القدوم إلى المغرب من جهة البحر، ومن أرض أسبانيا بالذات له نكهة خاصة، مرفأ الجريرة الخضراء من ورائك والبحر من أمامك، وعلى اليمين ذلك الجبل ذو الهيأة الغريبة، مثل ثور هائل جاثم في البحر؛ إنه جبل طارق، والعبور يتم هذه المرة في الاتجاه المعاكس.
بعد حوالي ساعة يبدأ جبل سيدي موسى في البروز، ثم عدة قرى بيضاء متناثرة فوق الربى، فهيئات غامضة لصوامع تعلو القمم مثل أصابع تثير إلى السماء، إلى سماء أخري، لكن أين هي طنجة؟ إنها تتباطأ في الظهور، متغنجة، مثل عروس تتقدمها وصيفاتها بينما هي تمعن في التباطؤ.
جميل أن يقبل المرء على مدينة من جهة البحر، مثلما يدخل بيت الحبيبة من النافذة !
في الذهن مازالت تعتمل الانطباعات الأخيرة عن المدن الأندلسية، عن سحر أزقة حي البيازين العربي بغرناطة، جامع قرطبة المهيب، فناءات البيوت الأندلسية التي تشبه واحات داخل صحراء، والهيئات المرحة للغجر.. فكان من المنتظر، أو المؤمل أن تكون طنجة أكثر سحرا وعمقا، لذلك بدت لي، أو بالتحديد وسط المدينة الجديدة وشوارعها الرئيسية، على غير ما كنت أتوقع، وكان لابد أن أكتشف السوق وأزقة المدينة العتيقة والقصبة كي ألج طنجة التي كنت أريد، قبلها كنت أحوم حولها ولا أجد المنفذ، وقد بدأت أفيق بضجة الشارع الرئيسي، بصخبه وهدير السيارات؛ ذلك الدفق المتواصل الزاعق الذي يملأ الهواء والأنوف والأدمغة بإفرازات الروائح الكريهة للبترول المحترق الذي يسم الدماغ والروح معا.
في ساحة السوق العتيقة Grand Socco تمتلئ النفس بصخب آخر؛ صخب الأحياء، الحركة تغدو هنا انتشارية، والأجساد تتلاقي، تتقاطع في اتجاهات عديدة، والحلقات تلتئم وتنفرط حول هذا البائع أو ذاك، حول كدس من الأدباش، أو الأواني، حول بائع فطائر أو كفتة، بينما الحركة في الشارع الرئيسي شبيهة بمسيرة جنائزية، تندفع الأجساد فيها حسب خط مستقيم مثل دمي متحركة داخل استعراض آلي.
في طنجة كما في فاس ومكناس ومراكش ينتقل المرء من فضاء إلى فضاء مغاير تماما بمجرد المرور من المدينة العصرية إلى المدينة العتيمة، من فضاء تتكيف الحر لآ فيه باكراهات الوظيفة الميكانيكية ونسقها السريع والمتوتر، إلى فضاء أكثر انفراجا لا تحكمه سوى الحركة التلقائية المتسكعة التي تقتضي التوقف والمجادلة والانعراجات الحرة والإرتدادات، والتأني، إنه فضاء للحياة وليس حيزا وظيفيا للعبور.
المسافر القادم من أوروبا سيجد نفسه بالتأكيد في حالة شبيهة بالذهول وهو يلج هذه الفضاءات المختلفة عن الشوارع الفسيحة للمدن الأوروبية التي تنتظم الحركة فيها، وكذلك العلاقات، حسب نسق منضبط لقوانين السيولة والسرعة الفائقة، الدروب الضيقة والأزقة تجعل حضور الأشياء والمارة أكثر كثافة، هناك ضجة وغوغاء الألوان تتزاحم في جو احتفالي شبه كرنفالي، والأجساد متقاربة، تتلاصق، تتلاحم دون تدافع، ودون نفور أو تأفف، التجاور يأخذ هنا صيغة تعايش حميمي، والحركة لا تلغي اللسان، فالتأني يسع بالمجادلة والتحادث، عمليات البيع والشراء تتم عبر قناة اللغة، إذ الكلام هو الذي يحد نمط التعامل والسعر والتحقق من النوعية والجودة. ولا شيء يتم دون مجادلات ومناوشات كلامية فيها المراوغة والحذلقة، والتودد والقسم بأغلظ الأيمان، هناك نوع من الخطاب ينبغي على المرء أن يتقن تقنياته ويكون عارفا بآلياته الملتوية وبسيكولوجيته، وأساليبه المعقدة. «عمليات كر وفر، تقارب وتباعد، مراودات ومحاولات استمالة من الطرفين، ومغازلات لا تخلو في أغب الأحيان من شبق، هكذا تصبح عملية البيع والشراء تمرينا لغويا وتواصلا شفويا حميميا، عملية لا تلغي الجسد أيضا إذ توظف حركات الأيدي والاستمالة بالابتسامات وتعابير العينين لتلعب دورا متمما وحاسما في كسب ثقة وود الطرف المقابل وإقناعه". إنها مملكة المشافهة، وعلى الزائر أن يتقيد لسانه وينسى نمط المعاملات الباردة والمحددة بدقة بسلطة المكتوب المسطر مسبقا أياد خفية أو بالآلات الالكرونية في مكاتب لا مرئية شبيهة بسلطة متعالية لا قدرة للمرء على مواجهتها والتدخل في آليات قراراتها.
أطفال ينزلقون بخفة ورشاقة السناجب بين الأرجل والأجساد المتلاحمة، نساء يتمشين الهوينى، يتفحصن البضاعة المعروضة في الواجهات وأمام الدكاكين، نادل مقهى يتسلل داخل الكتلة الكثيفة بطبق كؤوس الشاي، عتال يجر عربته موددا بين الحين والأخر: «زيد أسيدي يزيد! زيد الله يرحم الوالدين»، متسولون يجلسون على الأرض ولا يتعثر فيهم أحد، عتال أخر يسوق بغلا أو حمارا محملا بأوان من نخاس، كومة من الجلود المدبوغة، أو حمولة من بكرات الصوف، عجائز وشيوخ يقدرون بالكاد على المشي، يدبون مقوسين تكاد أنوفهم تلامس ركبهم، تجار يتبادلون النكات والمزحات وهم يقفون على عتبات دكاكينم، الكل يسير بتؤدة، أو بعجلة والزقاق قادر على احتواء ذلك الحركة عدا الخطوات المضطربة للزائر الأجنبي. يجد الغريب نفسه متعثرا مرتبك الخطى، محتارا إلى حد ما؛ إن هو أسرع الخطى اصطدم بمن هم أمامه، وإن هو تباطأ دفعه السائرون من ورائه، إن هو فكر قليلا ارتبكت خطاه، وان شرد تعثر فيه الآخرون. إن رجليه تفتقر إلى القدرة على التأقلم وجسمه غير مدرب على تلقائية الحركة داخل المدن الشرقية.
هناك من تبلى، يداخلها الخراب وتمتد اليها يد الموت فتتحول في أحسن الحالات إلى أثار؛ أعمدة وصواري وجدران متداعية، متاحف منطوية على صمتها الأبدي لا يقدر على محاورتها غير المختصين في مجالات الاركيولوجيا وعلم التاريخ. من قد دعسها التاريخ ثم هجرها وأسلمها الى الموت. غير أن أغلب المدن المغربية قد استطاعت بقوة عجيبة أن تراوغ موتها وتفلت منه. مراكش تراوغه بذلك الحفل اليومي البهيج الذي تهتز به ساحة جامع الفنا منذ قرون. ذلك المهرجان الشعبي العفوي هو سر خلود هذه المدينة. زيارة ساحة جامع الفنا رحلة في الزمن، هنا يتلاحم الحاضر بماض لم يمضي، ولا يرغب في المضي.
زمن راكد يتجدد – مفارقة – في الطقتس الاحتفالي اليومي الذي لا يخلف موعدا. ذلك المهرجان الدائم الذي لا تنظمه وزارة أو مؤسسة والذي يتغذى من الحركة التلقائية لأهل المدينة هو حلقة الوصل التي تجعل اليوم لا ينفصل عن الغد، بل يأخذ بيده ليعبر به انسراب الزمن الذي منه يتسل الموت إلى كل شيء.
مراكش، وتسمى أيضا «البهجة»، ويدعي أهلها بهجاوة، ترى هل هذا هو ما يفسر الإصرار العنيد لأهل هذه المدينة على جعل الحياة حفلا يوميا متواصلا في ساحة جامع الفنا؟ إنهم على العموم أصحاب نكتة وملح، الأسارير هنا منبسطة وعلى صفحة الوجوه قلما يلحظ
المتفحص أثار التوتر أو التجهم والإنقباض التي تجلل وجوه البشر في أغلب المدن. وبالرغم من قسوة الحياة المادية والنسب العالية للعطالة عن العمل وكثرة المتسولين والمشردين، فإن قسمات الوجوه توحي بهدوء باطني عميق، هناك شيء من الرضا والارتياح لا يعرفه سوى القنوعين؛ أولئك الذين سلموا أمر تدبير الأرزاق لله، وهم حتى في سعيهم الحثيث في طلب الرزق لا يأتون ذلك السعي بهلع ولهفة، وإنما يمارسون ذلك من باب قناعة مفادها أن «عليهم بالحركة وعلى الله البركة»، إن صحفة صغيرة من الحريرة أو البسارة (حساء الفول) من شأنها أن تجعل متناولها سعيدا وممتنا يحمدا لله بصوت مسموع وهو يمسح شفتيه، بينما البائع يتناول المبلغ ويدعو له بالتسهيل في الرزق: "بالصحة والراحة، الله يخلف آ مولاي الشريف".
«الله يسهل آ الشريفة»، "الله يعفو عليك"، «الله يبارك فيك»، الله حاضر حضورا مكثفا في اللغة وفي كل المعاملات؛ في البيع والشراء، في التسول، في التحيات، في حلقات الرواة والمغنين ومروضي الأفاعي وقارئات الكف وباعة الأعشاب الطبية، في حلقات الذكر والغناء، في توضيحات التربية الجنسية التي تعطى علنا في هذه الساحة، بموضوعية وصراحة نادرتين، والتي تستقطب حلقاتها مستمعين منتبهين شديدي الانتباه من الكهول والشيوخ والمراهقين وحتى الأطفال، كل شيء يبدأ بذكر الله وينتهي بحمده والثناء عليه، وملامح الوجوه تشع بهدوء مريح.
اللغة مترعة بكثير من اللطافة والسماحة؛ كلمة الله تتخلل مجمل عبارات التوسل والتحبب واللوم وحتى المداعبة مكثفة حضور المقدس، وهي في الآن ذاته ترقق طابع التواصل وتضفي عليه شيئا من الدفء الذي لا يشعر المرء به إلا في لحظات الصفاء والحميمية.
لغة للتقارب بمقتضاها تنتظم العلاقات والمعاملات ضمن حرارة الإحتكاك الذاتي الذي لا يحيد العاطفة؛ الدينية منها وكذلك تلك التي تستند إلى المشاعر الإنسانية الصرفة، عندما يلومك المغربي أو يعاتبك لسبب ما فان سلاحه الأخير والوحيد هو عبارة «حشومة عليك»، إنه لا يقول «عيب عليك»، لأن العيب يستند الى مرجعية أخلاقية خارجية، وسلطة متعالية قد تكون المجتمع، أو الدين، ذك أن العيب مقياس خارجي، بينما «الحشومة» شعور داخلي، إنه لا يستدعي إلى لومك منظومة أخري غير شعورك الخاص بالخجل، أي سلطة قيمك الداخلية، وهو بذلك يضع أمام مقاييس ضميرك، ولا يقهرك إلا بنفسك وبذاتك.
يعجبني أحيانا أن أتوقف على مقربة من المتسولين واستمع إلى دفق الأدعية والتضرعات التي يرسلونها في الفضاء مثل نشيد ديني غنائي، يدعون للجميع بالرحمة، والمفخرة والتوبة ورضاء الوالدين، ويعدون بجزاء الله ويوزعون صكوكا شفافية للثواب والسعادة وصلاح الذرية، وإذا المتسول يتحول بموجب ذلك الطقس إلى محسن، والمتصدق إلى معدم يتناول، إنه يتناول دفقا من العواطف والأحلام والأماني التي تبدو له في تلك اللحظة متحققة، مقابل درهم، أو رغيف او حتى سيجارة، في المدن الأوروبية يأخذ المتسول طابعا موضوعيا باردا وجافا، يستدعي مشاعر التضامن بلغة محايدة ميكانيكية تقريبا، وهو في ذلك يحرص كل الحرص على عدم تخطى حدود الموضوعية والاقتراب العاطفي أو الوجداني من أولئك الذين يطلب مساعدتهم. إنه يستدعي شعورهم بالواجب فيما هو يثبت الحواجز الاجتماعية التي تفصله عنهم.
الخطاب التسولي في المغرب لغة وصل وتقارب حد الحميمية. لذلك كثيرا ما يبدي الأجانب تبرما وضيقا تجاه إلحاح المتسولين وإصرارهم، ذك أن الأوروبي لا يتعامل إلا بالمواقف الدقيقة والحاسمة، بلغة نعم ولا، بينما اللغة هنا تأسيس لعلاقات اجتماعية، لغة مراودة واستدراج ومحاولات للتأثير والاقناع. إن المتسول لا يلتجأ بالسؤال إلى موقفك الجاهز عقلانيا، بل يخاطب عواطفك ويحاول استفزاز مشاعرك ومجادلتها والدخول في حوار معها.
هنا يقف الأوروبي مرتبكا أمام ذلك الاقتراب الوجداني الشخصي الذي يسعى المتسول إلى إنجازه، إنه يستشف من ذلك نوعا من الاعتداء على حرمة ذاتيته المحصنة بالحواجز الموضوعية وهو ما ينزعه ويثير تحفظه أكثر من أي شيء.
ليست ساحة جامع الفنا ظاهرة فلكلورية لجلب السياح كما كنت أعتقد قبل زيارتها، بل هي مهرجان شعبي عفوي ومتنوع الإختصاصات، حلقات عددية تبدأ في التكون منذ العاشرة صباحا تقريبا، وتبلغ ذروة تهيجها في بدايات المساء عندما تغدو الساحة قلب المدينة النابض، ساحة للاحتفال، للحلم، للتعلم، للابداع: الإبداع العفوي الحقيقي (هناك الرواية والمسرح والغناء والباروديا…)، المتفرج هو الذي يميز دون وساطة النقد والإشهار بين الجيد والرديء، محطة للترفيه والعلاج النفسي، ساحة للتوتر والانفراج، لالتصاق الأجساد بالأجساد في تلك الحلقات التي تلتئم وتنخرط، ساحة للالتقاء، للدفء، لتفاعل كل الهواجس والأحلام والرغبات، ساحة للحياة، السياح الذين يؤمون الساحة كثيرون طبعا، لكنهم قليلون جدا مقارنة بعدد الأهالي الذين يحرصون على عدم التخلف عن ذلك الطقس الاحتفالي اليومي. غالبا ما يطوف الأجانب حول الحلقات من الخارج ولا يلجونها، يتفرجون عن بعد مذهولين ومعجبين لكنهم لا يلجون الحلقة ولا يكونون العنصر الأساسي في مسيرة المشهد وتطوراته. إنهم يدفعون الدرهم أو الدرهمين ولا يدخلون اللعبة، لأن هناك قوانين للمشهد تقتضي مشاركة المتفرج، وأحيانا توريطه، يطلب الراوي أو الممثل، أو المغني تلك المشاركة، أو يتنزها بطلب الدعاء مثلا، أو بترديد "آمين"، أو هو يجتذب واحدا إلى وسط الحلقة، أو يستفز واحدا أخر بممازحة، أو يستحلف أحدهم، أو يطلب شاهدا على ما يقول، أو يراقص عجوزا أو يفتعل التغزل بواحة أخري.. وإذا المتفرج جزء من المشهد، وعنصر محرك لتطوره؛ عنصر فاعل لا مجرد متلق سلبي خانع، ذلك ما لا يقدر عليه الأجنبي لسببين على الأقل، أولهما حاجز اللغة، وثانيهما شيء من الريبة والحذر تجعله يحرص دوما على البقاء في الهامش. لكن إذا ما صادف أن رأيت عجوزا بوجه نحيل مستطيل، وعينين واسعتين تشبهان أعين الفاسيات وأنف شبيه الى حد ما بأنوفهن الدقيقة، يتنقل من حلقة الى أخري يحييه المغنون والحواة والبهلوانيون وباعة العصير والتمر والفواكة الجافة فلا تعجب لأمر ذلك العجوز الأوروبي الذي يبدو خلافا لبقية السياح متمشيا في حارته بين أهل وجيران ألفوه وألفهم، إنه خوان، يناديه أهل الساحة باسمه ويعرف هو أسماءهم جميعا، خوان غويتسولو الكاتب المراكشي القادم اليها من اسبانيا منذ سنين. قد وقع في فتنة تلك المدينة لأنه قد أدرك فيما وراء ذلك السطح الهادر بالمرح والبهجة والحركة كثافة تختبئ تحتها أسرار ما يزال يحاورها في كتاباته إلى الآن مستنجدا بالأدب العربي، بالقرآن وبابن عربي طمعا في فتح أقفالها وفك رموزها.
مراكش – يقال إن العبارة تعني في اللغة الأمازيغية مر بسرعة، فقد كان هذا الموقع قبل بناء المدينة على أيدي المرابطين تحت قيادة مؤسسها يوسف بن تاشفين، مكانا قفرا محاذيا لجبال الأطلس، حوض فسيح بين جبل جليز وجبل درن (الأطلس)، كان ممرا للمسافرين من التجار ومكمنا لقطاع الطرق واللصوص الشرسين. لذلك كان المار من هناك ينصح بملازمة الحذر والمرور بسرعة. من هنا جاءت عبارة مر وكش، يقول البعض. ويقول صاب كتاب "الحلل الموشية في الأخبار المركشية" في وصف هذا الموقع إنه "موضع صحراء، رحب الساحة، واسع الفناء… وهو خلاء لا أنيس به، إلا الغزلان والنعام، ولا ينبت إلا السدر والحنظل"، وهو وصف يمكن أن يدعم الفرضية المذكورة بخصوص التسمية، لكن لم يعد فحص مراكش اليوم على ما كان عليه في تلك العصور، بل إن القادم اليها من جهة الشمال بعد المرور بأراض قاحلة حجرية تكسوها تربة صهباء تغدو ابتداء من منطقة بن جرير خليطا من الرمال والتربة الحمراء، يفاجأ بغتة ببروز واحة شاسعة تغمر بخضرتها ذلك الحوض الممتد بين جبل جليز وجبال الاطلس المغمورة بالثلوج. وتمتد البساتين في الجانب الجنوبي من المدينة حول وادي نفيس وما بعده الى حدود لمروضية على بعد 50 كم ، حتى يكاد المرء يخال نفسه قد عاد الى مناطق الشمال الخصبة.
«مراكش هي الواحة، قال لي الشاعر المغربي محمد بن طلحة، ألا ترى كيف تبرز لك من الخلاء مثل رؤيا؟»
عاصمة دولتي المرابطين والموحدين، ومن بعد غدا المغرب بأسره يسمي بمملكة مراكش الى غاية القرن الـ 9ا سب المؤرخ محمد بيرم التونسي صاب "صفوة الاعتبار".
تدعي ايضا مدينة الرجال السبعة نسبة الى الشخصيات الهامة التي اثرت في تاريخ المدينة، بل وتاريخ المغرب عامة: يوسف بن تاشفين، القاضي عياض، ابوالعباس السبتي، سيدي محمد بن سليمان الجزولي، سيدي عبدالعزيز التباع، سيدي عبدالله الغزواني والامام السهيلي ، كان منهم القائد السياسي والعسكري والروحي، والقاضي، والولي، والفقيه العالم. سبعة أعمدة يتأسس عليها مجد المدينة، كل زائر طالب للبركة والتسهيل مطالب بزيارتهم لا ينبغي له لن ينسى واحدا منهم، وتقتضي العادة أن تتم الزيارة – وكذلك ذكرهم ومناجاتهم حسب ترتيب قار، لا يقدم فيه واحد عن الأخر.
للحركة الصوفية بالمغرب تاريخ عريق وطرقها كثيرة ومتعددة، والاولياء منتشرون في كل مكان بشكل لا يعرف له مثيل في البلاد الاسلامية؛ في كل مدينة وكل قرية، فوق الروابي الجرداء الندية. نقاط اشعاع روحي موزعا في كل شبر، حول هؤلاء «السادة» كما يسمون هنا، تنتظم حياة روحية وثقافية نشطة لا في المواسم فحسب، بل يوميا وبصفة دائمة.
في المواسم التي تقام طقوسها في اغلب الاحيان في فترة المولد النبوي، تفتك مهرجانات شعبية عارمة تتخللها حفلات موسيقية ينشطها في الغالب مغنو الكناوة، وتعم المغرب بأكمله موجة احتفالات بهيجة تستقطب الآلاف من الزائرين المتوافدين على مولاي ابراهيم (70 كم مراكش)، وتمسلحت (30 كم مراكش)، وزاوية العيساوية في قرية الشيخ الكامل بمكناس، ومولاي إدريس الاول بجبل زرهون بنواحي مكناس، وسيدي علي، أو زاوية الحمادشة (20 كلم مكناس). الاولياء عدة من الفقهاء والعلماءء واحيانا من الدراويش التابعين لطرق صوفية مختلفة، والبعض منهم كانوا زعماء سياسيين لا غير مثل مولاي إدريس الأب بمكناس ومولاي إدريس الابن بفاس ويوسف بن تاشفين مؤسس الدولة المرابطية بمراكش، حول كراماتهم واتيانهم بالمعجزات تروى اقاصيص كثيرة يصعب من المرء تمييز الواقعي منها مما نسجه خيال الناس عبر القرون. يتوافد الزوار على اضرحتهم يوميا بالمئات والآلاف طلبا لبركة والإخصاب، وفتح مكتوب البائرة، والتسهيل في الرزق وعودة المغترب، وهداية الضال، ودفع مفعول السحر…الخ، النساء من عجائز وفتيات يمثلن الغالبية الساحقة لأفواج الزوار، لا أدري ان كان ذك يعود الى كونهن اكثر إيمانا من الرجال، أم لكونهن الحلقة الضعيفة في المجتمع والتي هي دوما اكثر عرضة للاضطهاد والمعاناة.
داخل مقام الشيخ الكامل بمكناس جموع غفيرة من النساء والفتيات تحتشد في البهو وتتزاحم دخولا وخروجا على باب الغرفة المربعة التي يتوسطها قبر الولي المكسو بقماش أخضر من الحرير. بالقرب من القبر تتحلق مجموعة من الرجال المنهكين في تلاوة القرآن. بقية الاجساد تتحرك بصعوبة وفي صمت ثقيل، ذكرني ذك الجو المثقل بالرهبة والخشوع وذلك العدد المهول من النساء بمقام مولانا جليل الدين الرومي بقونيا. في الزاوية اليسرى للبهو المربع درج يقود الى قبو، نساء وفتيات يصعدن وينزلن في صمت، على الوجوه تعابير مبهمة، مزيج من الرهبة والخشوع، والتجهم والانبساط، نزلت الدرج، في القبو حنفية ماء تتزاحم عليها الصبايا؛ يغتسلن، أو يغمسن أيديهن، والبعض أرجلهن أيضا، انه ماء البركة الذي يسهل فتح مكتوب العذارى والبائرات ، ويعجل بالخصوبة والإنجاب.
نساء المغرب عميقات الإيمان مقتنعات في أغلبهن بأن الحظوظ والأقسام بيد الله وأقداره، ذلك ما لا شك فيه. غير أن ذلك لا يتنافى لديهن مع شعور عميق بالمسؤولية وما يتبع ذلك من انخراط، او التزام عملي في كل نشاطات الحياة الاجتماعية دون مركبات. يعجبني كثيرا مشهد الآنسات والسيدات وهن يجبن شوارع وأزفة المدينة -بمراكش خاصة- ممتطيات دراجاتهن العادية والنارية، سائقات بارعات، كثيرا ما وقفت أرقبهن بإعجاب وهن يشمرن الجلابية لامتطاء الآلة والانطلاق داخل الزحام الذي تختلط فيه دراجاتهن بالسيارات والعربات المجرورة بالخيول والحمير والباصات والمرتجلين في جو كرنفالي يزيده حضورهن بهجة وطرافة. إنهن في كل مكان، جادات وحازمات، في الأسواق تجدهن تاجرات صبورات وبارعات بلطف، يقفن أو يقرفصن وراء أكداس الخضار، أو الاواني المنزلية في السوق الداخلية بطنجة، أو في سوق كسبراطة، متحجبات أحيانا وأحيانا سافرات، وتلك القادمات من منطقة الريف يعتمرن قبعات السعف المزدانة بأشرطة وزهور من الصوف والحرير في هيئات شبيهة الى حد بعيد بفلاحات الساحل التونسي، أو نساء جزيرة جوبة.
في رحبة مراكش- سوق صغيرة داخل شبه فناء مربع فوجئت بعددهن الهائل، لا يكاد يوجد رجل هناك، فقط نساء بأعمار مختلفة يقفن صفين متقابلين يفصلهما ممر ضيق لا يتسع لاكثر من مارين متحاذيين. متلاصقات، أغلبهن صامتات ممسكات في أيديهن بقطع من القماش، بتنورة، او سروال، أو تبان، يجادلن الزبائن برقة، يقسمن بالله ورسوله، لا يقرأ المرء علي صفحة وجوههن لا علامات تبرم ولا قنوط ولا ضجر، في العشية تراهن جالسات إلى طاولات الاكل المنصوبة في ساحة جامع الفنا، جنبا إلى جنب مع الرجال والأطفال ويعض السياح الأجانب، يتناولن حساء الحريرة أو شربة الكوارع، والرؤوس المبخرة والسمك والطحال المحشي بصمت وهدوء، تراهن في حلقات الحكواتيين والمغنين والبهلوانيين، ولا تفتقد حضورهن الا في حلقات التربية والتوضيح الجنسي.
في محطة طنجة وقفت مندهشا لذلك العدد من النساء المتحركات ببطء شديد بهيئاتهن الكروية الضخمة العجيبة، جذبني صديقي المغربي برفق وقال لي مبتسما: أدهشك المدورات ؟ اعترفت بأنني فعلا مندهش لهذا العدد الكبير من النسوة ذات الهيئات الضخمة الخيالية. «انهن مهربات قادمات من المنطقة الحرة بسبتة». ليس لديهن غير تلك الطريقة المفضوحة لتخبئة البضاعة المهربة التي ينقلنها الى منافق عدة من البلاد، طبعا لا يجرؤ أحد على تعريتهن، والكل يعلم، وبخاصة رجال الجمارك والشرطة بما يخفين تحت ملابسهن، تتلمسن الأيدي هكذا لمجرد القيام بإجراءات شكلية، أو لمحاولة التكهن بنوعية ما يخفين تحت جلابياتهن المنتفخة تكاد تنفلق. يبتسمن بشيء من الحرج والخوف معا وهن يناولن كل مراقب «ما كتب الله» ويدعون لهم بالبركة ورضاء الوالدين.
«الأرزاق بيد الله» لكن جادات في البحث عنها أكثر من الرجال في كثير من الأحيان. سعي وكد لا يملك المرء الا أن ينحني أمامه بإجلال، وبشيء من الخجل أيضا؛ إنهن "نصف السماء" والكثير مازال يصر على اعتبارهن ذوات نصف حق على أقصى تقدير.
***
تروم فاس أن تكون لغزا، رمانة تضم حباتها، إنها غياب في مرارة الحجارة.
الطاهر بن جلون
دخلت مدينة فاس ظهرا وكان الطقس حارا نسبيا ونحن في شهر مارس، ولعل ذك ما جعل المسير في الشوارع الكبرى للمدينة الجديدة مرهقا إلى حد ما. وقد يكون سبب ذك إنني كنت متلهفا على دخول فاس البالي (هكذا تسمي المدينة العتيقة هنا). لم أكن أتوقع أنها بعيدة كل ذلك البعد عن محطة القطارات الواقعة في سفح الجبل. كنت جائعا ومتعبا شيئا ما، الأمر الذي جعلني أضيق بتلك الشوارع الفسيحة الهادرة بمحركات السيارات – شارع مريم، والحسن الثاني، ومحمد الخامس، وعلال بن عبدالله – لم يكن لدي دليل سياحي أو خريطة، لذلك قضيت أكثر من ساعة من الزمن تائها بين تلك الشوارع الكبيرة باحثا عن منفذ أو زقاق قد يفضي بي الى المدينة العتيقة كما هو الشأن في أغب الأحيان (في استنبول، والقيروان، وطنجة…)، في لحظة ما تلبس بي شيء من الهلع وخامرني شعور بأنني لن أجدها، في وعيي كنت مقتنعا بأنها هناك، في مكان ما، غير انها كانت مختبئة. لكن أين؟
قررت في النهاية ان التجئ الى سيارة تاكسي، عندها فقط، ونحن نعبر شارما فسيحا أفضى إلى طرق تركت المدينة وراءها وتوغلت في منحدر طويل، عندها أدركت أنني كنت بعيدا جدا عن فاس البالي التي تراءت لي كتلة من البنايات الصفراء والشهباء متشبثة بربوة، منزلقة على المنحدر باتجاه سفح لا تراه العين بعد. قال لي سائق التاكسي عندما علم بأنني من تونس وهو يودعني ويتمنى لي إقامة جميلة في بلدي الثاني المغرب: «ادخل زاوية مولاي إدريس، اشرب واجلس هناك قليلا لترتاح وبعدها سيكون كل شيء مزيان». قالها بلهجة آمرة الى حد ما كما لو كان ينبهني إلى المهمة الاولي التي على الزائر القيام بها قبل دخول المدينة، بل الشرط الأولي لدخولها. وكان أن فعلت لهجته تلك فعلها السحري، فوجدتني مقدما بصفة آلية على تنفيذ طقس لا مجال لتغيير أولياته، وأنا أسير في الزقاق الضيق المزدحم بالدكاكين الغاص بالمدرة مرددا في داخلي: أدخلوا البيوت من أبوابها وكان مولاي إدريس باب المدينة الرئيسي.
زقاق يفضي إلى زقاق آخر، وهذا الأخير ينعرج بالسائر في غفلة منه يمينا مرة وشمالا مرة أخرى، وتبدأ المتاهة، انعطافات وانعراجات، تواتر الظل والنور يوحي لك حينا بأنك توغلت داخل زقاق لا منفذ له، وحينا أخر بأنك متقدم باتجاه منفذ أو معبر رئيسي، سرعان ما تغالط المرء تلك الوعود وإذا ذلك الضوء مجرد إنارة طرفية للدرب قبل أن يضيق مجددا، أو يتعرج ليتحول الى زقاق ضيق قد ينعطف بدوره ليتوغل في العتمة قبل أن ينتهي إلى باب موصد. منزل مخنبئ هناك يعلن للسائر عن نهاية الزقاق، والخروج من الفضاء العمومي، وبداية فضاء خاص متكتم في سريته على حياة داخلية ليس للغريب فيها أي شأن، يصل فضول المتسكع الى طريق مسدود، وعلى الزائر أن يعود أدراجه متلمسا العتمة التي تعود عليها الآن نسبيا باحثا عن بؤرة الضوء التي تركها قبل حين وراءه. لكن ما كل مرة يوفق المرء في ذلك المسعى، تكفي لحظة واحدة من الغفلة أو الشرود أمام باب عتيق مهيب المظهر، أو دكان تتزاحم على عتبته ألوان زاهية بديعة، كي ينفلت من الدرب زقاق مفاجئ يستدرج قدمي السائر في دون انتباه إلى متاهة قد لا يخرج منها إلا بعد ساعات من التهوام، حتى دليل السائح، أو الرسم البياني الذي يمكن الزائر من التنقل بسهولة داخل المدن الأوروبية، يصبح عاجزا هنا عن أداء المهمة الصعبة في الإلمام بالشرايين المتعددة المعقدة، المتشابكة للمدينة العتيقة، مدينة التكتم والغموض، كان عليها أن تحمي نفسها من الغزاة الغرباء فأوغلت في تعقيد المسالك والدروب، وسد المنافذ، كان من الممكن لعدو، الغازي أن يحاصر مدينة بأكملها، لكن التوغل في داخلها كان دوما أمرا شبيها بورطة يصبح بموجبها المحاصر الغازي محاصرا بين ذلك الإخطبوط الذي ينغلق عليه ويبدد طاقاته العدوانية داخل البحث الدائم والأعمى عن المنافذ، لذلك لم تكن هذه المدن الأخطبوطية متنسم لغزاتها إلا بعد أن يضنيها الحصار الخارج حتى ينفد غذاؤها وتبليها المجاعة والأمراض. لم آت المدينة غازيا، بل عاشقا متوددا لا يتوهم التحكم فيها برسم بياني يبيح سرها على الورق. وهي على أية حال تستقصي على كل الرسوم، كان علي إذن أن أراودها برفق وبشيء من الاستسلام إلى غنجها وسر أزقتها الموغلة في اللف والدوران والمراوغة، لم أبدأ بزيارة مولاي إدريس، كما أشار بذلك سائق التاكسي وكما كنت أنوي ذلك، لأنني لم أتمكن من العثور على ذلك المسجد. الضريح. بعد يوم عرفت أنني كنت طوال العشية أحوم حوله أكاد ألامسه ولا أهتدي إليه. كانت الأزقة قد عبثت بي وتقاذفتني حتى أنها قادتني مرتين الى مخرج المدينة، وكانت في العديد من المرات تقود خطاي داخل دائرة شبه مغلقة تعيدني دوما إلي النقطة التي انطلقت منها، كان أمرا شبيها بالسخرية، أو المداعبة الخبيثة التي تتلاعب بالغريب، كأنما تروم ترويض غروره كي يذعن الي سلطتها الغامضة، ويعترف بالخضوع الى سحرها وفتنتها ويسلم أمره نهائيا إليها، المدينة لا تتحصن بالغموض من عدوانية غزاتها فقط، بل كذلك من التملق الكاذب لزوارها. ليست جسدا فيزيائيا من الحجارة والمعالم يعرض نفسه فرجة ونهبا لكل عابر سبيل. بل كيانا حيا شبيها الى حد بعيد بامرأة متغنجة لا يستطيع أن يكسب ودها الا من يتوسلها ويحاولها على نفسها مبديا علامات الإذعان الى دلعها وغنجها والوقوع في فتنتها. من هنا يغدو ذك التعقيد الشبيه بشرايين الجسد تلميحا ينبئ الزائر بأنه لن يتملكها الا بالمعاشرة الطويلة، والمحاولات الصبورة، مدينة لا تؤمن بالعلاقات العابرة والزيارات المتعجلة.
في اليوم الثاني دخلتها من بابها الفوقي: باب أبي الجنود الذي يسميه المغاربة باب بوجلود. قوس فخم مكسو بخزف ملون بالأزرق والأبيض تطل من ورائه صومعة وجزء من درب سرعان ما ينفلت إلى اليمين مشيرا الى تلك المتاهة المترامية الأطراف من ورائه تكاد لا تعرف لها نهاية. في كل خطوة مفاجأة سارة، باب عتيق من طراز أندلسي، ألوان، مطورات، روائح شهية لمأكولات معروضة في الواجهات البلورية وعلى المباسط على عتبة المحلات والمطاعم الصغيرة. عينان سوداوان واسعتان، بشرة تراوح بين السمرة والبياض؛ وجه بملامح أندلسية مثل تلك التي تبهر المرء في شوارع وأزقة غرناطة وقرطبة وإشبيلية والقيروان (جئت لأنظر إليهن، لأن جمال وجوههن كان خرافيا، كانت وجوههن مكتملا الجمال، بعيون واسعة كالجواهر، وأنوف رفيعة مستقيمة مع تباعد كبير بين العينين، وشفاه مكتنزة وشهوانية، وبشرة في منتهى النعومة، ولهن دائما هيأة الملكات أناييس نين -المذكرات)، سيدة تعدل وضع جلابيتها بحركة رشيقة من كفيها، جوقة من أصوات أطفال هازجة بترتيل القرآن تنبث من مكان ما غير بعيد. على المرء أن ينتبه من الدوخة؛ الزقاق أرجل تتحرك في الاتجاهين ولا أحد يصطدم بأحد. أتبع الاتجاه الذي تأتي منه أصوات الصبية الهازجة وقد أعادتني الى سن الخامسة وأنا قابع في ذلك الكتاب الصغير أتهجى أولى آيات القرآن. أنعطف داخل درب ينفلت إلى اليمين مصيخا بسمعي، تنقص الحركة: فجوة مؤقتة وفراغ نسبي؛ تمتد الرؤية على بعد أمتار وتبرز الجدران الصهباء وأبواب البيوت الموصدة، لا نوافذ ولا شرفات، يضيق الدرب متحولا إلى زقاق (زنقة) وتتكاثر الأبواب، اندثرت جوقة الصبيان فيما وراء الجدران لا أدري في أي موضع. لم تعد أمامي الا الأبواب الموصدة إلى أين تفضي كلها؟ يتساءل المرء وهو لا يكاد يلمح من المساكن غير تلك الأبواب. الى حياة داخلية متكتمة على خصوصيتها، حياة مستديرة بحميمية بذخها، أو بساطتها، وجمالها إلى الداخل وليس لديها أي هاجس استعراضي، كل شيء يتم طي التستر والكتمان. من وراء تلك الجدران المتشابهة في بساطتها تنبث من حين لأخر أصوات، ضحكات، موسيقى، روائح شهية في أوقات إعداد الوجبات اليومية، سعال عجوز، وجه امرأة يطل ويختفي من فرجة باب، جزء من سقيفة مكسوة بالخزف الأندلسي: إشارات وتلميحات تثير الفضول ولا تخلو من شبق، يتعتم الزقاق فجأة فإذا المتمشي يسير في عتمة شبه كلية. إنها إشارة إلى أنك توغلت بعيدا عن الفضاء العمومي، تتكاثر الأقواس الواطئة التي يكاد علوها لا يتجاوز قامة رجل عادي. كان لابد من صد هجمات الغزاة في تلك الأزمنة البعيدة المضطربة، وكانت تلك الأقواس الواطئة حاجزا يصطدم به الفرسان، لابد من الترجل، إنها طريقة ما لإضعاف المهاجم ورده على أعتابه.
مقارنة بمراكش المزدهية على الدوام بعرسها البهيج ومرحها الدائم، تبدو فاس سيدة وقورة، رهينة جاثمة على قرون من مهابة العم والجد. مراكش تمنح نفسها فرجة كل طرب وبهجة تغدو على حافة الجنون عند المساء عندما تتصاعد وتيرة نشوتها، أما فاس فمتحصنة بأسوارها ملتفة على نفسها داخل متاهة شبيهة بدهليز تغشوه الظلال، داخله يتحرك الناس مثل كيانات خرافية قادمة من عصور غابرة، فاس البالي لا تنتمي إلى هذه الدنيا التي من حولها، إنها جزه مقتطع من عالم الأساطير والخرافات. عالم قد مضى دون رجعة ونسى جزءا منه فوق هذا المنحدر. قلعة من زمن لا تلجه السيارات ولا الدراجات النارية، أقدام تسعي، وبغال وحمير مازالت لم تفقد وظيفتها، كل شيء يوحي بأنها لا تنتمي إلا إلى نفسها، إلى زمنها الخاص: الأزقة الضيقة المعتمة، لون الجدران الضارب إلى صفرة باهتة مثل أوراق المخطوطات القديمة، الأبواب العتيقة الثقيلة الهيأة، الشحوم والكرش المتدلية من مداخل الدكاكين، الدجاج الحي المضطرب داخل الأقفاص مباشرة فوق الرصيف، العطور والبخور والبهارات، الروائح الطيبة منها والعفنة، أكداس القمامة، المتسولون الجالسون على الرصيف متمرغين في الأتربة والأوساخ في حالة اللامبالاة والشرود، المشوهون منهم، والعمي، والهزيلون في هيأة أشباح، الهازجون بتعاويذ وتراتيل وأدعية متداخلة لا يربط بينها رابط، والصامتون ذوو الملامح المقفلة التي لا تعبر عن شيء محدد. وأولئك الدباغون وصباغو الصوف الذين يشبهون زبانية البرزخ المنشغلين بغسل الأرواح. مياه الدباغ والصباغة السوداء، والزرقاء، والبنية، والحمراء المنسابة عبر المجاري العارية باتجاه النهر (لقد كانت فاس من أقدم مدن الدنيا التي عرفت نظاما محكما من القنوات المغطاة لتصريف المياه الموسخة)، ثم فجأة أقمشة من نوع رفيع بألوان خيالية الزهو والبهجة، أواني الفضة والنحاس الملتهبة الألوان والمظهر، فخضار وغلال وأكوام من البرتقال، فصوف، فحرير، فأوساخ من جديد، ثم أولئك الحرفيون القابعون في دكاكين ضيقة؛ الشيوخ منهم بالخصوص بهيئاتهم النحيلة وأيديهم الداكنة ذات العروق الناتئة؛ الأيدي الطالعة من غبار القرون المنصرمة، أصابع رشيقة واثقة تصقل، تنقش، تطلي، تخيط، تلمس وهي غافية في الظلال التي تسبح فيها الخليقة منذ الأزل، مدينة واقعة على حافة الواقع.
من تلك الفجوات الرطبة المحفورة في الجدران تتوزع على أرجاء البلاد كلها أباريق الشاي الفضية، أحذية، بلاغي، برانيس، جلابيات الحرير والصوف والمخمل، إنها فاس الغافية في مأمن من سطوة المحو والنسيان، نساها الموت هنا داخل المتاهة المحفورة في المنحدر، نهرع اليها يدفعنا شيء أكثر من الفضول، وأكثر من الحنين، إنه الهروب من الموت الذي طال كل ما عداها، مولاي إدريس وجامع القرويين قبلتنا، نخلع أحذيتنا في العتبة ننشر فنشعر لا معهودة وندرك أن أقدامنا لم تخلق للأحذية بالنهاية.
في سنة 245هـ/859م، قدمت إلى فاس سيدة ثرية من مدينة القيروان تدعى للآ فاطمة الفهري هي التي بنت جامع القرويين على مساحة تبلغ حوالي 10000 متر مربع تتخللها 366 ركيزة ويلجها المرء من 14 بابا، ذلك الجامع سرعان ما تحول إلى إحدى كبرى الجامعات والمراكز العلمية التي أشعت على الشرق والغرب على حد سواء. في باحته كانت تدرس شتى فروع العلوم، وفيه درس موسى بن ميمون الطبيب الفيلسوف الأندلسي الشهير. هنا جلس ابن رشد وابن خلدون ومحو الدين بن عربي والقاضي عياض. والبابا سلفستر الثاني طالب علم. هنا يجثم التاريخ بثقله، وفي الفضاء، ما بين الأرض والسماء شيء غامض يرف ويجلي هذه المدينة بضرب من الرهبة والجلال الذين قلما يشعر بهما في غيرها من المدن. لعله ذلك الزخم الثقافي والعلمي يتكثف في فضائها كتلة روحانية تجعل المدينة شيئا أرقي وأعمق من مجرد جدران وأزقة ومعالم من حجر. ولعل ما يكف ذلك الشعور الغريب بالرهبة هي البساطة المتناهية. مسحة من صوفية متقشفة ورهيفة في الآن ذاته تجعل الزائر أقرب الى الخشوع منه الى الانبهار. في فاس كما في مراكش ومكناس يجد المرء نفسه في حضرة جمالية أخرى تعتمد قوتها وعمقها من الاشكال البسيطة التي لا تعير اهتماما كبيرا لدقة الخطوط واستقامتها وانضباط الزوايا، ولا لتعقيدات الرسوم والمبالغة في التزويق والتزيين. في متحف الخشب بفاس، او متحف الأودية للصناعات التقليدية بالرباط، ومعارض الأثاث التقليدي، يجد المتفرج نفسه وهو يتأمل الصناديق والخزائن والأبواب والرفوف والأفاريز والكراسي وارجوحات الأطفال والآلات الموسيقية (القمبري، الهجهوج،الدفوف، القراقب) أمام فن ذي طابع بربري- أفريقي اقرب الى السذاجة منه الى تعقيدات ورهافة الفنون الشرقية (الشامية والفارسية)، فن بسيط، طبيعي، تلقائي، بألوان مختزلة يطغى عليها البني والأحمر والأخضر، لا تتعقد الأشكال والألوان ألا في الأشياء التي تحمل تأثيرات اندلسية. حتى الخط المغربي نفسه يبدو مخترقا بذلك الطابع البربري الافريقي، لكن من التجاويف المضخمة لبعض الحروف (الطاء والصاد والميم والراء والكاف…) وتناظرها مع إمدادات الألف واللام وارتعاشة بعض التضاريس يستشف المرء نوعا من القوة التعبيرية التي تمتزج فيها البراءة والتواضع بعمق الأحاسيس واعتلاء الروح بنبضها العاتي؛ عمق صوفي شبيه بذلك الذي يلمحه المرء على صفحة وجوه الدراويش المشرقة بالتواضع والأيمان.
***
منذ القرن التاسع عشر غدت المغرب قبلة العديد من الادباء والشعراء والفنانين، توافد عليها الكثير من الرومانيين الحالمين المتبرمين من رتابة الحداثة وعقلانيتها المجحفة، ثم جدت موجات الهيبيين وفناني الـ Beat generation هنا وقفت اناييس نين مخطوفة بهذا العمق، وكذلك الشاعر الفرنسي كلود اوليي صاحب كتاب «مراكش المدينة»، وبدا إلياس كانيتي أشبه بتلميذ صغير مرتبك أمام ساحة جامع الفنا حيث اكتشف سرا أخر لفن الحكي والتعامل مع اللغة، كل هؤلاء وغيرهم كانوا يستشفون من وراء الاصوات والحركة والالوان كثافة ما وراء الغرابة الساحرة أبعادا أخرى سربلة بالغموض. ذلك الغموض هو بالتحديد ما يكون الكثافة الثقافية التي ينطوي عليها هذا البلد. كثافة تنأسس من تراكب وتجاور وتداخل الهويات المتعددة: الامازيغية عنصرها الرئيسي والإسلام خلفيتها الروحية والذهنية، بينما العنصر الافريقي عامل بهجتها وخفتها. يتوازى التعدد الاثنوغرافي والثقافي مع التنوع الجغرافي الذي يجاور بما يشبه المزحة الخيالية بين النخيل وققم الجبال المكسةة بالثلوج، بين السهول الخصبة والهضاب الجرداء القاحلة بين غابات الفلين والكلاتوس (منبسطات الشمال) والارغان (منطقة الصويرة)، والمنبسطات الرملية. يتغير لون التربة من منطقة الى أخرى – واحيانا تتجاور الألوان في منطقة واحدة – من البني الغامق الى الحمرة، الى الصفرة الباهتة. تتجاور أيضا الأزياء المختلفة في الاسواق وفي الشارع وفي المقاهي، الجلابات المغربية بطرابيشها المخروطية التي تعطي الرجال هيئات غامضة ووقورة، وتوقع مشية السيدات على ايقاع صور قديمة خلت، مع البذلات الأوروبية والتنورات القصيرة وبنطلونات الجنيس. لكن حذار، على المرء إلا يتسرع في تصنيف الناس حسب ذلك الاختلاف اللباسي، اذ يمكن للفتاة العائدة من المدرسة او المكتب او الجامعة في زيها الأوروبي الذي لا يختلف في شيء عن لباس فتيات المدن الأوروبية، أن تخرج بعد ساعة بجلابية مغربية فيعتقد المرء انها سيدة بيت محافظة وتقليدية. الامر نفسه ينطبق على الرجال بمختلف أعمارهم ومراكزهم الاجتماعية. انه المغرب: يؤاخي بين المختلف والمتعدد دون صدام او تمزقات واقتتال. مغرب متسامح منفتح على الأخر يحتضنه في اختلافه، يمتص التناقضات بالتجاور المرح والتعايش. لعل ذلك هو الخلفية الثقافية التي يتأسس عليها الاستعداد الاجتماعي فالذهني- السياسي لتعايش المختلف.
على مصباح (قاص من تونس)