قد لا يحتاج المطلع على الشعر التونسي إلى جهد كبير ليدرك أنّ هذا الشعر ينطوي على أزمنة شعريّة كثيرة ، تكشف مجتمعة عن تنوّعه وتعدّده ، وتصوّر على وجه الخصوص ، تردّده بين قديم لا يريد أن يختفي تماما وجديد لم يتمكّن من الهيمنة على الساحة الشعرية هيمنة كاملة.ثمّة في هذه الأنطولوجيا قصائد بقيت مشدودة إلى التراث الشعريّ تسترفد أصوله وتعيد إنتاج عناصره ، وفيها قصائد ثانية أرهفت السمع للحظة الرّاهنة وسعت إلى تأسيس شكل من الكتابة جديد .وفيها قصائد ثالثة ظلّت مرتبطة بأكثر من زمن أي بأكثر من مرجعيّة .
الشعر التونسي لم يكن في يوم من الأيّام متجانس الأصوات ، متشابه التجارب .إنّه هذا التموّج والتباين والاختلاف.
من أجل الإحاطة بهذا الشعر ، وفهم تحولاته ، سنعمد إلى تسليط الضوء على أهمّ تياراته واتجاهاته راصدين أهمّ التغيّرات التي انتابت القصيدة التونسية وهي تحاور نفسها فيما تحاور القصيدة العربيّة الحديثة .
الرومنطيقية الجديدة والشعر الملتزم
شهدت الستينات ولادة القصيدة الحديثة في تونس . كانت هذه الولادة متعسّرة. فعبء التقاليد كان ثقيلا ، وسطوة التراث كانت قويّة .. لهذا كانت هذه القصيدة تنطوي على ضرب من الصراع بين لغة تجيء من الماضي وتريد أن تستمرّ في الحاضر ، ولغة ثانية تريد أن تنبثق من الحاضر وتمضي في اتجاه المستقبل . اللغة الأولى كانت تستعيد أنموذجا للكتابة قائما في الذاكرة ، اكتسب من أثر تكرار بعد تكرار شرعية فنية وجماليّة أمّا اللغة الثانية فقد عدلت عن السنن الشعريّة السائدة ومضت تكتشف ذرى تعبيرية جديدة . اللغة الأولى هي لغة القصيدة الرومنطيقية وأما اللغة الثانية فهي لغة القصيدة الحديثة .
هذا التيّار خلعنا عليه مصطلح “الرومنطيقية الجديدة ” حيث الشعر تعبير عن الانفعالات والمشاعر، أو إذا أردنا الدقّة قلنا إنّه “ترجمة” يتمّ بمقتضاها نقل الأحاسيس من وجود داخليّ، غامض، مشوّش إلى وجود خارجيّ واضح جليّ يتحكّم فيه نظام دقيق هو نظام اللّغة.. وعبارة التّرجمة تشير، في هذا السياق، إلى أنّ الشّعر هو، في المقام الأوّل، انتقال من لغة إلى أخرى، اللّغة الأولى هي لغة المشاعر والأحاسيس، أمّا اللغة الثانية فهي لغة الكلام والإيقاع. ويترتّب على ذلك أنّ الشعر ليس الانفعال فحسب وإنّما هو طريقة مخصوصة في التعبير عن ذلك الانفعال. ولمّا كان الانفعال حالة ذاتيّة وجب أن تكون طريقة التعبير عنه طريقة ذاتيّة أيضا، أو إذا استخدمنا عبارات شعراء هذه المرحلة قلنا وجب أن يكون الشّعر قادرا على الإعلان عن “تفرّده وتميّزه”.
كلّ الشعراء الذين ضمّهم هذا التيّار ومن أهمّهم جعفر ماجد ونور الدين صمود وزبيدة بشير ظلوا على صلة وثقى بالقصيدة التقليديّة يستحضرون أساليبها ومراسم إنشادها ، لكنهم ، سعوا ،في الوقت ذاته ، إلى التطلّع إلى أفق لغويّ وإيقاعيّ جديد مستأنسين بتجربة الشعراء الحداثيّين في المشرق العربيّ .
يلاحظ أن الشعر لدى هؤلاء يثوي عميقا وبعيدا في مطاوي النفس يغذيه حنين إلى زمن آفل أو شوق إلى زمن آت .ولما كانت الذات هي وطن الشعر وبيته فإن القصيدة تحولت، في هذه المجموعة، إلى لحظة بوح واعتراف …الكلمات فيها تستمد من هذا الوطن القصي شحنتها العاطفية وقوتها الدلالية .
كما شهدت الستينات ، وهي المرحلة التي تبنّت فيها الدولة التونسيّة الخيار الاشتراكيّ ، بروز الشعر الملتزم وهو الشعر الذي جعل من السؤالين الاجتماعي والسياسيّ مدار خطابه مسترفدا تجربة شعراء الالتزام في المشرق العربيّ.، مستهديا بأساليبها في نحت الرموز وطرائقها في تصريف القول.
إنّ الشعر سليل الحياة..هذا ما تقوله قصائد الميداني بن صالح ومحسن بن حميدة وأحمد القديدي.. ، وكون الشعر سليل الحياة فهذا يعني أنّ الشعر يسهم في تحرير هذه الحياة، في نقلها من مجال الضرورة إلى مجال الحريّة…
والواقع أن الشاعر التونسي ظل منذ أبي القاسم الشابي شديد الانهماك في الواقع والشعرُ عنده ليس تعبيرا عن حقائق النفس فحسب بل هو تعبير عن حقائق الواقع وقد امتزجت بحقائق النفس. فالإحساس بالخلل ينتاب كلَّ شيء إيقاع متواتر في مجاميع شعراء الالتزام . لهذا تتحوّل الكتابة إلى طريقة نقد للحياة ، محاولة لتقويم ما اختلّ من أمرها .
في القصائد الملتزمة احتفى الشاعر التونسي باللّغة المتعدّية التي عن الخارج النصّي تصدر وإليه تؤول. فالشّعر هنا ذو طبيعة “وظيفيّة” فهو لا يكتفي بتأويل العالم وإنّما يسعى إلى الفعل فيه، يلجم فوضاه ويعيد إليه توازنه المفقود.
هذه الطّبيعة الوظيفيّة للشّعر تقتضي الإبانة حتّى يكون هذا الشّعر قادرا على “إنهاض النّفوس” إلى الفعل، على حدّ عبارة القرطاجني. والإبانة هي قرينة الوظيفة التعبيريّة للشّعر حيث تصبح اللّغة وسيطا شفّافا تبين عمّا تحمله وتخبر عنه..بسبب من هذا توقّى هذا الشعر الاستعارات البعيدة والرموز الغامضة واستدعى الصور المألوفة التي تفرض على المتقبّل ان يحملها على ظاهرها فلا يعدل بها عنه فالألفاظ قريبة والمعاني مكشوفة والرّموز إذا جاز لنا أن نتحدّث عن رموز من اللّوازم القريبة للكلمات. فالشّاعر كان أشدّ اتّكاء على العبارة المألوفة وأقلّ عناية بطاقات اللّغة الاستعاريّة. لهذا وقع الكثير من هذا الشعر فريسة الأساليب النّثريّة.
ويتجلّى الالتزام أقوى ما يتجلّى في قصائد حركة شعريّة تبنّتها مجلّة الفكر واحتضنتها منابر الجامعة التونسيّة هي “حركة في غير العمودي والحرّ”.
في غير العمودي والحر أو قصيدة النثـر بنبرة تونسيّة
هذه الحركة ظهرت في أواخر الستينات ” واحتضنتها مجلة “الفكر” و”العمل الثقافي” ومجلة “ثقافة” والصفحات الأدبية ببعض الأسبوعيات (الأيام، المسيرة، الناس…) .يقول الطاهر الهمامي وهو أحد مؤسسيها :كانت هذه الحركة تمثل -إلى جانب نزعات أخرى ثانوية نزعت منزع “قصيدة النثر”- الجناح الشعري لحركة الأدب التجريبي” مضيفا : وبالعودة إلى أحداث القرن الأدبية والفنية في تونس يتبين للناظر أنه لم تدُر رحى خصومة حول “بدعة” شعرية دورانها حول “غير العمودي والحر” ولم تتخذ القصيدة ميداناً لطرح أطروحاتها اتخاذه ها هنا، ولم تستغرق السنين التي استغرقتها، وذلك كان بسبب من “القطيعة” المعلنة والمجسدة في مستويات العُدول.
يعدّد الهمامي هذه المستويات منها:
-عدول على مستوى النظام الإيقاعي حيث هجر “التجريبيون” عروض الخليل بمختلف تطبيقاته (عمودي، موشح، حرّ…) وراحوا يستنبطون أو يزعمون استنباط الشكل الإيقاعي الأشكَل بدهرهم، والملائم لكل قصيدة على حدة.
– عدول على مستوى اللغة حيث عنّ لرواد هذه “المغايرة” أن يفتحوا القصيد على المستعمل من الكَلِم ويوشِحوه بلسان “العامَّة” ومأثور المعيش واليومي بحثاً عن لُقَى النادر والبديع في غضون العادي، وهذا ما أشار إليه توفيق بكار وهو يقدم “الحصار” (1972) باكورة أشعار الطاهر الهمامي حين قال إنه “لا يخشى اللقطة الشعبية والعبارة العامية.. ينزّلها في الكلام الفصيح لم نجد ثائرة المعترضة ثارت ثورتَها على العدول عن استقامة البحور “وسلامة” اللغة، الذي عدَله رواد “غير العمودي والحر” ومنتهجو نهجهم، عدا فضيلة الشابي، ثالثة الثالوث بعد الزناد
-عدول على مستوى التشكيل البصري حيث لم يعرف النص الشعري التونسي طيلة القرن 20 في مستوى جماليته الطباعية تحوّلاً كالذي عرفه مع هذه التجربة وبداية منها.
-عدول على مستوى الموضوع حيث أزعج الذائقة السائدة من شعر الطليعة، عدا مظاهر الخروج الشكلية، موضوعُه الذي كثيراً ما حفل بالمغمور والمهمل والمنسي والمتروك والمحقور والمرذول والملتبس، وهو جانب التفاصيل الصغيرة واللحظات القصيرة من واقع الحياة، وعليه، خرقُ العادة التي جرت بِقصْر الشعر على “النبيل” و”السامي” و”الأصيل” و”النقي” و”المعقول” في المنظور الكلاسيكي ثم الرومانسي، الذي ظل ثابتاً ولم يُغيّر منه الشعر الحر شيئاً كثيراً.
– عدول على مستوى جنس الكتابة واصطلاحاتها حيث وَضعت دوالَ الجهاز القائم موضع المراجعة ونُودِي بالتخلي عنها واعتماد بدائل من صلب الكتابة الجديدة، فرفِض مصطلح القصيدة ومصطلح الأدب بل ومصطلح الشعر دون أن يقع الاستقرار على اصطلاح بديل، فقد استُعمل حيناً مصطلح “إنتاج” ثم حيناً آخر “خلق” ثم “كتابة” وحيناً “نص” وكان أحد مبررات هذا الاستبدال إن لم يكن أهمها القول بزوال الحدود والفواصل بين أجناس الأدب والفن وتحقيق جنس عابر لها جميعاً عبر كتابة جامعة أو فن شامل.
إنّ المتأمّل في هذه القصيدة يلحظ أنّها تنطوي على حوارين اثنين : حوار تعقده مع القصيدة الحديثة ، وعلى وجه الخصوص قصيدة النثر وحوار ثان تعقده مع الواقع الذي صدرت عنه .أمّا حوارها مع القصيدة الحديثة فيتجلى في الخروج على الأوزان ، واستدعاء الاقتعة والرموز تنهض بوظيفة المعادل الموضوعي مستلهمة شعراء كبارا مثل اليوار وأراغون .وأمّا حوارها مع الواقع فيتمثّل في الجدل الذي تعقده مع الأحداث تتشرّب جوهرها العميق وتتخلّى عمّا عداه . فالشعر ، لدى هذا الجيل ليس تعبيرا عن حقائق الرّوح فحسب وإنّما هو تعبير أيضا عن حقائق التاريخ أيضا .
وعلينا أن نقرّ أنّ الإيديولوجيا كانت بمثابة النهر السرّي يجري تحت سطح القصيدة يغذّي رموزَها وصورَها وأقنعتَها …لكنّ الشاعر هنا لا يحاور الإيديولوجيا من الخارج كما يفعل الكثير من الشعراء وإنّما يحاورها وهو في كنفها ، يسائلها وهي مستظلّ به ، فعلاقته بها ليست علاقة ذات بموضوع وإنّما هي علاقةٌ رحميّةٌ فيها تتضايف المعرفة بالوجود . بهذا المعنى فهم الشعر الملتزم ، وبهذا المعنى أجراه الشعراء في قصائدهم ..إنّه التزام انساني ّ ” ، إذا صحّت العبارة ، مركزه الإنسان الذي يسعى إلى تجاوز منزلته في اتجاه المزيد من الانعتاق والحريّة.:..
الشعر الكوني
هذا التيار يضمّ في الواقع عددا من التجارب الشعرية ، ولكل تجربة خصائصها الفارقة . لكن هذه التجارب ظلّ يجمعها ، على اختلافها، احتفاؤها بالدالّ وإيلاؤها أساليب القول عنايتها الكبرى .هذا الفهم لفاعليّة الشعر بوصفها فعلا لازما يشدّ الانتباه إليه قبل أن يشدّه إلى شيء آخر خارجه يتبدّى واضحا في قصائد خالد النجار ومنصف الوهايبي وعلي اللواتي بشير القهواجي ومحمد الغزي وفي مراحل لاحقة فتحي النصري ومحجوب العياري وحسين القهواجي ومجدي بن عيسى ومكي الهمامي .. واهتمام هذا التيّار بأدوات القول لا يعني أنّه منفصل عن النصوص السابقة غير مرتبط بها . فقصائد هذا التيّار موشومة بنيران نصوص أخرى لعلّ أهمّها النصّ الصوفي والنصّ الشعريّ العربيّ الحديث والنصّ الشعريّ الغربيّ ….كما أنّ هذا التيار جمع بين النظام الإيقاعي ّ القديم بقواعده المقرّرة وقوانينه المقدّرة والنظام الإيقاعي الجديد ويتجلّى هذا الجمع أقوى ما يتجلّى في نصوص الاتجاه الصوفي التي تداخل فيها الإيقاعان : الإيقاع الحديث والإيقاع التقليدي القائم على وحدة القافية والرويّ والبحر ..لكأنّ الشاعر يريد أن يقول إنّ هناك “شيئا ما ” لم يمت في القصيدة ذات الإهاب التقليدي شيئا مازال قادرا على الكلام ، على عقد أواصر مع القارئ ، على النهوض بأعباء التجربة . هذا الشيء هو الذي سعى الشاعر التونسي إلى اختباره في قصائده، إلى مساءلته واستنطاقه .
هذا الضرب من الشعر يذكرنا في معجمه ورموزه بالشعر الصوفي القديم وهو الشعر الذي يُمتحن بالطبع لا بالفكر ويُدرك بالانفعال لا بالمعرفة….لكنّ التصوّف هنا ليس امتدادا للتصوّف القديم ولكنّه استدعاء للغة عاشقة شفيفة تقوم على التلويحات العرفانيّة والصّور الاستعارية بل يمكن القول إنّ قصيدة هذا التيار ليست قصيدة صوفيّة ، بالمعنى المتداول للكلمة ، ولكنّها تشعّ بدلالات صوفيّة.
أمّا لغة هذا التيّار فهي لغة لازمة تحيل القارئ على نفسها قبل أن تحيله على ما هو خارج عليها ، لغة تشبه الزجاج المعشّق الذي يشدنا لزخارفه وألوانه قبل أن يشدنا إلى ما وراءه . إنّ مهمّة اللّغة، في هذه المجموعة، ليست محاكاة الأشياء والتشكّل طبقا لصورها القائمة في الواقع الخارجيّ، وإنّما مهمّتها الأولى أن تتجاوز دلالاتها المعجميّة ، وحُدودها النفعيّة ، أو إذا استخدنا عبارة النقّاد القدامى أن تدور على غير أسمائها ، ليستصفي الشاعر منها إمكانات غير متوقّعة، ومعاني جديدة كامنة في طيّاتها. لهذا يمكن أن نعدّ كل قصيدة من قصائد هذا التيار”استعارة موسّعة“ يُسْلِمنَا، خلال قراءتها، الرّمز إلى رمز، والصورة إلى الصورة في ضربٍ من التّداعي الذي لا يُرَدُّ.
كلّ هذا يفضي بِنا إلى القول إن القارئ مدعوّ إلى التَأنّي عند لغةِ هذا الاتجاه بِوصفها موضوعا يحتلّ منها مكان الصّدارة وقد أوضحنا أن اللّغة، في هذه القصيدة لا تحاكي شيئًا، ولا تنقل شيئًا وإنّما هي عالم قائمٌ بذاته، مُفْعَمٌ بالحياة، ينطوي على امكانات دلالية شتى وكأنّ غاية القصيدة الأولى هي إيقاظ حسّ الدّهشة في القارئ واستنفار ملكة الفضول لديه .
ومن أجل تحقيق هذا الهدف عمدت هذه القصيدة إلى استرفاد رؤاها وصورها ورموزها من آفاق معرفية وثقافية شتّى (روني شار ، سان جون بيرس ، الشعر الياباني…) فكان من نتائج هذا الاسترفاد ،من مصادر ثقافيّة مختلفة ، أن انتقلت قراءة القصيدة من فاعليّة سلبيّة إلى فاعليّة إنتاج وإبداع.
تحديث القصيدة الملتزمة
مع منصف المزغني وفي مرحلة لاحقة مع الصغير أولاد أحمد جنحت القصيدة الملتزمة إلى أسلوب السخرية ، وهي سخرية لاذعة ، سوداء ، فيها قسوة ومرارة ، وفيها جرأة وتحدّ .كلّ شيء ، في قصائد هذين الشاعرين قد طالته سياط السخرية وهي سخرية حكيمة ، عاقلة ، لم يعرفها الشعر الملتزم العربي الذي هو في الأغلب الأعمّ شعر متجهّم ، صارم ،رصين .
المزغني لم يُعرف بشعره فحسب بل بطريقة إنشاده لهذا الشعر..فهذا الشاعرعوّل كثيرا على الإنشاد طريقا لشدّ المتقبّل ، وربّما لتجسيد معاني النصّ وإبانة ما خفي فيه من دلالات ..بل إننا وجدناه أحيانا يضع ألحانا لبعض قصائده لاغيا بذلك الحدود بين الشعر والموسيقى ، بين الكلمات والأصوات..
شعر أولاد أحمد شديد الارتباط بالواقع الاجتماعي التونسي يشهد له حينا وعليه حينا آخر لكنّ هذه الوظيفة المرجعية ،كما يسمّيها النقاد المعاصرون ، لا تنفي عن هذا الشعر وظيفته الإنشائية وهي الوظيفة التي تؤمّن له أدبيّته وتخرجه مخرجا فنّيا…بعبارة أخرى نقول إنّ علاقة هذا الشعر بالواقع ليست علاقة كنائية أي علاقة تجاور وإرداف ، وإنّما هي علاقة استعاريّة أي علاقة تفاعل وحوار.. النصّ الكنائي يظلّ على علاقة وطيدة بالمرجع موصولا به وصل تماسّ وترابط أمّا النصّ الاستعاريّ فإنّه ينفصل عن المرجع ليؤسّس كيانه المستقلّ وهويّته الخاصّة .
جيل التسعينات
حين نخلع على عدد من الشعراء مصطلح جيل التسعينات فنحن لا نشير إلى وجود وشائج فكرية أو فنية تجمع بينهم …كلاّ فهؤلاء الشعراء لا يسعون إلى توكيد عناصر الاتفاق تجمع بينهم وإنما يسعون ،على عكس ذلك ، إلى توكيد عناصر الاختلاف تباعد بينهم .
فهذا الجيل قد تجاوز مفاهيم التيّار والحركة والاتجاه بما هي ضرب من التقارب في التجارب والرؤى في اتجاه الانتصار لمفاهيم الفرادة والتميز والاختلاف.وهذا لا يعني أنّ شعراء التسعينات منفصلون عن الأجيال الشعرية السابقة.. فأثر هذه الأجيال واضح في قصائدهم ،سواء على مستوى الأسئلة أو على مستوى الأساليب..
ونحن إذا تمعنّا في قصائد هذا الجيل نلحظ أنّها تنطوي على جدلين اثنين : جدل داخليّ خاصّ بها وجدل خارجيّ مع القصائد السابقة .أمّا جدلها مع نفسها فيتمثّل في الحوار الذي تقيمه مع اللغة ، تطوّعها لخصوصية التجربة باستمرار..وأمّا جدلها الخارجي فيتمثّل في الحوار الذي تعقده مع القصائد السابقة تستلهمها حينا وتستدرك عليها حينا آخر.
من بين شعراء هذا الجيل نذكر : آمال موسى ، مجدي بن عيسى ، نصر سامي ،عادل معيزي ، عبد الفتاح بن حمودة ، مراد العمدوني ، الطيب شلبي ، محمد الهادي الجزيري ، نورالدين بالطيب ، شمس الدين العوني ، حافظ محفوظ ، سامي السنوسي ،الشاذلي القرواشي فاطمة عكاشة .
إنّ الشعر ، لدى هؤلاء الشعراء ليس وعاء لمعنى نثري سابق في الوجود، كما انه ليس مرآة تعكس العالم الموضوعي أو تعيد استنساخه، أو تحاكيه .قصائد هؤلاء الشعراء قصائد مركّبة تجدل خيوطها صور ورموز عديدة متداخلة،. هذه القصائد تنهض على المفارقات، وعلاقات التماثل والتقابل، والحوار المستمرّ بين الصّفات والخصائص النّوعيّة المختلفة. وقد أسهم حوارها مع قصائد اخرى عربية واجنبية في تطوير نزعتها الدّراميّة وذلك بما انطوت عليه من جدل بين أطراف متقابلة متفاعلة (مثل الحاضر والماضي، والذّات والآخر، والأسطورة والتّاريخ…).
الشعر الأجدّ
لا شكّ في أنّ الأحداث التي شهدها المجتمع التونسي في 2011 قد وشمت ذاكرة الأدب التونسي وتركت في جسده أثراً لا يمكن محوه أو التهوين من شأنه. غيرأنّ الأدباء اختلفوا في تعاطيهم مع هذه الاحداث اختلافا بيّنا . أغلبهم عاد إلى الأدب الملتزم ينفخ الروح في جسده الميّت متمحّلا حججا شتّى لتبرير استعادته .ونقصد بالأدب الملتزم الأدب الذي يستخدم اللغة المتعدية تحيل على الخارج النصي ومنه تستمد شرعيّتها وشعريّتها .فإذا كان الأغلب الأعمّ من الكتاب والشعراء ارتدّوا إلى هذا الأدب تحمّسا واستئناسا بأشكال جاهزة للتعبير عن احتفائهم بالثورة وتمجيدهم لرموزها فإنّ القليل منهم قد حاول أن يحوّل حدث الثورة إلى سؤال فنّي ، إلى هاجس جماليّ..
أغلب القصائد التي كتبت عقب هذه الأحداث كانت انفلاتا تلقائيا للمشاعر، وتعبيرا مباشرا عن حماسة طارئة .لقد نسي شعراؤها، في غمرة حماستهم، أنّ الشعر ليس الانفعال وإنما هو تحويل الانفعال إلى شكل، أي إلى طريقة في القول مخصوصة، أي إلى كتابة على غير مثال سابق …فالفن مثل الحياة لا يتجلى على هيئة واحدة مرتين، كل تجل يأتي في شكل جديد ويذهب في شكل قديم .
من الشعراء الذين خرجوا على هذا النمط من الشعر الذي يتّكئ على اللغة المتعدية المنصف الوهايبي وفتحي النصري . الوهايبي في مجموعته “”تمرين على كتابة يوم الجمعة 14 جانفي 2011 وقصائد أخرى” جنح إلى شعر هامس ، متأمّل أمّا الشاعر فتحي النصري فقد ظلّ متشبّثا بغنائيّته الرقراقة التي تحوّل الشعر إلى نشيد طويل يحتفي بالحياة ، مطلق الحياة .
حركة نص
تأسست هذه الحركة في صيف 2011 وضمّت عددا من الشعراء من ضمنهم زياد عبد القادر ،امامة الزايري وصلاح بن عياد وخالد الهداجي وشفيق طارقي وعبد الفتاح بن حمودة ونزار الحميدي. وقد أعلن بيانها الشعري الاوّل الانشقاق عن السائد والمألوف يقول شفيق الطارقي معرّفا هذه الحركة ” إنّها تجاوز للمفهوم النّمطيّ للانتماء .إنّها معادل للاختلاف وكل محاولة لمأسستها أّو لقولبتها جناية في حق الحركة بما هي إرباك بما هي دهشة , وجريمة في حقّ النّصّ بما هو قراءة بما هو تعدّد …حركة نصّ امتداد داخل القطيعة وقطيعة داخل الامتداد. إنّها موقف مضادّ للقبح المستشري في الثّقافيّ التّونسيّ, وفي الشّعريّ منه خاصّة, مضادّ للانتهازيّة ,للمكر, للتّسطيح الذي نال من العمليّة الابداعية وأحالها إلى دسائس تحاك وإلى أعراض نأت بالكتابة عن جوهرها …النّصّ غاية أو لا يكون. حركة نصّ تواصل مع كلّ جميل وقطيعة مع كلّ قبيح .
هكذا أفهم حركة نصّ, هكذا دخلت مقهاها حيث لا شيء يجمع بيننا إلاّ الغياب.. الحاضر هو النّصّ.. لا جامع بيننا إلاّ النّسيان.. الذّاكرة للنّصّ …لا شيء نتقاطع فيه إلاّ تعدّد قراءاتنا ورؤانا ”
ويشير شفيق الطارقي إلى مراجع هذه الحركة الشعرية فيقول :”من لم يقرأ فتوحات الشّيخ وطواسين القطب من لم يشرح صدره للإنسان سيخطئ نعله مقهى النّصّ قد يدخل بارا في مدن فقدت عذريّتها.. أو يدخل كهفا.. أو قفصا صدريّا …في مقهى النّصّ يجلس” بودلير” إلى حيرته و”أدونيس” إلى مهياره” درويش” إلى زهرة لوزه و”المتنبّي” إلى أشراط نبوءته ..”سركون بولص..” و” بول شاوول.. ” “طفلة الشعر الأرجنتيني” تعاتب ملك الموت …
في مقهى النّصّ …لا نتشابه …نحن مختلفون تماما, مختلفون كما لا يمكن أن تتصوّر.. لكل منّا تعويذته, ولكلّ شكل صلاته …”
من خصائص قصائد هذه الحركة أنّها استبدلت الذّاكرة الجماعية بالذّاكرةِ الشخصية، أو لنقُلْ أنّها توسّلتْ بالذّاكرة الشخصية للإفصاحِ عن الذّاكرة الجماعية. فالشعراء قد جعلوا من الصور والرموز والأحداث التّاريخيّة ”معادلاً موضوعيًّا“ لتجاربهم تصوّرها وتفصحُ عنها.وفي هذا السياق لوّحوا من بعيد إلى الأحداث التي هزت المجتمع التونسي هزّا عنيفاّ وفي هذا التلويح نستشفّ نبرة انكسار وربّما نبرة إحباط..فالأمل الذي ربّاه الشعراء بات آيلا إلى التلاشي والضياع .
وقبل أن نختم هذا العرض نريد أن نلاحظ أنّ هناك عددا من الشعراء لا ينتمون بالضرورة إلى إحدى الحركات التي ذكرنا ظلوا يكتبون تجاربهم بمنأى عن كل اتجاه شعري نذكر منهم :شوقي العنيزي وسفيان رجب وسنية المدوري وهدى الدغاري…
خاتمة
لم يعرف الشّعر التونسي، في أيّ وقت من الأوقات ،ما عرفه في هذه السنوات الأخيرة ، من تشقيقٍ لأسئلته، على إثر التحوّلات السياسية العميقة التي شهدها المجتمع التونسي . فقد أثارت عودة الشعر ” الملتزم ” بنبرته العالية ولغته المتعدية سؤال الأشكال الشعريّة من جديد..ومن جديد عاد الحديث عن رسالة الشعر ووظيفته .
وبينما اندفع معظم الشعراء إلى التغني بالانتفاضة والاحتفاء برموزها متوسّلين بأساليب مباشرة نجد عددا من الشعراء الآخرين من أمثال يوسف رزوقة وعبدالله القاسمي وحسين القهواجي وحافظ محفوظ يواصلون تجاربهم الإبداعية ، غير عابئين باللغط الذي ارتفع حولهم. .ولا يعني أنّ شعر هؤلاء منفصل عن الواقع ،غير منخرط في بلباله ..هذا الشعر ، ، على عكس ما يتصور الكثيرون ، موصول بالحياة، يخبرُ عنها ويفصح عن حقائقها المستترة لكنّه لا يتغنى وإنّما ينقد ، ولا يحتفي وإنّما يستدرك . وربّما ذكّرتنا بعض نماذجه بعبارة كولردج التي يقرّرُ فيها أنّ قيمة الشّعر رَهْنٌّ بمدى ما يتحقّق من نظرة ناقدة للحياة.
لكنّ هؤلاء تنكّبوا عن وعي عامد عن اللغة المتعدّية ذات المنزع الإخباري والخطابي المباشر وجنحوا الى لغة خافتة حيية تقترب من الصمت .
وينبغي الإقرار أن اللغة المباشرة قد أسقطت الكثير منْ الشعر التونسي الذي كتب بعد التحولات السياسية الاخيرة في تقريريّة مُفرطة يندّ عنها طبع الشّعر. ومن المعروف أن هذه اللّغة لا تجرّد الشعر من هويّته وحسب، بل تقتل اللّغة الشعريّة ذاتها وتحوّل لألاء نارها إلى رمادٍ. وذلك لأن اللّغة المباشرة تنتجُ شعرًا لا يريد أن يؤثّر بخصوصيتهِ الفنيّة اللّغويّة بل بالمضمون الذي ينطوي عليه، شأنه في ذلك شأن النثر العاديّ.