتلع آيات كاملة وهو يقرأ القرآن، ثم نشأت علاقة صداقة بينهما وكيف انتشله من عثرته واستضافه في منزله ليستولي بعد ذلك على زوجته ويتزوجها وتتوالى المشاحنات بينهما والعراك وينتهي الأمر بذلك الضخم الطيب بالانتحار بعد أن وثق بذلك القصير الماكر الثعلب المتظاهر بالتقوى والصلاح والورع، يبالغ في إيذائه وإهانته ويسكب عليه من فوق وأمام الناس سطلا من الماء البارد» عندما ذهب ذات ليلة ووقف تحت نافذة زوجته يناديها. الخداع مسألة أساسية، ولكن كما يقول محمد [ب] العملاق في القصة: «لا أذكر من قال لي بأن تقتل الثعبان إذا وجدته، ثم تلعب به ولكنها أبدًا لا تحمل معها إلى البيت الذي تنام فيه. ولكنني كنت أقل حكمة من القطط وحملت ثعبانًا إلى بيتي».
أما في «الرسائل المغشوشة» نجد تلك الحالات من العواطف المتوهمة والمشاعر المتبلدة، فبالكلمات الجميلة المعسولة ورسائل الحب يوقع سالم حنان في الحب قبل الزواج، لم تكن قد قابلته قبل الزواج سوى مرتين أو ثلاث في حضور الأهل والأقارب لكنها وقعت في غرامه من خلال رسائله، هي دارسة الأدب، وعاشقة الشعر، وهو الذي يعمل في ألمانيا، ويكلف صديقه بكتابة رسائل الحب باسمه إليها، هنا نجد هذا الكاتب الشبح Ghost writer الذي يعيش أحلامه ويتحقق ذاته من خلال كتابه الرسائل الغرامية لصديقه، وتنهمر كلماته عبر صفحات الرسائل الغرامية وعندما تصل الصحفات إلى عشر يقطع سالم تدفق صاحبه ويبقى ما زاد عن هذه العشر إلى الرسالة القادمة، وذلك لأنه كان يحسب تكاليف البريد اللازمة لإرسال عشر صفحات والتي قد تزيد عندما تزيد الرسائل عن ذلك العدد. وعندما يحدث الزواج يمل الزوج سريعًا ويعود إلى عمله، وتستمر الزوجة، حنان في أحلامها ورومانسيتها، تريد أن يقول لها زوجها ذلك الكلام الجميل الذي كان يكتبه في رسائله، لكنه جامد القلب متبلد المشاعر ضحل الوجدان، تكتب له أوراقًا صغيرة. تضعه في حجرات المنزل «في المرحاض، في المطبخ، فوق المسجل، تحت جهاز التلفزيون، على باب الثلاجة، في كل مكان» والزوج سادر في تبلده وتخشبه وحيوانيته ويقول لصديقه وكاتب رسائله «يا أخي أنا كبرت على هذه الأمور. تصور لي من العمر الآن ست وأربعون سنة، ثلاثة أرباعها قضيتها في رفع صناديق الخضر في هذا البلد الملعون وتريدني أن أغازلها منذ أن أدخل البيت وحتى أخرج منه. أصبحت أخاف من «البيت» ويزداد لدى الزوج الخوف من الغزل والهروب من الحب والبيت والزوجة، زوجة تعيش في وهم الحب مع زوج يعيش في وهم العمل، وهنا تصوير لكيف يمكن أن يكون الحب خداعًا والغرام عذابًا والعشق نوعًا من الألم، يشعر الزوج أن «العزوبية أحيانًا أروع شيء ففيها لا أحد يربك حياتك ويحطمها ويجعلها لعنة ونقمة. مراقبة. وحصار. ورعب. وخوف مما لا تعرف، تدريجيًا يصبح كاتب الرسائل الصديق هو العدو، هو المسؤول عن الفجيعة أو الحياة المفجعة التي يعيش فيها هذا الزوج، وذلك لأنه كان ومن خلال رسائله الخادعة من أشعل وهم الحب في عقل الزوجة وألهب به وجدانها.
في قصة «أرباع المثقفين من منظور السيد يواخين» رصد لزبائن مقهى الأنسونياتيا» المشهور في ميونيخ بأنه مقهى المثقفين «حيث تسود ثقافة كرة القدم، والمسلسلات التافهة والبرامج المسلية والمسابقات التي تربح فيها عجوز شمطاء مليون يورو لمجرد أنها تعرف بأن الهند بلد ينتج التوابل ويقع في قارة آسيا».. إنهم كما يصفهم الراوي أرباع المثقفين، الفيروس القاتل الذي يتربص بألمانيا وبكل أوروبا، فيروس مستورد من بلاد الكاوبوي أمريكا، إنهم يتلذذون بعدم قدرتهم على التركيز على أي شيء من الأشياء، ويحسبون أن عدم قدرتهم على فهم ما يجري ميزة يفتخرون بها. يعتقدون أنهم الأصل ويجدون حلولاً سريعة ومجدية للمشكلات الآنية. أبناء اللحظة الذين يحلون ألغاز جداول المواعيد، المتعاملون بكفاءة مع النقود وبطاقات البنوك البلاستيكية، المتحركون داخل وسط منيع يحميهم يتكون أساسًا منهم هم أنفسهم أرباع المثقفين أنتجوا أرباع وأسداس وأثمان مثقفين، أبناء التشابه والآلية والنمطية والتكرار والنسخ، ركام التطور الصناعي الأعمى والبيع السريع والربح السريع والأكل السريع والحب السريع، أذهانهم محصورة في الاصطياد للمستهلكين المخلصين تحركهم غريزة المطاردة والاقتناص والغابة والالتهام. بدائيون في أزياء حديثة ووحوش في أقنعة ضاحكة باسمة لكنه ضحكات الآلات والدمى والأندرويد يقتلهم الوقت الذي يتحرك بسرعة وهم جالسون في أماكنهم لا يتحركون، مدعون الثورية مثقلون بالشعارات والرموز الفاشية، الفاشية الرأسمالية الاستهلاكية، ضحايا ويظنون أنفسهم فرسانًا، عبيد يظنون أنفسهم سادة.
في «الجوادية» نجد نموذجًا جميلاً للمرأة، إنها الحاجة مبروكة الجوادي، المرأة التي عاشت في ألمانيا، التي كانت أول امرأة تونسية قدمت للعمل في ميونيخ منذ عام 1969، وتحب أن تحكي عن تلك الأيام وأسعارها الرخيصة وركوبها الطائرة لأول مرة وزيارتها مسجد الرسول (ص) في المدينة ومشاركتها في مظاهرات التأييد والمساندة لأطفال الحجارة الفلسطينيين في ألمانيا ومساعدتها للقادمين من تونس في العمل والزواج، وتحكي عن ذهابها إلى تونس مرتين كل عام عبر ثلاثين سنة، وعن بيتها الذي تبنيه في رادس وعن مرضها بالداء الخبيث ثم ألمها وشكواها من أنها ومنذ أكثر من خمس وثلاثين سنة وأنا أسكن هنا، ولا أعرف من يسكن معي بهذه العمارة. واحدة فقط مدام كليبر تعاشرنا «ساعات أفكر يا وليدي نلم ما عندي ويكفي. الرجل الله يرحمه والأولاد تفرقوا وكأنني لم أنجبهم». لكنها، تموت في النهاية في الغربة. وتدفن فيها، روح هائمة ومهمومة ما بين الوطن والمنفى، والحضور والغياب. وفي «رسالة مستعجلة إلى حبيبتي الإلكترونية» حديث عن الغياب في التكنولوجيا والضياع في البريد الإلكتروني والأرواح الهائمة عبر الجوجل والويكيبديا، عن الحاضرين الغائبين الذين نعتقد أننا نعرفهم ويعرفوننا ونحن لا نعرفهم ولا يعرفوننا، معرفة افتراضية وعلاقات تخيلية وضياع للهوية في العوالم الافتراضية.
مراجع:
أولجا تاكيدو (2008) الحداثة والأداء (ترجمة: سحر فراج)، القاهرة: إصدارات مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، مواضع متفرقة.
سيلفيا يريندينال (2007) أجساد غريبة، مسرح العرائس والجمادات (ترجمة: أحمد غانم) القاهرة: وزارة الثقافة، إصدارات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، مواضع متفرقة.
شاكر عبد الحميد (2012)، الغرابة: المفهوم وتجلياته في الأدب، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب، العدد 384.
Wilson, Eric (2006) The Melancholic Android, on the psychology of sacred machines, N.Y: state Univ. of New York
كمال العيادي (2013)، أرواح هائمة، نصوص، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة.