ربما يبدو عقد مقارنة بين اتحاد الكتاب الألبان وإحدى العاهرات أمرا شديد الفجاجة، شبيها بالاستعارات الكثيرة المبتذلة التي شاعت منذ سقوط الشيوعية. غير أن خطتي لتقديم تاريخ دقيق للاتحاد (وإن اقتصر على الفترة من 1962 إلى 1967) أحيت أمام عيني صورة امرأة بعينها، اسمها مارجريت، حتى لم أعد قادرا على فصل صورتها عن صورة الاتحاد، إذ اقترنت إحداهما بالأخرى كما تقترن رائحة بذكرى شبه منسية.
مارجريت كانت عاهرة تعيش في زقاق صغير، متفرع من شارع «دبرا»، يكاد يواجه الزقاق الذي كان اتحاد الكتاب يقع عند نهايته في تلك السنوات.
حدث أن سمعت عن معماري أقام في فرنسا بناية حديثة، مصمما واجهتها بحيث تعكس كاتدرائية قديمة في الناحية الأخرى من الشارع، فأصبحت المقابلات صيحة منذ ذلك الحين. ومع ذلك، ظل من الصعب تخيل أي رابط من أي نوع بين مبنى اتحاد الكتاب ـ أي المؤسسة التي كنت أمثلها ـ وامرأة تعيش في الجهة المقابلة من الطريق. ويزداد الأمر صعوبة حين نعرف أن مبنى اتحاد الكتاب ـ قبل انتقاله إلى الفيلا التي كانت في ظل الملكية مقرا لوزير الداخلية ـ كان يقع في شارع كارنافرون حيث يشترك في فناء واحد مع قصر الأميرات آنذاك والمكتبة الوطنية. (عندما انتقل المبنى مرة اخرى، إلى شارع «كافاجا» الذي احتفل فيه الملك «زُوج» بزفافه عام 1938 بدأ الناس يشكون في هيمنة ظل ملكي غامض على هذه المؤسسة الشيوعية القحة).
الحقيقة التي لا يرقى إليها الشك هي أنني عرفت بأمر مارجريت لمجرد أن بيتها كان يقع في الزقاق المواجه لاتحاد الكتاب.
ففي شارع دبرا، كان ثمة مقهى صغير يفر إليه الصحفيون العاملون في اتحاد الكتاب ليتناولوا البيرة عندما يكون الجو حارا، وبجانبه كشك لبيع الفواكه. وفي ذلك المكان رأيت مارجريت للمرة الأولى. ففيما كنت قادما إلى المقهى أسرّ لي زميل من الاتحاد قائلا «انظر، ها هي مارجريت، المرأة التي تعيش في الجهة الأخرى من الشارع».
كنت قد سمعت عنها، ولكن لماما، لدرجة أنني نسيت كل شيء، ولم يبق في ذهني إلا أنها واحدة من إياهن، من نساء الزمن القديم، تعيش مع أمها الطاعنة في السن في ذلك الزقاق.
وعلى عكس ما تخيلت، كانت في أواسط الثلاثينيات، وكان فستانها الصيفي الخفيف يجعلها تبدو أصغر سنا. كانت لها بشرة فاتحة، وشعر كستنائي ينسدل مويجات على ظاهر عنقها، ولم تكن تبدو بأية حال امرأة سوقية. وكأنها «آنا كارنينا» ـ بدون «فرونسكي» وصرير عجلات العربة التي تجرها الخيول ـ وقد انتهت إلى مكان نالت فيه مصير الساقطات في بلد شيوعي في بلقان الستينيات.
عندما عدنا إلى الاتحاد أصغيت إلى ما كان لدى زميلي من كلام عنها. كانت أرقى عاهرة في عموم «تيرانا»، وكانت الوحيدة من نوعها فيما يبدو. كان من المدهش أنها باقية لا تزال في ألبانيا. وكان زبائنها مجموعة منتقاة من الرجال الذين سمعوا عنها من بعضهم البعض. كانت تستخدم معهم صيغة «يا سيدي» المحظورة، وتسمح لهم بقضاء الليل عندها، وعندما تدق الساعة الثالثة صباحا، كانت أمها تقدم القهوة، ويدس الزبون الأجر، ألف «ليك»، تحت وسادة مارجريت.
لم أفتتن بتفاصيل قصة كما افتتنت بتفاصيل تلك القصة.
لو كان أحد قال لي إنني سأقع في أسر امرأة من نساء الزمن القديم، تشبه النساء المسلمات إذ يرتدين قبعات تنسدل أوشحتها على وجوههن، أولاء اللاتي لا تلمحهن إلا في جندول، ولا ترى لهن شبيهات إلا في ألبومات صور عوائل تيرانا البورجوازية، لكنت مت من الضحك. ولكنت قلت له في نفسي، ما أنت إلا شيخ سخيف مختبئ خلف كرش أنيق وأرداف ثقيلة، وسترة عليها كتابات ترمز إلى القرن العشرين، وكل ما تستخدمه من زينة إن هي إلا وسائل جذب للبنات.
ولكن حقيقة واجهت عقلي ـ وكأنها خارجة من شق في الجليد، حقيقة ظلت كامنة لوقت طويل: البنات اللاتي عرفتهن، ذوات البطون المثالية التي شكلتها ساعات بعد ساعات من ممارسة الرياضة والسباحة والعمل اليدوي، بدون جدباوات، مفتقرات إلى الغموض، قياسا إلى جسم مارجريت، كما تخيلته.
بعد منتصف الليل بوقت طويل، لا أعرف كم كانت الساعة بالضبط، ولكن ربما في الساعة التي عادت فيها أم مارجريت بفنجان القهوة الثاني إلى غرفتها، وكنت لم أزل راقدا في فراشي، مستيقظا، أتخيل حمالة جوارب مارجريت السوداء معلقة على عمود سريرها، وملابسها الداخلية الحريرية البالية وقد كرمشتها ممارسة الحب.
الثياب الداخلية لنساء عصر مضى
تلقي ظلالا على أفكاري
كأنها السَحَر.
لا أعرف كما طال اعتلاج ذلك الشعور داخلي. بدا كما لو كان نابعا من مصادر عديدة لا مصدر واحد، كأنها الروافد التي تصب جميعا في نهر واحد. كنت أظن أنني سبق أن رأيت مثل أولاء النساء العتيقات، على شواهد القبور في جبانات تيرانا. وذات يوم في زاوية الشارع بالقرب من كافيتريا «أورا»، رأيت فقيه اللغة «إ. س.» يحيي سيدة برفع قبعته. وكان ذلك مشهدا غير مألوف في العاصمة الألبانية، فما كان مني إلا أن تتبعت ذلك الباحث لقليل من الوقت، على أمل أن يكرر تلك الإيماءة. ولكن السيدات ـ فيما يبدو ـ كن قليلات في شوارع تيرانا.
عرفت أنه بسبب إيماءة مشابهة ـ حيث كان قد لثم يد باحثة من بلد يعتبر الآن معاديا لبلدنا ـ منعوا «إ. س.» من حضور المؤتمرات الدولية. وبينما كنت أسير خلفه، فكرت في العذاب الذي يعانيه من اضطراره إلى نسيان مثل تلك العادات. فقد كنا نحن المثقفين الشباب نتمتع بميزة أننا لم نعرف فقط كيف نلثم يد امرأة. ولو كنا حاولنا لكنا بدونا على الأرجح كالقرود الخرقاء أو لكنا جرحنا تلك الأصابع الشهية بأسنانا البارزة.
خطر لي احتمال بأن زبائن مارجريت كانوا يشبهون «إ.س.» برغم أنني لم أستطع أن أتخيل ذلك البروفيسير يدق باب بيتها في الزقاق. لا. لا بد أن زبائنها مختلفون. ولكن مختلفون على أي نحو؟
برغم أنني كنت سعيدا بسيطرة فكرة زيارة بيت مارجريت في الزقاق على عقلي، إلا أن الخطة كانت مسربلة بالضباب. كيف أتمكن من الاتصال بها؟ كيف لي أن ألتقي بذلك الشخص الذي يتفق مع زبائنها؟ ففكرة العروج على بيتها بدون دعوة لم تكن مطروحة على الإطلاق.
كان من الممكن أن يذوي انجذابي إلى مارجريت ويتبدد مع الوقت كما يحدث لكثير من الأشياء، لولا أن صادفتها مرة أخرى في متجر الفواكه. كنت واقفا على الرصيف، أتخايل أمام شاعرة شابة من المستبعد أن أتمادى معها، فقد كانت من النوع مفرط الحساسية تجاه الرجال الذين يعاملون النساء بشيء من اللامبالاة ويكلمونهن بتعال لا مبرر له. وكنت سأكمل كلامي عن الطلبة الهنود الخصيان الذين التقيت بهم في معهد «جوركي» بموسكو وغير ذلك من الموضوعات العبثية، ولكنني نسيت ما كنت أتكلم فيه لحظة أن رأيت مارجريت. كانت تشق طريقها في تردد ـ أو في خوف ـ كمن لم تغادر بيتها قط.
بانقطاع حبل أفكاري، أخذت أهذي بأي كلام. في أعقاب استنجاد «جواهرلال نهرو» وزيارة لجنة الأمم المتحدة للبحث في أسباب الزيادة السكانية، بدأ ـ وكنت أتكلم بكل تأكيد ـ إخصاء الطلبة الهنود على خلفية موسيقية كان الهدف منها رفع حماستهم الوطنية. وأوضحت قائلا إن الرجال كانوا يصطفون على أبواب وحدات عسكرية مؤقتة يستنشقون رائحة المطهرات بينما فرق الموسيقى العسكرية تعزف ليل نهار. وأخيرا قاطعتني الفتاة قائلة إن الموضوع الذي أتكلم فيه ربما يكون مثيرا للغاية، لكنها لا تستطيع أن تستشعر إثارته تلك، إذا كنت أنا شخصيا غير منتبه لما أقول، ويبدو علي أنني لست معها على الإطلاق.
أردت أن أقول لها «ألا تدرين أيتها الحمقاء بما يحدث؟ مارجريت هنا»
وأخيرا فهمت الشاعرة ما كان يحدث. وبطرف عين تابعت تقدم المرأة باتجاهنا، ثم أتت بحركة رهيفة من شفتيها وكأنما تقول «حسنا. أنا الآن في الصورة». ولكنني لم أستطع أن أبالي بما كانت تفكر فيه. كان انتباهي منصبا بالكامل على المرأة التي تجتاز الطريق. كانت هناك شاحنة محملة بالأسمنت تندفع في الطريق في هدير صاخب وكان مكتوبا عليها «تحيا الخطة الخمسية»!
أخيرا وصلت مارجريت إلى الرصيف الذي كنا واقفين عليه، وهي ترتدي نفس الفستان الصيفي الذي رأيته عليها في المرة الأولى. رمشت بطريقة قديمة ذكرتني باللقلق. كان شعرها مصففا بعناية، وبطريقة لا هي تقليدية ولا عصرية. ذكرتني بجريتا جاربو، جريتا جربو كما تبدو لناظر من قلب سأم ألبانيا المحلي.
قبل أن تدخل محل الفواكه، لا حظت نظرتي إليها، فمنحتني نظرة رقيقة، كأنها إطلالة من شرفة. ظننت أنني لمحت في عينيها بصيص ابتسامة، بدت لي كأنها امرأة تعرف سرا لن تبوح به لأحد.
تسارعت في ذهني أفكار عديدة كأنها عربات على وشك الاصطدام. فكما سمعنا بها، ربما تكون هي الأخرى سمعت بنا ـ نحن الشباب العائدين للتو من دراستهم بالخارج والذين يعملون في اتحاد الكتاب. لعلها تقرأ الكتب. وإلا فكيف تقضي النهار في انتظار إلى الليل؟ وقد تكون متلهفة لأن تعرف ما شكل رجال الجيل الحديث، الكتاب والفنانين الذين ـ على خلاف أسلافهم ـ لم يدرسوا الفرنسية والإيطالية، بل لغات الشرق: البولندية والمنغولية والروسية والهنجارية. خرجت مارجريت من المحل وفي يدها كيس تفاح، لعلها ستتناوله مع زبونها قبل قهوة الثالثة صباحا. منحتني نظرة أخرى رقيقة ولكنها سريعة، لم ألمس فيها الفارق الرهيف الذي كنت أرجوه.
وحين وصلت أخيرا في أمان إلى الناحية الأخرى من الطريق واختفت في زقاقها الصغير، أخذت نفسا عميقا، كمن زال عن صدره عبء جسيم، كمن كان يقودها من على البعد. أظنني ابتسمت للشاعرة، ولكن سخفها بلغ حد أنها لم تقم برد فعل. قالت نظرتها بوضوح إن وجودي الجسدي لا يزال قائما ولكن ذلك لن يطول. ومع ذلك فقد أعاد إليَّ اختفاء مارجريت ثقتي بنفسي، فعدت من جديد إلى الكلام عن طقس الإخصاء الذي وقع ـ بحسب وصفي ـ في ثكنات عسكرية معبأة برائحة اليود على خلفية موسيقى تعزفها فرق عسكرية وفي حضور مراقبين من عند «ناصر» و«تيتو» بل ومراقبين من الصين أيضا.
أصغت إليَّ باهتمام خلا من الإعجاب الأعمى الذي كانت تبديه من قبل. وكانت عيناي تسرحان إلى التقاطع الذي بدا لي أن طيفا من الموف الذي طلت به مارجريت أصابع قدميها لا يزال باقيا فيه.
وبغتة قلت للشاعرة «أقول لك! هل حدث أن سمعت من جدك مثلا أو من أحد أعمامك عن النساء قليلات الأدب، أقصد، الشوارعيات، وإن كان المصطلح لا يلائمهن تماما، ما دمن لا يخرجن إلا لماما؟ ما أقصده هو هل سمعت عن امرأة من أولاء اللاتي ينتقين دائرة زبائنهن؟ أعني، زبائنهن هؤلاء كيف يتصلون بهن، وكيف…».
كان عليَّ أن أكرر السؤال أكثر من مرة قبل أن تفهم ما أرمي إليه. ورأيت للمرة الأولى تقطيبتها، والغريب أن ذلك التعبير بدا مناسبا لها تماما، ثم غضبت. وقالت «ماذا تظن فيّ؟»
أردت أن أقول لها إن هناك سوء تفاهم، وإن سؤالي لم يكن إلا عن أعراف اجتماعية معينة تهمني ككاتب وصحفي، لكنها لم تكن تستمع إلي. قالت مع السلامة واستدارت لتتركني، بينما شاحنة الأسمنت ـ ولا بد أنها نفس الشاحنة التي مرت منذ قليل ـ تشق طريقها في ضجة. ولم تلتفت الشاعرة الشابة كما اعتادت أن تفعل دائما عندما نفترق.
«يا لها من بقرة واقعية اشتراكية سخيفة». هكذا قلت لنفسي وأنا أنفض دماغي منها.
قررت أن أذهب لأرى مارجريت مهما يكن. وبدا أن القرار يستحوذ علي تماما، من مخي إلى أعمق أعماق أحشائي، ما أن يبرأ منه أحد أعضائي، حتى يشتعل به عضو آخر. والغريب أن ما كان يدفعني لم يكن حسيا وحسب.
في ما يسمى بالعلاقات العاطفية، تسهل الإجراءات الأولية ـ من مواعيد إلى نزهات في الحدائق والمقاهي إلى كتابة رسائل ـ ويصعب التكهن بما سيكون عليه اللحن الختامي أو الامتلاك الفعلي، وعلى العكس من ذلك، كان الأصعب، والأقرب إلى المستحيل في هذه الحالة هو الاتصال. ما كنت أحتاج إليه هو خريطة أخرى لتيرانا، تبين لي الشفرات والعناوين السرية التي لم يكن بوسعي فض مغاليقها.
ذات مساء، شربت بيرة في حانة «باريل» مع زميلي في هيئة التحرير الذي كان أول من كلمني عن «م» كما أصبحنا نطلق عليها. بعد ذلك قادتنا خطانا إلى ما ظنناه بيتها. انحرفنا من شارع «باريكيد» إلى شارع «ديبرا» حيث تتبعتها من قبل وهي تختفي في أحد أزقته، هي وأظافر قدميها ذات الطلاء الحالم.
كانت ليلة هادئة، ملفوفة بنور القمر الشاحب الذي بدا كما لو كان مخلوقا من أجل مثل هذه الأزقة الكامنة في قلب المدينة، والكامنة بداخلها حياة خاصة لا علاقة لها ببهرة الاشتراكية. أخذنا نرنو إلى الأبواب الخشبية ذات العوارض المزخرفة، ومن خلفها الحدائق الصغيرة تنمو فيها أشجار الديوسبيروس. كانت البيوت من طابقين، لبعضها أسقف معلقة، وفي معظم الشبابيك أصص زهور. وكنا كلما رأينا نورا يلمع في شباك أيقنا أنه لا بد أن يكون بيت مارجريت.
لم أنم جيدا في تلك الليلة. توالت عليَّ شذرات من الأحلام، كأنها أنقاض أمُرُّ عبرها بشق الأنفس. تركتني أكثر إجهادا مما لو كنت لم أنم. صحوت أكثر من مرة، وفي كل مرة كنت أستعيد نفس المشهد: أسير في زقاق صغير مهجور، ولكنني هذه المرة زبون من زبائن مارجريت، باحثا عن المدخل. بدأت أعصابي تثور. وبدأت أشك في خفاء ذلك الزقاق عن أعين المدينة كما كنت أتخيل. هل يعقل أن تغفل أعين السيجوريمي المنتشرة في كل مكان عن مارجريت وزوارها؟ أم تراها ليست إلا واحدة من شبكة مخبريهم؟
وفجأة بدا لي من السذاجة والعبط أن أفكر بطريقة أخرى. وكان ذلك كافيا ليهدئ من روعي، ويجعل طلاء الأظافر مألموفاً، وحمالة الجوارب السوداء، وقهوة الثالثة صباحا، وصيغة «يا سيدي» المحظورة تفقد فتنتها، ويجعلني أهدأ وأنام، لأصحو بعد ساعة واحدة كأنما دق في أذني ناقوس ضخم. تذكرت بغتة كلمات ابن عمي الذي يعمل في وزارة الداخلية: «أنت عتقدت أننا نرى كل شيء؟ اسمع مني إذن الكلام المفيد. العكس بالضبط هو الصحيح. نحن لا نرى أي شيء. نحن الذين اخترعنا هذه الأسطورة، من أجل أن نخيف الجميع. والمدهش أنها أفلحت. آه لو كنت تعرف ما الذي يجري في بلدك».
أخذت أزن كلامه المرة بعد المرة، واندلعت النار في قلبي من جديد. آه لو كنت تعرف ما الذي يجري في بلدك. تأكد لي في تلك اللحظة أن أعقد ما يدور في ذلك البلد لا بد أن يكون له علاقة بما يكمن بين ساقي مارجريت.
أقنعت نفسي أن خوفي من السيجوريمي لم يكن له أساس. فحتى لو اكتشف أمر مارجريت، فسوف تنزعج الدولة إن عرفت أن وزيرا ما أو جنرالا كان ينام معها، ولكنها لن تقلق بشأن كاتب تافه. خصوصا عندما يأخذون في الاعتبار الشعر الذي نشره ذلك الكاتب ـ فلن يعتبر بأية حال شخصا مهما، ولن تكون فضيحة كبيرة حين يقع في غرام ساقطة.
بما يكاد يشبه الغل، أخذت أتذكر مخطوطة رواية كنت قد كتبتها أيام دراستي في موسكو، وبدأت ألقي دفاعي أمام قضاة خياليين: «إنني لم أخف قط حقيقة انجذابي إلى الساقطات. وفعلا روايتي الأولى التي لم أتمكن بسببكم من نشرها مليئة بهن. بوسعكم أنتم أن ترافقوا من تشاءون، سيدات المجلس التنفيذي لاتحاد المرأة، أو نائبات الجمعية العامة للحزب، إلخ. أما أنا فأرافق من أستحق، أي الساقطات».
في الصباح التالي تناولت الإفطار، مع صديقي في الاتحاد، وحكيت له ما حلمت به. فمتنا من الضحك، ثم قال لي، بعيدا عن كل التنكيت، إنني كنت محقا في أمر واحد: هناك حالة حديثة العهد من الاسترخاء السياسي وإن مثل هذه الأمور لم تعد تلقى المعاملة التي كانت تلقاها في الماضي.
كنت محقا. فقد فاجأ القائد بنفسه الجميع بحركة عتيقة ممنوعة في البلاد منذ وقت طويل: لثم يد امرأة. وفعلها على الملأ أمام الكاميرات ووسط مجلس الشعب.
أثارت تلك القبلة التي طبعها القائد على يد نائبة من الأقلية اليونانية موجة من الحماس بين المثقفين: يا له من رفيق جنتلمان! قياسا إليه، ليس خروشوف وجوتوولد بل وثُوري في باريس إلا حفنة من الفلاحين.
وأنا أشاهد أخبار المساء، فكرت في فقيه اللغة «إ. س.» الذي لقي ما لقي من متاعب بسبب نفس الحركة. ثم خطر لي أن القائد ما تذكر الحركة إلا بسبب «إ. س.» . كان افتراضي ظاهريا مجرد احتمال بعيد، ولكن لو كنتم تمعنتم قليلا لبدا لكم افتراضا معقولا. ففي اجتماع عقد مع المثقفين قبل ذلك ببعض الوقت، امتدح قائد الحزب أعمال «إ. س.» لأول مرة منذ سبعة عشر عاما. ولعل القائد في الأيام السابقة على الاجتماع ـ وفيما يبحث عن طريقة لتذويب الجليد ـ طلب الاطلاع على ملف «إ. س.» الذي كان يحتوي بلا شك على إشارات عديدة إلى قبلة اليد الشهيرة. لعل مزيجا من الغيرة الدفينة، والرغبة في التقليد التي أعربت عن نفسها في فعل انعكاسي، والحنين إلى السنوات التي قضاها في فرنسا، هو الذي قاد القائد ـ عندما جاء وقت تذويب الجليد ـ إلى محاكاة القبلة بنفسه.
اقتنعت بذلك مثلما اقتنعت بأن التردد على مارجريت لم يعد بالخطورة التي كان عليها فيما مضى.
الغريب أن تذويب الجليد على المستوى السياسي قد اقترن بإغلاق الحدود. ازدادت الطائرات ندرة في مطار «رينز». ولأن جميع الرحلات التي تم إلغاؤها كانت قادمة من دول الكتلة الشرقية فإن أحدا لم يبتئس: «يعني لما تقل الرحلات القادمة من الاتحاد السوفييتي وألمانيا، تقول إن هذه أخبار سيئة».
وعلى الرغم من ان أحدا لم يصرح بذلك، إلا أن الناس كانوا يحلمون برحلات من نوع آخر، رحلات أكثر جمالا، تحل محل رحلات الشرق.
ومع تناقص النقل الجوي، ندرت رؤية مواطني الدول الاشتراكية، وأصبحنا لا نعرف كيف ننظر إلى القليلين الذين جاءوا، لقد كنا من قبل، وحتى ذلك الوقت، عائلة كبيرة، وإذا بنا بطريقة ما نصبح أغرابا.
بقيت مارجريت بعيدة عن كل تلك التغيرات. فقد كان جسمها ـ وطالما كان ـ نشازا بين أجساد الهنجاريات أو الروسيات أواللتوانيات أو اليهوديات اللاتي اتصل بهن جيلنا. كان ينتمي إلى مجرة أخرى، وكان الحلم به أشبه باجتياز هوة.
كانت هيئة التحرير تحتل غرفتين من الطابق الثاني بمبنى اتحاد الكتاب. في واحدة منهما، وهي الصغرى، يجلس رئيس التحرير، والصحفيون في الأخرى. من الشرفة الأكثر اتساعا بين شرفات الغرفة الثلاث كان بوسع المرء أن يطل على الحديقة وبوابة المبنى الحديدية. كانت الحديقة جميلة سواء في الأيام الممطرة أو المشمسة، كما كانت النافذة مناسبة سواء راق المزاج أم تعكر.
من تلك البقعة المميزة كنا نرى الداخل والخارج. ومن خلال النظر من أعلى كانوا يبدون جميعا إما منحني القامات أو مضحكين، سواء متمهلين أم مسرعين، كان من المستحيل أن نعرف إن كانوا راضين أم محبطين. يكثر الدخول والخروج في الخريف، وهو موسم إرسال الوفود إلى الخارج. وفي تلك السنة قل عدد الوفود عما كان عليه. باستثناء الصين، كانت الوفود تتجه طبعا إلى كوريا وفيتنام وكوبا وبضع دول أفريقية. وندر إرسال الوفود إلى أربيريش في إيطاليا ندرة ظهور المذنبات في السماء.
بينما كنت غارقا في أحلام يقظتي، مطلا على الحديقة التي عراها الخريف، وجدتني أتأمل الورطة التي تواجه أبطال الحواديت غالبا عندما يتحتم عليهم الاختيار بين أمنيتين كل منهما جذابة. بالنسبة لي كان الاختيار بين رحلة إلى الخارج وليلة مع مارجريت. طبعا اخترت الأولى، ولكن الاختيار لم يخل من وجيعة في القلب بسبب فقدان الأخيرة.
لا أنا ولا زميلي رأيناها مرة أخرى. بدا أننا عاجزان عن العثور على الطريق المؤدي إلى بيتها. أم ترى حال عقلنا الباطن بخبث دون أن نكتشفه؟
ازداد ملل الشتاء بعد إجازات نوفمبر خصوصا داخل اتحاد الكتاب. فلم يحدث شيء. على الأقل، لم يحدث شيء مما كنا نتمناه.
بدأت أكتب رواية بعنوان أحببته كثيرا: «الغجري طريح الفراش». المشكلة أنه باستثناء العنوان وفكرة براقة سهرت من أجلها ليلة كاملة إذ بدت لي محفزة بشكل فائق للعادة، لم يكن عندي أدنى فكرة عما سأكتب عنه.
كانت الفكرة تتعلق بإيقاع السرد، حيث قررت أن أضبطه وفقا لمرض البطل. أي عندما ترتفع درجة الحرارة أو تزداد سرعة النبض، يزداد الإيقاع سرعة بالتبعية. ولكن عندما يتعرض الغجري مثلا لغيبوبة، يحدث العكس تماما. وهكذا تتطور الرواية وفقا لنوبات الحمى وحصوات الكلى إلخ.
لم أكتب إلا الفصل الاول، وفيه يكشف طبيب على الغجري، وبداية الفصل الثاني حيث ينتظر نتائج التحاليل. وتوقفت عند ذلك لأنني لم أستطع أن أتخذ قرارا بشأن المرض الذي سيصاب به الغجري. قال زميلي ـ وهو الوحيد الذي ناقشت معه الفكرة ـ إنه قرار مفصلي، ما دامت الرواية كلها تعتمد عليه. فلو كنت ناويا على رواية طويلة من جزأين مثلا ـ بحسب ما راج آنذاك ـ فعليَّ أن أفكر في مرض مزمن. ولو كانت رواية صغيرة فتنبغي إصابة الغجري بداء عضال ينتهي به في القبر في أقل وقت ممكن.
ومع تفكيري الطويل في ذلك القرار، توقفت عن الكتابة، فزادني ذلك تفكيرا.
وذات يوم، أعلن زميلي أنه اكتشف طريقة الوصول إلى م. لم تختلف طريقة الاتصال بها عما كنا نتخيل، ولكنها لم تكن بالغموض الذي كنا نفترضه. كان على الزبون المحتمل أن يذهب إلى جارة لها تصنع سترات من الكروشيه وتقوم بمهمة التحويل، فيذكر لها نوعا من غرز الكروشيه لم تكن تعرفه إلا مارجريت وأمها. فتنادي الجارة المرأتين لمقابلة الزبون، أو تأخذ الزبون إلى بيتهما. وعند ذاك قد يتم الاتفاق وتحديد الموعد وغيره من الترتيبات.
وهكذا كان الأمر يتم. كان بوسع مارجريت أن تنتقي زبائنها. كنا نشعر بكثير من الإثارة لثقتنا أنها سوف تمنحنا تأشيرة، لو جاز القول. كما كنا مسرورين لأن كلا منا سيحصل على سترة تغزلها من التريكو ضمن الصفقة، واحدة لي عليها حرفا الـx اللذان يرمزان القرن العشرين، وواحدة لزميلي مكتوب عليها ما يشاء.
مع استمرار العمل في المكتب كئيبا ومجهدا، كنا كثيرا ما نجد أنفسنا نحلم بـ «أمسية التريكو» كما أصبحنا نشير إلى زيارة جارة م. ولكي يبدو أننا شخصان جادان، قررنا حين نذهب أن نرتدي ربطات عنق على قمصان بيضاء. مما جعلنا نفكر في مسألة السن. فلما كنا نخشى الرفض لأننا أصغر مما ينبغي، فكرنا في طرق عديدة لتصفيف شعرنا بحيث نبدو أكبر. خطر لنا أن نرتدي قبعات مثلا، أو نفعلها ونشعل سيجارين من النوع الذي أصبح يباع في فندق داجتي. فكرت أيضا أن أصطحب ـ وكأنما بالصدفة ـ الديوان الذي أصدرته وأنا أدرس في موسكو والذي تنص مقدمته بما لا يقبل اللبس على أنني تأثرت بأنواع محددة من الأدب الانحلالي. وبرغم ما في هذه الفكرة من مخاطرة، إلا أنها بدت جذابة على نحو خاص. وبعدما راحت السكرة الأولى رأينا أن ذلك قد يبدو فيه شيء من التزيد. كان الأمر أشبه بذكر الحبل في بيت مشنوق. حتى الكلام عن جريتا جاربو، أو كافكا المرعب، أو بينيدوتو كروتشي الذي ـ ظننا من قبل أنه سيكون مثاليا ـ بدا غير مناسب بالمرة. قد يعطي عنا انطباعا بأننا محرضون على الثورة أو مرشحون للسجن. من الأفضل ترك الأمور لتتطور بطبيعتها.
كان يوما باردا من أيام مارس، استدعانا فيه رئيس التحرير إلى مكتبه بمجرد أن عاد من اجتماع مع اللجنة المركزية. كان على محياه سيماء المقر بذنبه، ولم تكن كلماته أقل ترويعا. لقد انتقد الحزب الصحافة، لا سيما الجريدة الصادرة عن اتحاد الكتاب. بل وتم توجيه انتقاد لاتحاد الكتاب نفسه، ولكن ذلك سيكون موضوع اجتماع آخر. كان الحزب يستشعر منذ بعض الوقت علامات محددة على التراخي في الجريدة، وتراجعا في الحمية الثورية، وسلبية تتعارض والتفاؤل الواجب في مجتمع اشتراكي. ضرب رئيس التحرير بضعة أمثلة على ذلك ثم التفت نحوي قائلا: «أنت مثلا كمسؤول عن قسم الشؤون الخارجية، لم يوجد عندك إلا القليل للغاية عن إنجازات الأدب والفن في الصين وفييتنام وكوبا، أو عن الفن الثوري التقدمي في مختلف أنحاء العالم. بينما تفرد مساحات كبيرة لمقالات تتناول مثلا موت الكاتب الأمريكي همنجواي، ناهيك عن الشائعات والادعاءات التي صاحبت انتحار مارلين مونرو. ما أريد أن أعرفه بهذا الخصوص هو ما الذي يجذبك، أو بالأحرى ما الذي يجعل الانتحار يستولي على ذهنك بهذه الطريقة؟ لدرجة أن قصيدة ماياكوفسكي «غيمة في بنطلون» كانت مذيلة بملاحظة تشير إلى نشرها «عشية ذكرى انتحار الشاعر».
لم أدر بأي شيء أرد. لو كان الظرف مختلفا، لكنت قلت إننا تناولنا انتحار الكتاب الغربيين أو أزماتهم الوجدانية للتدليل على أزمة المجتمع الرأسمالي وما إلى ذلك. ولكنني كنت سأورط نفسي فيما يتعلق بماياكوفسكي الذي أنهى حياته بيده في ظل حكم ستالين.
لم تنجُ الأقسام الأخرى من انتقادات: الشعر الزاهد، القصص القصيرة التافهة، عروض الكتب التي تبدو بعيدة عن الخط الحزبي.
عدنا إلى المكتب بعد الاجتماع مطأطئي الرؤوس.
علمنا في وقت لاحق من ذلك اليوم بأن اجتماعات مماثلة قد عقدت في كل مكان، في دار الأوبرا، التي كانت غير بعيدة عن مبنانا، وفي ستوديو السينما، وفي مسرح الشعب، وطبعا في شركات النشر. وتقرر عقد اجتماع طارئ للجمعية العمومية للاتحاد في الأسبوع التالي.
قبل يومين من اجتماع الجمعية العمومية، استدعاني رئيس شؤون العاملين باتحاد الكتاب للإجابة عن بعض الأسئلة حول الرحلة الرسمية التي سبق أن قمت بها إلى شكودر. فقد وردت معلومات من هناك بأنني ترددت على بعض المؤسسات المنحلة. انتترت واقفا لكي أدحض الاتهام مؤكدا أنني لم أتعرف إلى أي عاهرة في شكودر، ولكي أثبت صدق ادعائي، قلت إنني استمنيت في الفندق على الرغم من أن درجة حرارة غرفتي كانت تحت الصفر.
استمع رئيس شؤون العاملين وعلى وجهه ابتسامة ساخرة، ثم قال: «هذا يكفي. كفاك انفعالا. المؤسسات المنحلة لا تقتصر على بيوت الدعارة. وما دمت مصرا على التوضيح، فاسمح لي أن أخبرك بأنك شوهدت فيما يطلق عليه «صالون أدبي» في شكودر. واحد من جحور الفئران التي تأوي إليها البورجوازية الكاثوليكية التي تتوق إلى إرجاع عقارب الزمن إلى الوراء».
ما كنت لأندهش أكثر من دهشتي آنذاك لو كان أحد صفعني على وجهي. تبددت ثقتي. كنت قد حضرت بالفعل تجمعا أدبيا. حيث دعاني شاعر كوميدي سخيف ومسل يدعي «بيك ن» قائلا «عندنا الليلة صالون أدبي، تقليد لا تجد من يعرف كيف يحافظ عليه إلا شكودر الحبيبة».
سرني أن أزور واحدا من قصور ساكوتارين القديمة، في مركز المدينة، حيث بقي كل شيء كما كان من قبل: أكلمة على أرضية غرفة المعيشة، مدفأة ومجمرة على الطراز العثماني، أيقونة للعذراء في الركن، وطبعا الناس أنفسهم. باستثناء مضيفتنا ـ التي كان الجميع ينادونها بالآنسة بيمبلي برغم أنها كانت على مشارف السبعين والتي أصر المهرج بيك ن أنها حبيبته ـ لم يكن هناك إلا عجوز نحيفة لم تنطق حرفا والشاعر الأعمى لييش هوتا.
بعد تناول الشاي والكونياك، ألقى بيك ن أحدث سوناتاته «الربيع في الخريف» والتي كانت بطبيعة الحال مهداة إلى شباب الآنسة بيمبلي الدائم، على الرغم من خلو جسمها حسن التغذية من أي من علائم هذا الشباب. ثم ألقى الشاعر الأعمى قصيدة لم يكن لها أدنى علاقة بالسوناتا. الحقيقة أنها لم تزد كثيرا عن هجائية لامرأة سبق أن رفضته. وقد انتهت ببيت يقول «يا أيتها التي لم تر السبيل إلى حبي، عساك ترين أبد الدهر أقل مما أرى».
تذكرت كل ذلك عرضا، ولا بد أن وجهي احمرَّ قليلا وإلا لما قال لي رئيس شؤون العاملين: «انظر مدى خجلك من نفسك!».
حاولت أن أواجه ذلك بقولي إن الجو ربما بدا عتيقا، ولكنني لم أستشعر أي قدر من الحنين إلى الماضي، ولم أسمع أي تلميح جارح إلى الحاضر.
هز رئيس شؤون العاملين رأسه وأخذ يبحث عن شيء ما في الملف إلى أن وجده ثم قال إن «الأمر قد يبدو كذلك على السطح. ولكن من أين لك أن تعرف ما يقولونه حين تدير لهم ظهرك. وعلى أية حال لا يهم ما قيل في ذلك اليوم أو ما لم يقل. المهم هو المناخ العام. هل تفهم ما أرمي إليه؟ لقد أوضح الحزب أن هناك تراجعا في الحمية الثورية. وهذا بالضبط ما ينتظره العدو، تراخينا. ما يسمى بالسلوك «الإنساني» الذي يعتبره العدو ضعفا، فيسعى إلى وضع أقدامه على كل أرض نغفل نحن فيها. حين يرى العدو أنه أخفق في الفعل العلني، فإنه يلجأ إلى الطرق السرية: الكحوليات، النساء، الموسيقى، الدين، الشعر الزاهد، الموضة. إن عينه عليكم، عليكم أنتم بالذات أيها الشباب العائدون للتو من الخارج».
برقت عيناه كأنهما جمرتان من الفحم، وظننت أنه سيشير إلى مقدمة ديواني، التي أشارت إلى تأثير الشعر الانحلالي على شعري، لكنه لم يتطرق إلى الأمر والحمد لله.
واصل قائلا: «لا حضور لصالونات أدبية باستثناء صالونات الحزب. الاجتماعات وجلسات التشاور مع الطبقة العاملة هي أعظم صالونات للفن. وليس المزابل الرطبة الحقيرة. أتفهم قصدي يا بني؟».
وقف مشيرا إلى انتهاء الاجتماع، وغمز بعينيه كدأبه كلما أراد التأكيد على شيء وقال: «أريد أن تنتبه أكثر إلى كتابتك، وأن تعمل بنصائح رفاقنا في الصين، وأتمنى أن أكون واضحا بما يكفي؟».
أطرقت مرتبكا من فيض الكلام ومن الغمزة على نحو خاص.
قال وأنا في طريقي للخروج «في اجتماع الجمعية العمومية بعد غد سيتحدث الرفاق حول هذه الأمور. وسيكون لكم كشباب فرصة للتعبير عن رأيكم حسب ما أظن».
عقد الاجتماع في إحدى قاعات قصر الثقافة. وبخلاف ما جرت عليه العادة في ما سبق من اجتماعات، كان التعبير المرتسم على وجوه قادة الحزب تعبيرا كئيبا. وكان نص الكلمة الرئيسية عنيفا بما يكفي. فمع حالة الحصار التي تعانيها الدولة، وفي وقت كان فيه الشعب الألباني وقادته الشيوعيون يعملون ويناضلون من أجل كسر الطوق المفروض على بلادهم، كان الكتاب والفنانون ـ ووأسفاه ـ يتصرفون بما يتعارض بالضبط وذلك التوجه. واستمرت الطنطنة: فالاغتراب عن الكتل العاملة، والعيش في برج عاجي، بعض من ملامح البرجوازية.
وأعلن رئيس اتحاد الكتاب أن «روحا مشينة لا علاقة لها بالمثل الشيوعية تستشري بيننا». وكان الجميع بانتظار أن يأتي على ذكر أسماء بعينها، وأصبح التوتر داخل القاعة فوق طاقة الاحتمال. بدا أن قادة الحزب قد قرروا قبل أن يذكروا الأسماء أن يعددوا التأثيرات المشينة التي هيمنت علينا. مدمنو الخمر، والجنس، والشواذ، والقوادون السياسيون والأخلاقيون، والمقامرون، والشاعرون بحنين إلى الماضي، والمتصوفون، والزهاد، كل هؤلاء وأولئك لم يكتفوا بالتسرب بين صفوفنا، بل إنهم يستخدمون ما لهم من تأثير لبث الروح التي سبق ذكرها. كان قلبي يدق ببطء، فقد ارتكبت على الأقل ثلاثا من الجرائم التي أشار إليها القادة، ناهيكم عن انشغالي بالانتحار الذي أدانه مؤخرا رئيس التحرير وهوسي بحمالات الجوارب السوداء.
بدا أن المتحدث قد دنا أكثر مما ينبغي إلى الميكروفون، بحيث أنه حينما تلفظ بكلمة «الصحوة» سرت في القاعة رعشة حقيقية. ثم أعاد قوله «إن الحزب يدعو إلى صحوة حقيقية بين الكتاب والفنانين، ولهذا عقدنا هذا الاجتماع، وهذا ما أتينا إلى هنا من أجل مناقشته».
تدافعنا باتجاه الأبواب كأننا جماعة من العميان.
وكانت جلسة بعد الظهر أكثر كآبة. فقد تبارى المتكلمون في هجاء مرير متشدقين بما ألم بغرور المثقفين وأنانيتهم وظمأهم إلى المديح والمال والتفوق. وقبل الدعوة إلى «الصحوة» الواجبة صاح أحد المتكلمين «عار علينا». ولما لم يجد المتكلم التالي ما يبزه به قال «إن الأوان قد آن لصحوة جديدة».
«كيف سمحنا لأنفسنا بالتدني إلى هذه الفوضى؟» بهذه الكلمات، وبصوت متهدج، بدأ أحد الكتاب المخضرمين كلمته. كان يكتب منذ الحرب العالمية الأولى مسرحيات للأطفال تنتصر قوى الخير دائما في نهايتها، وقد ضمن له هذا النجاح في ظل نظم حكم متعددة.
في تلك اللحظة، حدث اضطراب في مقدمة القاعة، حيث كانت زوجة الزعيم العظيم قد حضرت لتشاهد. فتبادلت نظرة عابرة مع زميلي.
بعد الكاتب المخضرم، حان دور أحد النقاد، ثم الشاعرة التي تعاملت معها في موضوع إخصاء الهنود قبل شهور. كانت العاطفة الظاهرة في عينيها، والحماسة البادية في صوتها، تؤكدان إخلاصا منذرا بالخطر.
«لقد أحزننا، نحن الكتاب الشبان، الذين ندخل إلى عالم الأدب بأنقى المشاعر، سلوك رفاقنا الأكبر سنا. ونحن وإن كنا لم نفهم إلى الآن سر الروح التي لوثتهم. إلا أن هذا الاجتماع قد فتح أعيننا».
توقف قلبي مقدار نبضة. وفكرت وأنا ألعن نفسي أنه ليس عليَّ سوى الانتظار إلى أن تستشهد باسمي كنموذج. كم كنت أحمق، وأبله. لماذا أصررت أن أحكي لها قصتي عن الإخصاء؟
ومضت الشاعرة تقول في تصميم صلب «إننا معشر شباب الكتاب الذين نشق طريقنا إلى عالم الأدب لسنا سوى زمرة من السذج في حقيقة الأمر، وخصوصا الإناث من بيننا، غير أنه لا خطأ في أن يكون المرء ساذجا. فما الخطأ إلا أن يحاول أحد استغلال سذاجة الآخرين؟»
أصابني الذهول. فقد ساد القاعة صمت مطلق. إذ إن كل شباب الكتاب الموجودين من أعضاء الاتحاد قد حاولوا اصطحاب الفتاة إلى الفراش من خلال عرضهم نشر قصائدها، وكنا جميعا مؤمنين بأنها سوف تذكر أسماءنا. عن نفسي، لم أكن قد حاولت إغواءها بعد، ولكن لو كان أي واحد قد استمع إلي وأنا أكلمها عن الإخصاء لاعتقد أنه لم يكن إلا مقدمة للإغواء.
وازداد النقاش عنفا، قالت إحدى نساء المنصة «ما هذا الذي انتهينا إليه أيها الرفاق؟ الآخرون ينجزون أعمالا عظيمة على جبهة العمل، يتجمدون وسط الجليد، ويغوصون في اللهيب لينقذوا حياة رفاقهم، بينما نحن نتلكأ في مطابخنا دون أن نفعل شيئا».
أطرقت زوجة القائد مؤمّنة على كلامها، وتبعها في ذلك كثيرون من الجالسين على المنصة.
امتلأت القاعة بإحساس ثقيل بالذنب. احمرت عيون البعض منا. تهيأ لي أنني سمعت أكثر من واحد ينهنه في خفوت.
كيف نطهر أنفسنا من هذه الإخفاقات المريعة؟ أين المخرج الذي يعود بنا إلى طريق المستقبل؟ وكأنما قرأ أفكارنا، عرج رئيس اتحاد الكتاب إلى الموضوع قبل أن ينهي الجلسة قائلا «لن ينفع الجلوس والبكاء أي واحد. علينا أن نجد حلا. يرفع الاجتماع الآن على أن يتم استئنافه في جلسة السابعة من صباح الغد».
تبادلت نظرة مع صديقي. اجتماع في السابعة صباحا؟ لا تعليق.
كان معظم الكتاب والفنانين موجودين في قصر الثقافة حين وصلت بعينين ناعستين منتفختين. كانت السادسة والنصف ومع ذلك فقد كانت الأبواب الزجاجية لا تزال مغلقة.
تلفت باحثا عن زميلي، فوجدته يختلس له نفسين خلف أحد العواميد. همس لي «وصلت الساعة السادسة. لم يغمض لي جفن. هناك ناس جاءوا قبلي».
بلغت الساعة السابعة، وموعد الافتتاح ـ الذي بدا بالأمس مبكرا بشكل فاضح ـ بدا اليوم متأخرا بشكل فاضح أيضا.
وأخيرا انفتحت الأبواب وتدافع الناس داخلين وجلسوا في صمت مهيب. وجلس أعضاء الرئاسة خلف موائدهم بطريقة لا تقل مهابة.
افتتح الرئيس الجلسة معطيا الكلمة للسكرتير الحزبي في اتحاد الكتاب والذي بدا صوته متفائلا، وإن لم يحمل في النهاية أي نوع من الأمل. بل لقد جعلنا على العكس أكثر خوفا. أما المتحدث التالي فانتقل إلى الحلول الممكنة مشيرا إلى «تقليص الرواتب» فخيم على الحاضرين سكون الموتى، ولكنني بعد برهة استشعرت شيئا من الارتياح. أهذا ما كانوا يسعون إليه! فليخفضوا الرواتب اللعينة، أو ليلغوها حتى، لو كان هذا سيرفع عنا هذا العذاب!
انتابتنا جميعا فرحة غير متوقعة. كنا جميعا في سبيلنا إلى الإقلاع عن شيء مرادف للفرحة والرذيلة معا. بعبارة أخرى، كنا سنتخلى عن رواتبنا كما سنتخلى عن عاهرة.
ووسط كل هذه الإثارة، تقدم من المنصة كاتب لم يكد يحقق لنفسه اسما، وبصوت جهوري، وبثقة فاقت ثقة متحدثي الأمس، قال إنه بغض النظر عن القرار الذي قد تتخذه الجمعية بشأن الرواتب، فإنه سيقدم للحكومة المقدم الذي حصل عليه عن روايته القادمة التي ذهبت للتو إلى المطبعة.
صفق الحاضرون، برغم أن وجوه أعضاء الرئاسة ظلت محايدة. ومع أن الضغط قد خف إلى حد ما، إلا أنني بخفقان قلبي يتسارع من جديد. ولسبب لا أعرفه، فكرت في مارجريت. لم يكن هناك شك في أنها لا تزال نائمة، مرهقة بعد ليلة حب. وتحت الوسادة المجاورة لها، ترك زبون ألف ليك. آه أيتها المخدة التي كم تمنيت أن أترك تحتها راتبي الذي ـ بلا شك ـ كان السبب في أنني فكرت فيها.
ساد الصمت القاعة من جديد. كان الخطيب حينذاك شاعرا عسكريا يرتسم على وجهه تعبير شجاع. كانت الكلمات تصدر خشنة رغم تلعثمه. «لقد تكلمنا هنا عن رواياتنا وقصائدنا، ولكنني لم أسمع أحد يشير إلى القصيدة الساحرة، القصيدة التي تألفت مؤخرا في ألبانيا».
مضى وقت قبل أن ندرك أنه كان يشير إلى خطبة ألقاها القائد في بلدة تقع شمالي البلاد.
تجمدنا من جديد. وصرنا نلتقط أنفاسنا بصعوبة، وعاد الشعور بالذنب يهيمن علينا جميعا، بل لقد كان إحساسا بالخطيئة غير مسبوق.
لم يرمش لزوجة القائد جفن ولم يهتز لها طرف وهي ترقب القاعة. ولم ندر ما الذي كان منتظرا منا.
وإذا بروائي حليق اللحية نادر الكلام في الاجتماعات يطلب الكلمة بعد الشاعر. وقبل أن يبلغ الميكروفون صاح «إما الآن أو لا».
لم نصدق آذاننا. فالسمة المعروفة عنه هي الحذر، لدرجة أنه تعرض لانتقادات عديدة بسبب زهده. وها هو الآن يدعو بدوره إلى صحوة، مستخدما مفردات أغلظ ممن سبقوه جميعا. غير أنه نطق بكلمة نتأت وسط كلماته كأنها غيمة سوداء في الأفق، لا مكان لها، ولا رجوع عنها، «التدوير».
هكذا إذن!
خطبة القائد ـ التي أشير إليها منذ قليل باعتبارها قصيدة ـ تناولت «التدوير» هي الأخرى.
التدوير الذي يعنونه ـ والذي افترضنا بسلامة نيتنا أنه يستهدف كوادر الحزب والموظفين ـ كان في حقيقته يستهدفنا نحن. كان التدوير ـ وليس تخفيض الرواتب أو أيا من المواضيع التافهة ـ هو صلب القضية.
وقليلا قليلا بدأ الجميع يفهمون ما كان يحدث.
كان أسبوعا مذهلا. قل فيه الذهاب والمجيء في أروقة اتحاد الكتاب. ومن نافذة مكتبنا كنا نرى مظلات مبلولة تقلبها الريح العاصفة.
قام رئيس اتحاد الكتاب وسكرتير الحزب باستشارتنا كل على حدة ليعرف في أي منطقة من البلاد يريد كل منا أن يقضي فترة التدوير. كانوا على قناعة أنه ـ برغم التأييد بالإجماع لقرار التدوير ـ إلا أن عددا محدودا من الكتاب هم الذين سيتم إبعادهم عن العاصمة. في حين يوجه الشكر للبقية على استعدادهم للذهاب ويقال لهم إنه لا تزال هناك حاجة لهم في تيرانا.
أثناء اللقاءات التي أجريت في مكتب الرئيس كان الكتاب ينتهزون الفرصة ـ بعد أن يحددوا القرية أو البلدة التي يتمنون أن يذهبوا إليها ليحتكوا بالحياة الحقيقية ـ لعرض مشكلاتهم الشخصية المختلفة التي تجعل من المستحيل عليهم أن يتركوا بيوتهم في العاصمة في الوقت الراهن، على أمل أن يتكرم الحزب ويتفهم.
كانت المشكلات الشخصية المعيقة للكتاب والفنانين عن الابتعاد مذهلة فعلا. كان من الصعب تصديق أن هذه القطع الفنية المفعمة بالحيوية والمغمورة بنور الشمس، أن حصاد الواقعية الاشتراكية في ألبانيا، هو نتاج من تمكن منهم المرض والوهن إلى هذا الحد. بدت مشكلات البروستاتا، وسيلان الدم، والفتاق، والتبول اللاإرادي مشكلات هينة بالقياس إلى الأمراض الأشد فتكا وخطورة مثل القرحة ذات الصديد، والبثور، وأورام الغدد اللمفاوية، والجرب الذي لم يظهر في ألبانيا منذ عهد الإمبراطورية العثمانية.
طلب أغلب الذين أجروا المقابلة الأولى إجراء مقابلة ثانية، وفيها عددوا أمراضا أشد خطورة كانوا قد أخفوا أمرها في المقابلة الأولى بسبب «كبرهم النيوبورجوازي اللعين». ووصل الأمر بالبعض إلى أن خلعوا سراويلهم ليثبتوا أن لديهم إكزيما تناسلية، وصفنا متقرحا، وغيرهما من الأهوال. أحد الرجال شرح تفاصيل عقم زوجته، ثم انفجر باكيا، وباح بأمر زوجته التي تخونه مع جاره. وآخر يضربه ابنه، وثالث اشترى شهادة صحية تؤكد أنه مختل عقليا.
سرت شائعة بأن الصحافة الغربية أشارت إلى مسألة تدوير الكتاب في الأقاليم الألبانية وأن ثلثنا فقط نتيجة لذلك هم الذين سيبتعدون عن العاصمة. سرت شائعة أخرى، موضحة أنه لا علاقة للصحافة الغربية بالأمر، وأن السبب ببساطة يرجع إلى صحافتنا في المهجر، فتضاءل الأمل. ومع ذلك ظل أسوأ السيناريوهات يشير إلى أنه لن يتم طرد أكثر من نصف الكتاب.
وسرعان ما انتشرت شائعة أخرى: لا الصحافة الغربية ولا صحافة المهجر كتبت حرفا في الكارثة التي كانت على وشك الوقوع على الكتاب والفنانين الألبان. بل إن الحقيقة هي أن إحدى صحف المهجر قالت بارتياح إن الأمر كله سيصب في صالح الكتاب الألبان. وذلك ما كانوا يصرخون من أجله: دعوهم يستمتعون بالكأس حتى الثمالة.
على نهاية الأسبوع، أدركنا أنه لا جدوى من العوم ضد التيار. سيتم تدوير الجميع، بمن فيهم رئيس اتحاد الكتاب. ستنطلق قوافل لا حصر لها حاملة مشاهير وأقل شهرة، شيوعيين وغير شيوعيين، أشخاصا ارتكبوا أخطاء سياسية، يصاحبهم أشخاص مكتوب لهم أن يرتكبوا في المستقبل أخطاء سياسية، وأشخاص لم يرتكبوا أخطاء سياسية، وحتى الذين قد يكون من المحتمل أن يرتكبوا أخطاء.
كنا نحن العاملين في الاتحاد آخر من تم استدعاؤهم إلى مكتب رئيس الاتحاد. بدا الرئيس هادئا، ولكن الجيوب الموجودة أسفل عينيه بدت أكثر انتفاخا عن ذي قبل. دعانا إلى الجلوس على الأريكة.
قال في أريحية «إذن جاء الدور علينا. أتصور أنكم سمعتم. أنا ذاهب إلى روبيك لأعيش مع عمال المناجم».
أطرقت أنا وزملائي لنبين له أننا عرفنا. وبينما كنت أستمع إليه كنت أتساءل عما جعلني دائما أجتنب الاتصال بذلك الرجل. كان قد درس في فرنسا في الثلاثينيات، وكان دائما حسن الثياب، يرتدي دائما بيريه فرنسيا ويدخن غليونا، شأن الكتاب الفرنسيين الذين رأيناهم في الصور. وجدت كل ذلك آسرا للغاية، وكنت في الحقيقة قبل أسبوعين قد فكرت أثناء أحد شروداتي في مارجريت في أنه سيكون رائعا لو أعارني البيريه والغليون من أجل زيارتي الأولى لمارجريت.
ولكن منذ أول لقاء بيننا، حينما دعاني لأتناول معه القهوة كعادته مع كل الوافدين الجدد إلى الاتحاد، شعرت أن من الصعب أن أقيم علاقة مع هذا الرجل. فعلى الرغم من البيريه والغليون، كان الحوار بيننا متكلفا. أخذت انطباعا بأن ذلك نتيجة خطأ مني، فلم يزدني ذلك معه إلا عصبية وتوترا. ومع أن عهدي بنفسي لم يكن قط أنني لبق، إلى أني بغتة صرت أقل كلاما من المعتاد.
وفي مواجهة صمتي، انتابه هو الآخر عدم الارتياح. فانطفأ غليونه أكثر من مرة، وانشغل بفكه لحظات، ثم غير التبغ. وعاد فسألني عن دراستي في معهد جوركي وكلمني قليلا عن شبابه في فرنسا.
عندما فكرت في لقائنا هذا فيما بعد فهمت مصدر عدم الارتياح. كان ذلك الرجل قد هجر الغرب ليكيف نفسه مع الشرق، في حين كنت أنا عائدا من أهوال الشرق برغبة عارمة في الجانب الآخر. كان لقاؤنا عند تقاطع اسمه ألبانيا، وكل منا يحمل لافتة تشير إلى الاتجاه المعاكس. كان الأمر أشبه بقول كل منا للآخر «إلى أين تحسب أنك متجه أيها الأحمق البائس؟!».
كان يحطم حلمي، وأتصور أنني كنت أقابله بالمثل. كان واضحا أننا لن ننسجم.
«هذا هو الأمر يا أولاد». هكذا قال. ألقيت نظرة على البيريه والغليون اللذين وضعهما في ركن مكتبه المهيب، ولم يبد عليه أنه يفكر في أن هذين الشيئين هما اللذان أنقذاه في هذه المرة. وقال مرة أخرى «هذا هو الأمر يا أولاد» وصافحنا وهو يقول «فليحالفكم الحظ حيثما تكونون».
مضى أسبوع وأنا في بلدة «ب»، التي كنت فيها بصفتين: الأولى هي أنني كاتب شاب يحتاج إلى أن يعترك الحياة بالذهاب إلى مصنع النسيج كل يوم، والثانية كصحفي يعمل مراسلا محليا لجريدة أسبوعية أدبية.
كنت أستمتع بقضاء الصباح في المصنع. فقد كان هناك قليل من المهندسين ومقتني الكتب العائدين لتوهم من تيرانا أو الذين درسوا في الشرق. كانوا يقضون أغلب وقتهم في نادي المصنع يحتسون الكأس بعد الكأس من الكونياك. ومن أول يوم استمتعت بصحبتهم. فقد كانوا مفعمين بالمرح، ومستخفين بكل شيء. وكان أكثر ما يمتعني الألقاب التي خلعوها على بعضهم البعض والتي كانت مشتقة من أسماء البلاد التي درسوا فيها. تاكش باهلو رئيس المجموعة مثلا كان يسمى بان نسبة إلى بولندا، أما ليكو ابراهيم فكان يسمى «هر» لدراسته في ألمانيا الشرقية.
كنت الوحيد فيهم الذي درس في موسكو، لكنهم كانوا ـ لسبب لا أعرفه ـ يعتبرون موسكو متخلفة قليلا. ولإعجابي برفقتهم، لم أفعل شيئا لأدافع عن العاصمة الروسية، ولا حتى أنكرت انخراطي في مجال متخلف: الأدب. المشكلة الوحيدة التي صادفتني هي مجاراتهم في الشرب. وقد ساعد ذلك على تأكيد قناعتهم بأن الأدب من مخلفات الماضي.
كانت الأمسيات الممطرة مملة للغاية في تلك البلدة. أما الليالي فكانت أسوأ، وبالذات ليالي السبت، حين كان أصدقائي المهندسون الجدد ينشغلون في اجتماعات لا أول لها ولا آخر.
لم يكن مزاجي مواتيا للكتابة. ظلت مخطوطة «الغجري طريح الفراش» التي أحضرتها معي في قاع الحقيبة دون أن ألمسها. أخذت أتمشى في الشارع الرئيسي المؤدي إلى الفندق الوحيد متوقفا أمام السينما على أمل أن يكونوا قد غيروا الفيلم الأسبوعي، ثم أعود من نفس الشارع.
كان المارة نادرين، والمطعم المقبض الذي كنت أتناول العشاء فيه لم يفتح بعد. وكانت شقيقتان ـ مشكوك في أخلاقهما بسبب ضعفهما أمام الرجال، وخصوصا القادمين من العاصمة ـ تسيران في الشارع وهما تهزان أردافهما. ازداد اكتئابي لمجرد رؤيتهما. ومن على الرصيف غمغم شخص قائلا «العاهرة بدينة المؤخرة».
أخيرا فتح المطعم أبوابه، فأخذت كرسيا في الركن وطلبت وجبة من الوجبتين الموجودتين في القائمة: حساء اللحم مع الفاصوليا. جلس بجانبي شخص وهو يصيح في شخص آخر وربما في نفسه قائلا «لتذهب إلى الجحيم». وطلب ضعف الكمية التي يقدمها المطعم من حساء تركي شربه دفعه واحدة.
قلت لنفسي ما الذي يجعلني أنا هنا في هذا المكان؟
أراحتني العودة مرة أخرى إلى الشارع. كان ثمة مطر خفيف. والساعة تقريبا التاسعة، ولكني لم أصادف أحدا من المهندسين. وقليلا قليلا أخذ أملي في تهوين الأمسية على نفسي بلعب الورق يتضاءل. في مساء السبت الماضي استمر اجتماع المهندسين حتى منتصف الليل.
كانت الشقيقتان تقومان بجولتهما الأخيرة في البلدة. وعندما مررت بهما، واستشعرت مبلغ شوقهما إلى المدينة الكبيرة، انتابني إحساس بالأفضلية. آه لو علمتما أيها القرعتان الريفيتنان ما الذي خلفته ورائي! وانفتحت داخلي هوة مسكرة. آه لو تعلمان! ولكن ما الذي كان من الممكن أن تعلماه؟ ما الذي كنت قد تركته فعلا؟ المدهش أن ما خطر ببالي لم يكن شجر الميموسا في البولفار، أو مقهى فلورا الذي كنت أقابل فيه أصحابي، أو الجاليري، أو اتحاد الكتاب، أو قصة غرامية ما. كنت أستدعي ذكريات حدث لم يقع، زيارة لم تتم إلى عاهرة رفيعة المستوى تدعى مارجريت.
ربما لأنها كانت ذات شخصية أخلاقية مشكوك فيها، وربما بسبب الهوة الروحية التي كنت أستشعرها بداخلي، ولكن الحدث المتخيل بدا على حين غرة واقعيا تماما.
لم أملك تأويل أفكاري. وبعيدا عن أي تأويل رمزي، لم أجد سوى عاهرة لأشعر بأنني من العاصمة: ولم أكن أعرف هل أضحك أم أبكي.
كنا نادرا ما نذهب إلى تيرانا، وحين كنا نفعل، كنا نحاول ألا نظهر. كان قادة الحزب يدعون من خلال الصحافة الكتاب الذين يتم تدويرهم إلى توثيق الأواصر بينهم وبين جذورهم، أي الطبقات العاملة، بدلا من البكاء على العاصمة. وكنا جميعا نخشى على عائلاتنا ـ أي الرابطة الوحيدة بيننا وبين العاصمة ـ من أن تتعرض هي الأخرى للإبعاد.
تم استدعاؤنا في الخريف لحضور اجتماع في العاصمة. فكانت تلك أول مرة نجد فيها أنفسنا مجتمعين من جديد. أخذنا نحملق في بعضنا البعض في اندهاش، كما لو كنا نطالع صورنا في المرايا. لم نكن قد نحلنا وحسب، بل بدونا أكبر سنا، أيضا. لم تعد ثيابنا تلائمنا، اصطبغت أعيننا بالخنوع، ونال الوهن من أصواتنا.
عدنا إلى الاجتماع على أمل واحد: أيها الرفاق الكتاب والفنانون، يا من اجتزتم الاختبار، وعانيتم في الريف أكثر مما كان ينبغي. عودوا الآن إلى العاصمة مرفوعي الهامات! وحين أدركنا أن الجو لم يكن يوحي إلا بالعكس تماما، نال منا اليأس. بدونا كالحموات، المكروهات، طوال الطريق. لم يقتصر الأمر على غياب أي تعاطف تجاهنا، بل لقد بدا أن العداء تجاهنا أينع وازدهر.
الذين أعدوا خطبا تنطوي على نقد مستتر دسوها في جيوبهم الخلفية وأعلنوا النقيض تماما. شكروا الحزب على يقظته وعيونه المفتوحة، وأعلنوا عن خططهم المستقبيلية. فزعت عندما سمعت أن اثنين من المشاريع المعلنة كانت تتشابه مع مشروعي: قصص قصيرة أبطالها من الطبقة العاملة، مفعمة بفرحة الحياة تحت سماء الربيع الزرقاء، دونما ذكر للغيوم أو للمطر اللعين اللذين اتسمت بهما محاولاتي في البدايات.
لم يكن أحد يعرف شيئا عن «الغجري طريح الفراش». كنت على ثقة من أنني تكتمت أمرها، برغم أنني ذات مساء في حانة البرميل، وبينما كنت أشرب وأتكلم مع بعض الشعراء الشبان عن التجديد الأدبي أخذت أتباهى عليهم بأن الفصل الأول من روايتي الجديدة سيصعقهم، حين يبدأ الغجري في حك جسمه، وتأخذ الجمل في الاختلاط إلى حد يرتبك أمامه حتى طبيب للأمراض الجلدية.
على الرغم من جميع وعودنا لإنتاج أدبي اشتراكي اكثر أصالة، ظلت الكآبة تعلو وجوه أعضاء المجلس الأعلى للرئاسة. ولم نعرف السبب إلا حينما أخذ أحدهم ـ وهو سكرتير لجنة الحزب في تيرانا ـ الكلمة، فأكد أن الحزب لا يزال غير راض عن كتاب الدولة وفنانيها، لقد مد لهم يده بالحب، لكنهم لم يظهروا امتنانا لذلك، فاستمر اثنان من كتاب المسرح في كتابة مسرحيات حافلة بالأخطاء الأيديولوجية، وتحول الواقع الاشتراكي في رواية أحد الروائيين إلى واقع سوداوي، ولا يزال بعض الرسامين المعروفين يستخدم ألوانا منحلة، مما يعني أن الصراع الطبقي لا يزال بحاجة إلى المزيد من الإبراز في عالم الفن، وكان فقيه اللغة «إ. س.» من بين الأمثلة التي ضربها، فبدلا من أن يظهر الامتنان لكرم الحزب وزعيمه الذي صفح عن خطاياه السابقة وأوفده من جديد إلى مؤتمر فقهاء اللغة بالخارج، إذا به يكرر خطأه السابق ويلثم أيادي أعضاء وفد نسائي من بلد معاد.
أثناء الاستراحة وبينما كنت أحاول العثور على زميلي في الحانة المجاورة للقاعة، اكتشفت شيئا مدهشا. لم يكن الجميع مكتبئين بالدرجة التي كنت أتخيلها. بل لقد كانت هناك وجوه سعيدة وأصوات مبتهجة. تساءلت من يكون هؤلاء البشر الأغراب؟ أيكونون المواهب الأدبية الجديدة القادمة من الطبقة العاملة والتي سمعنا الكثير عنها مؤخرا؟ كيف يتسنى أن يظهر منهم كل هذا العدد بهذه السرعة؟ ولكن لا بد أن الأمر كان كذلك. لقد سمعت أن السيجوريمي لا يضيع وقتا في مثل هذه الظروف، ويسارع بتجنيد عملاء من بين الكتاب الجدد قائلا لهم بلا شك «إنكم مستقبل الأدب! ستحلون محل الأوغاد الذين أوفدهم الحزب للدراسة في الخارج فعادوا وقد ملأهم الغرور وأفسدهم الشر».
وكلما كنت أطيل النظر إليهم، كلما ازددت يقينا من زيف ابتساماتهم وسخريتها. وما أن رأيت بينهم الشاعرة الشابة، حتى دق الجرس معلنا بداية الجلسة التالية وهرع الجميع إلى الأبواب.
استمر الاجتماع حتى منتصف الليل. وفي اليوم التالي، وقبل العودة الى ب، أخذت أتمشى في تيرانا لبضع ساعات قليلة. كان ورق الشجر اليابس يتساقط بكثافة في شارع جراند بولفار، والمقاهي المقامة في الهواء الطلق كانت مغلقة، وبرغم أنها كانت ممترسة، إلا أنها ملأتني بالحنين. فتذكرت مطعم ب الذي كنت أتناول فيه عشائي البائس وأنا وحيد وسألت نفسي ما هذا الجنون؟
كان النظام بأكمله يصطدم مرة أخرى بي محدثا ضجة مريعة. فيم هذا العته الذي لا ينتهي؟ فيم هذا الخضوع وهذا الصمت المطبق؟ أما من صوت معارضة واحد، أما من موقف شجاع؟ كنا نختفي في مثل صمت الورق اليابس في الجراند بولفار. وبنفس القسوة.
وبينما كنت أتمشى في طريق الباسان سمعت صوت امرأة يناديني. كانت الشاعرة تلوح لي من الجانب الآخر للشارع.
التقينا. وعلى عكس اللقاءات السابقة، بدا كل شيء فيها مؤكدا: سلوكها وكلامها وضحكتها. لا بد أنها كانت تشعر بشيء من التفوق. كنت في عينيها هباء لمجرد أنني كنت أستنزف قوتي في الريف. وكانت الفرصة سانحة أمامها لتعاقبني على القصص التي كنت أحكيها لها.
مر كل ذلك في رأسي كالبارق، وأصابني الشلل. ولكن تلك البقرة كانت مخطئة لو ظنت أنها تستطيع النيل مني. صحيح أن سقوطي كان واضحا، ولكنني كنت أمتلك ميزة عليها. كنت لا أريد بعد أن أغويها.
قلت «إنني كنت أظن أنك ستشاركين في مناقشات الاجتماع بالأمس. كان كلامك جيدا للغاية في المرة السابقة».
قالت وهي ترمش «أهكذا ظننت؟». وأحسست أن الثقة التي اكتسبتها قد تلاشت، لتحل محلها سذاجتها المعهودة.
واصلت قائلا «إن هناك كما تعرفين الكثير من الناس الذين يحاولون تعطيل المراكب السائرة، وهؤلاء لا ييأسون أبدا. أتعرفين ماذا سمعت اليوم؟ واحد من الحمقى يفكر في إنشاء مصنع واقيات ذكرية، وقد كان من الوقاحة بحيث اقترح اسم بطلنا الوطني سكاندربرج ليكون اسم أول واق ذكري تتم صناعته في ألبانيا».
احمر وجهها ولم تدر إلى أين تنظر.
غمغمت قائلة «أنا لا أفهم هذا الهراء. كيف يدنسون بطلنا الوطني؟ ألن يتعلموا أبدا؟»
«أنا قلت هذا بالضبط حين سمعت بالأمر. ولكنه برر التسمية بأن الواقي الذكري لا بد أن يكون قويا ومانعا، وبما أنه لا يوجد رمز للمنعة يفوق سكاندربج».
ظل وجهها يزداد احمرارا. ونال منها الارتباك قليلا، فمدت يديها إلى يدي وتصافحنا. ظللت للحظة أنظر إليها وهي تبتعد، ثم ندمت على اللعبة البسيطة التي لعبتها عليها، ثم انطلقت في الاتجاه المعاكس.
في مساء ذلك اليوم، أخذت القطار إلى ب. كانت بشائر الجليد تكسو الحقول، وحاولت أن أركز تفكيري في لا شيء. وما أن تخيلت أنني نجحت في ذلك حتى عادت أفكاري إلى الاتهام المشحون بالضغينة الذي وجهه مسؤول كبير: «غلطتنا. نحن المذنبون لأننا نجعل منكم كتابا».
في لحظة غضب، أعلنوا حقيقة رؤيتهم لنا. والغريب، أنني بدلا من أن أغضب، انتابني إحساس بالراحة. لعلنا لم نكن كتابا بالفعل، وإنما بدائل كتاب، مثل المسحوق الذي كنا نستخدمه كبديل للقهوة في سنوات الحرب. مثل مئات التقليدات الرخيصة التي اعتدنا عليها منذ ذلك الحين.
في الغالب قعقعة القطار الرتيبة هي التي أدت بي إلى النوم. حاول فنجان قهوة في الثالثة صباحا أن يخترق حلمي، ولكنه أخفق. حال بينه وبين ذلك شيء ما.
كان الشتاء أكثر كآبة مما كان عليه من قبل. لم يكن ذلك بسبب ما تسلل إليَّ من رطوبة وبرودة، بل بسبب القصة التي كنت أكتبها والتي بدت لي مولودة ميتة. ومثل من يغير دينه، أدرت ظهري لمناخ الشتاء لكي أتعبد في مذبح الربيع. ولكن الإله القديم ظل يحك سيطرته، ونتيجة لإحساسة بالإهانة، أنزل علي غضبه: فأصابتني سلسلة من نوبات البرد والنزلات الشعبية واحدة بعد أخرى.
كانت الأمسيات مملة، شأن الليالي، بالمجيء والذهاب المعتادين من الشقيقتين، بالمطعم البارد المتجمد، ولعب الورق بين الحين والآخر قبل الخلود للنوم. غير أنه تم تحذير المهندسين بأنه ليس من وظيفتهم تنظيم أمسيات اجتماعية.
كانت الأخبار التي تأتي من العاصمة مقلقة. فلم تكن هناك إشارة عن مصير الكتاب الألبان في الصحافة العالمية، أو حتى في الصحافة الألبانية في المهجر. تم إغلاق آخر مقهى خاص في تيرانا. وبدأ الإعداد لتنفيذ جولة جديدة من التدوير في نهاية ديسمبر.
وذات ليلة استيقظت بغتة. ظننت أن أحدا قد أيقظني، ولكنني لم أسمع صوتا، لم يكن ثمة من يطرق الباب. وكان البدر يبعث من الشباك نورا غريبا، صلبا كأنه زجاجي، أو كأنه ظل مكتوم لملايين السنين، ثم عاد في تلك اللحظة إلى الحياة. ذهبت إلى الشباك وتمعنت في السماء.
كانت الثالثة صباحا. ومن غير أن أفكر فيما أفعله، بدأت ألبس. فتحت الباب في سكون، وبدأت أنزل السلم على أطراف أصابعي. كانت أول مرة أخرج فيها وحدي في مثل هذه الساعة من الليل. كانت البلدة ممتدة أمامي، خالية من الحياة، ومتألقة كأنها شاهد مقبرة. وكان القمر لا يزال ساطعا، وإن بدا أكثر مودة عما كان عليه من غرفتي.
قطعت الطريق ماشيا إلى جسر حجري صغير يغمره بياض نور البدر كما لو كان مسرحا مهجورا.
انتابني إحساس بالخفة، ونشوة سكر لم أعرفها من قبل. نشوة فريدة، لم أستطع قط أن أتبين لها سببا. ظلت تنسرب إلى أعماق عقلي، لتختفي في آخر الأمر كأنها أرنبة مذعورة. ولكن الأمل الذي خلفته لي ملأ صدري بهواء منعش. بدت المصاعب التي كنا نمر بها محتومة بالزوال يوما ما. ربما يكونون قد أمموا آخر مقاهي تيرانا، ولكن هناك رموزا أخرى ستقاوم وتبقى.
غير أنني توقفت فجأة وسألت نفسي «أية رموز؟»
لم يخطر على بالي شيء منها. ولكنني كنت مدركا بطريقة أو بأخرى لوجودها، خبيئة الضباب، بانتظار الوقت الملائم لكي تظهر. ربما لم يكن الناس والأماكن إلا ظلالا، من خلفها ناس يسيرون على مبادئ وأعراف أخرى. نعم، تم إغلاق آخر المقاهي الخاصة، ولكن ثمة فنجان قهوة يتم تقديمه في الثالثة صباحا لشخص لا يزال يقال له «يا سيدي» في فراش مارجريت.
للحظة، رأيت في خيالي علما مرتفعا على مقر إقامة الرئيس، مزينا بجميع أنواع الرموز، بداية من النسر وانتهاء بحمالة الجوارب النسائية. بدأت من تلك الرؤية المشحونة بالرموز أستعيد اتزان نفسي. فهناك في تيرانا، في عاصمة الدولة التي أنا أحد مواطنيها، وبدلا من أن يرفرف علم على مقر الرئيس دلالة على أن رأس الدولة موجود، بدلا من شعارات أسرات الدوكاجين أو الكستريوت أو الأنجيفن، وبدلا من نسورها البيضاء والسوداء والزرقاء أحادية الرءوس ثنائية القضبان، كنت أرى رمزا جديدا رفعته الصدفة أمام عيني: حمالة جوارب مارجريت السوداء ترفرف في الريح.
زال عني كل ما كنت أعانيه من توتر، وعدت إلى غرفتي وسريري. ولم أقو على مجرد أن أسدل الستائر، وبينما كنت أستسلم للنوم، شعرت بأشعة القمر المرمري تمسد وجهي، كأنما تصنع قناعا للموت.
عدت إلى تيرانا قبل يومين من السنة الجديدة.
بدت لي المدينة موحشة وغريبة. أخذت أتمشى في بضعة شوارع جانبية على أمل أن أصادف أحدا أعرفه، ولكنني لم أصادف أحدا. كان الجميع فيما يبدو مختبئين.
توجهت إلى مكتب بريد لم أدخله من قبل واتصلت بزميلي على أمل أن يكون هو الآخر قد عاد لقضاء بداية العام مع عائلته. في البداية قالت لي أمه ـ عرفتها من صوتها ـ إنه ليس موجودا. وعندما عرفت أنني الذي كنت أتصل نادته ليرد.
بعد قليل كنا معا في الشارع مرتدين معطفينا الشتائيين الطويلين، نتكلم لاهثين من البرد، ونتبادل آخر الأخبار، خصوصا ما يتعلق منها بزملائنا المبعدين. قال إنه «لا توجد بوادر لذوبان الجليد، بل العكس».
وفيما كنت أشعل سيجارتي الثانية سألني «هل سمعت بما حصل لمارجريت؟».
قلت «لا. ما الذي حصل لها؟»
مر وقت منذ أن تكلمنا عنها لآخر مرة. وكنت أهجس بشيء ما.
قال إنهم «طردوا الاثنتين، الأم وابنتها، طردوا من تيرانا كل من اعتبروهم عديمي الأخلاق: العاهرات والمقامرين والشواذ. ولكن الحكاية أكبر من هذا. فقد انتهى طردهما بمأساة».
«مأساة؟ ماذا تقصد؟ أية مأساة؟»
«مارجريت وأمها. الاثنتان انتحرتا».
خرست. عجزت عن إبداء أي رد فعل. ودون أن ينتظر مني سؤالا، وبصوت ملول حكي لي ما جرى.
«وضعوا الاثنتين في شاحنة محملة بكل أغراضهما، وأرسلوهما إلى قرية نائية في مقاطعة لاشنجي. وهناك عرفا أنه سيعاد تعليمهما من خلال عمل تعاوني وأعطيتا كوخا صغيرا. ولم تنطقا بكلمة. وضعتا الأغراض في الكوخ وخرجتا في أمسية ذلك اليوم، اشترتا أغراضا من محل كولكوز. الظاهر أنهما اشترتا بعض المنظفات وحبلا. وفي تلك الليلة، وبعد أن انتهتا من العشاء والقهوة، شنقتا نفسيهما. الأرجح أن مارجريت ساعدت أمها أولا ثم شنقت نفسها».
وهو يتكلم، كنت أحسب الأيام، محاولا أن أعرف بالضبط متى ماتتا. شل عقلي. أيقنت أنهما انتحرتا في نفس الليلة التي رأيت فيها رؤياي في نور البدر. نعم، لا بد أن يكون في تلك الليلة نفسها، عندما كان القمر ينثر نوره على جميع أرجاء ألبانيا الضيقة، من الغرب إلى الشرق.
تذكرت أجساد الكتاب الهزيلة التي رأيتها في قمصانهم المتسعة في آخر أيام الاجتماع وفكرت أن أحدا منهم لم ينتحر.
امرأة نابت عنا جميعا.
كان ثمة خيط غامض يربط بين عقد ربطات عنقنا المحلولة وعنقها المرمرية البيضاء، خيط سمح لخيالي في آخر الأمر أن يرى الاتحاد الألباني للكتاب والفنانين في جسدها العاري، كأنه منعكس في مرآة.
ولم يمض وقت طويل على الاتحاد ـ وكأنما لم يحتمل صورته المنعكسة ـ حتى انتقل إلى مقر شارع كفاجا الذي لا يزال فيه إلى الآن.
بعد سنوات، وبينما كنت واقفا أمام بناية الاتحاد الحديثة ذات الواجهة الزجاجية التي تنعكس عليها صورة كاتدرائية آميينز، فكرت في المرأة التي كانت في تيرانا البعيدة.
طالما كنت أهيئ نفسي لهذه اللحظة.
فكما يحتاج كل شيء إلى روح لكي يعيش، كانت البناية الميتة تستغل قشرة الكاتدرائية. كانت تغير إحساسها عبر مرور الساعات والمواسم. لم تكن تبدو في الفجر كما تبدو في الليل، ولا في ابريل كما في الخريف أو الشتاء. كانت تفتح وتغلق كأنها عضو حي.
لو كان أي بيت آخر يواجه بناية يسكنها الشعراء والفنانون كان سيستمد نوره وروحه من تلك البناية. ولكن في حالة اتحاد الكتاب، كان بيت مارجريت المهجور هو الكاتدرائية.
من الصعب أن أتخيل أن مارجريت كانت تستمد الراحة ـ في لحظات عزلتها التامة ـ من الأدب الألباني. ولكنها على العكس تماما، ولأنها امرأة لم تتعلم إلا العطاء، وظلت تمارسه حتى آخر لحظة، فقد أورثت ذلك الأدب شيئا ما.
إليك هذا الاعتراف بالفضل، وإن تأخر كثيرا، يا مارجريت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
٭ ترجمها عن الألبانية إلى الإنجليزية روبرت إلزي وراجعها ديفيد بيلوس ونشرت في عدد 26/12/2005 ـ ٢/١/2006 من مجلة «ذي نيويوركر» الأمريكية.
اسماعيل كاداريه ترجمة: أحمد شافعي