أن تحاول الدخول الى عالم يوسف عبدلكي أحد اعمدة الفن التشكيلي السوري المعاصر،والعالمي الشهرة، هذا يعني أنك تقترب كثيراً من شرفة تطلُّ على عالم الجمال والمعرفة والمكنونات الداخلية التي تمور بالرؤى والاحلام والحكايا النابعة من التوق إلى شرفات الحرية التي ما غادرتنا يوما، أعمالٌ تحمل تفرّد عبدلكي في قيم الجمال، والانزياح إلى مشروعه الخاص الطالع من دمشق..
دمشق المدينة التي ترعرع ودرس فيها، مرورا بمدينة القامشلي مسقط رأسه، بتشكيلاتها الدينية والقومية المختلفة، والتي تختزل قيم التسامح التي نتوق إليها اليوم.
حين نقترب من رسومه نلمح حكايات شرقنا الغارق بالرمادي،والجامع بين المتخيّل والواقع، والحكايات التي تثير فينا لذة الاكتشاف والتساؤل خاصة اذا كانت هذه القراءة لمبدع واستاذ كبير أغنى الساحة التشكيلية بلغة بصرية ترجع لأكثر من ثلاثين عاما، ولتجربة جمعت بين الجرافيك والكاريكاتير وتصميم الملصقات والأغلفة، والشعارات، انطلق في هذه القراءة لتجربة عبدلكي، من سؤال كثيرا ماطرحته أجواء الثورات العربية، أين المثقف من هذه الثورة، وأين دوره من هذا الحدث الكبير، وهل كانت هناك إرهاصات تستشرف ما آلت إليه الأمور؟
غليان الواقع:
من يقف أمام لوحات عبدلكي يرَى غليان الواقع، وجدلية الحياة والموت، الطغيان والسلام، الأبيض والأسود في تدرجاته، ويلمس الاغتراب والتوق إلى الحرية، ولأن قراءة الفن تشكل في إحدى ظلالها دعوة القارىء إلى الكشف والتأمل والإنصات لصوت الإنسان فينا فإنّ الإشارة إلى أي عمل فني، معناها أن نتبادل سحر اللوحة لنكون ظلالها، وربما ضوءها كونها تعكس روح مرحلة ما، وربما روح الإنسان بالمعنى الكوني، فالقيم التي اشتغل عليها عبدلكي تصلح لكل زمان ومكان، ومنها الحب، الحرب، الصداقة، وقوى الطغيان، ليؤكد من خلال هذه القيم على خصوصية المكان بلغة بصرية تحمل الكثير من المعاني والرسائل، قارعا باب الإنسانية كي ننتبه، وكأنها رحلة في الوجود كله، من هنا ومن خلال قراءتنا لتجربة عبدلكي المتنوعة، نرصد بعض مراياه في الهجرة والاغتراب، والاعتقال، الذي شكل له هاجسا فنيا وحياتيا، وهاهو يعتقل وللمرة الثانية من قبل نظام الأسد في صيف يونيو من عام 1913.
عتمة الرمادي:
المتتبع لتنوع النتاج الفني لعبدلكي، يلحظ ملامح تصديه للقمع وما تمارسه الأنظمه من إرهاب فكري يتحوّل الوطن فيها إلى حاجز بيننا وبين العالم، فما بالك بما يجري اليوم في سوريا حيث تقطعت أوصال المدن وتناسخت الحواجز، وبات تدمير البلاد عن بكرة أبيها جواز سفرٍ واهمٍ لاستمرار الطاغية، فالقمع أوالطغيان بالنسبة إلى ضمير المبدع، رديف مساوٍ لصورة القسوة والظلم وأساليب القمع، والإرهاب المسلّح والعسكريتاريا، وأجهزة الأمن،لهذا ليس غريبا أبدا أن يمضي عبدلكي في أعماله إلى عتمة الرمادي. وتبدياته الجارحة.
: أحصنة تصهل
كان الحصان أول رمز ومدلول شغل عبدلكي، لما يمثله هذا الكائن من دلالات وإشارات فالحصان المربوط حمل دلالة رمزية للون الأسود والرمادي والرصاصي بدرجاته، لون يعطي اللوحة طابعاً بارداً تشاؤمياً يوحي بالثقل والدخول في الرماد، والحزن الكامن في مأساة الإنسان، لكنه لايدخلنا في الركون والقبول، بل يأخذنا إلى التحدي، لأن صوت الصهيل شكّل صرخة ضد الواقع، صرخة في وجه أجهزة الأمن والاستبداد.
انشغل الفنان بأحصنته التي حملت الأضداد، طيلة فترة السبعينات من القرن الماضي، ضمن رؤية تشكيلية تعبيرية حصان وحصان مضاد، حصان قزم وحشي مشوه أقرب للخنزير، وحصان آخر هو رمز من رموز الحرية، لهذا فقد شكّل الحصان خيطا من خيوطه الفنية التي نتلمس فيها الأدوار المتشابهة التي لعبها هذا الكائن في تأسيس الحضارات، ومنها الحضارة العربية، حيث اصبح الحصان من الخصائص الجوهرية التي تمثل الهوية الذاتية والثقافية.. من هنا يتراءى لنا الحصان الآخر المضاد، المشوه في لوحة عبدلكي كأحد التعبيرات عن الخطر الذي يمارس على هويتنا، وعلى رحلتنا في الحياة، ولكن هذا الحصان المشوّه لم يلغِ الحصان الآخر الصهّال، والذي يمثل صورة الفارس وصوت الحرية، فعبدلكي اشتغل على صورة الحصان، في بعدها الميثولوجي، باحثا عن عشبة الحرية، وتأكيد الذات، وقد برز هذا في مشروع تخرجه اللافت من كلية الفنون الجميلة قسم الحفر، إلى أن جاء عام 1978 ، فكان معرضه الأول فاتحة لحضوره كرسام يصوغ لوحاته بالحبر الصيني والفحم، والحفر على الحجر والمعدن، فكانت الأحصنة، وكانت ثلاثية أيلول الأسود التي رسمها بالرصاص، عاكسا موقفه مما يمارس على الفلسطينيين من قمع، ونتيجة لمجمل هذه المواقف، التي صيغت فنا، فقد تعرّض بعد هذا المعرض للاعتقال، وغيبه نظام الأسد عامين، وبالتالي كان الرسم في السجن، الذي منحه منصة من منصات التجربة داخل الأسوار، ومساحة من مساحات اكتشاف الناس والاقتراب منهم.
أسئلة وجود:
ولأن عبدلكي حامل لأسئلة الوجود والحرية، فقد كان انتماؤه إلى رابطة العمل الشيوعي، التي جمعت الكثير من الشباب والمبدعين الحالمين بوطن حر تحت مظلتها، وكان نصيب غالبيتهم الاعتقال والتهجير، وموت بعض هؤلاء كالقاص «جميل حتمل»، الذي مات في باريس، واعتقال وهجرة الشاعر فرج بيرقدار، والقاص ائل سواح، والسينمائية هالة عبدالله زوجة الفنان ورفيقة دربه، وأسماء كثيرة حملت في ثنايا إبداعها رؤية استشرافية للتغير، وإرهاصات الثورة كالشاعر حسان عزت، الذي كتب في التجليات أسماء الأصدقاء وملامح المرحلة، وكان يوسف عبدلكي وهالا بين هذه الأسماء التي حملت إرهاصات التغيير، ودفعت الضريبة كبيرة، في الماضي وأعني في الثمانينات من القرن الماضي، واليوم أيضا من خلال مشاركتهم في المخاض الصعب للثورة السورية.
فليس غريبا أن يقرن إسم يوسف وهالة في «تجليات» حسان عزت الذي رصد من خلال القصيدة مرحلة بأكملها، الحب الصداقة الاعتقال، وتباشير وإرهاصات الثورة التي تفجّرت بعد عقود ثلاث من كتابته للتجليات.
«ثلاثةُ آلاف سنةٍ
ثلاثةُ آلافِ جثةٍ مقددّة
تتقدّم إلى الحارات والزواريب
حاملةً التاريخ الأسود الأسود
المليء بالصّديد والبول والأنيلين
أطلّق مهاريك في الكون يوسف
واحتدمْ بالدمار
أيها المزدهي بالرمادي» (1)تجليات حسان عزت
منظور شرقي وغربي:
غادر يوسف عبدلكي إلى باريس في الثمانينات من القرن الماضي بعد خروجه من السجن، ولم ينس أن يحمل معه تفاصيل الحنية، والرائحة، والعشق، وثيمات اللوحة،
هذه الرحلة قادته إلى علاقة فنية حملت بعد المزاوجة بين المنظورين الغربي والشرقي، في معالجة علاقة الكتلة والفراغ، وهنا تستوقفني لوحته « جمجمة في صندوق» والتي تعامل فيها الفنان مع الكتلة والفراغ، وكأنه يريد القبض على الفراغ، ما يدفعنا للتساؤل: هل الفراغ في اللوحة مساحة من مساحات التأمل، أم مساحة من مساحات القلق والتوتر الوجودي؟ وهل عكس يوسف فنيا الفراغ الذي واجهه في الغربة، بعد أن كانت حياته في الشام مليئة بالحنية، والأصدقاء، وحلم التغيير؟
يلتقي الفنان عبدلكي مع صرخة «غويا»، كونه لم يخفِ موقفه المنزاح إلى الضحية، فالظلم مثل الحق يمتلك قيمة مطلقة تتجاوز الزمان والمكان، طبعا تحضر إلى جانب لوحة «جمجمة في صندوق» لوحة «حصان مربوط»، ولوحة لكائنات مسمرة بالمسامير، لوحات تعانق نحيبا مختومابالشمع الأحمر، هو ختم المؤسسات الثقافية المتشددة والتي هي ظلال لصورة الطاغية المستبد.
ثيمة كابوسية:
في شتاء 1999، أقام عبدلكي معرضا في القاهرة، كان تيمة أعماله في هذه المعرض وخصوصا لوحات الحفر على النحاس، ثيمة كابوسية، تبدت بوجوه مسخ، وبكتل ملفوفة في أكفان مرصعة بالنياشين والأوسمة والأوشحة، عالم أشبه بشخصيات رواية «خريف البطريرك» لماركيز، حيث تبدو رؤية عبدلكي الاستشرافية لمايحدث في سوريا اليوم، عالما كابوسيا أشبه بنهايات سلطة بائسة، ترسم مصيرها الملفوف بالأكفان.
وهو ما يذكرنا بسلسلة الذبائح التراجيدية في التصوير الغربي، والتي تدين العنف حتى على الكينونة الحيوانية، ابتداء من بقرة رمبرانت المعلقة في المسلخ، إلى خنزير فوترييه المعلّق مسلوخا على جدار المطبخ، مرورا بذبائح دجاج وديكة سوتين، وأحصنة مارينو ماريني، وهنا تقف أحصنة عبدلكي المقيدة ، لتسحب مأساة الذبح والقمع الذي يمارس على البشر في توظيف فني تعبيري صادم لايتركنا حين نمضي.
طبيعة صامتة
ونسأل ما الذي دفع عبدلكي في معارض لاحقة ليرسم فردة حذاء، أو سمكة، أوقطعة عظم، اوفرع شجرة، رأس بصل، أوثوم، وغيرها من الأشياء العادية جدا، ما الذي دفعه إلى رسم الطبيعة الصامتة، بطريقته التعبيرية؟وبالتالي كيف استطاع تحويلها إلى موضوعات جادة تحمل في ثناياها عمق الهم الإنساني؟
اسئلة كثيرة تجيب عليها لوحاته التي رسمها بالفحم، حيث نلحظ تكوينا لكتلة داخل فضاء اللوحة يتناغمان معا، ويشيران إلى خصوصية هذا الفنان وتفرده بهذه التعبيرية البصرية التي تجعل المشاهد يسأل لماذا الحذاء، والسمكة، وكأن التحدي التشكيلي يكمن في خلق الجمال والمعنى من التقشف.
كيمياء ودلالات:
في شبابه الأول ركز عبدلكي على أسئلة الوجود بين الحرية والواقع، ومضى نحو الكاريكاتير مستفيدا من قدرة هذا الفن على المد الشعبي،فالرسم لايقل أهمية عن أي نص، أو عن أي منشور سياسي،وقد نشر رسوماته في مجلة « إلى الأمام» ببيروت، وباللونين الأبيض والأسود، مستفيدا مما يحملاه من كيمياء خاصة، من هذه الرسوم صورة السكين والطاغية.
فليس غريبا أن يكون تعبير عبدلكي في اللونين الأبيض والأسود، ومحاولة السيطرة على مساحة اللوحة بهذين اللونين وتدرجاتهما، فقلم الفحم ورأس الحبر الصيني وأداة الحفر الجرافيكية، أدوات تتطلب القسوة والدخول في لعبة التشكيل التعبيري، وهو ما أكده يوسف في أحد حواراته: «عندما أمسك بأدوات الحفر فإنني أفكر في هؤلاء الناس الذين أسعى للتواصل معهم، وأرسم بالأقلام لأتغلب على الإحساس بوطأة الألم والزمن»..
رماد الفراغ:
يبدو الفقد واضحا وصارخا في رسوماته للطبيعة الصامتة في تجربته الجرافيكية ، التي بدأت تظهر منذ تجاربه الأولى لتتبلور في عام 2005، حيث يبدو الفراغ أمام الكتلة رماديا وقلقا، فلوحته التي رسم فيها الجمجمة فيها إشارة إلى الموت والفناء، بينما تشير لوحة فردة الحذاء إلى الفقد والضياع،وكأن حذاء سندريلا يعود للحكاية من جديد، حيث تتراجع منصات الفرح، لهذا يأتي محترف عبدلكي محاصرا برماد القلق، وبالتالي تشكل عناصر الطبيعة الصامتة ثيمة من ثيمات التجربة حيث اكتشاف الطبيعة بعيدا عن البعد التزييني المعتاد، وهو ما أكده مرارا بقوله: «كل الموجودات البسيطة حولنا تستحق أن تكون موضوعا للفن ولوحات جادة مادام التناول جادا وشخصيا».
ضمن هذا السياق تحضر لوحة السمكة، رأس سمكة في صحن، كأس ماء، رسمت(2001)، لوحة شُغلت بدرجات ضوئية، الكتلة أو الصحن تتوسط اللوحة، وكأنه يشير للحياة والموت معا، وربما لما تبقى من حياة أو رمق في مواجهة هذا الفضاء الشاسع من الرماد، الفراغ يحمل ثقل التشكيل، فيتوهج الوجع في الظل، ويأخذنا إلى تجربة الوقفة الصوفية، صوت يدوّي وسط صمت الوجود، الفضاء والكشف عن الكتلة، والفضاء هنا يعادل الوقفة عند المتصوفة لاسيما وقفة النفري، الوقفة تؤدي إلى الكشف عن مفهوم الفراغ الصوفي الذي لايمكن اعتباره مفهوما نظريا ولاتصورا ذهنيا بقدر ماهو تجربة تنشد الأقصى مستشرفة الماوراء، ماوراء كل شيء ماوراء الضدية، وما وراء الأشياء ذاتها .
وعلى اختلاف وظيفة الكتلة والغاية منها، ننتبه إلى الفراغ الذي يضمّها، هل هو فضاء مفتوح على المدى ومكشوف على الضوء من كلّ جهاته..؟ أم أنه فضاء قلق ورمادي يحمل داخله علاقة جدلية مع الكتلة، وتبادل الإقامة في مرايا الموت والحياة معا؟
إرهاصات الثورة:
«أطلق أحصنتك في الكون يوسف
أطلق روحك العاتية
موعدنا اوّل الأرض أو آخرها
اليوم أوغدا.. هنا أوهناك
أو قريةً في الجليل
موعدنا الوردة القادمة
أطلق مهاريك في الكون يوسف
أيها المزدهي بالرمادي».
يوسف ورؤيته الاستشرافية للحظة التغيير التي تشهدها سوريا، الشاعر حسان عزت، ومخاطبته لصديقه يوسف، رؤيته أيضا لهذه اللحظة، تشير إلى جيل حمل الرمادي منتظرا الضوء، وها هو عام 2005 حيث يعود يوسف إلى الشام، ليبشر بربيع دمشق مع مجموعة هامة من الأسماء الوطنية، ويشارك سلميا بريشته الرمادية، فيرسم لاحقا وفي خضم الثورة أمام مشهد القتل اليومي، يرسم الشهيد، وأمه، ويكون شاهدا آخر على زمن يغتلي بالنار والدم والرماد، زمن تراجيدي، لاتزال خطوطه ترسم سجنا بحجم الوطن.
« يناديك غويا
وهالا
ونحن جميعا
أطلق مهاريك في الكون يوسف
ولاتنتظر!
أيها المزدهي بالرمادي».
التجربة مهولة لأنك تقف تحت عشرة من صخور سيزيف، ولأنك يوسف، فإن بيتك الشامي، وحمائمك التي استقبلتنا يوما، الزنبقة وفاز الورد، وعيناك المليئتان بالعشق والانتظار، عالم يضج بالحلم، وكأنك تستعيد حكايات الطفولة، فردة حذاء لامرأة، لاتزال هي تحتفظ بالأخرى، لأنها تنتظرك كي تأتي على أحصنتك جميعا…الشام وهالا ونحن جميعا.