أنطوان شلحت
تطرح متابعة التداعيات التي ترتبت على الحرب الإسرائيلية العدوانية على قطاع غزة، بشرًا وحجرًا، والتي بدأت يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ردًّا على عملية «طوفان الأقصى» للمقاومة الفلسطينية، السؤال: أي إسرائيل يواجه الفلسطينيون والعرب في الوقت الحالي، لا على المستوى السياسي والعسكري فقط إنما أيضًا على مستوى المعنى والصيرورة؟
قبل محاولة استكمال الجواب عن هذا السؤال، بمنأى عن مقاربات تحميل الواقع أكثر مما يحتمل وعن المقاربات التي تؤمثله، سواء بسواء، ينبغي أن نشير إلى أنه منذ صعود حركة المقاومة الإسلامية حماس إلى سدّة الحكم في قطاع غزة عام 2007 وحتى الآن، شنّت إسرائيل 10 عدوانات حربية بما في ذلك العدوان الحالي المُسمّى «عملية السيوف الحديدية»، تحت مسميات مختلفة، وذلك على النحو التالي: «شتاء ساخن» (2008)؛ «الرصاص المسبوك» (2008-2009)؛ «رجع الصدى» (2012)؛ «عمود سحاب» (2012)؛ «الجرف الصامد» (2014)؛ «الحزام الأسود» (2019)؛ «حارس الأسوار» (2021)؛ «مطلع الفجر» (2022)؛ «درع وسهم» (2023). وقبيل هذه العدوانات وبالتزامن مع آخر أعوام الانتفاضة الفلسطينية الثانية (اندلعت عام 2000) شنت عدوانين: «مطر أوّل» (2005) و«أمطار الصيف» (2006).
وفي سياق آخر، كان ثمة من أشار إلى أن إسرائيل تبدو مفتونة منذ إنشائها بعقيدة «الجدار الحديدي» التي وضعها زعيم التيار التنقيحي في الحركة الصهيونية زئيف جابوتنسكي وتبناها جيل المؤسسين بزعامة ديفيد بن غوريون، وهي تقوم على وجوب تأسيس قوة مدافعة عن المستوطنين اليهود تكون بمثابة «جدار حديدي لن يكون بمقدور السكان الأصليين اختراقه». وفي هذا الخصوص، من الحق أن يُشار إلى أنه في أحد النصوص حول هذه العقيدة، وهو نصّ بعنوان «عن الجدار الحديدي» (1923)، سخر جابوتنسكي من صهاينة يحاولون الترويج بأن العرب في فلسطين إمّا «أغبياء يمكن خداعهم عبر صياغة مُخفّفة لأهدافنا (الصهيونية) الحقيقية»، وإما «أنهم قبيلة جشعة سوف تتنازل لنا عن أحقيتها في فلسطين في مقابل مكاسب ثقافية واقتصادية». وأوضح أنه يرفض قبول هذا الرأي بشأن عرب فلسطين بشكل قاطع، معلنًا: إنهم مثلنا تمامًا عارفون ببواطن النفوس، دقيقو الملاحظة، وتتلمذوا على أسلوب المحاججة الحادّة، ومهما روينا لهم فسوف يحسنون فهم ما يدور في أعماق نفوسنا تماما مثلما نفهم نحن ما يدور في أعماق نفوسهم.
وكتب جابوتنسكي حرفيًّا ما يلي: «إنهم ينظرون إلى فلسطين بنفس الحب الغريزيّ وبنفس التعصّب العضوي اللذين رافقا علاقة الأزتيك مع مكسيكهم، والسيوكسيين مع صحرائهم. إن وهْم البعض بيننا بأنهم سيرضون بتجسيد الصهيونية في مقابل مردودات ثقافية واقتصادية يجلبها معه المستوطن اليهودي نابع من نظرة ازدراء أساسها فكرة مسبقة عن الشعب العربي، ونابع من آراء غير مسندة تعتبر هذا العرق جماعة من الرعاع تلهث وراء المال وعلى استعداد للتنازل عن وطنها في مقابل شبكة خطوط سكة حديدية جيدة. إن عرض الأمور على هذا النحو لا أساس له بتاتًا».
في الصيرورة الحاليّة لإسرائيل
بالوسع ملاحظة أن الحرب الإسرائيلية الراهنة على قطاع غزة أبرزت مَن يوصفون بأنهم «أبطال إسرائيليون جدد»، كما تسبّبت بسكّ مصطلحات يتم تداولها لأول مرة. ولا شك في أن كل هذا سيظلّ جزءًا من المشهد العام والخطاب السائد في الزمان اللاحق، ما يجعل من ذلك مشروعًا مفتوحًا باستمرار على مزيد من الأسئلة المتعلقة بما آلت إليه إسرائيل، مجتمعًا وقيادةً، على صعيد صيرورتها الراهنة.
وعلى سبيل المثال وليس الحصر، يقف في طليعة هؤلاء «الأبطال» باحث في الشؤون الأمنية يُدعى إلياهو (بهروز) يوسيان، وهو يهودي من أصل إيراني، من طاقم «معهد مسغاف للأمن القومي والإستراتيجية الصهيونية» التابع لتيار اليمين الإسرائيلي الجديد، ومتخصص في الشؤون الإيرانية. وتتمثّل «بطولته» في دعوته المتكررة إلى قتل السكان الغزيين عن بكرة أبيهم. واللازمة التي يكرّرها يوسيان في كل أستوديوهات التلفزة الإسرائيلية هي التالية: «إذا كانت إسرائيل راغبة في البقاء على قيد الحياة يتعيّن عليها أن تجتاح غزة بكل وحشية بهدف الثأر، ومن خلال صفر أخلاق، ولغاية تكديس أكثر ما يمكن من جثث القتلى». وعندما يكرّر هذا لا أحد يعترض أو حتى يتحفظ مما يقوله، ما تأدّى عنه شرعنة الدعوة إلى قتل كل سكان غزة.
وعلى المستوى الرسمي، يكرّر وزير الزراعة وعضو «الكابينيت» الإسرائيلي، آفي ديختر، وهو رئيس سابق لجهاز الأمن العام «الشاباك»، منذ اليوم الثالث للحرب، خلال مقابلات إذاعية وتلفزيونية، بأن عهد وجود أبرياء في غزة انتهى إلى غير رجعة. والحرب الحالية ليست جولة أخرى بل معركة حقيقية لتغيير الأمور رأسًا على عقب.
ويدعم خلاصة ديختر كثير من الساسة الإسرائيليين أبرزهم وزير الخارجية والدفاع السابق أفيغدور ليبرمان، كما دعمتها ورقة تقدير موقف صادرة عن «معهد مسغاف» المذكور أعلاه، تشير إلى أن 60 بالمائة من سكان قطاع غزة يؤيدون حركة حماس من ناحية سياسية ويدعمون كفاحها المسلّح ضد إسرائيل، وبناء على ذلك فالاستنتاج المطلوب هو ضرورة إسقاط أي فصل أيديولوجي أو سياسي بين معظم السكان في القطاع وبين حماس. وعنونت إحدى وسائل الإعلام الناطقة بلسان اليمين الإسرائيلي تقريرها حول محتويات تلك الورقة بالعبارات التالية: «أبرياء؟ ليس في قطاع غزة…». وحتى الآن درج قادة إسرائيل على الادعاء بأن «عدونا هو حماس وليس سكان غزة»، ولكنهم في الوقت ذاته حرصوا على أن يضيفوا إلى ذلك قولهم إن «سكان غزة مذنبون بسبب انتخابهم لحماس». وكانت أكثر غاية يلّحون على ترسيخها في أذهان العالم، فضلًا عن الظهور بمظهر الضحيّة الأبدية، هي استبعاد أي مقارنة بين إسرائيل وحماس. وفي هذا الشأن، بزّت وزيرة العدل الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني الجميع بقولها إنه لا وجه للمقارنة بين إسرائيل وحماس، فهذه الأخيرة تقتل المدنيين على نحو متعمّد في حين أن دولتها تقتل المدنيين من دون قصد. وأضافت بشكل جازم أن هذا هو الفارق بين القتل والقتل العمد. وكان يُفترض بها، باعتبارها قانونية وليست سياسية فقط، أن تعلم علم اليقين أن حتى من يُتهم بالقتل غير العمد يُعاقب أيضًا بالسجن فترة طويلة.
ولوسائل الإعلام الإسرائيلية في معظمها حصة كبيرة في زيادة الضبابية والغموض أكثر من المساهمة في الكشف والتعرية والإيضاح، وبعضها تعدّى ذلك إلى تبرير وسائل القوة المفرطة التي استعملتها آلة القتل والعدوان الإسرائيلية وما تزال، ناهيك عن تبرير الحرب نفسها. وتتعامل وسائل الإعلام -إلا فيما ندر- بلامبالاة كبيرة ومثيرة للتقزّز مع قدرة المجتمع الإسرائيلي العلنية والكامنة على التسليم بقتل الأطفال، بعضه بتفهم، وبعضه بموافقة، وبعضه الآخر حتى بحماسة شديدة.
ولا شك في أن ما يمكّن هذا العالم المتوحّش من البقاء والاستمرار هو بدايةً عدم مواجهته بالحقائق والوقائع النازفة من قطاع غزة، وهو لا يُواجه بها نظرًا لأن الذراع العامة المؤتمنة على نقل الحقائق (وسائل الإعلام الإسرائيلية) تتقاعس عن القيام بمهمتها. ولكن في العمق يعود سبب ذلك إلى حقيقة أن العنصرية في إسرائيل ذات سمة بنيوية. وللتمثيل على تلك السمة كان الكاتب الإسرائيلي سامي ميخائيل، رئيس «جمعية حقوق المواطن»، قد توقف في أحد الكتب الصادرة عن تلك الجمعية عند سيرورتي التطوّر في ما يتعلق بقضية العنصرية اللتين شهدتهما الولايات المتحدة وإسرائيل بصفتهما دولتين كانت فيهما منذ تأسيسهما عنصرية وفجوات اجتماعية عميقة، وقارن فيما بينهما. وخلال هذه المقارنة نوّه إلى أنه فيما يخصّ قيمة المساواة، لا تزال في إسرائيل نزعة متأصلة نحو التمسّك بالنظرية التي ترى أن «الغير» أدنى. وعلى خلفية أصوله العربيّة، شمل ميخائيل ضمن هذا «الغير» كل من هو «غير يهودي» و«غير أشكنازي» (الأشكنازي هو اليهودي من أصول غربيّة).
وفي عام 2013 كتبت عالمة الاجتماع الإسرائيلية إيفا إيلوز مقالة مطوّلـة حلّلت فيها أسباب تحوّل إسرائيل إلى دولة عدوانية وعنصرية، وخلصت إلى استنتاج فحواه أن العنصرية باتت بنيوية. وقد استهلتها بالإشارة إلى أن 800 ألف شخص شاركوا، في تشرين الأول/ أكتوبر 2013، في مراسم دفن الحاخام عوفاديا يوسف (الزعيم الروحي لحزب شاس الأرثوذكسي والحاخام السفارادي الأكبر السابق لإسرائيل) وأثنى الساسة من كل الأحزاب والكتل البرلمانية عليه. وقالت إنه في عام 2010، عندما كان يوسف لا يزال كما هو على مرّ أعوام طويلة، أي «ماكينة سياسية فائقة القوة وذات تأثير واسع في السياسة والمجتمع في إسرائيل»، تحدث في إحدى عظاته الأسبوعية عن العمل الذي يؤديه يهود وأغيار في يوم السبت، فقال: «لم يولد الأغيار إلا لخدمتنا، وتلبية حاجاتنا. وإذا لم يكن كذلك، فلا مكان لهم في العالم. (إنهم موجودون) فقط من أجل خدمة شعب إسرائيل». وحتى تكون النقطة واضحة أكثر، أضاف يوسف: «لماذا ينبغي للأغيار أن يعيشوا؟ لإنهم سيعملون، وسيحرثون، وسيزرعون وسيحصدون. ونحن نجلس كأفنديين ونأكل». وتابعت إيلوز أن ملاحظات يوسف هذه يتبناها حاخامون كثر وجمهور كبير من أنصار شاس وقطاعات أخرى في المجتمع الإسرائيلي، من شرقيين وأشكناز. وعدا عن الملاحظات ذاتها يجدر التوقف عند قراءة الإعجاب بيوسف وأفكاره، ومقارنته بأي بريطاني أو فرنسي أو عربي يطلق مثل هذا الكلام على اليهود وكيف كان سيثير الاشمئزاز، ولكن هذا الرجل الذي أطلق الكثير من الأوصاف المثيرة ضد غير اليهود نال الجوائز والثناء والقبول الصامت أو اللامبالاة من جانب المجتمع الإسرائيلي واليهود في العالم.
وحاججت إيلوز الذين يبررون العنصرية الإسرائيلية بالقول إن العرب أو الأتراك يتعرضون أيضًا إلى التمييز في فرنسا أو ألمانيا مثلًا، وإن إسرائيل ليست أسوأ من مثل تلك الدول، وقالت: إن العنصرية التي مصدرها السكان تختلف عن العنصرية التي مصدرها قوانين الدولة (أي العنصريّة البنيوية). وأكدت أنه عندما يترسخ مثل هذا التناسب يسهل تسويغ العنصرية. لكن ما يتعيّن الانتباه له هو أنه بعد مأسسة العنصرية والمصادقة عليها من جانب الكيان الأقوى -الدولة- فإن القيم العامة ضد العنصرية تضعف كثيرًا. وبرأيها، بينما تبدو معارضة العنصرية وحماية حقوق الإنسان في إسرائيل كما لو أنها «مواقف يسارية متطرفة»، فإنها في الدول الليبرالية مجرد قيم أساسية مشتركة لليسار واليمين على حدّ سواء.
ويعتقد سامي ميخائيل أن التصريحات التنميطية التي يُطلقها مصممو الرأي العام ذات تأثير كبير في تجذير العنصرية في إسرائيل، وأنه ليس المروّج للعنصرية فقط مسؤول عن زرع بذور الفتنة، وإنما يشاركه في المسؤولية أولئك الذين يُنكرون وجود جريمة العنصرية.
قبل ميخائيل وإيلوز، اللذين نستعيدهما هنا كنموذجين أو كشاهدين من أهلها من نماذج وشهود كثر غيرهما، ندّد البروفيسور شلومو ساند، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة تل أبيب، في كتابه «كيف لم أعد يهوديًا؟» (صدر بترجمة عربية قمت بها بنفسي عن منشورات «مركز مدار» في رام الله) بعنصرية إسرائيل اليهودية مؤكدًا أنه واع جيدًا لحقيقة كونه يعيش في واحد من أكثر المجتمعات عنصرية القائمة في العالم الغربي، الذي تتباهى إسرائيل بالانتساب إليه. ورأى ساند أن العنصرية موجودة في كل مكان من العالم تقريبًا، ولكنها في إسرائيل غدت بنيوية بروح القوانين التي جرى ويجري سنّها، ونظرًا إلى كونها تُدرّس في جهاز التربية والتعليم، ومنتشرة في وسائل الإعلام. ووفقًا لقراءته، فالأمر المروّع أكثر من أي شيء أن العنصريين في إسرائيل لا يعرفون أنهم كذلك، ولا يشعرون أبدًا بوجوب الاعتذار.
في العودة إلى الصهيونية
وعقيدتها الأصليّة
قبل الحرب على قطاع غزة بشهرين ونيّف صادفت الذكرى السنوية الخامسة لسنّ الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي، يوم 19 تموز/ يوليو 2018، ما يسمى بـ«قانون القومية الإسرائيلي»، والذي تسبّب من بين أمور أخرى باستئناف جدل داخل مجتمع دولة الاحتلال بشأن الصهيونية وعقيدتها الأصلية. ويُعرّف هذا القانون الأساس (دستوري1) إسرائيل بأنها «الدولة القومية للشعب اليهودي»، ويمنح أفضلية للغة العبرية على اللغة العربية، وأولوية للاستيطان اليهودي، كما يمنح حصرية تقرير المصير في فلسطين لليهود فقط، ويعتبر القدس الموحّدة عاصمة أبدية لإسرائيل. وبرزت في خضم هذا الجدل أصوات كثيرة أبدت معارضتها للقانون من منطلق أنه يتضاد برأيها مع «أسس العقيدة الصهيونية»، بل وزعم بعضها أن القانون يحوّلها إلى عقيدة عنصرية، بما يوحي بوجود قناعة بأنها ليست كذلك.
واستدعت هذه الطعون إعادة الالتفات إلى جوهر الحركة الصهيونية وعقيدتها الأصلية. في واقع الأمر، هذه مسألة تراكمت بشأنها إلى الآن دراسات كثيرة يجمعها قاسم مشترك هو تأكيد كون تلك العقيدة عنصرية بامتياز، بما في ذلك دراسات أنجزها باحثون يهود وإسرائيليون. ولا بُدّ من القول إن هذا التراكم جاء أيضًا على خلفية دراسات سابقة بهذا الصدد كان لها قصب السبق، وتحديدًا على صعيد الدراسات التي وضعها باحثون يهود وإسرائيليون، لعل أبرزها ما أنجزه غرشون شفير، وهو عالم اجتماع يهودي إسرائيلي وأستاذ في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو. ومنها مقالة ظهرت في كتاب «المجتمع الإسرائيلي: وجهات نظر انتقادية» (صدر بالعبرية عن منشورات «بريروت»، 1993)، من إعداد وتحرير عالم الاجتماع أوري رام. وهي معتمدة، بالأساس، على كتاب للمؤلف صدر بالإنكليزية بعنوان: Land, Labour and Origins on the Israel-Palestinian Conflict 1882-1914.
وظهرت الطبعة الأولى من كتاب شفير هذا عام 1989 عن منشورات جامعة كمبريدج. ثم صدر في طبعة ثانية باللغة نفسها عام 1996.
وكما هو شأن كتاب شفير، ثمة كتب عديدة لمؤرخين وعلماء اجتماع وباحثين إسرائيليين ما تزال حتى الآن تمارس حقها في البحث والسجالية بلغات أجنبية فقط. ولعلّ دافعي الرئيس للتنويه بهذا الأمر الذي قد يتراءى بالنسبة إلى البعض عديم الأهمية، هو كونه يمثّل على أحد جوانب المجابهة المباشرة، من طرف المؤسسة الإسرائيلية، مع الاجتهادات العلمية غير المفطورة على الإجماع الصهيوني بشأن السردية التاريخية للقضية الفلسطينية، وهو جانب عدم الالتفات إلى وجود هذه الاجتهادات، جريًا على طريقة «القتل بالإهمال».
إن أهم خلاصة يتوصل إليها شفير في هذه المقالة، وفي كتابه عمومًا، تتمثّل في أن الحركة الصهيونية، ومنذ البدايات الأولى لمشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين، احتقنت بطابع استعماري- كولونيالي إزاء الفلسطينيين سكان البلد الأصلانيين. ومن الإثباتات المبكرة على هذا الاحتقان يستشهد المؤلف، من ضمن أشياء أخرى، بوقائع المواجهة التي حدثت بين آباء الهجرة اليهودية الأولى وبين آباء الهجرة اليهودية الثانية -وهما الهجرتان اللتان ترتب عليهما مشروع الحركة الصهيونية لاغتصاب فلسطين- حيال ما ينبغي أن تكون عليه المقاربات الصهيونية إزاء شعب فلسطين. وهو يتوصل إلى نتيجة مؤداها أن تلك الوقائع لم تكن، في جوهر الأمر، أكثر من مجرد اختلاف بين بدائل مختلفة للاستعمار الكولونيالي في سبيل اعتماد «البديل الأفضل» لإنجاز استعمار فلسطين، كولونياليًا، من طرف الحركة الصهيونية وتيارها الرئيس المتمثل في «حركة العمل». واكتسبت هذه الخلاصة أهميتها في حينه، كما تكتسب أهميتها الآن، من مناخ سياسي عام يجتهد من أجل إرجاع جذور القضية الفلسطينية إلى حرب حزيران/ يونيو 1967 فحسب، في محاولة للهروب إلى الأمام مما سبق ذلك العام من أحداث تعود في أصولها إلى سنوات تأسيس الحركة الصهيونية وإلى الطابع الكولونيالي لهذه الحركة.
ويجدر القول إنه حتى ظهور مقاربة شفير المعبّر عنها في مقالته هذه، كان المنظور الكولونيالي منبوذًا على نحو يكاد يكون مطلقًا في التيار الأكاديمي الإسرائيلي العام. أمّا بشكل عام فإن أصداء الفكرة التي تتعامل مع إسرائيل باعتبارها مجتمعًا كولونياليًا لم تجد أصداءً لها داخل المجتمع اليهودي سوى في أوساط جماعات هامشية من المثقفين فقط، أبرزها جماعة «ماتسبن» المنشقة عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي، والتي تشكلت عام 1962 من طرف شبان راديكاليين تركوا صفوف هذا الحزب والتحقوا في وقت لاحق بالأممية الرابعة التروتسكية. وتؤكد دراسات عديدة أن برنامج «ماتسبن» كان بمثابة أول تعبير عن النظر إلى المجتمع اليهودي في إسرائيل من منظور كولونيالي صريح.
ويتكرّر حُكم القيمة السالف بالنسبة إلى مقالة شفير هذه في الكثير من المناسبات، وسأتوقف عند مناسبتين يفصل بينهما نحو عقدين من الأعوام.
الأولى، دراسة للباحث عالم الاجتماع أوري رام معنونة بـ«الموقف من الكولونيالية في علم الاجتماع الإسرائيلي»، نشرت عام 1999 ويشير فيها إلى أن توصيف الصهيونية كحركة كولونيالية، حتى الفترة التي ظهرت فيها مقاربة شفير، اعتبر بمثابة «نوع من التشويه» لهذه الحركة، حيث إن النظر إلى إسرائيل كمجتمع كولونيالي ينطوي على اعتراف ضمنيّ بأن اليهود احتلوا وسلبوا أرضًا مأهولة واستغلوا أو طردوا السكان الأصلانيين، وفي هذا ما يتنافى مع صميم الصورة الذاتية التي رسمها الصهاينة عن الصهيونية باعتبارها حركة «شعب بلا أرض يعود إلى أرض بلا شعب». وهو اعتبر منفّرًا في نظر «اليسار الصهيوني» في إسرائيل، الذي جرى العرف لديه على الكلام حول التحرّر الذاتيّ وتخليص أرضٍ (فلسطين) كانت قفراء بواسطة الكدح، كما أنه اعتبر منفّرًا بالقدر نفسه في نظر اليمين الإسرائيلي الذي يقول إن «أرض إسرائيل الكاملة» مُلك للشعب اليهودي، وهي ملكية لا تقبل الدحض بحكم «الحقوق التاريخية» والوعد الإلهي2.
الثانية، المناسبة التي تتعلق بإشارة أستاذ الفلسفة اليهودية والتلمود في جامعة تل أبيب يشاي روزين تسفي، في سياق مقال نشره في صحيفة «هآرتس» يوم 11/10/2018، إلى أن المقولة بأن الصهيونية حركة كولونيالية لا تزال حتى أيامنا الراهنة بمثابة «تابو» في الخطاب الإسرائيلي العام3. وهي كذلك برأيه لكون السمة الكولونيالية ما انفكت ملازمة للعقيدة الصهيونية ولم تتحوّل إلى شيء ما من الماضي، وهو يؤكد أنه في دولة تقوم بسنّ «قانون القومية» السالف ذكره، وفيها أكثر من نصف مليون مستوطن في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، وتتواتر من جانبها مشاريع ترمي إلى تهويد منطقتي النقب والجليل في أراضي 1948، لا يمكن الكلام حول الكولونيالية الاستيطانية كما لو أنها أمر ينتمي إلى الماضي. وفي ضوء ذلك من المتوقع أن تظل تلك المقولة عرضة للحجب والإنكار تحت طبقات سميكة من علم الاجتماع والتأريخ الرسمي الإسرائيلي.
لا يتسع المجال للمضي أكثر بهذا الشأن، وفي المجمل ينبغي القول إن الصيرورة الحالية لإسرائيل، التي توصف حتى من طرف بعض الأكاديميين والمفكرين فيها بأنها صيرورة قومية متطرّفة أقرب إلى الفاشية، كانت المحصلة الطبيعية لنشوئها وعوامل ارتقائها.
ولا بُدّ في الختام من أن نشير إلى أن المفكر العربي عزمي بشارة توقف منذ عقود عند مجموعة من التناقضات الداخلية التي كانت تعصف بإسرائيل والحركة الصهيونية وتوقّع صيرورتها الحاليّة ذات النزعة اليمينية الدينية الاستيطانية، والتي يعود سببها الرئيس برأيه، إلى تحوّل الحركة الصهيونية إلى أسيرة مشروع ديني ينفي عنها صفتها التنويرية والعلمانية التي زعمت أنها تحملها في خطابها، وذلك في ضوء استقرائه ما تشتمل عليه التغيّرات الديموغرافية والاجتماعية من تحوّلات بلغت المرحلة الحالية التي تتسم أكثر شيء بانتقال السلطة الإسرائيلية إلى فئات لم تكن جزءًا من النخبة المؤسسة، بل أكثر من ذلك كان بعضها إما مناهضًا للصهيونية كما هي حال اليهود الأرثوذكس، أو عمل بعضها الآخر على هامشها على غرار تيّار الصهيونية الدينية، أو أن بعضها الثالث هاجر إلى إسرائيل بعد إقامتها من جانب تلك النخبة الصهيونية، مثل اليهود العرب أو اليهود الشرقيين الذين باتوا يشكلون الغالبية العظمى من قاعدة حزب الليكود الحاكم.
الهوامش
لا يوجد دستور معتمد في إسرائيل لأسباب كثيرة، ولذا بادر الكنيست الإسرائيلي منذ خمسينيات القرن الفائت إلى سن قوانين أساس، أصبحت بمرور الزمن ما يشبه الدستور.
Ram, Uri, The colonization perspective in Israeli sociology, The Israel/Palestine Question. Ed. by Ilan Pappé. London: Routledge, 1999
يشاي روزين تسفي، الإنكار الكبير للكولونيالية الصهيونية، هآرتس 10/11/2018.