كمن يوقن أنه صار على حافة الجنون!!، هكذا كانت حالي حين غادرت القاهرة بعد اندلاع ثورة 25 يناير في مصر بستة أشهر، تلبية لدعوة تلقيتها لإقامة أدبية بمدينة سان فرانسيسكو، غادرتها حاملة قلقي معي، تاركة خلفي حلما كبيرا أخشى على نفسي مرارة إجهاضه.
بعد رحلة طيران شاقة استمرت لأكثر من 12 ساعة، وصلت إلى مطار سان فرانسيسكو، فوجدت صديقي الشاعر المغربي “ياسين عدنان” الحائز معي على منحة الإقامة ذاتها ينتظرني منذ وقت طويل بقلق بالغ وبصحبته السائق لنقلي لمقر الإقامة “مونتالفو” الذي يبعد عن المطار حوالي أربعين دقيقة بالسيارة. كان المكان عبارة عن فيلا ضخمة، أقرب لأن تكون تحفة فنية نادرة من حيث البناء والتصميم. علمتُ أنها كانت في الماضي سكنًا خاصا لنائب سابق في البرلمان الأمريكي، عاشق للفن وللأدب، أوصى بأن تصير إقامة للكتّاب والفنانين، تقوم على إدارتها إحدى المؤسسات الثقافية الراعية للفن. وقد كلّف في أثناء حياته مجموعة من الفنانين الأمريكيين أن يصمموا عددًا من الاستوديوهات لهذا الغرض، تاركًا لكل واحد منهم على حدة حرية أن يصمم “استديو”على النحو الذي يتخيله، فيمكنه بهذا أن يمنح للمكان شيئا من روحه.
كان الليل قد حلّ حينما وصلنا مونتالفو.أخذني ياسين إلى مائدة العشاء مباشرة وعرّفني على كل زملائنا من الفنانين والأدباء الذين كان ينتظرونني ليرحبوا بي قبل تناول الطعام.
بعد العشاء ذهبت الى الاستديو الخاص بي،لاحظتُ أنه مكون من طابقين وله ثلاثة أبواب في اتجاهات مختلفة بالدور الأرضي. لا أعرف لماذا أحببته حين وقعت عيني عليه لأول مرة وتخيلتُ أنه صُمم من أجلي أنا فقط. لعلي فرحتُ به لأنه كان أول بيت أملك مفتاحه وحدي وأرتبه كيف أشاء.
أخذت حمامًا ساخنًا وبعدها رحت في نوم عميق من شدة الإرهاق. واستيقظتُ مفزوعةً بعد ساعتين على صوت جهاز إنذار الطوارئ. بحثت عن مكان الجهاز الذي يصدر منه الصوت فوجدته بجوار ركن دولاب الملابس بالقرب من غرفة نومي في الطابق الثاني.حاولت إغلاقه عدة مرات وفشلت. وتوهمت أن صوت الجهاز المزعج كفيل بإيقاظ الإقامة كلها، لكنني حين خرجت من الاستديو وجدتني وحدي في وسط غابة مظلمة. والكل نائم ولا أثر لأي كائن مستيقظ غيري.
لم ينقذني من جحيم صوت هذا الجهاز المخرب سوى مساعدة جارتي الفنانة التشكيلية” نانسي بوب” ” في معرفة أرقام الكود الخاص به لإغلاقه، لكن ما إن رحتُ في النوم حتى عاود جهاز الطوارئ رنينه المزعج!!
ليلة محاكمة الديكتاتور
اكتشفت منذ الليلة الأولى أنه لا يوجد تلفزيون بالإقامة بحجة أنه سيضّيع أوقات الكتَّاب والفنانين، وهم يريدونهم أن يتفرغوا لمشاريعهم التي جاءوا من أجلها ، فتقبلتُ الأمر على مضض.
علمت بالمصادفة وأنا أُقلّب بعض صفحات الأصدقاء على الفيس بوك أن الغد ستكون أولى جلسات محاكمة مبارك، يا إلهي!! أخيرا سيرتدي الديكتاتور ملابس السجن. إنها اللحظة التاريخية التي تمنيتها ولكن ها هي تجيء الآن وأنا بعيدة عن مصر.
الكل في مونتالفو عادوا إلى شققهم ليناموا وتركوني أدور حول ذاتي ، وأبحث عن وسيلة أتابع بها الأحداث وقد وزاد من صعوبة الأمر-بالنسبة إليَّ- فرق التوقيت بين القاهرة وسان فرانسيسكو الذي يصل إلى تسع ساعات.
وحدي هنا أكلم الجدران وأكتب الرسائل الإلكترونية على حائط بارد لأصدقائي المصريين الذين لم يستيقظوا بعد.
رحتُ أتجول بحِيرة في مواقع الإنترنت لعلي أجد قناة تبث المحاكمة، لكن خذلني جهاز اللاب توب وحدثت به مشكلة لم أتمكن من حلها، فأغلقتُه بعد عدة محاولات يائسة.
في اليوم التالي، التقيت”كيلي”مديرة برنامج الإقامة على العشاء التي جاءت خصيصا لترحب بي، ربما بسبب أنني أول كاتبة عربية يتم دعوتها إلى مونتالفو. لكنها انتبهتْ إلى أني أجلس شبه صامتة بجوار ياسين، أرد على حديثه لي فقط ببعض العبارات بالعربية بصوت منخفض قليلا, كأني أشكو من شيء ما.
سألتني كيلي بابتسامة رقيقة :”هل هناك شيء يزعجك في الإقامة عزيزتي نجاة؟
-فقلت لها بتوتر واضح: لا أبدا.
أراد ياسين أن يكسر حالة القلق التي تبدو عليّ، فحكى لها بطريقة مرحة حكاية جهاز إنذار الطوارئ وما فعله بي منذ أول ليلة وأكملت نانسي الحكاية بالجزء الذي شاركتني فيه فضحكنا جميعا، ولكنني عدتُ ثانية إلى شرودي.وفجأة قلت لـ”كيلي”. بدون مقدمات:” كنت أتمنى أن يكون لدينا تلفزيون في الإقامة.. اليوم كانت محاكمة مبارك. كان يجب أن أشاهدها..؟”.
ظهرت على”كيلي”علامات عدم فهمها للأمر، فشرح لها ياسين الموقف بالتفصيل وأهمية يوم كهذا في حياة كل المصريين، خاصة الشباب الذي شارك بالثورة منهم.
توقعت من “كيلي” ألا تهتم بالأمر وألا تقدر حالة الاكتئاب التي أعانيها جراء غيابي عن مصر في تلك الأيام. لكنها فاجأتني بتعاطفها الكبير معي، ووجدتها في نهاية العشاء تقترب مني معتذرة برقة:
” لو كان لدي علم بهذا الحدث لجئتك بتلفزيوني الخاص من منزلي ووضعته ببيتك بالإقامة حتى تشاهدي المحاكمة كما تشاءين. سامحيني يا عزيزتي”.احتضنتني وقبلتني بحنان وقبل أن تغادرنا ودعتني بعبارة واحدة ” لا أحب أن أراك حزينة أبدا .. نحن نعمل هنا من أجل راحتكم بمونتالفو”.
حين تفقدت بريدي الإلكتروني في اليوم التالي صباحا، عثرتُ على رسالة جماعية من أحد المسؤولين بالإقامة،موجهة إليّ وإلى كل زملائي من الفنانين والكتّاب، يخبروننا فيها بأن النت سيقطع -ربما لثلاثة أيام عن مونتالفو- بسبب عطل ما .
أثارت الرسالة غضبي بالفعل، لأنها ستعني العزلة التامة عن العالم الخارجي. لكن لم تمر سوى دقائق معدودة وجاءني ياسين ،شاكيًا هو الآخر، باديًا عليه علامات الضيق، وبعده دخلت نانسي علينا لتعيد الخبر ذاته، وأكدت أنه أمر نادر الحدوث في ولاية كاليفورنيا. حاولتُ أن أخفف من حدة الموقف فداعبتُ نانسي قائلة لها: “أخبريني عزيزتي نانسي صراحةً: “هل وصل مبارك إلى هنا وقام بقطع النت انتقامًا مني بسبب ما حكيته لكم عنه، مثلما فعل معنا من قبل في جمعة الغضب يوم 28 يناير؟.هل سيقطع الاتصال عن الهواتف أيضًا؟
ضحكت نانسي بصوت عالٍ وقالت بإنجليزية يملأها المرح:” ربما”. لكن لم يمر من الوقت أكثر من ساعتين حتى عاد الانترنت مرة أخرى، فحمدت الله أنهم تمكنوا من إصلاح العطل بهذه السرعة.
هوس جوال
بتُ أشعر أنني مصابة بهوس التفكير بمصر!! هذا ما اكتشفته وأنا أرتبُ مع لوري وود (منسقة إقامات الكتَّاب والفنانين ) برنامجًا لزيارة الأماكن التي ينبغي أن أزورها خلال فترة إقامتي بالمدينة.
خمنتُ من طريقة لوري معي أنها لم تكن فقط متحمسة لكتاباتي الشعرية ، بل إنها كانت أيضا متعاطفة مع حالتي المضطربة منذ أن جئت إلى الإقامة.وهو ما جعلها تأتي من حيِّها “بيجسر” Big Sur الذي يبعد عن إقامتي بمونتالفو حوالي ساعة بالسيارة، لتصحبني أنا وياسين لجولة ثقافية طويلة بالمدينة كل عدة أيام .
في الجولة الأولى لي في سان فرانسيسكو ،اصطحبتني لوري وصديقتنا المشتركة كايت جودين إلى مركز المدينة،حيث (السيفك سنتر) Civic center” ” وهو مُجمع يشمل عددا من المباني على الطرازالمعماري الكلاسيكي الأنيق،منها :مبنى (إيريل وارين- ولاية كاليفورنيا) ،وهو يحمل اسم أحد رؤساء المحكمة العليا السابقين في أمريكا، كذلك مبنى دار الأوبرا-( النصب التذكاري للحرب)، وقاعة السيمفونية، والمكتبة الرئيسية بالمدينة, وساحة مبنى الأمم المتحدة، وغيرها من المباني التي تجعلك تسبح في جمال هذه المدينة المتمردة متعددة الوجوه.
ابتسمت لوري حينما رأتني أغوص في دهشتي وأكاد أنسى وجودهما “هي وكايت” معي بالمكان,وأشارت بيدها قائلة بفخر:
“إن هذا المكان يشبه ميدان التحرير عندكم بمصر” – فأُخذتُ عند ذكر هاتين الكلمتين معًا “مصر،وميدان التحرير”.ثم حكت لي باستفاضة كيف شهد هذا المكان أهم الاحتجاجات والاعتصامات على حرب فيتنام في الستينيات،ثم شهد فيما بعد، احتجاجات الامريكان على احتلال العراق.لكنني علّقت على حديثها مازحة :”لكن يبدو أن الأمريكيين لم يعد لديهم الآن وقت للتظاهر؟”.
بعد يوم حافل آخر من التجوال في عدة أحياء بالمدينة التي تعكس هوية ساكنيها وثقافتهم مثل :”الحي الصيني” وحي “سان خوسيه”وحي “الميشن”The Mission وهو الحي المكسيكي, أصرت لوري وزوجها المغربي حسن علي دعوتي إلى مطعم باكستاني ثم إلى آخر مكسيكي أكثر جمالا لتناول مجموعة من “الأكلات” التي يشتهر بها كل مكان منهما,وقتها تأكدت فقط أن هناك شبها بيننا -نحن المصريين- وبين الشعب الأمريكي فيما يتعلق بولع “الإفرط في حب الطعام”.
تمر أيامي بمونتالفو بطيئة عندما لا أخرج من شقتي.أقضي معظم الوقت صباحا في قراءة الكتب التي حملتُها معي من القاهرة . ثم أذهب في نهاية اليوم إلى لقاء العشاء الذي تحول لحلقة نقاش ممتعة مع زملائي بالإقامة الذين كنت أخجل منهم في البداية،وظننتهم ينظرون إليّ باعتباري “كائنًا خرافيًّا” قادمًا إليهم من بلاد عجيبة،يجدون في كل ما يقوله أو ما يرتديه من ملابس شيئا مثيرا للدهشة. لكني مع الوقت صرتُ أشعر أنهم عائلتي البديلة،فلم يتركوني أشعر بكآبة الغربة.بعضهم كان يدعوني إلى الذهاب معه أحيانا قبل موعد الغذاء بساعتين أو ثلاث إما لصعود أحد الجبال القريبة أو للتنزه مثلا في شواطئ سانتا كروز الجميلة التي تحمل كثيرًا من روح الشرق. وبالليل كنا نستمع جميعا إلى عزف موسيقى رائع على البيانو من زميلتنا الفنانة اليابانية المذهلة”موتوكو هوندا”.وعندما يحين وقت”الويكند”وتغادرنا “أندرية بلوم “مسؤولة الطبخ بالإقامة، ويقضي غالبيتهم وقته خارج مونتالفو، أُصر أنا على طبخ “أكل مصري” في شقتي ودعوة ياسين ونانسي ولويز وشاسا كول ليتناولوه معي فيأتوا فرحين ويشعلوا بيتي بالبهجة وبحكاياتهم المثيرة.
الفتنة بالعدو
فوجئت يوما وأنا أتابع أخبار العالم عبر الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي ،تحديدا “يوم17 أغسطس” ، ما كُتِب عن الاحتجاحات الواسعة التي تشهدها دولة إسرائيل (فلسطين المحتلة) ،لعلها- كما فهمت -هي الأعنف منذ فترة السبعينيات في هذا البلد.وقد فهمت من سياق الأحداث أن الاحتجاجات كانت بسبب ارتفاع أسعار الشقق وغلاء المعيشة ومستحقات الضرائب هناك. وهو ما جعل المتظاهرون يحاولون وقتها اقتحام مبنى الكنيست بالقوة. ثم قرر عدد منهم الاعتصام كذلك في منطقة “روتشيلد” جنب ميدان يسمى”هابيماه”.
مصدر دهشتي إلى الآن هو أن بعض المحتجين الإسرائيليين رفعوا العلم المصري ورسموه على وجوههم و بعضهم رفع يافطات كتب عليها :”هنا مصر”،” وهنا “ميدان التحرير ” :”ارحل “، في إشارة واضحة لتأثرهم بروح الثورة المصرية .
ارتبكت للحظات أمام هذه الأخبار، وتذكرت كيف كانت ثورة 25 يناير تتصدرعناوين الصفحات الأولى في كبريات الصحف العالمية. وقلت لنفسي ما زالت لمصر غوايتها الخاصة التي تجعل حتى أشد أعدائها شراسة مولعا بها . وخمنت أن هذه الواقعة قد تزيد من سخط الكثير من الأنظمة في العالم على الثورة المصرية وقد تحاول إحهاضها أو تحويلها إلى شكل من أشكال الفوضى حتى لا تعدي برياحها كل الحالمين بالتغيير في العالم.
جسر المنتحرين
اتفقنا أنا ولوري وود وكايت جودن وياسين عدنان و”انتصار دوليب”، وهي “شاعرة عربية”مقيمة في سان فرانسيسكو منذ سنوات ،على الذهاب معًا
أثار فضولي اسم الجسر حين قرأت عنه أول إلى “جسر البوابة الذهبية” Golden Gate Bridge الذي يكاد يكون أشهر معلم بالمدينة، ويعتبره بعض المتخصصين إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم الحديث. مرة،فهو أطول جسر مُعلق في العالم ؛حيث يربط بين خليج سان فرانسيسكو والمحيط الهادي، ويمكن للمرء التعرف عليه بسهولة من لونه البرتقالي وهندسته المعمارية المتميزة ، لكنني لا أعرف لماذا -وأنا أتأمل روعته- تخيلت نفسي يومًا ما أحد المنتحرين قفزًا من أعلاه؟ولِم لا ؟ فهو ليس مقصدًا للمتعة فقط,ولكنه أيضا مقصد للهروب من بشاعة العالم,حيث سُجلِت أكثر من ألف حالة انتحارعليه.
مدينة الأصياف الباردة وعاصمة التمرد
المدن التي ليس بها ليل أتجوله بحرية أو حكايات متعددة أعيشها، ليست مدنا !! ولهذا أنا مسكونة بالقاهرة وواقعة في غرام بيروت,وأصابتني فتنة سان فرانسيسكو التي ليس كمثلها شيء.
يمكن للمرء أن يعيش في هذه المدينة الساحرة بحق لمدة شهرين متصلين دون أن يحتاج إلى وسائل لتسليته،مكتفيًا بمتعة واحدة هي السير فقط في شوارع المدينة دون أن يدركه الملل.
حين أسير هنا تحت مطر سان فرانسيسكو، رغم أننا مازلنا في الصيف، أشعر بفرح طفولي عجيب،وأجد في لسعات البرد متعة خاصة لا تضاهيها متعة أخرى.ويخايلني حينئذ طيف الكاتب الأمريكي “مارك توين” وعبارته الساخرة التي وصف بها هذه المدينة قائلا:” إنه تمتع بالطقس الشتوي الأكثر برودة خلال زيارته لها في الصيف”.
داعبتني لوري ذات مرة بعبارة طريفة ونحن عائدان معا من جولة طويلة بشوارع منتصف المدينة وكنا على وشك الانطلاق بالسيارة: ” يقولون إنه يمكنك أن تفعل أي شيء في سان فرانسيسكو إلا أن تتجه يسارًا” .
كانت الدعابة توجز ملمحين مهمين في هذه المدينة ذات الطابع اليساري،فالشق الأول في العبارة يشير إلى أنها مدينة “الحريات” بكل ما تعنيه الكلمة من معني،فهي مثلا المركز الأصلي لحركة “الهيبز”الذين تمردوا على كل التقاليد الأمريكية في الستينيات، قبل أن يصل صداها إلى أوروبا وكندا.
ولعل هذه المسحة الليبرالية لهذه المدينة هي أيضًا ما أغرتْ كثيرا من “المثليين الأمريكيين “لأن يهرعوا إليها باعتبارها ملاذا آمنا، ليطلقوا منها شراراتهم الأولى في حركة” تحرير المثليين في أمريكا”؛فأقاموا في فترة السبعينيات أكبر تجمع لهم في المدينة في حي” كاسترو”،وهو حي أنيق للغاية،يقع في وسط مدينة سان فرانسيسكو.ومن يزوره قد يُفتن بمعماره وبأناقة المسارح ودور السينما والمحلات والمطاعم والمكتبات الموجودة به. وقد يخاله للوهلة الأولى دولة مستقلة بذاتها؛حيث سيكون أول شيء تقع عليه عيناه عند دخوله الحي هو رؤية علم مُميِز للمثليين,علم يحمل”ألوان قوس قزح”.لكن حظي العاثر جعلني أرتطم عند وصولي لحي كاسترو بمشهد لرجل شبه عارٍ يقف عند أحد بارات الحي الفاخرة، فكدتُ أسقط مغشية عليَّ من أثر الصدمة.
أما الشق الثاني في عبارة لوري،فإنه يتهكم من طبيعة الطرق في مدينة سان فرانسيسكو التي تتخذ اتجاها واحدا فقط ، فإذا أخطأتَ مرةً وأنت تقود سيارتك،فهذا يعني أنك قد تُضيّع ساعات لتصل إلى المكان الذي تريده.
تحت سماء الكتب المعلّقة
تُحلّق الكتب في سماء سان فرانسيسكو وتصير مصابيح مضيئة بالليل للسائرين.هنا يعلقونها مفتوحة في أحد الأماكن بالمدينة في مشهد يخطف القلوب والأبصار معًا.
تمر أيامي سريعة هنا لايعكرها سوى الحنين لأمي، لكنها أيام مشحونة بالتفاصيل لا تكرار في حكاياتها،فيوم نذهب إلى حي “بيجسر” لنقضيه في بيت الكاتب الأمريكي “هنري ميلر” الذي تحول إلى مزار ومُتحف يضم مكتبته وكل مقتنياته الخاصة،ويومًا آخر نقضيه في جامعة بيركلي ونتمشى في ساحة النضال الطلابي الذي انطلقت منه شرارة الستينيات. وفي يوم ثالث، أذهب بصحبة ياسين ولوري إلى “متحف البيت” The beat museum؛ حيث كانوا يعرضون هناك فيلمًا عن حياة الشاعر والروائي الأمريكي”جاك كرواك”، ذلك المتمرد الذي صاغ مع الشاعرين”ألن جينسبرج”و”كارل سولومون” والروائي “ويليام بوروز” حركة ما يسمى بـ” جيل البيت” (1955)التي تعد ذروة التعبير عن جيل خرج لتوه من حرب عالمية ثانية إلى مناخ الحرب الباردة،جيل يعادي بوضوح المؤسسةالثقافة الرسمية آنذاك،ويسعى إلى تقويض الأسس التي قام عليها الأدب الأمريكي الطليعي،عبر نسف مفهوم الرصانة اللغوية،ومعايير التلقي السائدة.وقد بلغت ذروة انفجارهذا الجيل في الستينيات مع اندلاع حرب فيتنام.
بعد أن خرجنا من”متحف البيت “قررنا أن نختم اليوم بجولة في مكتبة “سيتي لايتس بوكس” City Lights Books، وبينما وقف ياسين يتأمل الكرسي الذي وقّع عليه
” ألن جينسبرج”و”بوكوفسكي” أعمالهما الأدبية،رحتُ أتصفح أنا – بفرح بالغ- ترجمة إنجليزية بطباعة راقية لبعض روايات نجيب محفوظ في أحد أركان الكتب هناك.
عندما يحين موعد العودة إلى مصر تصيبني حالة من الارتباك واختلاط المشاعر المتناقضة، صحيح أنه غمرتني فرحة الرجوع إلى القاهرة التي استبد بي الشوق إليها هي وكل عائلتي وأصدقائي الثوار الذين ما زالوا يطاردون سارقي أحلامهم في ميدان التحرير.لكنني في الوقت ذاته حزينة لأنني سأغادر بيتي بالإقامة الذي التصقتْ به روحي رغمًا عني،أنا التي لا تصيبها داء محبة البيوت مهما كانت جميلة،صرتُ أبكي بهستيريا وأنا أودعه تاركةً فيه جزءًا من قلبي،وسيلا من حكايات لا تنتهي .
نجاة علي