أخذ يستنشق التراب والهواء وهو يهوي ، ينزلق لأدنى ، يرسل نظرات هلعٍ تصطدم بالظلمة ، الى أن استقر جسده كومة جنينية الشكل في مكان ما ، شاعراً بألمٍ ينبض به جسده ورأسه ، وهو لا يدري هل هبطت به الأرض فهبط معها ، أم فتحت فيها هاوية ابتلعته ..أرسل بصره في ذات الاتجاه الذي انحدر منه ، نور بعيد ضئيل يترنح ، يبدو كشمعة تتلاعب بها الريح ، بجهد هائل حرك جسده تجاهه قاصداً المضي نحوه ، توقف والرعب يعتصر عينيه ، عينان لهما وميض ٌ شرس ٌ اتجهتا اليه ، لم ير مثلهما من قبل ، تحاصرانه بنظرات ثلجية تقترب منه ، الجسد الأملس العملاق يتحرك في يسر زاحفاً نحوه ، يحاول الصراخ ، الحركة ، الفرار ..لا يستطيع ، واتته فكرة كالبرق الخاطف ، نفذها فوراً ، اغمض عينيه واصطنع الموت ، لارعدة ،لا صوت تنفس ، لاضجيج أفكار ..شعر بأنفاس ٍ نارية ٍ تقترب ، تصلّب جسده أكثر ، الموت آت ٍ ، سيراه وهو متيقظ ، واع ٍ تماما ً لما يفعله به ، سيتعذب ببطء ، يكفّر عن سيئاته واحدة واحدة وعلى مهل ، ولاخلاص !!
انفجرت في رأسه فكرة ..الاعتراف بالذنب يقلل العقاب ، ربما يمحوه ، همست له نفسه ( أنا لم أندم من قبل ، لأنني لم أ فعل شيئاً واحداً خطأ ً في حياتي ، أنا!! …)
علا الفحيح وسط الظلمة والأتربة والأنفاس النارية المتقدمة على مهل ٍ ، تدافعت الصور على مخيلته رغما ً عنه .. (الخطأ الأكبر يوم ترك أخاه وحده ، يضربه المعلم جابر وسط الحارة ، من خوفه من جابر هذا التزم الصمت ، رجاله يملأون المكان ونفوذه قوي وصلاته ممتده ، رأى أخاه ملقياً على ظهره ، الرجل يكيل له اللكمات ، الدماء تنزف من وجهه ولم يتحرك ، اكتفى بطلب الصفح راجياً من المعلم الحفاظ على صحته وعدم الاندفاع وراء غضبه ، نظر جابر وهو يلهث وقد أدركه التعب على ما يبدو من طول الضرب ، حدق في وجهه مشيراً الى أخيه :- مشاكس ، أجبرني على ضربه .
همس راجياً :- أخذ جزاءه ..كفى
هب الرجل رافعاً صوته الخشن في مواجهة العيون المحملقة :- كلا ، حتى يقوم على أربع وينهق وسط الحارة .
تفجرت الدموع من عينيه ، حبسها بالكاد وهو يعترف للمرة الأولى أنه من يومها يشعر بالعجز ، بالذل ، يؤنبه ضميره ولايجد حجة يداري بها موقفه الا قوة خصمه ، وأنه لو تدخل لصار الذي يسير على أربع وينهق وسط الحارة اثنان بدلا ً من واحد ، يعترف أنه من هذا الموقف بالذات تحّول الى شخصية أخرى يمقتها ، يحتقر تصرفاتها لكنه لايجرؤ على التصريح بهذا حتى لنفسه .
شعر بنيران الدموع تتأجج على حواف عينيه ، حبسها بقدر ماوسعه الرعب وهو يشعر بثقل الجسد الأملس ينزلق فوق صدره ،جاثماً على أنفاسه حابساً الهواء عنه بحجمه الذي لم يتوقعه ، شعر أنه لو التف حوله سيعتصر أنفاسه .
هرولت أفكاره مهرولة الى عمله ..(الموظفون ينادونه الشيخ ، يرونه صالحاً ، يحترمونه ، مديرون قبله شغلوا منصبه ، لم يملأ أحدهم المكان مثله ، لايذكر يوماً مد يده لرشوة أو فعل مايمسكه أحد عليه)٫
تحشرجت أنفاسه وشعر بثقل الجسد الأملس يضغط قفصه الصدري أكثر ، سمع طقطقة عظام والم رهيب يجتاحه ، تفجرت الحروف في صدره ..( لكنك كنت تتغاضى عن الهدايا التي يقول السكرتير أنها من محبيك الذين يقدرون خدماتك ، تتغاضى عن حجمها وكثرتها و .. !! )
خف الضغط قليلاً أثر حركة من الجسد الأملس انزلق بها قليلاً عن مركز الثقل فوق الصدر، طارت أفكاره فوراً الى البيت ، دارت في أرجائه فزعة ، إبنه الكبير وتغاضيه عنه ، مكتفيا بالصراخ من وقت الى آخر مبيناً أضرار مايفعله ومايجره على نفسه ومستقبله من شرور ، بدا عاجزاً عن الفعل ، معللآ الأمر بأنه شاب وسوف ينصلح يوماً ، بدت في مخيلته صورة زوجته أم الأولاد ، شعر بضيقها منه وكرهها له وصبرها عليه من أجل أولادها ، رغم هذا لم يكلف نفسه بمحاولة التفاهم معها ، مبرراً الأمر أن الزوجات في مرحلة من العمر يعانين من الملل ويحاولن التمرد على حياتهن ، أصابها المرض ، لم يبال بها ، تاركا ً الأمر لأهلها مكتفياً بسؤال جاف خال من المبالاه والعطف ..تفجرت ينابيع الدموع في صدره وقد اكتشف للتو إنه رأى ربما للمرة الأولى مالم يره من قبل ، وأحس بمالم يحس به من قبل ، وعرف أشياء كانت رغم وضوحها بعيدة كل البعد عنه ..عادت أنفاسه تلهث والهواء المشبع بالتراب يفعلها معه ،أيقن أنها دقائق معدودة وينتهي الأمر ، لن يشعر به في هذا المكان مخلوق ، ستظل جثته هنا الى أن تتحلل .. مد نظرات واهنة الى أعلى ، سحابة من تراب ناعم بعثها تحرك جديد للجسد الأملس واجهته ، همس باسم الله في تخاذل ، فكر في لحظاته الأخيرة أن يتوسل بشيء صادق في حياته ، طفت الى سطح مخيلته صورة إبنه الصغير أمجد ، الولد مستقيم ، يصلي ، كان يقول أنه ساذج ، لم ير من أفاعيل الحياة وحيلها شيئاً ، سيواجه الصعاب لامحالة طالما احتفظ بسذاجته .. تشبث بصورته ، غير أن الصورة تباعدت عنه ، أصر على ملاحقتها معتزماً التواصل بجد معها اذا قدر له أن يعود الى سطح الأرض من جديد ، انتبه لمساحة الضوء القادم من أعلى تتسع ، تصبح في حجم مصباح صغير بدلاً من شمعة خافتة ، سمع بين الصحو والإغماء من يقول :- هناك عجوز سقط هنا !!
محمد عباس/ قاص من مصر