لم يكن الشاعر الأمريكي تشارلز بوكوفسكي (1920-1994)، معروفًا في عالمنا العربي قبل العام 2011 وأحداثه العاصفة، ولم تأتِ شهرتُه وانتشارُ كتبه ونصوصه بعد ذلك على سبيل المصادفة قطعًا. إذ أن بوكوفسكي يمثّل ما بعد الحداثة في أعلى صورها، فهو شاعر الهامش في مواجهة المركز، وشاعر القاع في مواجهة القمّة-النخبة، وشاعر الفطرة في مواجهة الأكاديمية، وشاعر الفوضى في مواجهة النظام، وشاعر الفقراء والعمّال في مواجهة الأغنياء وأرباب العمل… إلخ.
ولم تعد حياةُ بوكوفسكي وأبرز أعماله ببعيدةٍ عن اطّلاع القارئ العربي، وهذا ما لن نستهلك الوقت فيه، بل سنمضي رأسًا إلى الغوص في شعرية بوكوفسكي، باحثين في ركائزها ومقوِّماتها، ومُوضِّحين سماتِها الأبرز.
تتميز لغة بوكوفسكي الشعرية بالبساطة والسهولة والعاميّة، إنها لغةُ الشارع دون تحويرٍ أو تجميل، وهذا ما حَدَا بعددٍ من المترجمين العرب إلى استسهالِ ترجمته، وببعضٍ من الشعراء العرب إلى استسهال تقليده. لكنّ القراءة المعمَّقة في نصوص بوكوفسكي، واستبطانَ مصادر ثقافته وخلفيّته الفكرية، يثبتان غير ذلك. أُسمّـي شعرية بوكوفسكي “شعرية الهَتْكِ والتدمير”، هذه أبرزُ سماتها كما أعتقد، لكنّه هتْكُ العارفِ والخبير بتقنيّات الشعر وقواعد الأدب. إذ لا يمكن للشاعر أنْ يخرج عن قواعد أو معايير، ما لم يكن مُلِمًّا بها ومتمكّنًا منها.
تقوم شعرية بوكوفسكي -فيما أرى- على أربع ركائز، هي السرديّة وجماليّة القبح والاغتراب والتدميرية، وسوف أُفصِّل في كل واحدةٍ منها، مستعينًا بقصيدةٍ من شعره، تتجلّى فيها الفكرةُ وآثارُها الشعرية بوضوح.
أولًا: السردية (Narrative):
لا ريبَ أنّ توظيف السرد في الشعر قديمٌ قدمَ التاريخ، وأنّ نظرية الأجناس الأدبية (Theory of Literary Genres) أخذتْ بالتراجع منذ بداية القرن العشرين، إذ تداخلت الأجناسُ واستعارَ كلٌّ منها تقنياتٍ من الآخر. لكنّ الوضع مختلفٌ عند بوكوفسكي، فهو لا يوظّفُ السردَ في الشِعر ويستعيرُ بعضًا من تقنياته فحسب، بل يقدّم نصًّا يتعذّرُ تصنيفه بين قصيدةٍ أو قصة، نصًّا تتماهى فيه سرديةُ الشعر مع شعرية السرد. ميزةُ بوكوفسكي أنّ شعرية النصّ عندهُ تقوم على السردية وحدها، لا على توظيف السرد في خدمة الرمز أو القناع أو المجاز أو الصورة. إذًا؛ هنالك خاصيّتان تبرزان عند بوكوفسكي: اعتماد الشعرية على السردية وحدها، والتماهي الكامل بين السردية والشعرية.
في قصيدة “الرجل ذو العينين الجميلتين” يقدّم بوكوفسكي نصًّا سرديًّا-شعريًّا يتعذّر تصنيفه، إذ يبدأ بوصفٍ حكائيّ لبيتٍ غريب ستائرُه مسدلةٌ دومًا، ولا أصواتَ تسمعُ منه، محاطٍ بعِيدان الخيزران، ولهُ بركةُ ماءٍ فيها أسماك ذهبية. لكنْ قبل وصف البيت يحدّدُ الشاعر الإطار الزمني للسرد وللحدث، وهو زمن الطفولة، وهذا ما أدخلَ عامل الأسَطْرة في النصّ، وجعل القارئ يتوقّع حدوثَ أيّ أمرٍ عجيب، فالطفل/الراوي يؤمنُ بالعجائب ويفسّرُ العالم حسبَ درجةِ وعيِه وخياله الخصب. ثم يستعير الشاعر تقنية أخرى من القصّ وهي بناء الشخصية، فيحدّثنا عن الرجل الساكن في هذا البيت:
” كان في حدود الثلاثين/ يضعُ سيجارًا بين شفتيه، ذقنهُ تحتاجُ إلى حلاقة، وشَعرُه أشعثُ همجـيّ، حافـيَ القدمين، بقميصٍ داخليّ وسروالٍ قصير/ لكنّ عينيه برّاقتان/ كانت عيناهُ تشتعلانِ بريقًا”.
يصبحُ هذا الرجلُ بمثابة القدوة التي يحلم الأولاد أن يكونوا مثلها، لكنّ الأهل كانوا قد أَوصُوهم وحذّروهم من الاقتراب من بيت هذا الرجل. وهنا يرتفع الصراع الدرامي بين طرف يمثّلُ الجمال والقوة والمغامرة وهو الرجل ذو العينين الجميلتين، وطرف يمثلُ القبح والضعف والرتابة، وهم الأهل المحافظون الخائفون. وفي النهاية تنتصر الكثرةُ على الشجاعة، وقباحةُ المجتمع المحافظ على جماليّة الفرد المتفرّد.
في المقطع الأخير يكثّف الشاعرُ النصَّ بأكمله، ويقدّم ما يشبه الحكمة والعظة التي تنتهي الحكاياتُ بها، لكنها ليستْ رتيبةً بل متوهّجة وصادمة. إذ نقل فيها الحدثَ من إطاره الأسطوري والطفوليّ إلى ما هو واقعيٌّ ورشيد:
“بعدها، صرنا نحنُ خائفين…/ أنَّ خلال سنواتِ حياتنا القادمة/ سوف تحدثُ أشياءٌ كهذه/ أنّ لا أحدَ يريدُ لأيّ شخصٍ أنْ يكون قويًّا وجميلًا/ أنّ الآخرين لن يسمحوا بذلك/ وأنّ كثيرًا من الناس/ سوف يموتون لهذا السبب”.
ثانيًا: جماليّة القبح (Aesthetic of Ugliness):
يعتمد مذهب بوكوفسكي “الواقعية القذرة” على تصوير الواقع كما هو، مع التركيز على الجانب الهامشي والبائس من حياة المعذّبين في الأرض. لكنْ من أين تأخذ هذه القباحةُ جماليّتها؟ أعني قدرتها على التأثير في المتلقي شعوريًّا أو فكريًّا. أعتقد أنّ للصدْق مع النفس ومع الآخر دورٌ في تحقيق الإدهاش الذي تتّسم به قصيدة بوكوفسكي، بالإضافة إلى قدرته على التقاطِ تفاصيل حياتيّة تمرُّ أمام أعيننا دون أنْ ننتبه إليها.
فوق ذلك؛ تقوم جماليّة القبح عند بوكوفسكي على تحطيم القيم الجماليّة العليا، وتقديمها بصورةٍ عادية وواقعيّة ومبتذلة. فالمرأة عند بوكوفسكي ليسَ فيها شيءٌ من السحر والجمال والسموّ كما هي في الشعر الرومانسي، إذ غالبًا ما تأخذُ صورة العاهرة. وهذا ما عرّضه لانتقاداتٍ من الكاتبات النسويات، إذ اتّـهمنه بكراهية النساء (Misogyny). والحبُّ عند بوكوفسكي “كلبٌ من الجحيم”، وفي قصيدة أخرى: “الحبُّ… هُراء”، وهو يرى أنّ الناس قد باتوا مشوّهين “إما بسبب الحب، أو بسبب فقدانه”.
وإذا كان بودلير (1821 – 1867) قد صادفَ جيفةً متعفّنة في أحد شوارع باريس، فخطرَ في باله أنّ حبيبته سوف تموتُ في يوم من الأيام، ويتحوّل جسدُها الجميل إلى جيفةٍ كهذه. فإنّ بوكوفسكي يذهب في جماليّة القبح أبعدَ من بودلير، فهو يأتي بأيقونة الجمال الأمريكي، بأيقونة الأنوثة والإثارة في عالم هوليود، مارلين مونرو، ويقدّم قصيدة رثاءٍ عنها، تخرجُ عن أعراف الرثاء في الأدب العالمي. فالقصيدة لا تصفُ الحزن الشديد على موتِ إنسان ولا تذكُرُ مناقبه، ولا تصفُ الحزن العام الذي يكسُو مفرداتِ الوجود كانعكاسٍ للحزن الشخصيّ الداخلي، بل تقولُ بصراحةٍ وقحة:
“سوف ننساكِ، بطريقةٍ ما، وهذا ليس لطيفًا/ لكنَّ الأجسادَ الواقعيّة أقربُ إلينا”.
ولا يكتفي بوكوفسكي بتذكير مونرو وقارئه بأنّ جسدها سوف تأكلُه الديدان، بل يذهب أبعدَ من ذلك:
“وبينما تتوقُ الديدانُ إلى جسدكِ/ أحبُّ أنْ أخبركِ…/ أنّ هذا ما حصلَ أيضًا للدببة والفيلة/ للطغاة والأبطال/ للنمل والضفادع”.
أما الموتُ الذي يقاربه الشعراءُ برهبةٍ وحكمة، بوصفه موضوعًا من موضوعاتِ الجمال المأسويّ، يقدّمه بوكوفسكي كامرأةٍ عاهرة، تتّصف بالإثارة والقرف في آنٍ معًا. يسمّيها “السيدة موت”، وهذه السيدة تضحكُ شماتةً كلّما ازداد عدد الموتى، وهي عاهرةٌ تحولُ دون قيام علاقة سليمةٍ بين رجل وامرأة، لأنها تطلب الكثير من المال.
ثالثًا: الاغتراب (Alienation):
يتعدّى اغترابُ بوكوفسكي الاغتراب المعروف عند الأدباء والفنانين والمفكرين، وهو أبعدُ بقليلٍ من الاغتراب الوجودي “المهذّب” الذي تكون فيه مشكلةُ الأديب مع مكانه أو زمانه أو كليهما معًا. إنّ اغتراب بوكوفسكي يصلُ إلى حدّ كراهية الجنس البشري (Misanthropy).
لا يعتبر بوكوفسكي نفسَه وحيدًا حينما يكون جالسًا في غرفته “وحيدًا”، بل على العكس، إنه يصبح وحيدًا عندما يلتقي بالناس ويختلط معهم: “لم أكن يومًا وحيدًا/ كنتُ أسكنُ في غرفةٍ، وأرغبُ بالانتحار”. ويضيف: “لا يوجد في الخارج سوى الحمقى، واختلاط الحمقى بالحمقى”. وفي قصيدةٍ أخرى: “أنا لا أُشبِه الآخرين/ وحدَهم الآخرون يشبهون الآخرين”. ويُسدي إلينا بنصيحة: “حيثما تسيرُ الجماهير، سِـرْ في الاتجاه المعاكس”.
في قصيدة “الطائر الأزرق” يتجلّى اغتراب بوكوفسكي في أعمق حالاته، فهو ليس مغتربًا عن العالم والبشر فحسب، بل مغتربٌ عن ذاته أيضًا. ثمة شخصيّةٌ مختبئةٌ داخلَ شخصيته الظاهرة، تحاول الخروج والظهور، لكنه يمنعها ويقمعها، لأن ظهورها سيأتي بالكارثة:
” في قلبي طيرٌ أزرق/ يودُّ الخروج/ لكنني أسكبُ الويسكي عليه/ وأنفثُ السجائرَ في وجهه/ حتى لا تعرفَ العاهراتُ وسُـقـاةُ الحانةِ وبائعو الخضار أنه في الداخل”.
هذه القوة والرجولة التي يظهرُ بها أمام العالم الخارجي، يقابلُها ضعفٌ وهشاشةٌ داخليّان. وماذا يُخفي الإنسان عن الآخرين غيرَ مشاعرَ وأحاسيسَ لا يمكنُ البُوح بها؟ قد يكون الطائر الأزرق رمزًا للنقاوة والطفولة، للبراءة والوداعة، وهو ذاتُ الشاعر المرهفة والمنعزلة، أناهُ العميقة التي لا يعرفها إلّا هو. هذا السرُّ الذي لا يستطيع كشفَه، هذا الوجه الذي يخشى إماطةَ اللثام عنه، يسمحُ لهُ بالظهور أحيانًا، في ساعات الليل حين يكون الناسُ نائمين. ثم يصلُ الصراع بين أنا الشاعر الباطنية وأناهُ الظاهرية إلى عقدةٍ تربكُه ولا يجدُ لها حلًّا:
“أعيدهُ إلى قلبي/ لكنهُ كان يغنّي في الخارج/ ولا يمكنني أنْ أدعه يموت”.
ثم يُلمحُ الشاعر إلى أنهُ قد أطلقَ طائرَهُ الأزرق حرًّا، أطلقَ سرّهُ الدفين، أناه العميقة، مشاعره المكبوتة… لكنَّ تحرير الطائر يترافق مع تحرير الدموع، فيعترف أنه يبكي، ثم ينكر ذلك، ثم يخاطب القارئ:
“ومن اللطيف أنْ تجعلَ رجلًا يبكي/ لكنني لا أبكي/ فهل تبكي أنت؟”.
رابعًا: التدميرية (Destructiveness):
إذا كانت قصيدة الحداثة في أعلى نماذجها قصيدة رثاء، لا رثاءً لشخصٍ ما بل رثاء للبشرية جمعاء. وإذا كانت قصيدة الحداثة الأمريكية على وجه الخصوص، قصيدة رثاءٍ للحضارة الغربية العجوز التي توشكُ على الوصول إلى طريقٍ مسدود، لأنّ مقوماتِ بقائها هي ذاتُها مقوّماتُ دمارها، فإن قصيدة ما بعد الحداثة هي شاهد العيان على دمار الحضارة وسقوط البشرية.
كانت قصيدة ت. س. إليوت (1888-1965) ترصدُ الخطوة التي تسبق الانحلال، أما قصيدة بوكوفسكي فهي في صميم الانحلال. قدّمَ إليوت حلولًا فاترةً لإنقاذ الحضارة، كالعودة بها إلى فترة شبابها (عصر النهضة الأوروبي)، أو اللجوء إلى الدين كعلاجٍ لمشكلة الخواء الروحي. أما بوكوفسكي فلا يقدّم حلولًا لإنقاذ البشرية، لأنه لا يرى بصيصَ أملٍ في ذلك.
يرى إليوت (ومن بعده بوكوفسكي) أنّ عالما المعاصر هو عالم الحروب المدمّرة التي من شأنها أنْ تُحيل الأرض إلى “يباب”، وأنّ هذه الأرض البُور لا يحيا عليها سوى “البشر الجوف”. هؤلاء البشر يتضرّعون دون جدوى إلى آلهة الأرض (المال والسلطة)، لكنّ هذه الآلهة لن تسعفهم في شيء، بل سوف تعمّق من مأساتهم. ويعتقد إليوت (ومن بعده بوكوفسكي) أنّ هذه الحضارة التي جاءتْ بالسلاح المدمّر والحروب الرهيبة ليستْ عاجزةً عن إنقاذ الإنسان فحسب، بل هي نفسُها العلّةُ التي أودتْ بالإنسان، وسوف تُودي بنفسها معه.
تتجلّى تدميرية بوكوفسكي في أعلى صورها في قصيدة “الديناصورات”، ففيها يصور عالمنا الديستوبي (Dystopian) وهو في طور الانحلال، متنقلًّا بين الزمن الماضي والحاضر والمستقبل لرصد حالة واحدة، حالة التفسّخ والتلاشي العام. قد يبدو عنوان القصيدة غريبًا للوهلة الأولى، لكنْ بعد القراءة ندرك أننا كبشرٍ ماضُون في طريق أسلافنا الديناصورات.
تبدأ القصيدة بتصوير ألوان الفساد المستشري في عالمنا المعاصر، حيث أنّ البشر يولدون من الفساد، ويعيشون عليه، ويموتون بسببه. فتبدو الحياةُ سائرةً من الفساد إلى الفساد. لم يقُل الشاعر إنّ الفساد هو الخطأ الوحيد للجنس البشري، لكنه أوضحَ أنّ جميعنا مشتركون في تغذيته. تبدأ القصيدة بعرض صورٍ لهذا الفساد من قطاعاتٍ متعددة مثل انسداد الأفق السياسي، وعدم جدوى التعليم، والتلوث البيئي:
“حيث يتبدّدُ المشهدُ السياسي/ حيثُ عامل السوبرماركت يحملُ شهادةً جامعية/ حيث الأسماكُ الزيتية تلفظُ فريستها الزيتية”.
ينتقل بعدها إلى فساد النظام الصحي والقضاء والسجون والمصحّات العقلية، ثم فساد الأذواق الذي يصنع من الحمقى مشاهير وأثرياء. ويؤكّد أننا لا نستطيع فعلَ شيءٍ حيال ذلك، إذ نحن مجرّدُ وارثين له.
ويرى بوكوفسكي، عكس إليوت، أنّ الدين لم يعدْ مُجديًا كعلاجٍ للخواء الروحي والأزمات النفسية، وهذا ما يدفع الناس إلى الانتحار، أو إلى إدمان الخمور والحبوب والمخدّرات.
ترتفعُ القصيدة تدريجيًّا إلى مشهديّةٍ تشبه سِفْر الرؤيا (Apocalypse) أو يوم القيامة، ويرى الشاعر أنّ القيامة سوف تبدأ من القطاع المالي، من إفلاس المصارف وفقدان النقود لقيمتها الشرائية. يتبعُ ذلك انتشارٌ للسلاح وما نراهُ اليوم (خاصةً في عالمنا العربي) من مجازر لا يحاسبُ فاعلوها:
“ستكون هناك مجازرُ مفتوحةٌ في الشوارع/ دون قيدٍ أو مساءلة/ أسلحةٌ… وغوغاءٌ هائمون”.
ثم تتفاقم الأزمة الغذائية والمجاعة، وتمتلكُ عدة دولٍ السلاح النووي، وينتشرُ الرجال الآليّون (آلات القتل) في كل مكان، بينما يهربُ رأسُ المال من الكارثة التي تسبّب بها. إنّ ما يراهُ بوكوفسكي لمرعبٌ حقًّا، سوف يدخل العالمُ بأكمله في حالةٍ من الفوضى العمياء، وصفَها بجملةٍ مكثفة:
“سوف يبدو جحيمُ دانتي لعبةَ أولاد”!
وبعد نهاية الحياة على الأرض، وانقراضنا مثل الديناصورات، تظلُّ الشمس مختبئةً في مكانها، تنتظر “الفصل التالي” من الحياة على هذا الكوكب. وكأنّ الوجود البشري برمّته؛ كان مجرّد فصلٍ من كتابٍ تقرؤهُ الشمس.
والآن أقدّم القصائد الأربع التي اعتمدتُ عليها في هذه الدراسة، كاملةً، وبترجمتي:
1. الرجُل ذو العينين الجميلتين
عندما كنّا صغارًا، كان في الحيّ بيتٌ غريبٌ، ستائرُهُ دائمًا مُسدَلة، لم نكنْ نسمعُ أيَّ صوتٍ قادمٍ منه، وكانت ساحةُ البيتِ مليئةً بالخيزران، وكنا نلعبُ بين عيدان الخيزران، نمثّلُ أننا “طرزان” (رغم أنّ جين لم تكن معنا). كانت للبيت بركةُ أسماكٍ ذهبية، فيها أكبرُ أسماكٍ ذهبية تراها، وكانتْ أليفةً، تصعد إلى سطح الماء وتأكل قطعَ الخبز من أيدينا.
قال آباؤنا: “حذارِ أنْ تقتربوا من ذاك البيت”!
ولذلك، بالطبع، ذهبنا إليه.
كنا نتساءلُ: هل يسكنُ فيه أحد؟
مرّتْ أسابيعُ ولم نبصرْ أحدًا.
ذات يومٍ
سمعنا صوتًا خارجًا منه:
“أيتها العاهرةُ اللعينة”!!
كان صوتَ رجُل.
دُفعَ البابُ بعنفٍ
خرجَ الرجلُ وفي يده اليُمنى دَورقُ ويسكي،
كان في حدود الثلاثين
يضعُ سيجارًا بين شفتيه، ذقنهُ تحتاجُ إلى حلاقة، وشَعرُه أشعثُ همجـيّ، حافـيَ القدمين، بقميصٍ داخليّ وسروالٍ قصير.
لكنّ عينيه برّاقتان
كانت عيناهُ تشتعلانِ بريقًا،
وقال: “أهلاً… يا سادتي الصغار
هل تمضُون وقتًا سعيدًا هنا؟ آملُ ذلك”.
أطلقَ ضحكةً خاطفةً، ورجعَ إلى البيت.
عُدنا إلى ساحة دارنا
فكّرنا في الأمر وعرفنا
أنّ آباءنا أرادوا إبعادَنا عنه
لكيلا نرى رجلًا مثله
رجلًا قويًّا وحقيقيًّا لهُ عينانِ جميلتان.
آباؤنا…
يغسلُهم العارُ
لأنهم ليسوا مثل هذا الرجل
ولذلك أرادوا إبعادَنا عنه.
عُدنا إلى ذلك البيت، حيثُ عيدانُ الخيزران والأسماكُ الذهبية الأليفة.
عدنا أكثر من مرة، ولعدة أسابيع، لكننا لم نرَ ذاك الرجل ولم نسمع صوته أبدًا.
الستائرُ مسدلةٌ مثلما هي دومًا، والصمتُ يعمُّ المكان.
ذات يومٍ
ونحنُ عائدون من المدرسة
رأينا البيت
كان قد احترقَ بالكامل
لم يبقَ منهُ شيء
سوى أعمدةٍ يتصاعدُ منها الدخانُ الأسودُ متموّجًا في الهواء،
اقتربنا من بركة الأسماك
فوجدناها قد جفّتْ
ورأينا الأسماكَ الذهبية البرتقالية الكبيرة
ميتةً في القاع.
عُدنا إلى ساحة دارنا
فكّرنا في الأمر وعرفنا
أنّ آباءنا هُمْ من أحرقوا البيت
قتلوا سكّانه
قتلوا الأسماكَ الذهبية
لأنّ كلَّ ما فيه…
كان جميلًا.
حتى عيدان الخيزران أحرقوها،
لقد كانوا خائفين
من الرجل ذي العينين الجملتين.
بعدها، صِرنا نحنُ خائفين…
أنَّ خلالَ سنواتِ حياتنا القادمة
سوف تحدثُ أشياءٌ كهذه،
أنّ لا أحدَ يريدُ لأيّ شخصٍ
أنْ يكون قويًّا وجميلًا،
أنّ الآخرين لن يسمحوا بذلك،
وأنّ كثيرًا من الناس
سوف يموتون لهذا السبب.
2. إلى مارلين مونرو
تنزلقينَ سريعًا
في جوف الرمادِ المضيء،
وتبكيكِ زهورُ الفانيلا.
جسدُكِ المغرور
لطالما أوقدَ الشموعَ للرجال
في الليالي المظلمة،
لكنّ ليلَكِ الآن أكثرُ ظلمةً
من أنْ تصلَهُ أيةُ شمعة.
سوف ننساكِ، بطريقةٍ ما، وهذا ليس لطيفًا،
لكنّ الأجسادَ الواقعيّة أقربُ إلينا.
وبينما تتوقُ الديدانُ إلى جسدكِ
أحبُّ أنْ أخبركِ…
أنّ هذا ما حصل – أيضًا – للدببة والفيلة
للطغاة والأبطال
للنمل والضفادع.
رغمَ ذلك…
تركتِ لنا شيئًا ما، نوعًا من الانتصار الصغير،
ولذلك أقول: حسنًا، فلْنتوقّفْ عن الحزن،
وردةٌ جفَّتْ… ثم رُميتْ بعيدًا.
ننسى
نتذكّر
ننتظر
أيتها الطفلةُ الطفلةُ الطفلة
أرفعُ نخبَكِ إلى الأعلى
لدقيقةٍ كاملة
وأبتسم.
3. الطائر الأزرق
في قلبي طيرٌ أزرق
يودُّ الخروج
لكنني أعاملُه بقسوة،
أقولُ له: ابقَ في الداخل
لنْ أدع أحدًا يراك.
في قلبي طيرٌ أزرق
يودُّ الخروج،
لكنني أسكبُ الويسكي عليه
وأنفثُ السجائرَ في وجهه،
حتى لا تعرفَ العاهراتُ وسُـقـاةُ الحانةِ وبائعو الخضار أنه في الداخل.
في قلبي طيرٌ أزرق
يودُّ الخروج
لكنني أقسُو عليه كثيرًا،
أقولُ له: ابقَ مكانكَ
هل تريد أنْ تُربكني؟
أنْ تخرّبَ أعمالي؟؟
أنْ تنسفَ مبيعاتِ كتبي في أوروبا؟؟؟
في قلبي طيرٌ أزرق
يودُّ الخروج،
لكنني ذكيٌّ جدًّا
فلا أدعُه يخرجُ إلّا في بعض الليالي
حين يكونُ الناس نيامًا،
أقولُ: أعرفُ أنكَ هناك
فلا تحزن.
ثم أعيدهُ إلى قلبي
لكنهُ كان يغنّي في الخارج
ولا يمكنني أنْ أدعه يموت،
ثم ينام كلانا
محتفظَين بسرّنا المشترك.
ومن اللطيف أنْ تجعلَ رجلًا يبكي
لكنني لا أبكي،
فهل تبكي أنت؟
4. الديناصورات
ولدنا هكذا
في قلب هذا
حيث تبتسمُ الوجوهُ المرسومة بالطبشور
حيث تضحكُ السيدة “موت”
حيث يتعطّلُ المصعد
حيث يتبدّدُ المشهدُ السياسي
حيث عامل السوبرماركت يحملُ شهادةً جامعية
حيث الأسماكُ الزيتية تلفظُ فريستها الزيتية
حيث الشمسُ مغطّاةٌ بقناع.
ولدنا هكذا
في قلب هذا
في حروبٍ مجنونةٍ مدروسة
في مصانع تحطَّمتْ نوافذُها من الخواء
في حاناتٍ ما عاد فيها الناسُ يكلّمون بعضهم
في شجاراتٍ بالأيدي…
تنتهي بطلقاتِ الرصاص وطعناتِ السكاكين..
ولدنا في قلب هذا
في مستشفياتٍ باهظةِ التكاليف
فمِنَ الأرخصِ لكَ أنْ تموت،
ومحامين بأجورٍ فاحشة
فمن الأرخص أنْ تعترفَ بأنك مذنب،
في بلادٍ سجونُها ممتلئة
ومصحّاتُـها العقلية مغلَقة،
في مكانٍ ترفعُ فيه الجماهيرُ الحمقى
لتجعلَ منهم أبطالًا أثرياء.
ولدنا في قلب هذا
نمشي ونعيش في داخله
نموتُ بسببه
تُـكَـمُّ أفواهُنا بسببه
نُخصَى بسببه
نُفـسَـدُ
نُحرَمُ من الإرث بسببه
نُخدَعُ
نُستغلُّ من قِبَله
يُبالُ علينا من قِبله
نُجنُّ ونمرضُ بسببه
نتوَحَّـشُ بسببه.
القلوبُ تزدادُ سوادًا
والأصابعُ تتلمّسُ الحنجرة
المسدّس
السكّين
القنبلة،
الأصابعُ… ترتفعُ وتدعو
لإلهٍ لا يجيب،
الأصابع… تمتدُّ إلى الزجاجة
إلى الحبوب
إلى المخدّرات.
ولدنا في صميم الـمَوَات المأسويّ
في حكومةٍ مدينةٍ منذ ستين عامًا
وقريبًا تعجزُ عن سَداد فوائد الدَّين.
سوف تحترقُ المصارفُ
ويغدو المالُ دون أيةِ قيمة،
ستكون هناك مجازرُ مفتوحةٌ في الشوارع
دون قيدٍ أو مساءلة،
أسلحةٌ… وغوغاءٌ هائمون.
ستصبحُ الأرضُ عقيمةً
والطعامُ غير كافٍ
والطاقةُ النووية في أيدي الكثيرين
والتفجيراتُ ترجُّ الأرضَ باستمرار
والرجالُ الآليّون الـمُشعّون يطاردون بعضهم بعضًا
والأغنياءُ والمختارون يراقبون كلَّ ذلك
من منصّةٍ في الفضاء.
سوف يبدو “جحيمُ دانتي” لعبةَ أولاد!
لن نرى الشمسَ أبدًا
سيصيرُ الليلُ سرمديًّا،
الأشجارُ تموت
الغطاء النباتي يموت
الرجالُ الـمُشعّون يأكلون لحمَ رجالٍ مشعّين،
سيصيرُ البحرُ مسمومًا
وتختفي البحيراتُ والأنهار
سيصيرُ المطرُ هو الذهبَ الجديد.
الجثثُ المتعفّنةُ للبشر والحيوانات
تنشُرُ رائحتها الكريهة في الرياحِ المعتمة.
القلّةُ الناجية
ستقضي عليها أوبئةٌ شنيعةٌ جديدة،
والمنصّاتُ الفضائية
سيدمّرها نفادُ المخزون
كنتيجةٍ طبيعية للتلاشي العام.
ويعُمُّ الصمتُ الأجملُ
صمتٌ لم يسمعه أحدٌ من قبل.
بينما تختبئُ الشمسُ في مكانها
وتنتظرُ الفصلَ التالي.
* عبد الكريم بدرخان: شاعر ومترجم وناقد سوريّ.
عبد الكريم بدرخان *