صورة عامة
هذا المقال لا يزعم بأنه يقدم قراءة ناضجة ولا مكتملة عن الأحداث التي يمر بها الوطن العربي منذ نهاية العشرية الأولى من هذا القرن الميلادي، ليس فقط لأن كاتب المقال غير ملِم بالمشهد كله، لا سيما خبايا ما يجري، بل –بالإضافة إلى ذلك– لأن الأحداث إلى الآن ما زالت متحركة سراعاً، بحيث إن قنوات الأخبار لا تكاد تلتقط خبراً حتى يلهيها عنه خبر آخر، إلى درجة أن تتزاحم على شاشتها الصغيرة إيقونة «خبر عاجل»، وبحيث إن المحللين ذوي الشأن لا يكادون يلقون علينا شذراً من قراءتهم للحدث حتى ينسخوه برأي آخر، ولذلك فهذا المقال هو محاولة تسطير بعض ما تزاحم في ذهني من نظرات وتساؤلات، راجياً أن يمد القارئ بقراءة عساه أن يجد فيها ما يسلكه في درب مقاربة فهم الأحداث.
لنبدأ بالنظر إلى الأحداث بصورة عامة، بدأت الاحتجاجات بتونس في 18 ديسمبر 2010م، في اليوم التالي لحرق محمد البوعزيزي نفسه في مدينة سيدي بوزيد، وقد أدت هذه الاحتجاجات إلى ثورة عارمة في القطر التونسي أجبرت الرئيس زين العابدين هو وعائلته على الهرب واللجوء إلى المملكة العربية السعودية.
هذا النجاح لقي صدى في مصر المتخمة بالتململ منذ سنوات من نظام حسني مبارك، حيث بدأت مسيرات احتجاج فيها بتأريخ 25 يناير 2011م، وقد أسفر تسارع الأحداث عن اشتعال ثورة أدت إلى تنحي الرئيس حسني مبارك عن الحكم بعد أسبوعين.
هاتان الثورتان حققت إلى الآن مطالبهما برحيل رئيسي الجمهوريتين عن الحكم، والشروع في محاكمتهما وأسرتهما وأعوانهما غيابياً لبعضهم وحضورياً للآخر، كما أن الدولتين دخلا في مرحلة الانتخابات البرلمانية.
بعد نجاح هاتين الثورتين في إجبار رئيسي دولتيهما على مغادرة كرسي الحكم اشتعلت نيران الاحتاجات في هشيم الوطن العربي، حيث تصاعدت الأحداث في ليبيا بما أدى إلى حرب أهلية بين الثوار مدعومين من حلف الناتو والقوى الغربية عموماً، وبعض دول الخليج العربي، وبين العقيد معمر القذافي وكتائبه، انتهت بانتصار الثوار واعتراف كثير من دول العالم بمجلسهم الانتقالي حاكماً على ليبيا.
هناك دولتان عربيتان دخلتا في موجات احتجاجات كبرى، إحداهما سوريا؛ التي لا تزال تتصاعد فيها الأحداث بما قد يجعلها تلحق بالركب الليبي، ولا يشفع لها دون ذلك أنها دولة مواجهة مع الإسرائيليين، بل قد تكون هذه المواجهة هي إحدى محرضات التدخل الغربي، وثانيتهما اليمن؛ التي هي الأخرى كانت مرشحة أن تمر بأوضاع مشابهة لما مرت به ليبيا بسبب التركيبة القبلية إلى حد الاحتراب، والأوضاع الاقتصادية الصعبة إلى حد الفقر، والسياسة المتباينة إلى حد الانفصال، إلا أن التدخل الخليجي بمبادرته جعل الأمور فيما يبدو تأخذ مساراً ربما يجنب اليمن الإحن إن أحسن اليمنيون استغلال المبادرة.
دولتان خليجيتان طالتهما الاحتجاجات: البحرين التي تدخلت دول الخليج مالياَ وعسكرياً لكبح ثورتها، وذلك بنظري لسببين؛ الأول: لأنها جزء من البيت الخليجي، والذي ربما يؤدي سقوط نظامها إلى عدوى لبعض دول الخليج، والثاني: لسيادة المذهب الشيعي الموالي كثيرٌ من رموزه لإيران. وعمان التي سكنت احتجاجاتها بما قدمته الحكومة للشعب من وظائف وفتح مجال للتعليم والتغيير الوزاري والتعديل النسبي –الذي ربما يكون مرحلياً– في النظام الأساسي للدولة وبإعطاء مجلس الشورى وظائفه من التشريع والمراقبة، وتحرك بعض شيوخ القبائل مؤازرين للحكومة، وبما يتمتع به السلطان قابوس من ولاء بين عموم شعبه؛ خاصة أنه باني عمان الحديثة.
ما عدا ذلك فإن الاحتجاجات في بقية الدول العربية هامشية وغير مؤثرة كثيراً إلى هذا الوقت، هكذا تبدو الصورة للعيان، وربما تختفي تحتها كثير من خطوط المفاجآت للشعوب العربية وحكامها على حدٍّ سواء، وهو ما يطل بشيء من مقدماته في بعض الدول العربية بين الحين والآخر.
ما قبل تحليل الأحداث
ما الذي حدث؟ وما أسبابه؟ وما مآله؟ وكيف تجري الأمور؟ ما هي التاُثيرات المركزية والجانبية لهذه الأحداث؟ أسئلة تلح على أذهان قطاع هائل من البشر يتجاوز العرب وحدهم.
هذا يجرني إلى الحديث عن تحليل الأحداث، فقد تابعت محللين كثراً؛ عرباً وأجانب، من داخل الدول الثائرة ومن خارجها، ثمانية أشهر من المتابعة والقراءة لم أجد ما يمكن أن أعتبره تحليلاً موازناً لسير الأحداث، كل ما رأيته وسمعته هو آلام وآمال، تأوهات وصرخات حماس، كانت قادرة فعلاً على التأثير في الأحداث، ولكنها عجزت في عمومها أن توقفنا على تحليل موضوعي للحدث بأبعاده المختلفة، وأستطيع القول بما قد يشبه اليقين: إن كثيرين ممن نسمعهم ونقرأ لهم لا يدركون المآلات الفعلية التي ستسفر عنها خارطة الأحداث المستقبلية، برأيي أن التحليل الموضوعي ينبغي أن يكتب من خارج منطقة الفعل المشحونة بالعواطف والعواطف المضادة، إن المنطقة تَكْتُبُ الفعل، أما تحليله فيُكتب من خارجها؛ زمناً أو جغرافيا.
معظم ما قدم إلى الآن لا يفي بالحقيقة، ربما نظر إلى جانب من الصورة، إلا أن معظمها لا يزال معتماً، قُدم أكثر من طرح لأسباب الاحتجاجات والثورة، فمن قائل بأن السبب هو الاستبداد والقمع، ومن قائل إنه الفقر وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وآخر يرى بأنه التأخر الحضاري والمدني، ورابع يذهب إلى المؤامرة الخارجية؛ لا سيما الغربية، قد يكون بعض ذلك أو كله، بيد أنه إلى الآن لا يعدو أن يكون نوعاً من التكهن الذي يحتاج إلى الرصد والتدليل والربط والاستنتاج، يجدر بي هنا أن أذكر بأن التحليل وحده ليس حلاً للمشكلة، لكنه قد يساعد الإنسان على وضع صورة أشمل يحاول أن يضع على ضوئها قدمه وهو يتجه نحو قادم الأيام.
إن الصورة التي نشاهدها من خلال خطابات الحماسة البعيدة إلى الآن عن التحليل قد تجرنا إلى فعل نظنه هو المخرج من النفق المعتم؛ فعل الاحتجاجات والثورة بما تستلزمه من دماء وأموال وتضحيات شتى، أملاً في غد سعيد مرفه بالديمقراطية ومليء بالعطاء ومزدهر بالتقدم، ولكن ألم تكن لنا تجربة مع الثورات والانقلابات بعد عصر الاستعمار التي أصبحت بعد حوالي نصف قرن نثور عليها من جديد؟.
لا أريد في هذا المقال أن أكون حكماً لهؤلاء على أولئك، ولا مع محتج أو ضده، ولا أدور في فلك نظام أو انخزر عنه، ولكن كما قدمت سابقاً أحاول أن أقرأ الحدث بعيداً –لو بشيء ما– عن الحماسة لهذا أو ذلك، لعلي أقدر أن أستبين بعض ملامح الصورة، فالذي أخشاه هو المآل الذي لا نريده وقد لا نتوقعه، وبقدر ذلك أيضاً خشيتي من الركود بما فيه من استبداد وتقهقر آل إليه الوضع العربي.
أثافـي القدر العربي
كما يبدو لي القدر العربي بعد هذه الأشهر من الاحتجاجات والثورات؛ يرتكز على ثلاث أثافي؛ هي: الأنظمة والشعوب والغرب.
أ. الأنظمة:
ب. في عمومها هي مستبدة، وقولي إنها مستبدة لا يلزم أنها قمعية أو ناهبة لأموال شعوبها، فهي قد تكون كذلك، وقد لا تكون، وإنما ما أعنيه أن هذه الأنظمة أصبحت ترى في حكم شعبها حقاً مطلقاً لا يجوز أن يشاركها فيه الشعب ذاته، وقد قيل: ليس بالخبز وحده تحيا الشعوب، فمهما كان ثراء الشعب ورخاؤه فإنه يريد أن يشارك في حركة حياته وإدارة مجتمعه وصرف مقدرات وطنه وتقرير مصيره، صحيح أن الاحتجاجات انفجرت في الوطن العربي أول ما انفجرت بسبب القبضة الأمنية الساخنة واللقمة الشحيحة، فربما قد يكون هذا سنة من سنن انفجار الشعوب، إلا أن الحياة تقول أيضاً: إن الشعوب لا تسكت بمجرد حصول الأمن والشبع، فهي تريد المشاركة في الحكم.
ب. الغرب:
لا أريد أن أميل إلى القول بأن الغرب يدير مؤامرة على الشعوب العربية لأسباب دينية وحضارية واقتصادية وجيوسياسية، فأخشى من ذلك إلقاء تبعة وضعنا على غيرنا، إلا أنه في الوقت نفسه نرى يدي الغرب؛ الناعمة والخشنة، واضحة في المشهد العربي، وما يمكن أن يسميه البعض بأنه مؤامرة قد يسميه الطرف الآخر بأنه أمن استراتيجي وتأمين حيوي لمصالح الغرب في المنطقة، فكل الأمور قائمة على التنافس، وتؤخذ الدنيا غلابا، وبحسب قول ابن خلدون: لا يسأل المنتصر عن انتصاره، وإنما يسأل المغلوب عن غلبه. علينا أن نسآل أنفسنا: لماذا الغرب يمسك بخناقنا؟ ولا نسأل الغرب: لماذا يمسك بمفاصل حياتنا؟ ففي ديالكتيك الوجود سيطرة القوي على الضعيف قانون قاهر في مرافق الحياة، لا يكاد يشذ عنه شيء.
بعد أن انفجرت الأوضاع تساءل البعض: أين الغرب من كل ما يحدث. وكان هذا التساؤل كافياً لاتهام هؤلاء من قبل المتحمسين للاحتجاجات بتخوين الشعوب، والآن بعد ثمانية أشهر، وقبل أن نرى ما يطمح إليه الثائرون من ثوراتهم، ونحن ما زلنا نرى مصر وتونس تحكمهما نفس الأنظمة السابقة بصولجان عسكري ناعم؛ وإن ابتدأت العملية الانتخابية، تكشفت لنا الأيدي الخارجية؛ بما فيها الغربية، عارية عن قفازاتها، ابتداءً بتوجه قادة الجيش في تونس ومصر إلى الولايات المتحدة مع بداية الثورتين، وانتهاءً بالتدخل العسكري المباشر في ليبيا، وليس آخراً السعي الحثيث إلى رسم معالم خارطة الوطن العربي وفق الرؤية الغربية بما يتناسب مع الأوضاع الحالية والمستقبلية، على الغرب أن يقنعنا عملياً بعدم التدخل في أوطاننا وشؤوننا، كما على المتحمسين للتدخل الغربي أن يقروا بحقيقة التخوف من ذلك.
وفي المقابل قد يقول البعض؛ وهو ما سمعناه فعلاً: ما حيلة الشعوب في مواجهة الأنظمة الحاكمة في دولها؟. نسلّم معهم أن الشعوب هي الطرف الأعزل في مواجهة الأنظمة، بيد أنها غير عاجزة، وعليها أن تدفع فاتورة التغيير بنفسها، ولا تسمح بسرقة منجزاتها، أما أن تتوهم أن الغرب سيدفع هذه الفاتورة عنها فذلك بعيد، ألم نشهد تدخل الغرب في أفغانستان والعراق وفلسطين والصومال؟ وماذا كانت النتيجة غير الويلات؟.
أقول هذا ولا يعني أنني أعذر الأنظمة فيما تفعله بشعوبها، وإنما على الطرفين أن يدركا جسامة الأمر والمصير الذي ستواجهه سفينته عندما تعصف بها أمواج التغيير، فليس المقام مقام تحميل طرف تبعة الوضع، ولكن النتيجة ستكون مؤسفة للطرفين إن سلكا هذا الدرب الذي نراه.
إن الثورات ليست السبيل الأسلم في تغيير الأوضاع، بل قد تكون الأسوأ، حيث تنقلب الأمور رأساً على عقب، وغالباً ما تؤدي إلى الاحتراب الأهلي، ولذلك لتجنب الفخ الغربي؛ على الأنظمة والشعوب أن تتخذ طريقاً ديمقراطياً سلساً لإدارة بلدانها، ربما أبدو هنا مثالياً، وهذا ما أسلّم به في وضعنا العربي الذي لا سبيل له فيما يبدو إلا الاستكانة أو العنف، ولذلك ربما نحن بحاجة إلى ثورة في العقل العربي قبل الثورة في الشارع العربي.
ج. الشعوب:
كثيراً ما نسمع عن الشعوب العربية أنها غير ناضجة ديمقراطياً، وبنظري هذا توصيف غير دقيق، إذ العملية السياسية ليست بمثابة أكلة تطبخ ثم تؤكل، بل هي مران اجتماعي تتدرج فيه الشعوب خطوة خطوة، ولابد من سلوك الخطوة الأولى للوصول إلى الخطوة الأخيرة، إلا أنه يوجد أمران يسيطران على العمل العربي السياسي، هما: العقل السلفي والعقل القبلي، أما العقل السلفي فأقصد به العقل المتدين وفق منظومة سلفية قادمة إلينا من قرون غابرة، ينزع الضمير العربي إلى تمثّلها، وينظر إلى زمنها بأنه الزمن الخيري، الذي لا يصلح حاضر الأمة إلا به، وهو عقل في معظمه تصلّب وفق رؤى أحادية حدية لا تقبل التعدد الذي هو أخص خصائص الديمقراطية، فليس الهَمُّ الأول لهذا العقل السلفي أن تبنى الديار بنظام ديمقراطي تتداول فيه السلطة وتحاسب على نجاحها وإخفاقها، وتأخذ بالازدهار الاقتصادي والعمران الاجتماعي، بل همّه الأول أن تطبق المنظومات السلفية، وهي منظومات في جوهرها إقصائية، نزاعة إلى استعمال الشدة في تطبيق رؤاها في حال نجاحها للوصول إلى السلطة، وإلى استعمال العنف في حال إخفاقها من الوصول، بطبيعة الحال لا أقصد بالسلفية مدرسة مذهبية بعينها، بل إن التفكير الإسلامي في شقه الأكبر هو سلفي، إن هذا النزوع السلفي الذي نلحظه على أرض الواقع لا ينبئ عن تحول حقيقي سهل في الأوضاع السياسية بالوطن العربي، وعلى العقل السلفي أن يجهد نفسه كثيراً في فهم الحياة ومتغيراتها، كما عليه أيضاً أن يمرّن مفرداته على ممارسة الديمقراطية إن أراد نجاحاً وأراد أن يجنب المنطقة القلاقل إن وصل إلى سدة الحكم، وهو واصل فيما يبدو.
وما يقال بالنسبة للعقل السلفي يقال كذلك في العقل القبلي، فالتفكير العربي في أنظمة الحكم قبلي عشائري، وهو كذلك في إدارة مرافق الدولة، فالوزير شيخ يدير وزارته كما يسوس شيخ القبيلة قبيلته، والمدير شيخ يدير مؤسسته كإدارة شيخ القبيلة، وهكذا في بقية مفردات الدولة ومؤسساتها، كل هذا لا يمكن أن يستأصل بمجرد ثورة على النظام، فالتكوين العقلي سلفياً كان أو قبلياً موغل في الإنسان العربي إلى درجة الخشية من عدم قابلية هذه العقول للتحول عما هي عليه إلى وعي حضاري أكثر إدراكاً لمتطلبات الديمقراطية، إذن ما عليه العربي في عمومه ليس عدم نضج ديمقراطي، بل حركة في مسار آخر بعيد عن الديمقراطية، وليس للأنظمة العربية أن تتذرع بهذا في مواجهة شعوبها، لأنها هي بنفسها أيضاً غير ديمقراطية.
عوامل الثورات
وبعد؛ فمرة أخرى نسأل: كيف حدثت هذه الاحتجاجات والثورات؟، يبدو لي أن العامل المحرك ليس عاملاً واحداً أو بضعة عوامل يمكن الركون إليها في الإجابة على هذا السؤال، وإنما بنظري أن لذلك عوامل كثيرة متداخلة ومتشابكة، بل هي شبكة عتيدة من العوامل، ذات بُعد تراكمي، يمكن أن أفككها هنا مدرسياً، وليس موضوعياً، أي فقط كنقاط مقروءة لينظر فيها الإنسان دون أن يستطيع تلمس حدودها على أرض الواقع على جهة الاستقلال عن بعضها بعضاً:
1. الحقل الفقهفكري الذي صنعه العراك المذهبي عند التكوّن الأول للمذاهب الإسلامية، وهذا حقل من طبيعته الثورة على الآخر المخالف، بغض النظر عن عدالته وظلمه، أما في حال تبني النظام مقولات هذا الحقل أو ذاك فإنه يجد منها التأييد، وقد سعت الأنظمة إلى استغلال هذه الحقول في بلدانها، فنجحت في جوانب وفشلت في أخرى، لأن الساحة تعج بالحقول السلفية المتنافسة.
2. الدولة الواسعة التي كانت للمسلمين، والفتوحات التي شملت أصقاعاً من الأرض، تشكّل حلماً ينتاب ضمائر المسلمين والعرب ويدغدغ مشاعرهم، وفي ظل التوسع العالمي لدى الشعوب الأخرى؛ لا سيما الغربية، أخذت الرغبة تتعاظم لدى المسلمين لارجاع ماضيهم الزاهر، وقد وجدوا حكامهم الحاليين دون تحقيق تلك الأماني بمراحل شاسعة.
3. الصراع الإسلامي الصليبي، وما فعله المسيحيون من اغتصاب القدس، ثم انتصار المسلمين عليهم، أوقد أملاً مستمراً في نفوس العرب بالأوبة إلى أمجادهم.
4. الاستعمار الغربي الذي طال كل البلدان العربية؛ بطريقة أو أخرى، وما خلّفه فيها من ويلات، وقد ظل الجميع بما فيهم الأنظمة الحاكمة يلقي بتبعة التخلف على هذا الاستعمار، ومُنهِجَ ذلك في الكتب المدرسية، فنشأ الصغير به وشاب عليه الكبير.
5. الوجود الإسرائيلي في المنطقة، وطموح العربي إلى التخلص منه، وقد زاد سخطَ العربي هزيمةُ الأنظمة العربية أمام القوة الإسرائيلية، ثم دخولها في اتفاقات سلام أقرب إلى الاستسلام، مع استمرار الإسرائيليين في اضطهاد الشعب الفلسطيني، وقدرتهم على توجيه ضربات في البلدان العربية، دون أن يكون لهذه الأنظمة القدرة على الرد.
5. أنظمة مستبدة عانت منها شعوبها أكثر مما استفادت منها.
6. التسيّد الغربي في المنطقة العربية والإسلامية، والتدخل في كل مفاصل الحياة، من القوة العسكرية المدمرة، إلى الحركة اليومية، دون أن تستطيع الأنظمة العربية أن تقدم مذكرة احتجاج على الدولة الغربية التي تباشر ذلك.
7. إيغال المجتمع العربي في الاستهلاك، دون أن تتاح له الفرصة للإنتاج، وهجرة عقوله منه إلى العالم الغربي.
8. الجوع والفقر والجهل وغياب مؤسسات المجتمع المدني في الوطن العربي، مع تمتع كثير من البلدان العربية بثروات هائلة تغذي الغرب بموادها الخام، وباحتياطات النقد التي تغذي هي الأخرى الميكنة الغربية، وما تحصل عليه الشعوب العربية لا يعدو كثيراً أن يكون استهلاكاً للبضاعة الغربية وغيرها.
9. الطبيعة البشرية التي لا تأنس كثيراً للسكون، فإن لم تجد طرقاً سليمة لتحولاتها النفسية والاجتماعية والحضارية فإنها تعبر عن ذلك بالانفجار.
10. الانفتاح الإعلامي وسهولة تداول المعلومات عبر القنوات الفضائية والإنترنت، وكان هذا سريعاً وضخماً بحيث فاق قدرة الأنظمة على تحجيمه أو تسييسه لصالحها، وفاق أيضاً قدرتها على تطوير ذاتها بحيث تواكب التغيرات المعرفية لدى الناس، فتحولت المعادلة لأول مرة في تأريخها من موقع القوة إلى موقع الضعف، وأخذت الشعوب تتلمس قوتها على حساب هذا الضعف.
11. بروز مؤسسات مدنية عالمية تعنى بحقوق الإنسان العادي وتنتصر له، وتوجه ضرباتها القانونية والأخلاقية تجاه الأنظمة التي تتهم بالإخلال بحقوق الإنسان.
12. وجود تنظيمات دينية اكتسحت الساحة العربية، بعضها يتبنى البعد السياسي وفق رؤيته السلفية المغرية للإنسان العربي، وقد انتشرت في العالم العربي، ولها ضلع بارز في الأحدات الجارية، والبعض الآخر من هذه التنظيمات حمل السلاح لمواجهة الغرب ومن تراهم أعوانه، مما أوجد تعاطفاً خلّف رغبة ثورية مكبوتة.
13. نشر الغرب لما أسماه بالديمقراطية في المنطقة، وعمله على إيجاد الفوضى الخلاقة، والتي يأمل منها تغيير خارطة الوطن العربي الجيوسياسية.
الغرب والتغيير العربي
ظهر جلياً أن الغرب لم يكن مختفياً في التأثير على الأحداث في الوطن العربي، بل ظاهر وبقوة في أكثر من موقع ودولة، لكن لا يعني ذلك أن هذه الشعوب لم تنفجر بنفسها، وأن هناك أيدي غربية باشرت إشعال الفتيل، لقد كانت الشعوب مهيأة لما ذكرت من أسباب أن تنفجر في أي لحظة مواتية، وكانت نار محمد البوعزيزي حساً ومعنى هي التي أشعلت الاحتجاجات والثورات، إلا أن الفرد العربي؛ سواء كان داخل معمعة الاحتجاجات أو خارجها يظل لا يرى إلا جزءاً ضيقاً من الخارطة، بينما الغرب بمؤسساته العتيدة وإمكاناته المقتدرة وتأريخه المعهود من الهيمنة على الشعوب، يرى الصورة كلية أو شبه مكتملة، إنه يجيد لعبة الشطرنج جيداً، ويجيد أيضاً استثمار المشكلات وتحويلها إلى مكاسب.
إذن لماذا يريد الغرب حدوث التغيير في الوطن العربي؟.
قبل الإجابة على ذلك، أبيّن أن سير الأحداث في الوطن العربي رغم التدخل الغربي الجلي، إلا أنه ليس بالضرورة سيؤول بحسب ما يريده الغرب بالضبط، فقد تختلف المعادلة، وقد تكون النتيجة عكسية، فمن ذا الذي يستطيع أن يتنبأ بعمل الإنسان، الذي يمور صدره بأكثر مما تمور به البحار بطوفانها، ولكن مع ذلك فالغرب له حساباته التي يرى إنزالها على أرض الواقع.
قد يكون لأكثر من سبب يريد الغرب التدخل في أحداث التغيير في العالم العربي، من ذلك:
– بكون الغرب يعد نفسه منبع الديمقراطية، وأنه يمثل نهاية التأريخ في ذلك، فإنه يرى نفسه أدبياً ملزماً بالسعي إلى إحلال الديمقراطية –طبعاً وفق رؤيته– في العالم، لا سيما في المنطقة العربية التي نظمها هي الأبعد عن هذه الفلسفة.
– لا يزال العالم العربي ذو التوجه الثقافي الإسلامي في عمومه يشكّل خط الممانعة تجاه القيم الغربية، ويرى أن الحاجز الكبير دون سقوط هذا الخط هو الأنظمة الحاكمة، لاستغلالها شماعة الخوف من الغرب بالتخويف من التغريب، ولعل الغرب يرى في سقوط هذه الأنظمة التحول تدريجياً باتجاه قيمه، خاصة قد أصبح مهدداً باضمحلال قيمه في عقر داره من جراء هجرة العرب والمسلمين إليه.
– احتراق أوراق الأنظمة العربية لدى شعوبها، وبروز التململ فيها بقوة، وأن التغيير حان، فأراد الغرب أن يستبق الأحداث، ويوجد له موطن قدم في الأنظمة القادمة.
– إلى الآن لم تنجز الثورات العربية تغييراً على أرض الواقع في بنية الأنظمة السابقة، إلا إزاحة حاكمين، قدمتهما الجهات العسكرية تحت ضغط هتافات «الشعب يريد محاكمة الرئيس» قرابين فداء في محرقة الثورات، فالغرب لا يزال يرسم الخارطة مع هذه الأنظمة التي يبدو أنها مستعدة أن تتلون بألوان مغرية لشعوبها، ولو بعد وصول الحكام الجدد إلى سدة الحكم عبر صناديق الانتخابات.
– يريد الغرب أن يلمِّع صورته مما علق بها من رماد التدخلات العسكرية في العراق وأفغانستان والصومال بالوقوف مع الشعوب العربية ودعمها في التحول الديمقراطي.
موقف الدول الإسلامية
بقي الحديث عن موقف الدول العربية والإسلامية من هذه الأحداث، ويمكن الحديث عن أربع دول فاعلة في الحدث هي: تركيا وإيران والسعودية وقطر.
أما الثلاث الدول الأولى؛ فإنها تسعى جاهدة للتنافس في المنطقة العربية، فالأتراك ورثة العثمانيين الذين بسطوا من قبل نفوذهم على هذه المنطقة، رجعوا إليها من جديد بثوب آخر يتناسب مع التغيّرات السياسية والحضارية، فهم يريدون أن يكونوا جسراً بين الشرق والغرب عن طريق العالم العربي، وقد تمكن حزب العدالة والتنمية كثيراً من الوصول إلى نفوذ لم تصل إليه الحكومات التركية من قبل، كما أنه حقق رفاهاً لشعبه حدَّ بدرجة ما من هجرت الأتراك إلى الغرب، وهذا مما يريده الغرب، فالتدخل التركي يأتي في إطار السباق على المنطقة العربية من جانب ضمير شعوبها المنتفضة.
أما إيران فرغم محاولاتها المحمومة للوصول إلى الإنسان العربي، فإنها ظلت محدودة، لعدم قدرة حكامها على التخلص من نزعتهم المذهبية الشيعية، والتي تصادف صدوداً على مستوى عموم العالم العربي الذي تغلب عليه مذاهب أهل السنة المناكف التأريخي للشيعة، وقد حاولت إيران التقرب إلى العرب باستغلال القضية الفلسطينية ودعمها جانباً من المقاومة في لبنان وفلسطين، إلا أنها لم تحقق مكاسب كبيرة في ذلك، ومع ذلك لا يمكن إغفال دور إيران في البحرين وسوريا، فرغم التدخل الخليجي في البحرين إلا أنها لا تزال تلعب بورقة المعارضة الشيعية ذات القاعدة الشعبية الأوسع في البحرين، كما أن الثورة في سوريا أحرجتها مع باقي الثورات العربية، فلم تستطع أن تقدم نفسها حليفاً لهذه الاحتجاجات.
يبدو أن السعودية هي اللاعب الأكبر في الأحداث منذ ثورة تونس التي آوت زين العابدين بن علي وأسرته، ثم بروز أنصارها السلفيين في مصر، وافتراشها البساط اليمني بكل اتجاهاته، ودعمها العسكري لحكومة البحرين، وإعلامها المتمكن في زوايا الأرض، كما أنها ذات توجه برجماتي قادر على استثمار كل الأوراق بما فيها العاطفة الإسلامية بدعمها للتوجه السلفي، مشفوعة بقدرتها المالية الهائلة وتحالفها مع الولايات المتحدة.
بالنسبة لقطر فلا أظن أن لديها القدرة على أن تكون بحجم إحدى هذه الدول الثلاث في المنطقة، وإن كانت ربما تكون أكثرهن قدرة على إثارة حماس المحتجين بما تقوم به قناة الجزيرة ذات التوجه الجامع بين الإسلامية والقومية، وهذا من أبلغ ما يؤثر على العاطفة العربية، وكذلك الدعم المالي الكبير الذي تنفقه قطر في العالم الإسلامي والعربي.
ما هدف قطر من ذلك؟ قدم أكثر من رأي حول ذلك، ولكن ربما ما يقارب المنطق التأريخي هو أن حكام قطر قرروا أن يصنعوا منعطفاً يسجله لهم التأريخ وإن كان محفوفاً بالمخاطر المستقبلية.
نهاية المشهد
لم ينته المشهد، بل هو في بدايته الباكرة، ورغم ما قلت من وجود تيار سلفي وقبلي في الأرض العربية مفارق للديمقراطية ومستعص عليها، إلا أن هذا لا يعني عدم حصول تغيّر في الخارطة السياسية في المنطقة، التغيرات قادمة بأي صورة كانت، وعلى الشعوب والأنظمة أن تصمم مستقبلها على ذلك، وهذا لا يستثني بنظري دولة عربية دون أخرى، فالكل مرشح لهبوب رياح التغير على أرضه، بما في ذلك الدول الخليجية اللاعبة في ساحات الاحتجاج، قد يأخذ التغيير وقتاً؛ يقصر أو يطول، إلا أنه حاصل.
على الرغم مما نشاهده من صعود سلفي وقبلي مفارق للديمقراطية، إلا أن ذلك لا يعني أيضاً نهاية التاريخ في المنطقة العربية، وإنما هو مرحلة ستنتقل عنها الشعوب العربية يوماً ما في ظل ضغط تطورات عالمية حضارية كبيرة؛ متعاظمة ومتسارعة، ولن تنكص إلى الخلف، بل تتسرب إلى كل الخلايا الإنسانية، قد تعاني منطقتنا من هيمنة هذا التيار برهة من الزمن، وقد نعاني أيضاً من التحولات، إلا أن الانتقال في نظري حاصل، وعلى الشعوب والأنظمة العربية أن تدرك ذلك وتصمم مستقبلها لاستيعابه والتعامل معه، ببناء منظومات جديدة؛ سياسية وتعليمية واقتصادية ومدنية، بفلسفة جديدة، وليس مجرد تحديث الهياكل القديمة، وأول الطريق فتح باب الحريات؛ وفي مقدمتها حرية الرأي.