كيف يشتغل الفانتاستيك في رواية “في بلاد نون” لأحمد المديني؟ وما هي آليات اشتغاله؟ وما البنيات الفنية التي يُشغلها الروائي لتشكيل الفانتاستيك في روايته؟ وما الأبعاد الدلالية والفنية لهذا الاشتغال السردي؟ وما تجليات المسكوت عنه في الرواية؟ وكيف يفضح السارد من خلاله أوجه اختلال منطق السلطة والحياة المعاصرة؟
هذه بعض الأسئلة التي سننطلق منها في قراءة الرواية الأخيرة للأديب المغربي الأستاذ أحمد المديني، وهي الرواية الخامسة عشرة في ريبرتوار إصداراته الروائية. وهي تمثل، مما لا شك فيه، وجها من أوجه براعته في فن السرد الروائي، ومقدرته على إبلاغ مراميه من خلال الكتابة الروائية. وهو الروائي الذي تمرس بهذا الفن كتابة ودراسة، كما تمرس بصنوه الآخر: فن القصة القصيرة، أيضا، درسا وكتابة. ومن ثم، يمكن اعتبار هذا النص السردي جماع تجربة طويلة في احتراف السرد، والانشغال بشجونه وشؤونه.
يشتغل الفانتاستيك في رواية “في بلاد نون” لأحمد المديني من زوايا متعددة للإمساك بمنطق السلطة وألاعيبه، والكشف عن المسكوت عنه في الواقع الاجتماعي والحياة الإنسانية المعاصرة، وذلك عن طريق تفكيك هذا المنطق وكشف التباساته وغوامضه سرديا، والوقوف عند اختلال الواقع واضطرابه. وقد كانت الرواية بما تعج به من إمكانات في البناء والتشكيل الفني، وبما تتميز به من سمات التجريب المنفتح والمتنوع أفقا هاما لتعرية طبيعة السلطة، وتجلية اختلال منطق الحياة في واقعنا المعاصر، وتشكيلِ متخيل سردي يحبَل بإشارات وتلميحات هامة يمكن أن تكون مفاتيح لتأويل وفهم ما رام السارد إيصاله إلى المتلقي. وهذا ما سنجليه في هذه القراءة.
تنفتح الرواية على استيقاظ بلدة “نون” في صباح يوم من الأيام على جلبة، وعلى أشغال، وأعمال حفر، وناس غرباء يحملون عتادا، ويسوون أرضا، ويُرسون أعمدة. وهذا ما لم تعهده في سابق أيامها لما تعرفه من هدوء وحياة وديعة. وأثار هذا الحدَث استغراب أهل البلدة، وأثار لديهم فضولا ورغبة في معرفة ما يجري. وما يجري هو ما تكشف عنه الأحداث اللاحقة وتُطلعنا على جلية أمره. فإذا هو عجب وغرابة، وإذا هو ألغاز وأحاجي، وإذا هو مأساة في قلب ملهاة تُعري واقعا مظلما وتُسفر عن أوجه السلطة في قباحتها، وذلك في سياق متخيل روائي يتوسل آليات فنية كثيرة لقول ما يمكن أن يقال عن “نون” وما يقع في “نون” وفي غيرها من البلدان. فما الذي يقع في بلدة “نون”؟ وكيف يشتغل الفانتاستيك لتجلية ما يحدث في البلدة؟
لعل الصورة الأولى التي تطالعنا عن بلدة “نون” وقد شهدت طارئ قدوم الغرباء وقيامِهم بعملية الحفر وبالأشغال الأخرى من ضربِ مطارق وصريرٍ وصفير وجلبة وصخب، وما رآه سكانها من أدوات بناء وصناعة غير مألوفة لديهم، ولا توجد في هذا الطرف القصي من البلاد الواسعة، تضعنا في بؤرة تشكل الفانتاستيك وتولده من رحم الواقع وتحولاته. ولم يكن هذا الوضع الشاذ، وهذه الحالة العجيبة، مناط استغرَاب سكان البلدة، فحسب، بل إنها أثارت تعجب وشكوك حتى بعض الشخصيات الأساس في الرواية، والمسهِمة في هذا التحول الغريب في البلدة مثل شخصية المقاول “المعلم لمباركي”، الذي كان يعتقد أنه انتُدب من دون العالمين لخطب جلل، وهو من رسا المزاد عليه من غير منافس، ليقلب بلدة “نون” ويجليها كأحسن ما يكون فن التخطيط والعمران والتنسيق والتزيين، حتى ليجعل من يطأ أرضها لا يصدق أنه في بقعة من الأرض، وأن ما يراه حلما لا حقيقة، وفي الحين، وبسرعة البرق، يتجسد أمامه حقيقة. هكذا كان “المعلم لمباركي” يحسب أن مهمته تشريفا وتكليفا هاما، غير أن ما أحاط طبيعة عمل فريقه في الشارع الرئيس من بلدة “نون” سيكشف له عن تورطه في فعل غامض، وفي وضع شاذ محفوف بالالتباس وغياب المنطق والعقل. وهنا تتداخل الأشياء في ذهنه إلى حد انتفاء حدود الواقع والخيال. وهذا التداخل لا يحسه “المعلم لمباركي” وحده، بل يشاركه فيه سائق إحدى شاحنات موكبه: “دحمان”، وبائع الأحلام: الراوي/ الحلايقي “سلام”، وشخصيات أخرى في الرواية. وعبر محكي هذه الشخصيات الثلاث، وتتبع مسارات أفعالها، وردود أفعالها إزاء ما يجري لها، أو من حولها يتشكل عالم سردي قوامه متخيل فانتاستيكي جانح يجلي اضطراب الواقع الاجتماعي بحكم علاقته المضطربة بالسلطة ومنطقِها المختل من جهة، وبحكم تحكم الخرافة والشعوذة والمعتقدات الخاطئة، والمعلومات المزيفة في المجتمع من جهة ثانية. وعبر الغوص في هذه الأحوال المركبة المعقدة سردا وحكيا يتمكن السارد من تفكيك واقع الحال، وجعل المحال (عبر طاقة الفانتاستيك) إمكانية فنية أساس ينكشف من خلالها الواقع وينجلي للقارئ وكأنه خيال محض. يقول السارد في مشهد من المشاهد السردية الدالة:
“تمهيدا للمهمة جاء المعلم لمباركي شخص غامض، كنى نفسه الوسيط. التقى به في مكان هو من حدده، ويحرص على أن يغيره باستمرار: مرة مقهى؛ وأخرى باحة مسجد؛ طورا حديقة عمومية؛ لقاؤهما الأخير تم في فناء صومعة حسان، مثل أي سائحين جاءا يكتشفان آثار الموحدين في عهد يعقوب المنصور الذهبي، ويتظاهران بالإعجاب لما يريان، لا سيما والمرافق يحمل آلة تصوير تطوق عنقه، وفيما هما يتهامسان، يتبادلان أسرارا غامضة”. (الرواية، ص. 118)
هكذا يطلعنا هذا المقطع المستشهد به عن غموض شخصية الوسيط (مبعوث السلطة إلى المعلم لمباركي)، وعن تمويه طرق اللقاء بينهما، وعن تبادل أسرار غامضة، واتفاقهما على ممارسة تضليل الجواسيس وما شابههم. وبهذه الشاكلة يتمكن السارد من الإشارة إلى انبناء الأحداث على نوع من السرية والغموض والالتباس، وتشكل المتخيل في أفق يغيب عنه المنطق، ويتحكم فيه اللامعقول، وتحفه الغرابة. وهذه الأبعاد تبدأ من الشخصيات ذاتها لتمتد إلى الوقائع والأماكن: أليست شخصيات “سلام” و”هنية” و”نونة” أو الحاجة “نونة” و”ساعي البريد” و”دحمان” وحتى “المعلم لمباركي” لها نصيب وافر من غرابة الأطوار، ومن الالتباس والغموض اللذين يسمان كل مجتمع اختلت فيه سلطته وأصابها ما أصابها من فساد.
ومن هنا تُمعن الرواية في الكشف عن المسكوت عنه في بلدة “نون” وفي عموم البلاد، وتعرية طبيعة الممارسة السلطوية فيها. وقد استطاعت الرواية أن تفكك طبيعة هذه السلطة التي تقوم سياستها على:
– الإمعان في تحسيس رعيتها بالغموض والالتباس.
– الإمعان في القمع والشطط والترهيب حتى دون مبرر أحيانا.
– تعمد زرع حالات الخوف والهلع من كل شيء.
– فرض القبول بالأمر الواقع على الجميع بمن في ذلك خدامها (نموذج المعلم لمباركي).
– فرض الطاعة عبر تدمير بنية القبائل وبعض المدن وتسليط الأغراب على رقاب سكانها.
وبهذه الكيفية تعمل الرواية على تفكيك بنية السلطة وآلياتها عبر متخيل سردي يتخذ الفانتاستيك سبيلا إلى الكشف عن المسكوت عنه وتأويلِه وفهمِه فهما فنيا روائيا.
وقد كان هذا التأويل متعدد الإمكانات متنوع الآليات الفنية، وتأتي على رأس هذه الأدوات: السخرية والباروديا وتعدد المحافل الخِطابية التي يستند إليها السارد لبلورة رؤيته وبناء عوالمه. وقد كانت الحكاية الشعبية، واستدعاء ألف ليلة وليلة، وتوظيف الأمثال العامية (المغربية)، واستيحاء بنية المقامات، والترسل، وأساليب السجع والازدواج، والتوسل باللغة التراثية من أهم ملامح تشكل الأبعاد الفنتاستيكية في الرواية وبناء عوالمها الحكائية، وتأثيث دلالاتها المتصلة بكشف تهافت منطق السلطة وإمعانه في الإضرار بواقع الحياة وبزعزعة حياة الناس وقلبها رأسا على عقب، وبكشف عفن حياة الناس نظرا إلى تفشي الجهل وغياب استعمال العقل والاحتكام إلى المنطق، ونظرا إلى غياب القيم الإنسانية المثلى في تدبير السلطة وفي ممارسات الحياة اليومية.
وقبل أن نختم هذه القراءة لا بد أن نقف عند مقطع سردي جامع لعدد من السمات الفنية والأسلوبية التي ذكرناها سابقا، وعند لمحة فنية دالة شكلت بعدا من أبعاد تشكيل المتخيل، وتشغيل الفانتاستيك في الرواية، وهي السخرية التي اتخذها السارد أفقا لتفكيك واقع حال ممارسة التسلط وتوظيف السلطة لما تشتهيه الحاكمية من سلوكات، ومن قدرة على التلاعب بالعقول، وقلب الحقائق، والسير مع المصلحة الطارئة، يقول السارد مصورا اتفاق قائد الجندرمة في بلدة “نون” و”المعلم لمباركي” على تفريق ساكنة البلدة الذين اصطفوا طوال الطريق الذي تجري فيه الأشغال متجهين نحو الجبل الذي يحتضن ضريح ولية البلاد “للا نونة” يتبركون به في يوم معلوم من السنة:
“..أخبره قائد حامية الجندرمة، هو وقايد وزير الداخلية، بأن المفوض المركزي الذي تتبع له هذه المنطقة، يحرص الحرص الشديد على أن يؤدي محكوموه شعائرهم وأن يتبعوا معتقداتهم على الوجه الذي يحبون، المهم أن يبقوا ممتثلين، وأي مس بهذه المعتقدات التي لا تحرك فيه ساكنا، يهيجهم، إياكم التحرش بهم، التعليمات أن الإيالة أضحت مرجعا لهذه الشعائر يقصدها العرب والعجم والبوذيون والوثنيون، وعبدة الشيطان، أيضا، كلهم يعود علينا منها خير عميم، نحن هنا نعمل بما تقول به العامة، إن وجدت قوما يعبدون الحمار فعليك بالحشيش، وأنت تريد زرع الفتنة!. رغم هذا وجد عند خُدام السلطة حلا ماكرا، فتوى منا ستنطلي على هؤلاء المغفلين، ولا تستطيع أن تتهمنا أننا لم نمد لك يد العون، لا بد أن ترفع في الأخير تقريرا لصالحنا نطلع عليه، وسترى أولا ثمرة عملنا؛
– شوف أسيدي، بالحيلة يمكن أن نفرقهم بعض الوقت لتنجز الأشغال، ولا تتأخر أنت عن تنفيذ مهمتك التي تقول إنها من صميم أمن وصلاح الحاكمية، وبإيعاز خفي منا. سنرسل الليلة من يصعد إلى الجبل، ستكون الأجساد قد تعبت من طول الوقوف، والأجفان تغمض وحدها من النعاس، سينادي المنادي يا أهل لبلاد أنا من ترسلني إليكم للا نونة كل عام لنقل طلباتكم، هي تُعلمكم موسمها هذا العام سيتأخر عن موعده فهي غارقة في الصلوات والتعازيم والدعاء، عسى أن يستجيب المولى لبعض حاجاتكم، والنساء خاصة، فإن كان لها حظوة عندكم حقا وترتجون بركاتها عودوا إلى بيوتكم واطمئنوا فإنها ستنادي عليكم قريبا جدا، وإنها لتشعر أن شيئا خارقا سيحدث لها ولكم جميعا بإذن الله، وبلدتكم سيعمها الخير والنماء، وتصبح مركز علم وتجارة وسياحة إن شاء الله؛
وكذلك كان، ما أن طلع النهار إلا وخلا الطريق العام كليا من الغاشي، تعجب، اختفى من كانوا في الطابور أمس؛ بأي سحر تفرق طابورهم، وهل جاءهم النداء الذي خُيل إليهم أنهم سمعوه من الجبل، أم هطل وابلا من السماء؟! عزوا هذا إلى إحدى كرامات للا نونة، يعلمون ويوقنون تريد بهم خيرا، ورددوا موافقين، مسلمين، مستسلمين، المثل السائر عند أهل الموغريب أجمعين: (كل تأخيرة فيها خيرة).”. (الرواية، ص. 159-160)
لا يخفى على المتلقي ما يحفل به هذا النص من سخرية وتهكم يراد بهما كشف ما يجري من تضليل وسوق من يسميهم قائد الجندرمة بالمغفلين حسب ما تقتضيه مصلحة السلطة، وما يتطلبه الوضع. وفي الآن نفسه يطلعنا النص على لعبة السلطة المزدوجة: الإصرار على ترك الناس متمسكين بما يعتقدون من خرافات وضلالات ما دام الأمر يجعلهم ممتثلين مستسلمين، وفي الآن نفسه القيام بإنجاز ما ترغب فيه والتحايل عليهم بدفعهم إلى التنازل أحيانا حينما تتطلب مصلحة السلطة العليا بعض التنازلات. كما يبين كيف صارت الإيالة مرجعا لشعائر ومعتقدات، ولذلك تقصدها ملل ونحل مختلفة بما فيها عبدة الشياطين. وبهذه الكيفية يكشف النص عن تناقضات السلطة وتناقضات المجتمع واختلال كل شيء فيه، وأن المصلحة هي الدينامية التي تحرك الجميع في البداية والنهاية على السواء. وقد ساق الكاتب هذه الدلالات مساقا ساخرا ناقدا كاشفا عن لامعقولية السلطة، وعن لامنطقية ما يجري، وذلك في إطار فنتاستيكي بيِّن.
وقد وظف الكاتب في صياغة هذا المشهد السردي العميق في دلالاته وأبعاده الفنية الباروديا عبر استدعاء خطابات جادة في سياق ساخر، وعلى رأسها بعض الجمل التي تذكرنا بوعود الخطاب السياسي المتداول حينما يمتزج بالخطاب الديني، كما نرى في العبارات التالية، يقول السارد على لسان قائد الجندرمة: (فإن كان لها حظوة عندكم حقا وترتجون بركاتها عودوا إلى بيوتكم واطمئنوا فإنها ستنادي عليكم قريبا جدا، وإنها لتشعر أن شيئا خارقا سيحدث لها ولكم جميعا بإذن الله، وبلدتكم سيعمها الخير والنماء، وتصبح مركز علم وتجارة وسياحة إن شاء الله).
كما لا يغيب عن المتمعن في النص استعمال المثل الدارج، وتوظيف الازدواج في الصياغة الأسلوبية، وهذه العناصر اللغوية والأسلوبية تسهم بدور فعال في تصوير ما يروم السارد تصويره من أفق السخرية، ومن أفق الباروديا التي تستند إلى استدعاء خطابات أخرى لبناء الخطاب الروائي الساخر الناقد، ولتشكيل المتخيل الفانتاستيكي الذي يقتضي توظيف هذا التنوع البلاغي والأسلوبي، كما يتطلب التنوع الخِطابي ما بين الخطاب السياسي، والديني، والأدبي المكرس، والشعبي المتداول في الأمثال أو في الحكايات الشعبية: خاصة فت الحلقة.
انطلاقا من كل ما سبق يمكن القول إن رواية “في بلاد نون” قد استطاعت تشغيل الفانتاستيك بحيوية وإمكانات فنية متنوعة ومتعددة المشارب قصد كشف المسكوت عنه في علاقة السلطة بالمجتمع، وكشف طبيعة السلطة وأساليبها الماكرة في تسيير شؤونها، والحفاظ على كينونتها. ولكن الأهم هو أن الرواية قدمت كل هذا في إطار بناء فني متماسك، وفي بلاغة روائية قوامها التشويق، ولذلك تمسك بتلابيب القارئ منذ البداية لتجعله في حالة استنفار لحالاته التذوقية والذهنية والمعرفية جميعها قصد الوصول إلى مرامي الكاتب ومقاصده.
محمد المسعودي*