أدرك الانتظار نصاب الصبر حوْلا وأيّاما عسرا. غلق التقى أبواب الحواسّ، وفتّح عليه بابَ الرّيان يدخله الخيال من أيّ نعمة شاء، فيستعين القلب باليُسر القادم على العسر المقيم، ويتأسّى الجسد الذي صام عن زينة الدّنيا ورذائلها المحبّبة إليه حتى ذوى قبل الأوان.
تسجّى. اللّحيةُ حتّى منحدر أضلع شُدّت بجلدة البطن الضّامر. والقميص الذي كان في صُرّة الصدقات الأخيرة أوسع من جسمه المنخول، وأطول من قامته الناشفة. بدا فيه كغريق يخبط في بحر السماء المكفوف ولا جذع من الأرض يطفو فيُنجيه ولا غصن من الجنّة يتدلّى فيرفعه.
من تحت الكُمّ الأبيض، تطلّ أصابعه ناحلة سمراء قاتمة كديدان تخرج من جوف الطين الحمئ، يمشّط بعضُها مرج الشّعر الرمادي على صدر بُرّزت تضاريسه، وتذهل الأخرى على حبّات السبحة تمرّرها إلى الخلف خرزة تلو خرزة. شفته ذات الصدوع خشعت هي الأخرى ترتّل تسابيح خاوية الرّوح سوى ما درجت عليه من انتظام صارم برمجه التّكرار.
تتوقّف شفتاه عن الحركة. تحفّ ريح العصر المقرور من فُرج ما بين خشبات الباب المخلّع فترجف ركب «خميسة» وتسكن يداه. يرشق عينيه الذّاويتين في السّقف. أعمدة من فروع الكالبتوس تتمدّد عرضيّا على مستطيل جداري من قوالب الآجر المقوّى بطبقة رقيقة من ملاط تشقّقت جوانبها، وتندّت زواياها العليا بفعل القطر المستمرّ مدى الشّتاءات الغابرة. يشدّ الأعمدة خليط من القشّ والطين والحصى لتسقف غرفتين متلاصقتين. يُسَرّ «خميس» لما يرى.. مروج الوهم خُضْرا ومزهرة تينع بين تقاطعات أعمدة السقف، والفنار المتدلّي دخِنا أعمى الفتيل يشعّ بنور سنيّ.. يبرق فرح شاحب في أثلام الفم القائظ وعلى حوافّ السواد المنيخ على وجنتين تحدّبتا لفرط النّحول.. تتباعد شفتاه في هيئة من يتهيّأ للكلام ولا يدرك جهدا لحرف واحد فيظلّ الفرح معلّقا على صفّ بنيّ من أسنان دبغها التّبغ، مترقرقا على جناح ريح آسنة تصاعدت من جوف اجتاف لطول الجوع الطّوعيّ.. المَلَك ينقطعون إلى العبادة لا يتغشّاهم رهَق أو فتور. أدواح السّندس تُهزهِزه ما بين رفق ولين، والحور كعوبا أترابا يحففن به.. سبحان الله وبحمده سبحان الللـ.. ينشج بلا دمع.. الأرضيّات اللاّئي استمرأ في خبئه حسنهنّ يتجدّدن عذارى لأجله كلّ صيحة ديك، يجلسن صاغرات مِلْك يمينه وشماله وما بين يدي شهواته يطعمنه ثمرا هضيما لم يعرف له في الدنيا سميّا، يسقينه خمرة ممّا اشتهى كثيرا في حياته ولم يُصِب دون لا يقدّم بين أيديهنّ بثمن ولا لهنّ أن يتمنّعن على جسده الفقير حتى نسغ العظم..
وسّعت شفتاه ما بينهما لابتسامة أكبر.. يا الله يا كريم.. !
الجارة الشّابّة «جنّات» منيبة له هي الأخرى.. تخفض البصر وترفع السحر فينثني عودُها على روعة التقاسيم، ويمتاز التّفصيل فيها عن التفصيل، وبالتّمايز تكتمل عليها فتنة التّفاصيل كأنّما قُدّت من خياله الطّين إذا تحمّى في فرن الشيطان.. تنتفش خبائث نفسه كلّها بحركة ماكرة من عصف الحنين المترب، يلبس وِلدان الجنّة المخلّدون أجساد سُمّاره القدامى في زوايا المدينة المنتنة أو في غتل الأشجار مرمى مسكنه، فيتلمّظ حَبّ الفول «المُدمَّس» في صحنه البلاستيكيّ مسودّ الحوافّ ورغوة النشّوة في عبوتها الرّخيصة، ويخضّ دمَه الرّاكد في مسايله الشّوقُ المُزّ إلى سيجارة يتخيّر عُشبتها بنفسه، يفتلها بيديه، يشربها على أشدّ من المهل.. يحشر يده رجفى تحت وسادته حيث دسّت له «دوجة» واحدة غامزة بطرف ناصل كسيخ لهيب.. يختلس السّيجارة مستترا عن أهله وضميره التّائب، يتلمّس لفافتها رعِشا، يتشمّمها لهِفا، يلعقها نهِما، ويهمّ يقطع توبته لحين نفَس يحرقه وجرعة تخدّره ولحم نديّ يلامسه.. تتفتّح «جنّات» ذات العقدين في ظلمة الجوع وردة كالدّهان، تنسدّ أمام عين الخيال ذرائع الوهم الأخرى.. لا يرى من نعمة يُجزاها إلاّها.. قطعة، قطعة تلقي الشّابة أثوابها عن جسد غامت في فورة الرّغبة تفاصيله التي كان يستطيع في سالف أيّامه تصوّر أبعادها الجغرافيّة وامتدادتها الشّبقيّة في جسده.. يعرق.. تندى روحه الجافّة، ترتعش أطرافه الباردة.. يقِفّ شعره.. يخضّه الحرّ والقرّ دُوَلا.. يفقد آخرَ الهدوء فيتنضنض مكانه كمن يجاذب الموتَ روحَه.. تنتبه إلى مخاضه زوجته، تقبل عليه لهفى تمسّد، تبسمل، تتمتم بأدعية مخلِّصة، تمسّح على شفتيه بالعسل مسهّل طريق الرّوح إلى الله.. ينتبه «خميس» إليها فيعيده حضورها إلى مفرشه الشّظف على حشيّة مهترئة، تحت سقف من طين فتعود أصابعه المنفعلة للنّقر المتوتّر على جُنوب الخرز، ويتلجلج لسانه.. أستغفر الله ..أستغفر الله.. أستغفـ….. يشرق في ريق شحيح وحرقة خلّفتها حلاوة العسل المنسربة إلى حلقه فتتولّى عنه «خميسه» الاستغفار والتسّبيح..
يستردّ «خميس» سكونه الأوّل قليلا فآخر وتأتلق طمأنينة شاحبة على مساحة الدّكن تحت جفنيه.. ثوبه الأبيض على رفّ الاسمنت من مسكنه المتهالك وأطايبه: المسك والعنبر والكافور وقنّينة عطر الموتى بحجم الإصبع في درج الخشب المتهالك. الحمد لله قلبه طيّب رغم مساوئه، وطبعه الخير فلم يجد عُسرا في الإنابة ولا ضلّته دروب التّوبة. قضى كلّ ديونه بما جمعت بناته من عملهنّ. أرسل زوجته تستعتب عنه ممّن أذنب فيهم وتسترضي من جارَ عليهم. قطع حبل صوته الخشِن عن الغضب النّزِق والسّباب اللاّذع واللّفظ القاذع.. عطّل نهائيّا عادة الكذب والغِشّ المستحكمتين فيه. صام كفّارة أيمانه المغلّظة، وخياناته المتكرّرة، وما طفّف مدى نصف قرن في الكيل والميزان والحسنات.. تعوده «جنّات» يوميّا لتطمئنّ عليه، تجلس على حافّة آلامه شفوقا كنسيم حييّ يهسّ رخيما خلال شبك الغصون فتتولّه الحمّى في أعطافه، فتنتهز زوجه الفرصة لتصرفها عنه ويذهب قلبه على إثرها يقفو عطرها الرّخيص يجنّنه ويتلصّص عليها من نافذة الشّهوة المستنفرة ممنّيا نفسه بـ «يُحشر المرء مع من يحبّ»..
يا كم أُحبّ.. ! أستغفر الله، أستغفر الله..
«خميسة»، كعادتها، تذهل عمّا حولها. تجلس إليه متعبة على حصير من خيوط بلاستيكيّة تفرشه فوق أرضيّة اسمنتيّة حرشة، ترخي رأسها على ذراع ينغرز كحطبة يابسة في فخذ ناشف فيقطّع النّوم هدأتها. تتضوّر من يبس المجلس، تعدّل جلستها كثيرا، تتّكئ حينا على جنب لا يقدر على حمل نصفها الثّاني وتعود بعدئذ تبحث عن هيئة مريحة فلا تعثر عليها فتتعلّل بطرد دجاجات ينبشن بين مواعين الطبخ، أو كبشها «عنتر» يبذر بعره حيث يشاء لتفرّ من رهق السّكون، وتروح تدبّ كنملة عجوز معصوبة الرّأس ومفاصل الرّكب، مهزولة الجسم، تعرج يوما ويوما يستوي خطوها المهزول، قائظة الوجه كليمونة شاخت، عجفاء كشجرة يفتّتها السّوس في صمت دؤوب.. تكنّس الحوش المُحصب بين السّاعة والأخرى من جثث الطبيعة الجفيف وبعر الشّياه وفضلات الدّجاج، تمرّ جنب الأتان باستمرار، تُعلفها وتتفقّد ماء الخزّان المعدنيّ المشدود إلى عارضتين تستندان إلى ظهر الأتان حين جلب الماء.
الحمد لله. الماء متوفّر.
وتعود تعدّ النقود التي هرّبتها إلى مخبأ سريّ بقنّ الدّجاج تحسّبا.
لن يطول به العمر.. تتنهّد.. لا مردّ للقضاء.
تتأمّل مغتمّة مربط بقرتها «فرْحة»، تزفر حسرة وجيعة، تغمغم..
بِعتِها يا «خميسة»؟ ذهبت حبيبتك «فرحة» ولن تعود.. !؟
ولكنّك تحتاجين مالا لأجل مصاريف المأتم القادم.. ما لك يا امرأة..؟
يتأمّل «خميس» زوجه. يجد دائما متّسعا من الصّحة ليفحص جسدها المجدب بين شفقة ويأس مريح. سيرحل إلى ربّه وستقضي هي من بعده ما كُتب لها من عمر الشّقاء الباقي. صبرا قليلا يا «خميسة» غدا تكونين سيّدة نسائي بالجنّة..
كان قد هجر الحياة واعتزل النّاس وسعْيهم، وأجبر بناته أن يعتزلن العمل اليوميّ في الحقول، ويضربن على جيوبهنّ وأحلامهنّ بالحُجُب. يعلم أنّهنّ لا يصلّين حتى يريْنه يخرج من غيبته، فيتسابقن إلى سجّادة السّعف المهترئ الوحيدة، والسّبحة الملقاة حيث لا يعلمن. يجالسنه على الحصير المتآكل في ورع وخشوع مصطنعين، يعْدُدن أنفاسه، ويتهافتن على رغباته يلبّينها حتى أتفهِها لقاء رضوانه عليهنّ، وحين يغفو أو يدّعي الغُفُوّ يتجاذبن في شره مستجَدّ حديثا فاحشا لم يعتدنه عن رجل ما يمرّ بسور القصب، يلقى همسة خليعة لا يعرفن لأيّ منهنّ تحديدا فيتنازعن عليه في صمت متنمّر من شُرف الخيال المرتفعة، ومن شقوق الباب الخارجيّ المُعَدّ من عيدان غليظة تصل بينها أسلاك حديديّة رقيقة. يغضّ «خميس» عنهنّ السمع ويستغفر لهنّ.. سيكنّ لي من بعدي صدقات جاريات يثقلن موازيني.. سيقولون: طوبى له. أكرمه الله بسرطان قرض جوفه وأعتق رقبته من النّار.. مات خفيفا كخردلة وخلّف بنات ابتُلي بهنّ في حياته فدخل فيهنّ الجنّة..
طيّب، ورزقهنّ من بعدك يا «خميس»..؟
تتكثّف حسرة في حلقه، تتحجّر فلا يجد كيف يكتمها فتندّ عنه قويّة موجعة تعقبها سعلة جافّة حادّة يحتقن لها وجهه وتجحظ عيناه ويصير رأسه المثقل يحطّ على الوسادة ويرتفع.. تهرع إليه زوجته بجرعة ماء فيمسك بتلابيب فستانها الوسخة يحدّثها فلا تسمع وجيب القلب..
«خْميسة»، أنت امرأة طيبة ومخلصة، ولكن.. هل يجب أن أتزوّجك ثانية هناك..؟ لو على الأقلّ يتغيّر طعمك، لونك، رائحة الرّوث في لحمك الجافّ.. لو تسمنين قليلا.. قليلا فقط.. سوئي كثير عليك وجسدك قليل عليّ.. تعاوده نوبة الاختناق.. تفزع البنات المتحلّقات حوله.. ترتاع «خْميسة»، يفجأها ما تحسب أنّه الموت فتصفرّ، تخضرّ، تشرف على الإغماء وتستدرك تبسمل، تسبّح، تعدّل هيأته، تسوّي عليه الملاءة وتطمئنّ إلى أنّ القِبلة وجهة مسجاه، تنهر بناتها الجزعات أن اُخرجن وأفسحن للمَلك العتبة، هو ذا يستقبله مبتسما.. لا تشغلنه عن الذّهاب ببكائكنّ.. وتحرّك شطر جذعها الأعلى غدّوا إلى آلام تمزّق أحشاءها بمواس مضاء، رواحا إلى زوج يغادرها كأنْ لم يقض معها سوى بضع يوم أو أقلّ، تسبّح وتكظم دمعها لأجل أن تنسل الرّوح السّعيدة مطمئنّة..
لبس الطبيب قفّازيه. أقبل عليه. فحصه مليّا. عاد إلى مكتبه يتأمّل ملفّه الطّبيّ من جديد. عقد الأسى على حاجبيه. رمرم. قام. قعد. ورّق ملفّا آخر إلى جانبه. هاتف أحدا ما. رطن بلغة أجنبيّة. ضحك يحرّك رأسه في صيغة النفي. وجم يعلّق بصره بالسقف. زوى شفتيه. سهم هنيهة. اِنبسط. رفع «خميس «السّبابة اليمنى يتلو الشّهادتين. وضع الطبيب النّظارة عن عينيه وبسمة بلا ظلّ على شفتيه. وسّع «خميس» صدره الحرج للبشرى.. الكبش «عنتر» يقدم إليه من أعالي السّماء أقرن ممّا كان، أبيض جدّا صوفه النّقي.. نضرت عليه تجاعيد الموت، أسفر الوجه.. عبس الطّبيب. بسر. نظر إليه. خفض عنه البصر. حمحم. سعل يعالج خبرا لم يعرف من أيّ طرف يأخذ به..
– حسنا، في الواقع يا «خميس»، ماذا أقول؟ إذن، صحّتك عموما جيّدة، ولا تشكو من أيّ مرض خبيث كما توهّمت. بقي أن تعتني بغذائك.. سـ..
تقطّعَ الخبرُ السّعيد في سمعه على وَضَم الفجع، وتناثرت كلماته مِزَقا في قاعه الفارغ كورق سقيط..
شعرت «خميسة» بفتور غريب يغزو عمودها الفقري. ثقل عليها الجلوس إلى موقد النّار. رفعت آنية طينيّة كانت تُنضج عليها خبز المساء. نشّت الأثافي لطشيش الماء رذّ عليها وانتثرت دقائق الرّماد. دلفت حيث أعدّت مفرش زوجها الذي لا شكّ يعود الآن من عيادة الطبيب. رتّبت من جديد دنان الماء مختلفة الأحجام والألوان، خفّفت الركن ممّا فرغ منها أو قلّ حملها ورصّفت الباقي لتوسّع الغرفة أكثر ما يمكن. سحبت من صرّة تحت الخزانة ملاءة شبه جديدة نضتها وألقت بها منكمشة على مواعين الطّبخ بالركن. بسطت إلى جانب مفرش «خميس» حشيّة بالية وتمدّدت عليها تتوسّل قسطا من الكرى حتى يعود.
كتفت يديها على صدرها ورفعت ركبتيها لتُريح ظهرها ثم لم تلبث أن مدّدتهما. اِرتخى الفستان الطّويل حتى الكاحل النّاحل. ران هدوء شفيف على وجهها المكفهر. دفع الكبش «عنتر» الباب يجرّ نسيما رائقا رغم برده. تحرّك المصباح النفطيّ المعلّق بالسقف. دنا «عنتر» يتشمّمها وقد بدا أبيض من لونه الأوّل، بارق العين على نحو غريب.. اِبتسمت له وأغمضت تستمرئ شفته المندّاة تلثم قسماتها الذّاوية..
جزع «خميس»، صرخ روْعا..
– ماذا تقول يا دكتور..؟ بخير..؟ في صحّة جيّدة..؟ ولكن..
هزّ إليه الطبيب برُطب الشّفقة..
– نعم، بألف خير وعافية. تهانيّ..
بهت «خميس» ممددّا على سرير الدهشة الأبيض تُعْشيه أضواء مصباح كهربائيّ يتسلّط على وجهه الدّكِن ويُعمل مذراة الضوء في هواجسه فتتذرّى قشّا ونُتفا وقِشرا وتظّل نفسه إثرئذ أرضا زلَقا لا يثبت عليها حلم ولا وهم ولا حتى بعض جدار من صبر يُسنده حين اليأس يهدّمه.. أحسّ الأرض من تحته انسحبت وتجافت عن رأسه سماء كانت قبل نيف من الوقت ترخي إليه درجا من حرير..
صار يهضل ماء يسيح على جلد رقّ على العظم، يتخلّع بغَتا روّع الفهم. يصطك رعبا من حياة ورطةٍ تتأبّط ذراع موتٍ خلاصٍ ويتفسّحان معا في دمه عاشقين ماكرين.. تحسّس ربِكا فجِعا أعضاءه بأشدّ من عاداته في التنصت الذّاتي.. لا وجع يداد في عظمه وكلّ شيء فيه كامل بعد، مستقرّ مكانه على حاله إلاّ لحمه الفائض عن حاجته ذهب أدراج سنة التّوبة الأخيرة حتى تاه جسمه في نصوع القميص الطّويل ووجهُه في ظلمة الشّعر الكثيث.. ضحك بعض ضحكة خرقاء مختصرة. جهم. قطّب. ضحك أخرى، أعول بلا دمع. اِنكتم. نشب بصره المرتاع بالسّقف.. حياد مقيت ولا جنّة، لا ثمر، لا حِسان يتفسّحن به عرض الجنان.. والجارة.. !؟
نطّ إلى ذهنه في سرعة مرعبة مكانه من قارعة الرصيف الحافي..
مفرشك الكرتون ملقى على يباس بانتظارك يا «خميس».. ترتمي عليه كلّ يوم كُدسا بشريّا جنب أكداس تلو أكداس تداخلها أكوام قمامة، فضلات بشرية يضوع شياطها في الأفاق، بقايا مجون في زاوية كشيفة.. ملابس مستعملة للبيع، نساء مستهلكة للمتع، وجوه مستنزفة من جوع، سواعد مكدودة، عيون فتيّة جريئة، شفاه تجترّ شهوات فاضت عن المحاجر، عملة مزوّرة، بضائع مهرّبة، سلع قديمة وبشر من فرط الجدب صاروا أقدم من أخلاق لا يرتدون سواها.. تهفّ عليك «جنّات»، تقتني منك مناديل أنف وتنقدك لحظها باهظ الجمر بدل ثمن ما تقتني.. تجلس متربّعا أو ككلبك المرقّط تُقعي. تعدّ الشّاي المركّز في برّاد صدئ، والبيض المسلوق في قدر سوداء، وتخبّئ لزبائنك الخُلَّص لفّة قِنّب، علبة سجائر مهرّبة، رقم هاتف امرأة لا تشطّ في ثمن المتعة، عنوان عرّاف يحلّ عُقَد أزواج، ويعقد أخرى لآخرين.. « دوجة « تثني ركبتها العارية، تسوّي مليّا غطاء رأسها فتلاحق شعرة نفرت منه على جبينها أو طرف عنق تعرّى للعيون، تشمّر الكمّ حتى أعلى الزّند الثّريّ وتنهمك تعدّ خبز «الملاوي» لعابري المحطّة، حسنها الغدِق يتربرب لكلّ حركة، ويتخلّع قلبك المدلّه.. تنتبه إليك فترجمك بنظرة لظى متبّلة بشتيمة لاذعة.. لا حاجة لها بمعدم مثلك تذكّرك، جسدها نزل فخم تقول، من شاء البيات فليدفع فاحشا أو ليكتف بكِسَر الخبز اليابسة، وتغمز تذكّرك بـ «خميسة»..
– لكن يا دكتور.. أرجوك .. أنا.. لا.. حسنا أقدّر المسألة. أنت تشفق عليّ من الحقيقة.. أعلم.. المرض أكلني من جذوري.. إني راض وسعيد، فقط صار يرهقني انتظار السّاعة. المهلة الأولى تجاوزتها بأشهر.. كم تقدّر أنّي سأحيا أيضا.. !؟ «عدّة من أيّام أُخر».. هه؟ ليكن، لا بأس..
ضحك الطبيب ملء سنّه فنفرت الدّماء تحت بشرته المصفرّة، وغرقت عينه في بركة من دمع محمرّ. وزّع نظراته الضّحوك عدلا خبيثا بين بنات خميس الذّاهلات فكففن حزنهنّ واغتاظ أبوهنّ معتكرا كمستنقع موحل..
– أنت فعلا سليم ممّا كان يؤرقك يا رجل. اِطمئنّ، ستعمّر طويلا بإذن الله..
اِنقبض. راوده الاختناق وشعر بصدره يضيق وينغلق كأنّما الرّوح تعود إليه من حرف السماء الأخير على مضض، تُرْنف منه على كهف الأنف وتحرن تأبى الغوص في غور الصّلصال الظلِم من جديد. ختم الصّمت على فمه حتى لم يجد في ذهنه ما ينظم به عقد الكلام الذي انفرط منه عليه كشُهب تُلهب اللّهاة، وتفطر لحم الشفتين المشققتين..
قوّم ظهره في قنوط. دلّى قدمين ناحلتين كمقطعي خشب أعجفين واستقام على عوج وذبول. هرعت بناته يسندنه فنهرهنّ. وقف مترنّحا على شفير الذّهاب. مساء الجمعة دخل مخدع الليل، والمدينة كنّست من على رأسها كلّ قشر البرتقال. كابي اللّون صار وجه المدينة، لا ألق في الأفق ولا آخرة تغازله بآلائها الناضجة.. داهمه دوار المرتفعات فخايله السّقوط كأنّما على ذروة جبل «نوذ»1 يقف، آدم الأخير وقد نبذه ربّه بالعراء تتناءى منه الأرض، تتجافى عنه السّماء، يفقد جسده رقصة الرّوح على مسرح الغيم، صلابة الطّين المُسوّى بيديْ ربّه، فوْح التّراب البليل، انسجام العناصر المتضادّة تحت خبء الجلد ولا يعرف من أيّ باب يذرع حقل العمر الجديد، ولا من أيّ مكان يزدلف مجدّدا للحياة وحيدا، وقد فقد مهارة العيش الصّعب، وتقنية الشّبع في زمن السّغب اليوميّ..
سار يجرجره الذّهول. يتساقط في درج البناية شبه المضاء فيعثر فتتلقّفه بناته فيتجافى عنهنّ كأنّما يلدغه شوك من أذرعهنّ الشّفوق. كان تخلّص من عبئهنّ وأوكل شأنهنّ لربّهنّ وأمّهنّ، فيما أودع الرّوح على شفة السّماء ترتقب أن يؤذن لها بالعروج إلى مساكن المتطهّرين.. كان فرغ تماما من عوالق الدّنيا أنّى له الآن يحملها من جديد.. !؟
لفحه صُراد المساء الخريفيّ. تقفقف من برد عبر جارحا إلى عظمه. صار يرتجف، يصطكّ، يلوذ بعضه ببعض فلا يجد ملجأ فيه منه كأنّما طينه يكتشف هواء الأرض لأوّل وهلة.. أوجاع غريبة استنفرت في مفاصله، وفوضى عرمت في جوفه الذي انبرى يبقبق من جوع فيسمع لأمعائه شكوى الطّوى المضيض.. لا يمكن أن أكون بخير، هذر.. لا يمكن.. لم يحسن الطّبيب التّشخيص أو أخطأ الملفَّ ربّما.. نعم، بالتأكيد أخطأ..
اِنتزع نفسه من ذراع إحدى بناته وتحامل على تداعيه يكبّ في الدّرج ويستقيم نحو العيادة من جديد. دفع الباب ولم يستأذن. تهالك على الكرسيّ يتدارك نفَسه.
– من فضلك يا دكتور. اُعذرني، هلاّ أعدت قراءة الملفّ الذي اصطحبتُه معي..؟
– لماذا تصرّ على أنّك تموت من سرطان خبيث يا صديقي؟ أنت بخير.
– زميلك الذي شغل العيادة السّنة الماضية قبلك هو من أصرّ على ذلك. أمهلني ستّة أشهر فأشرفت على السنة الثانية حيّا.
– هذا ليس ملفّك يا «خميس»، لا شكّ أنّ صاحبته توفّيت منذ أشهر. مرضها كان متقدّما جدّا.
– أستغفر الله.. يا دكتور، بالله عليك لا توجع القلب أكثر.. هذا ملفّي جلبته من منزلي وفيه كلّ فحوصات السّنة الماضية. في الواقع رشوْت ممرّضا فاختلسه لي من أرشيف مستشفى عموميّ غفر لي وله الله.
– للأسف، سقط حرف من عين الزّميل فأخطأك في التّشخيص. هذه الفحوصات هي لمريضة تدعى»خميسة»..لكن كيف وصل ملفّها إليك..؟
– «..فقال عليّ وابن عبّاس وقتادة وأبو العالية: إنّه (آدم) أُهبط بالهند على جبل يقال له نوذ من أرض سرنديب..» ابن الأثير- الكامل في التاريخ الجزء الأوّل – دار الكتاب العربي ص34.1 .
———————-
بسمة الشوالي