مرت دراسة الأهواء من الناحية النظرية بمرحلتين: الأولى تجعل من البعد الانفعالي باعتباره مكونا تابعا لكل من البعد المعرفي والبعد التداولي، أي أنه «حاصل الآثار الهووية للكيفيات التي ترافق البرامج التداولية المعرفية»(1)، وفي المرحة الثانية تبين للسميائيين من أمثال جريماس وفونتاني أن ثمة مسارات هووية لا يربطها أي رابط بالتركيب السردي في بعديه المعرفي والتداولي، ومن هنا ظهرت ضرورة وضع خطاطة أو برنامج لدراسة الأهواء بوصفها بعدا مستقلا له تمظهراته وبنيته وأدواره ومساراته المغايرة، فسيمائية الأهواء تبرز بوصفها مجالا مستقلا عن مجال العمل، وأساس الاستقلال يرتبط بالذات، إذ يلحظ أنها في مجال الحس لا تنفصل عن العالم، على خلاف مجال العمل القائم على تمام الانفصال بين الذات والعالم. وجاءت دراسة هذا البعد بوصفها استكمالا لبعض جوانب النقص في النظرية السيمائية، فهي لا تنفصل عنها بل «تندرج في سياق المشروع النقدي الذاتي للنظرية السيميائية، فالاهتمام بالبعد الهووي بعد حصر البعدين التداولي المعرفي يأتي ليملأ بياض النظرية السيميائيية الأساس» (2) وبناء على ذلك تميز البعد الهووي باعتبار» العقل البشري ينشطرإلى محتويين ، وهما الأفكار (العقل) والإحساسات (الأهواء)»(3)
وعليه فقد خطت السيمائيات مسارا جديدا «بعد أن أدخلت هذا البعد المغيب عن عمليات التواصل لأن التواصل إذا كان في اتجاه واحد فإن الموضوع أو المتقبل يستقبل إشارات المرسل وينتج السلوك المطلوب منه أو حتى السلوك الذي يفرض عليه، أما عندما تكون العلاقات تبادلية، فإن كل عنصر يحاول من جانبه بناء الدلالة وصياغة المعنى، ويتم التواصل»(4)، ولا يتعلق الأمر برد الاعتبار للذات باعتبارها الفضاء الأساسي للاستهواء، وإنما يتعلق بالأساس بكيفية بروز علامات الحس على مستوى الخطاب، وفي أي موضع من البنية الخطابية يمكن أن يبرز الهوى، ومما يتكون هذا البعد الهووي، حيث لا تخص الأهواء الذات أو الذوات داخل الخطاب وحدها، وإنما هي ميزة الخطاب في كليته، وأنها تبعث من بنيات خطابية من خلال أثر سيمائي يمكن إسقاطه، إما على الذوات وإما على الموضوعات » (5)،
ويتمحور دور الناقد في تحديد ممكنات كل هوى في الخطاب، بدءا من اشتغال الوحدات المعجمية داخل القاموس بهدف «تجميع المعلومات حول الطريقة الخاصة التي تشتغل من خلالها الأهواء.إن دراسة الوحدات المعجمية الهوويّة يتطلب استبدال تعريف بتسمية، ثم القيام بعد ذلك بصياغة تركيبية جديدة للتعريف ذاته»(6)، ذلك أن « كل خطاب تأخذ فيه الذات- الأنا أو الفاعل- يزاح داخل فضائه، أو تحفر مكانها داخل تمفصلاته وبين تركيبته أو تتموضع في منطقة ما من مناطقه سواء كان ذلك مباشرا أم بصيغ متخفية، يعد خطاب هوى، أي تصبغه الانفعالات وتوجه معانيه، فتنتج دلالاتها وتخلق سياقتها التلفظية»(7)، ومن ثم يمكن القول بأن الأهواء تلف الخطاب بمستوياته المختلفة، منها ما هو جلي معلن من خلال النشاط التلفظي والتخطيب، ومنها ما هو مستتر خفي، عبر مراحل من الاتصال والانفصال، وفي الصفحات التالية يحاول الباحث تحليل الأهواء في رواية « ابنة سوسلوف» للكاتب اليمني وعالم الرياضات حبيب عبد الرب السروري، للبحث في الأبعاد الانفعالية، ودلالاتها وسياقات توليدها وتحولها، من خلال تفاعلات الذاوت اتصالا وانفصالا للكشف عن القيمة المهيمنة على النص.
1 – المتن والمبنى الحكائي
يدور المتن الحكائي في فترة زمنية تمتد لنصف قرن من تاريخ اليمن بكل تحولاته السياسية والاجتماعية، من خلال تحولات شخصية نسائية هي فاتن ابنة سالم/ سوسلوف الماركسي الذي عاد من دراسته الماركسية بموسكو، وتم تعيينه رئيسا للمدرسة العليا للعلوم الماركسية، وأطق عليه سوسلوف تيمنا بميخائيل سوسلوف مسؤول الدائرة الأيديولوجية فى الحزب الشيوعى السوفييتى وقتها. واستعرض السرد المروي بلسان عمران اليمني الذي يعيش متنقلا بين فرنسا واليمن تحولات علاقته مع فاتن، وهى ذاتها تحولات اليمن من مرحلة إلى أخرى ومن انفصال إلى اتصال، حتى انتهاء العلاقة بيأس عمران في احتمال تحولات فاتن وعدم قدرته على تحريرها من سلطة والد زوجها الامام الهمداني، أو اصطحابها معها، ربما كبديل لنجاة (يمينية فرنسية) التي أحبها عمران وتوفيت في حادث إرهابي.
على مستوى المتن يقوم متن الرواية على بنيتين متوازيتين:
* المنشورات الفيسبوكية في اللحظة الآنية بعد ما جرى من فشل لثورات الربيع العربي خاصة باليمن الذي يرسل إليه عمران رسائله الفيسبوكية، وهي رسائل ذات نمط كتابي من المفترض أن الراوي عمران يكتبها في اللحظة الآنية، وإن كانت تقوم في المجمل بوظائف استرجاعية، وهي تأخذ طابعا مشهديا موجزا ومكثفا، غير منتظمة زمنيا، بما يتناسب مع طبيعة الوسيلة المستخدمة، ويؤكد على آنيتها، حيث لحظة انتصار الخراب والظلام، من خلال تكراره لكلمة اليوم في غير موضع من تلك المنشورات، وهي أيضا ذات طابع تأريخي يتجه بالنص ناحية السرد الذاتي، يحمل مشاهد سردية من واقع اليمن الجنوبي إبان الفترة الاشتراكية في الستينيات، لكنها في الوقت ذاته استباقية حيث يقوم الراوي/ المدون باختيار الاسترجاعات ذات الدلالة والمرتبطة بالحاضر واستمرارية الظلمات والخراب، وليس الأمر مجرد بكاء على الفترة الاشتراكية، إنما سخرية من التحولات التي طرأت على يمنه من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومنها نبوءة الموظف( ع إ ) بزوال الاشتراكية بعد أن اختار عمران الدراسة في فرنسا الرأسمالية التي تمنى أن يرى بعينيه غروب شمسها في معاقلها، حيث قال له الموظف»: في يوم ما، إذا استرجعت ذكرى حديثنا هذا فاكتبه كما حدث، قائلا إني ضحكت من أعماقي، ضحكت كثيرا جدا وبغزارة»(8)
* السرد المناجاتي وفيه يتمظهر الموت بوصفه مروي له متخيل، له علاقة إشكالية ملتبسة تتمثل في تمام الحضور وتام الغياب، وهو أيضا سرد استرجاعي لكنه لايقوم على الشذرات الفيسبوكية الموجزة وإنما على التتابع السردي الممتد عبر حياة الراوي(عمران) الزمكانية من خلال علاقته فاتن أو ابنة سوسلوف، والمنعرجات التي مرت بها بدءا من الفتنة إلى السقوط عبر مراحل التحولات اليمنية المتوالية، مستخدما في ذلك ضمير المتكلم ليقف بالسرد على تخوم رواية السيرة الذاتية، التي تقوم فيها العلاقة بين الراوي والمؤلف على ثنائية الاتصال والانفصال، خاصة أن المؤلف يتشابه مع الراوي في أمور عدة لعل أهمها سفره إلى فرنسا، ودراسته وعمله بها، إضافة لتجهيل بعض الأسماء، ثم أخيرا الإحالات التاريخية المؤطرة للرواية، مع إحداث فراغات ضرورية في العلاقة تحول دون التطابق التام، « وتلك هي منطقة وعي الذات التي تريد مجاوزة شروطها، وتسعى إلى تعرف المزيد من أسرار تمردها الخلاق على واقع غارق في أسر الضرورة تأكيدا لحضور فاعل لا يخلو من معنى الاحتجاج على واقع الضرورة والتأبي على شروطه»(9)، ومن هذا الوعي جاءت تنقلات الراوي متحررة منفتحة، عبر الثقافات بل والحضارات، من خلال عدة علاقات نسائية بدءا من الوعي بالجسد عبر زياراته الجنسية لعاهرة يطلق عليها (الدكتورة) في مراهقته انتهاء بعلاقة إنسانية متسامية مع الصينية (يانيليو)، مرورا بعلاقة جنسية مشوَّهة مع فاتن(هاوية) قوامها الانفصال الروحي والاتصال الجسدي المحرم، وعلاقة حب طبيعية مع نجاة انتهت بموتها وحملها في حادث إرهابي، والعلاقة الأساسية بهاوية هي أكثر العلاقات تشوها على مستوى البعد الانفعالي لكلا الطرفين، إذ إن مخبرها أبعد ما يكون عن مظهرها، وتجلياتها الجسدية تعبر عن جملة من التناقضات لدى الطرفين، ومن ثم لا مجال للحديث عن حب حقيقي أو إنجاب أو أي من مقومات الحياة السليمة، على خلاف علاقته بنجاة وما نتج عنها من حمل، وانتظار لوليد حال الموت دونه، ومن خلال استخدام ضمير المتكلم للراوي برزت الوظيفة الإيدلوجية للراوي إلى جوار الوظيفة السردية بوصفها أكثر وظائفه بروزا، ومن خلال الوظيفة الأيديولوجية أمكنه تمرير وجهات النظر في النموذج المستهجن المتمثل في المتأسلفين، وتوضيح جوانب المفارقة التناقض فيه بوصورة تجعله مصدر الظلمة والخراب، ومن ناحية أخرى تعد الرواية سيرة غيرية لفتاة وقعت ضحية خلافات أبويها ففرت من جنوب اليمن إلى شماله وفرّت أيدولوجيا من أقصى اليسار إلى أقصي اليمين، مع استمرار تحولاتها حتى اللحظة الآنية التي كتبت فيها الرواية. ليجعل شخصية (هاوية)على خط تماس مع الوطن (اليمن) في كل ما اعتراه ويعتوره من هزات عنيفة متوالية حتى ما بعد ثورات الربيع العربي. وقد نص الراوي صراحة إلى ذلك قائلا» صنعاء طفلة جميلة قاصرة ينتهكها شيخ قبلي لم يغسل فمه من رائحة القات منذ سبعين سنة» (10)
المروي عليه
والمروي عليه نمطان في الرواية، الأول ملاك الثورات، وهو يحيل إلى الفيسبوك ذاته بوصفه المشعل الأساسي لثورات الربيع العربي، وأحيانا يطلق عليه ملائكة ثورات الفيسبوك، في إحالة للشباب الثوري النقي، أما الثاني فيظهر في السرد المناجاتي، وهو الأكثر بروزا وخفاء في الوقت ذاته، فهو ملاك الموت، والذي يتحاور أحيانا مع الراوي، بل يبدي تعجبه من الأحداث تارة، ورغبته في الاستمرار في الحكي تارة أخرى، وقد جاء هذا الاختيار الواعي من قبل الراوي، ليعبر عن المقابل الذي يوجّه إليه السرد، ولكنه في هذه الحالة ليس شخصا ولا كائنا أرضيا، ولكنه المسؤول عن قبض الأرواح ومنها روح نجاة، ومن ثم لا يمكننا فهم سرد الراوي وتصرفه بل موقعه السردي إلا من خلال هذا المروي عليه، فهو ذو حضور مهيمن وفاعلية سردية تخرج به عن إطار المتلقي السلبي، كما «يمتلك فعله النوعي الخاص به والداخل في نسيج السرد، إنه يمتلك بناء على وضعية تلقيه، تغذيته المرتدة التي يستوعبها الراوي داخل نسيج سرده»(11)، وهذا الاختيار يحقق عدة وظائف على مستوى القصة والخطاب، فعلى مستوى القصة أمتلك المروي عليه فاعلية التغيير من خلال موت نجاة، إضافة لموت من مات من شباب والثورة وما ترتب على ذلك من انقطاع علاقة عمران بهاوية ويأسه من أخذها إلى فرنسا، والتلازم بين قصة هاوية والمروي عليه أساسي فهو يشترط عليه أن يركز على قصة هاوية دون غيرها، « وافق على الاصغاء شريطة أن تكون هاوية موضوعنا الوحيد الأوحد»(12) ، أما على مستوى الخطاب فهو يبرز حضورا كليا دائما لا ينفت منه الراوي لحظة، وهذا الترافق الدائم بين الراوي والمروي عليه، جعل العلاقة بينهما تتمظهر في صورة ساخرة، أو أليفة كعلاقة الصداقة والصحبة، ومن ثم جاء التبسط في الحوار معه، فهو لم يلعنه مرة بل يستمر في تدليله من حين لحين بما يمنحه له من ألقاب، مثل» عزيز قبطان سفين الموتى، عزيزي كاسر الرغبات، ناهب الأرواح، صديقي الغالي لاطش الأرواح…»، هذا الحضور المؤطر للبنية السردية للنص يعكس حالة من اليأس والسوداوية التي صبغت حياة الراوي، وأطّرت سرده بالضياع، وصولا إلى الهاوية، وكأنه يحكي لمن يعلم أنه يقوده إليه، فالمروي عليه مستمع وفاعل في آن واحد.
2 – قلب الخطاطة الاستهوائية
لسيميائيات الاستهواء خطاطة مغايرة تمثل الإضافة النوعية في دراسة الاستهواء، وتأكيد انفصاله عن البعدين التداوي والدلالي، حيث» يتعذر على الخطاطة الحكائية المقننة إدراك تنظيم المتوالية الاستهوائية وذلك في نطاق أن مصطلحاتها شيدت لفهم معنى العمل، كما أن الحالة النفسية تستدعي خطاطة مغايرة تسعف على مقاربتها وفهمها. وهذا ما تأتى بفضل المجهود الذي اضطلع به السيميائيون لوضع ترسانة مفاهيمية تخص المجال المتعلق بالأهواء»(13)
ولأن الرواية تقوم على الاسترجاع نجد أن الراوي تنفصل ذاته السردية عن ذاته الهوية، وهو أحد أطراف هذه الخطاطة هاويا ومستهويا، لذا نجده يقوم بعملية التقويم أو المآل مع بداية السرد، والتي « تشخص في المرحلة الأخيرة بوصفها تركيبا للجوانب المتوترة، الفردية والجماعية للهوى. فلما تصل الذات إلى النهاية تكون قد أظهرت لنفسها وللآخرين نتيجة التحول الاستهوائي، تحدث العاطفة حدثا استهوائيا ملاحظا، وقابلا للتقويم والقياس»(14)، وقد تمظهر هذا التقويم من خلال تسمية فاتن بالهاوية التي سقط فيها. ثم تلا ذلك تمظهر لبقية عناصر الخطاطة من ميثاق وكفاية وصوغ للوصول إلى هذه التقويم الذي يتضمن معنى فرديا لفاتن وحدها ومعنى جماعيا للوطن أجمعه.
ويظهر القلب في مرحلة الصوغ حين تتجلى خطابيا من خلال حوارات الطرفين فيأخذ الفعل الهووي بين الطرفين وجهة تناقضية، فعلاقة عمران بها علاقة ملتبسة يحكمه التناقض الذي يحكم شخصيتها، فهو يحبها ويكرهها في آن» أحبها (أعشقها في الحقيقة) وأشفق عليها أكثر فأكثر، أخافها وأكرهها أيضا»(15) ، والحب لديها يرتبط بالنهاية والفناء، لذا كانت تقول له دائما : أحبك موت حبيبي، ويقول» وأنا أحبك أكثر أحبك موت الموت، أحبك موت قلبي(16)، فهذا الصوغ القائم على الربط بين الحب والموت، لا يعبر بالضرورة عن ذروة الانفعال العاطفي، تجاه الموضوع الهووي وكلاهما موضوع للأخر، بقدر ما يعبر عن رغبة في الخلاص والانفعال تابع لآخر سابق عليه. وربط الحب بالموت يجعلهما في فعل هووي واحد تتوجه إليه الذات راضية للخلاص من قيودها وواقعها. إن «الهوى شعور يدفع أو ينزع إلى الفعل. ويعد بمثابة أهلية تمكن من الفعل أي ما يسعف على الانتقال من إرادة الفعل إلى القدرة على الفعل» (17)، لذا نجد أن الفعل الهووي كانت هاوية هي مصدره، بقدومها إلى شقته بعد أن التقيا عند أخته، وذلك في مرحلتها السلفية. حيث يمثل التوتير الذي حدث في اللقاء الأول في طفولتها سيرورة للفعل الهووي تمنحه الانفصال بعد تمام الاتصال داخل الذات الهوية(هاوية). فالتوتير هو « قوة ، حركة تتحدد من خلال انغلاق وانفتاح في علاقتها باستثارة محسوسة ودالة»(18) وهو ما تشكل من خلال فضاء استهوائي عند باب عمران حيث النظرات الصامتة بين الطرفين، ولأن التوتير لا يتمظهر إلا عبر كثافة وامتداد، نجد اللقاء الثاني في شقة أخت عمران لتشير إلى حركات هووية في المستوى العميق، خاصة أنها منذ اللقاء الأول كانت تثير تساؤلاته وربما كانت هي تبحث عنه كما كان يبحث عنها، إلا أن الفعل الهووي لم يتمظهر بعد وإنما هو في طور التكوين، ليأخذ صورة الامتلاك الكامل من كل ذات لمقابلها الهووي.
3 – المعجم الاستهوائي
بعيدا عن المنظور الأخلاقي أوالديني، وبعيدا عما تقوله القواميس يدرس السميائيون معجم الأهواء وفقا لاستعمالتها،» فالوجود الخطابي للأهواء رهين باستعمالاته لذلك لافائدة من مساءلة الصنافات التي قد تكون محكومة برؤية سابقة (دينية، واجتماعية، وأخلاقية). ولا فائدة من الاطمئنان الكلي للقواميس، فالقواميس لاتتكلم إلا من خلال إدراج ممكناتها ضمن ماهو أوسع منها أي الخطاب: إنها منطلق، وليست متنا تاما» (19)، لا وفقا لتصنيفات مسبقة، فيما تظل القواميس منطلقا يرتبط بالتحولات الدلالية التي تشهدها الأسماء، « فالأهواء (الحب، الكراهية، الإيثار، الأَثَرَة، الكَرَم، البخل، التّواضع، الكِبْر، الحِلم، الغِلْظَة،…) هي مواضيع تحدّد كينونة الشخصية، وتحليلها يصبّ في حقل السّيميائية الوصفية الّتي لا تعتبر الإسنادات والقرائن والتّسميات والصفات والحالات والكينونات مجرّد خلفيات ملحقة بالسرد كما تذهب إليه السّيميائية السردية والشعريّات عامّة»(20)، فالمدخل الأول الذي يقود إلى تفجير الطاقة الاستهوائية وتجسيدها في مناطق بعينها تضم ممكناتها تسمية وتعيينا يفصل هذا الهوى عن ذاك… فالتسمية هي الأداة الرئيسة في المفصلة، فخارجها تتساوى الأهواء، وتتداخل فيما بينها لا يمكن خارج المسميات أن نميز بين الإسراف الذي هو إنفاق وفيما لا يلزم، وبين التبذير الذي هو إنفاق فيما لا يلزم فقط»(21) ، كل علم لا يحمل دلالته في ذاته وإنما من خلاله ما هو غيره أو نقيضه، فكل قيمة لا تكتسب أهميتها إلا من نقيضها. كما أن تعدد أسماء ابنة سلوسوف يعبر عن إشكالية خاصة تتعلق بطبيعتها الشخصية على مستوى الخطاب والسرد، فجملة ألقابها منذ الميلاد( فاتن، هاوية، أمة الرحمن ثم جهاد عبد الحق، ذات طبيعة إشكالية) في تشكيل الفعل الهووي ومآله، لأنها تمثل وحدات ليست خالية من التردد أو ذات طابع تقييمي، فيما لا يعتبر تسمية إلا ما كان غير تقييمي من الوحدات وفقا لما ذهب إليه جكليبار» (22)، ذلك أن التسمية لديه هي عمل يتم من خلاله الربط بين شيء وعلامة ربطا مرجعيا يدوم ويجب أن تشفر الوحدة التي يتم بها هذا العمل المرجعي أي أن تحفظ وتسجل في الذاكرة»(23) ، فيما يأخذ التعيين طابع الظرفية في الربط بين الشيء والعلامة، دون وجود عقد سابق، وواضح أن الألقاب المختلفة جملة من الأوصاف وقد تحولت فاتن/ هاوية/ أمة الرحمن، فلألقابها الثلاثة «دلالات على طبقات المعنى الثلاث التى تمثلها، إلى ألعوبة أو أداة فى حلبة صراع جبار بين قوى السلفيين وزعيمهم المنافق »الإمام الهمدانى« وقوى اليسار. وحينما تقيم علاقتها معه فى ما يدعونه ببروفات الفردوس المترع في خيال المتأسلفين بحفلات الجنس، ندخل فى شبكة تناقضات الثورة والمتأسلفين معا. بالصورة التي تكشف لنا عن جنايتهم الفادحة على الثورة، وهم يقودون وقائع الثورة اليمنية إلى حتفها. وترصد لنا كيفية تدمير الإسلامجية وقوى التأسلف والظلام ثورة الربيع العربى فيه» (24)
وهذا ما نلحظه في مسميات الشخصيات خاصة النسائي منها، حيث يجن كل اسمه في إهابه نقيضه على مستوى الدلالة، فالدال اللغوي يقوضه الدال السردي بطرحه لبديله من خلال الحدث، حيث يشير إلى بديل الدال الذي يتمظهر من خلال الأحداث، فنجاة بوصفها دالا لغويا للسلامة، تموت في فرنسا في حادث إرهابي، أما فاتن، فتتعدد مسمياتها حتي يأخذ الدال عدة تمظهرات تكشف عن جملة من التحولات التي تتوازى مع تحولات اليمن، إضافة لتعبيرها عن برنامج هووي متدرج من التوتير إلى المآل، فهي فتنة ثم أمة الرحمن، ثم هاوية، فكل اسم يكتسب دلالته سيمولوجيا من خلال نقيضه الذي يقوم السرد بتمثيله، ومن خلال تحوله إلى آخر، فهاوية بمثابة علامة سيمولوجية، دلالتها ذات بعدين أفقي ورأسي، ولهذا جاءت تسمية عمران لفاتن بالهاوية، فيما تمت تسميتها في المجتمع السلفي بأمة الرحمن، كما اختارت اسميا فيسبوكيا آخر للدفاع والذود عن الدين هو جهاد عبد الحق.
فتنة/ هاوية / أمة الرحمن جهاد عبد الحق هذه المسميات الثلاثة ناهيك عن تعبيرها عن التحولات السياسية والثقافية والمجتمعية تعبر أيضا عن تناقضات الشخصية السلفية، أو كيف يولد السلفي وكيف يعايش تناقضه دون شعور بهذا التناقض، لقد قام هذا التناقض على مستويات السياسة والتدين والرياء، أي أنه يحدق بواقع الشخصية الثقافي والوجودي، فلا يترك نأمة دون أن يتمظهر من خلالها هذا التناقض، ويتم تسويد هذا التناقض على جموع السلفيين ولنضرب أمثلة:
هاوية تمقت زوجها فيما يتحول أبوه إلى الحبيب فهي لا تحدثه عبر الهاتف إلا بحبيبي تناقض أول
هذا في الوقت الذي تخون فيها زوجها وأباه مع عمران / الراوي
تناقض ثان
من النقاب التام يقابله العري التام في شقة عمران
تناقض ثالث
الثورة والتظاهر(فعل حرية) من أجل قضايا تكبيل المرأة تعدد الزوجات (تقييد واستعباد)
تناقض رابع
ويمكننا فهم دلالات ألفاظ مثل حب وزواج وجنس ودين في الرواية من خلال سلسلة من العلاقات الضمنية التي تخفيها البنية الدلالية الأولى، وهي علاقات تحكم في وجودها الفعلي سياقات اجتماعية وثقافية، لا تخبر عن معنى جاهز بل تحدد تحققاته الممكنة ضمن هذه الوضعية أو تلك، فلم ينص الراوي على علاقة زواج بنجاة، رغم ما يعتمل في هذا العلاقة من انسجام إنساني خلاق، لكنه في المقابل نص على زواج هاوية من عمر الإمام محمد الهمداني، رغم ما يعتري هذه العلاقة من تشوه وفعل المحرم الديني والاجتماعي، وهاوية هي الآخرى السلبية المقابلة للنجاة، ويمكننا أن ندرك أبعادها من خلال علاقات التضاد والتناقض، حيث يمكننا أن نعبر عن البنية الأولية للمعنى بالمربع السيميائي التالي:
نجاة تضاد هاوية
تناقض
لانجاة لاموت
فلا شيء يمكن أن يجسد الحضورسوى الغياب، وبعبارة أخرى لكي تحصل الدلالة ويثبت التوتر، فإن الذات الإجرائية ليس لها من حل سوى أن تصنف مقوليا ضياع الموضوع، وبهذا الشرط فقط تستطيع الذات بفضل إدخال المنفصل في المتصل، التعرف على الموضوع، وبدون التناقض فإن التجسيد لن يحدد خصوصية خالصة، ومن ثم تفشل في إبراز الدلالة» سيمائيات الأهواء»(25)
أما اسم عمران الراوي الرئيسي فيجيء خلف دلالته اللغوية المعجمية كل معاني الخراب الروحي والنفسي، وما كان اختيار المروي عليه (ملاك الموت) إلا تعبيرا عن حضور هذا الخراب الشامل، وفي هذه الإطار تحيل عبارات الشخصية إلى خروج المسميات عن سياقها، بل إلى نقيضها، ولم تكن علاقة هاوية بالإمام محمد الهمداني والد زوجها إلا مظهرا من مظاهر هذا التناقض، فالحب عبودية في إطار هذا السياق الذي من شأنه أن يلون كل دال ويمنحه قيمته لا من خلال جوهر مضموني مستقل، وفي سياق آخر نجد أن الدلالة المعجمية لملفوظات الاستهواء تحمل دلالة سيميائية ودلالة سردية، بحيث لا ينفصل البعد الانفعالي عن البعد المعرفي والتداولي انفصالا تاما. ولتوضيح ذلك نتوقف عدة مسميات تمثل قوام فعل الاستهواء من بدئه إلى مآله.
* الفتنة، و»جِماع معنى الفِتنة الابتلاء والامْتِحانُ والاختبار ومن معانيها الجنون والإحراق بالنار، والفِتْنة إعجابُك بالشيء فتَنَه يَفْتتنه فَتْناً وفُتُوناً فهو فاتِنٌ وأَفْتَنَه، والفِتنة الضلال والإِثم والفاتِنُ المُضِل عن الحق والفاتِنُ الشيطان لأَنه يُضِل العِباد»(26) ومن الملاحظ أن المعنى المعجمي جامع لفعل استهوائي يجمع بين الذات وموضوعه، كما أنه يتضمن معنى سلبيا، وهو ذو صيرورة وفاعلية تبدأ من الإعجاب لتنتهي إلى النار، وقد تجسدت مختلف العاني في ابنة سوسلوف، لتمثل مرحلة أولى في الاستهواء، فكانت في بداية طفولتها عند باب عمران حيث تبادلا نظرات صامتة، ومن ثم يأتي مسمى فاتن ليمثل الفعل الهووي واسمه في آن واحد، حيث يمر الطرفان بإعجاب متبادل، لم يفض إلى شيء بسبب سفر عمران إلى فرنسا وارتباطه بنجاة. كما يجسد النظر تمظهرا لانفعال داخلي لا يسمى، تشعره الذات حيال موضوع ما، ناقشه عمران في وعيه فوجده غير مقبول، لفارق السن وظروف السفر، ولقد كانت الفتنة في طور الطفولة والتخلق، وهي ليست مجرد موضوع للاستهواء إنها ذات تتخذ من عمران موضوعا وبصورة أكثر انفعالا واندفاعا.
الجسد الوسيط
يؤدي الجسد محفلا توسطيا بين الإحساسيْن الداخلي والخارجي، ويضمن تفاعل الإنسان مع محيطه، ويجسد حركيا مجموع الأهواء التي تنتاب الإنسان أكانت مفرحة أم محزنة « جسد حاس، مدرك فاعل؛ جسد يعبئ كل الأدوار المتفرقة للذات، في تصلب وقفزة ونقل. جسد باعتباره سدا وتوقفا يقود إلى تجسيد مؤلم أو سعيد للذات» ص368. وتتشخص حركة الجسد خطابيا في شكل آثار تلفظية (ما تجسده التجليات الثقافية وإيحاءاتها إن على المستوى الجماعي (اللغة الجماعية) أو الفردي (اللغة الشخصية)) يمكن أن تخضع لتقويم أخلاقي لتثمينها ( هوى الشجاعة) أو بخسها ( هو البخل). تخص الأهواء كينونة الذات لا فعلها. وحتى عندما تعمل الذات الهوية ( أي عندما تنتقل من ذات الحالة إلى ذات فاعلة)، فهي تكون موجهة وفق جهة الكينونة. ولما يضطلع الجسد بالتوسط بين الحالتين(حالة الأشياء وحالة النفس)، فهو يسهم في إحداث نوع من الانسجام بينهما. وهذا الانسجام يتجلى في توحد هاوية في لحظات العشق مع إخلاصها الديني الزائف وكأن ثمة تطابقا بين التدين الشكلي والجنس المحرم، فهي بجسدها تمارس كليهما دون تفرقة بين ما هو ديني وما هو جنسي، تمارس أمة الرحمن العشق بإخلاص ديني.. تغمض عينيها معظم الوقت، وتهمهم بآيات سرية مع تماوج التوحد.. تستسلم وتمارس عبوديتها بخضوع ديني كلي» (27) ، فكلا الطرفين يرى في الجسد خلاصا لما وصلا إليه من سقوط وضياع عمران بفقد نجاة وفاتن بسقوطها في جب الهمداني وابنه، « كلانا كان بحاجة عضوية مستأصلة، في حياته الثانية، التي رماه فيها قدر غادر»(28)، فقد كان الجنس انتقاما لما وقع فيه الطرفان، ولذا أخذ طابعا عنيفا، بوصفه فعلا تحرريا لا لكسر تابهوات دينية وأخلاقية، ولكن لكسر القيود الكاذبة التي أحيطت بها فاتن، وما تعرضت له من قهر في بيت الهمداني، وانتهاك متواصل لذاتها من قبل أبي الزوج، لذا كانت ترد على كل أمر يأتي عبر الهاتف من زوجها بفعل جسدي أكثر فضحا وجسارة، « في رغبة الانتقام من اتصال زوجها بها…تدعوني لحمل مرايا الشقة ووضعها في أماكن مختلفة من السرير، وذلك لممارسة بعض الأوضاع الغرامية التي كانت تبدو صعبة مستحيلة… تنتقم منه بضراوة، تغمرني بلذتها بعنف، تنتقم، تزداد شهوتها، تنتقم»(29)، فالجنس هنا نوع من الخلاص تبحث في الذات عن ذاتها عن تحررها، وتحققها ووجودها، في مقابل محاولات محوها المستمرة.
* هاوية ومن معانيها المعجمية الهَوى العِشْق يكون في مداخل الخير والشر، ، والهاوية اسم من أسماء جهنم، ومن معانيها السقوط والإسراع»(30)، وهي تعبر عن مآل فعل الاستهواء من خلال عملية تقيم، كما أشرنا كانت استباقية بحكم بنية السرد الاسترجاعية، وجسدت في الوقت ذاته من خلال الجذر اللغوي الفعل الهووي، مثلما تم تمثيله من خلال المسار السردي، للوصول إلى النهاية المحتومة بالانفصال عنها واليأس من نجاتها.
4 – خطاب التقويض
ننظر هنا إلى خطاب الاستهواء ذاته، حيث يمكن للاستهواء والتقويض -خطابيا- أن يمسا نصا خاصا ينتمي إلى جنس أو الجنس نفسه فحسب، حيث يتمثل الاستهواء في نقل السلطة الملحقة بالنص أو الجنس المصدر إلى النص المعيد للاستثمار، وخلافا لذلك فالمحاكاة في التقويض تمكن من تجريد النص أو الجنس المصدر من سلطته ونجد هنا ظاهرة المحاكاة الساخرة للحط من قيمة الأشياء» (31)، وقد تم هذا على مستوى الخطاب وعلى مستوى القصة، حيث سعى الراوي إلى تفكيك بنية النموذج السلفي المؤدلج من خلال تقويضه على مستوى الخطاب وعلى مستوى القصة من خلال نموذج (هاوية)، فقام الراوي بإعادة استثمار بعض ملفوظيات الخطاب الديني يقبل تأويله في اتجاهي الاستهواء أو التقويض، ذلك أن الخطاب المعاد استثماره الذي اختير ليس أي نص من سائر النصوص، بل هو نص تم اختياره لأن ما يحدثه بالضبط من استهواء أو تقويض أساسي لإضفاء المشروعية على النص المستثمر»(32)، ورغم أن كثيرا من عمليات إعادة الاستثمار قد تكون « ملتبسة وقد يقبل تأويلها على أنها استهواء أو تقويض في نفس الوقت»(33)، فإننا يمكن بناء على العمليتين أن نرى فيه تقويضا لصالح أحد الطرفين بناء على التوجه الأيديولوجي للراوي وتحيزاته من جهة في فترات شبابه، أو العكس بناء على نقطة زمنية أبعد من حياته بعد ما شهد من تحولات، وما رآه من مخاطر النفاق الديني وتمظهراته الحياتية والقولية من أجل الاستبداد والظلم، ومن ثم يكن المقصد تقويض هذا النوع من الخطاب، وقد شغل هذا الأمر الكاتب بدءا من المشهد الأول الذي سجله الراوي من خلال منشور فيسبوكي، عن شخصية (الحساني) حيث يشغل الملفوظ المتناقض والعبارة الحوارية بين الحساني الذي يسبُّ من يضربه بالحجارة ورد فعل الأطفال الذين كان الراوي واحدا منهم، يقول الحساني سابَّا لهم: أيري بأمه من جدلنا، تهرع من كل فج عميق كتيبة أطفال تلتف وراءه، وهي تردّ عليه بصوت مشترك، وعلى نفس اللحن الديني، هذه العبارة : صلى الله عليه وسلم» (34)
هذا الحدث الأولي الراسخ في ذاكرة الطفل يتكرر عدة مرات مع اختلاف الصيغ، كما كان مفتاحا لفهم طبيعة التحرك الشعبي وجمود الرؤية وعدم القدرة على الابتكار، وترسيخ لثقافة الموت» كلما زدنا شهيد، يردد من خلفه الثوار: صرنا ثوارا من جديد» في احتفال باذخ بالموت وثقافة التضحية وإبادة الذات. يقول الراوي معلقا « فيلم إباحي… متنفس غرامي للبروليتاريا الرثة، عنابر جنسية للكادحين والمعدمين، وحسن أولئك رفيقا»(35)، « أما مضاجعة الراسخين في العلم وتدريب وتنمية الطلاب مثلي ومثلك… فتفضله في مكان منعزل»(36)، «مملكة الشهوات…سمة العصر هو انتصار الاشتراكية وهزيمة الرأسمالية» صدق الله العظيم»(37) ناهيك عن تسميته للقاءات الجنسية مع هاوية بـ(بروفات الفردوس) إنه يستخدم الخطاب السلفي ذاته الذي لا يخرج عن الأكلشيهات الدينية المعتادة، التي لا تختلف عن أية أيديولوجية، فهو يسخر منها جميعا، كما يقوم بعملية تفريغ للنموذج السلفي من أية مرجعية أخلاقية أو دينية، اللهم إلا مظاهر التأسلم الشكلي من نقاب أو خطاب ديني مكرور، مع ملاحظة أن الراوي لم يطلق على فاتن اسم هاوية إلا بعد أن يئس من تغييرها أو أخذها إلى فرنسا، فهو اسم تال على مستوى الخطاب لكنه فاعل لفعل الهاوية والحرق والقتل على مستوى القصة. إن الراوي يقوم بتقويض بناء الشخصية السلفية وتفكيكها للكشف عن تناقضاتها، فيرصد تحررها معه لدرجة لا يتوقعها سواء على مستوى الملبس أو مستوى التهتك الجنسي ذي الصبغة الانتقامية، يقول ساخرا:» من أن يحصل السلفيون على أمثال هذه الخيوط(السترنج)، أثمة مصانع ملابس داخلية خاصة، تنتقم من نقبهم، هم الذين يقضون اليوم في الانتقام من شيء بآخر؟ أذلك من باب التقشف المحمود الذي ينصحون به أحيانا»(38)
إن الراوي ينقل الشخصية السلفية في تحولاتها من النقيض إلى النقيض، حيث ان دلالة شخصية ابنة سلوسوف تقف على محورين: أفقي يتمثل في تحولاتها عبر الزمان من إيديولوجيا إلى آخرى من إلى اليسار إلى أقصى اليمين، فيما تقف على المحور الرأسي من خلال تناقضاتها داخلية خلال الموقف الفكري الواحد، بحيث أن كل توجه يحمل عوامل نقضه وتناقضه في الوقت نفسه. ولذلك تأخذ علاقاتها بالآخر طباع التحول المكتنز لمتناقضات الفعل الهووي بالجمع بين الشعور ونقيضه، وقد تجسد ذلك في علاقاتها بدءا من فرارها من فضائح الوالدين وصراعاتهم، ثم زواجها من الأمام عمر وعلاقتها المحرمة مع والده الإمام الهمداني، ثم علاقة أخرى جنسية انتقامية، كرد فعل لمختلف التشوهات التي اعترت حياتها. مع الراوي عمران يأخذ الجنس طابعا مظهريا في ألفاظه، شهويا انتقاميا في تحققه، يجني نقائضه بداخله، وإن تغلف بكل كلمات الحب والهيام، يقول عمران» نذوق لذة عنيفة تصر أن نشاهدها معا في المرآة… تنتقم منه بضراوة، تغمرني بلذتها بعنف، تنتقم، تزداد شهوتها، تنتقم» (39) ، ثم يواصل الراوي رؤيته ويقوم بتعميمها، في إيديولوجية مضادة بوضوح لهذا النمط السلفي،» لعل في كل سلفية ينام ذئب جائع للعشق، أخطبوط بسبعين ذراعا، كل ذراع منه حورية عين، ربما ربما»(40)
وتقف علاقة عمران بنجاة في فرنسا على طرف نقيض لتضيف لشخصية ابن سوسولف تناقضا آخر، يظهر جليا في محاولات عمران أن يأخذ هاوية من اليمن إلى فرنسا، ولكن هاوية في مسيراتها المتحولة لا تتوقف إنها تأخذ شكلا جديدا مع كل تحول طارئ على اليمن، وآخر هذه التحولات تحولها مع الثورة اليمينة، وخلعها لنقابها، وجان دارك الثورة وإحدى نجماتها، حتى أن سائق تاكسي ماهى بينها وبين الثورة، في حوار له مع عمران الذي عاد ليعايشها ، حتى أن بروفات الفردوس معها أخذت منحى آخر وطعما آخر، فصارت هاوية تلوك القات وتضع « مكياجا صارخا، وكأنها ثورة لم تكن» (41)، وفي وصف ساخر للقاءات العشق على وقع طلقات الرصاص وموسيقى الانفجارات، التي تملأ صنعاء. وتأخذ طبيعة العلاقة الجسدية بينهما طابع كل مرحلة طرأ على اليمن، بحيث تحول الجنس إلى فعل عبثي ساخر، أكثر من كونه تواصل إنساني حميم.
فيما يمثل مسار حياة عمران بدءا من طفولته ومراهقته الغضة وتعرفه على حاجات الجسد هو مسار الإنسانية في تحولاتها من البدائية إلى العمران، عبر مسار علاقاته مع الأنثى بدءا بزياراته لخيام الدعارة ثم الدكتورة ثم علاقته بهاوية ثم نجاة ثم أخيرا الأنثى الصينية «يانليو»التي تنمحي فيها أية آثار لتوترات جنسية أو علائق جسدية بعيدة عن الإطار الإنساني الرحب الذي يؤمن بإنسانية الإنسان دون تمييز.
إن سيميائية الهوى تقرب وجود علاقة بين الذات وعالم الموضوعات والأشياء وهذه العلاقة قائمة على التواصل أو الانفصال وذلك من خلال إظهار مجموعة من الانفعالات والعواطف والمشاعر والأحاسيس تجاه الموضوع المرغوب فيه أو المرغوب عنه»(42)، وهو ما تمظهر في علاقة عمران بهاوية، لأنه ذو طبيعة خاصة تتضمن في إهابها انفعالات مركبة لا انفعالا واحدا، على نحو ما وجدناه في علاقته بنجاة، ذات الفعل الاستهوائي أحادي الجهة، وفقا لتوجه الراوي المتماهي مع الشخصية.
هوى الغيرة
تتمظهر الغيرة بوصفها» هوى ذاتيا يقتضي أكثر من عامل سيمائيات الأهواء»(43) ، وفي هوى الغيرة يلحظ أن» كل معرفة حول الهوى تخلخل الهوى ذاته وتغذيه»(44) وقد انبثق الفعل الهووي للغيرة من خلال معرفة عمران بطيبعة العلاقة بينها وبين الإمام الهمداني والد زوجها عمر، وقد تمظهر في الخطاب من خلال الوصف، حيث يظهر لدينا الموضوع (هاوية)، الغيور (الراوي عمران)، الغريم ( الإمام الهمداني)
وكلا الطرفين: الغيور والغريم ليس لهما حق شرعي في هاوية، وكلاهما على علاقة جسدية محرمة بها، مع وجود الطرف الشرعي (عمر) تكن له هاوية كراهية منذ أول يوم، لقد انقطعت علاقتها الجنسية المحرمة بالإمام الهمداني، إلا أن سيطرته الفكرية مستمرة، وخضوعها له مستمر، وفي ذلك كسر لنسق الحصرية الذي تقوم عليه الغيرة، « وهذا ما تم من خلال معرفة أهواء الغريم والمحبوب كليهما، وهذا أيضا ما غذى القلق لدى عمران، وفي هذا يمكن أن نتصور أن الغيرة كما ذهب جريماس ليست نتاجا لسيكولوجية فردية(45) إنما نحن أمام ذاتين : ذات عمران المعرفية التي تضغط على ذات عمران الانفعالية، فيما تحول هذا الهوي بعلاقته مع الابن الزوج إلى نوع من التعاطف، يقول عمران مخاطبا نفسه:
« دع شعورك بالوقوع في الفخ وغيرتك ورفضك يتضخم ويحتقن في لاوعيك بصمت حتى تصاب بسكتة قلبية مفاجئة»(46)
« لم أتوقف عن التفكير في غريمي ليل نهار»(47)
زاد هلعي وتقززي من غريمي المرعب طبيني(الزوج الثاني)(48)
« كلما أتذكر اسمه (يعني معظم الوقت) تتصلب شراييني فجأة، يرتفع الضغط في شعيراتي الدموية، يتثلج نخاعي الشوكي، يغلي دماغي، وأشعر أن قرحة ما ستنفجر في مركزه» (49)
ثم ينتقل بالعرض من خلال رؤية هاوية ذاته» رأت فكي وجفوني تتخبط…لاحظت أن كل ألوان قوس قزح عبرت جهي دفعة واحدة، وأن عيني احمرتا كما لو كانتا ستنفجران دما» (50)
لكن الأزمة الاستهوائية تتوقف عند فشل الثورة وما أريق من الدماء، واستمرار تحولات هاوية والسيطرة الفكرية للإمام الهمداني، رغم انتصاره عليه على مستوى السيطرة الجسدية. جعلت من الموضوع )هاوية بالنسبة لعمران ذاتا لأنها قاومت وتمنعت على الذات الهووية، من خلال العوائق التي وضعتها دون خلاصها، وهو ما لخصت دلالته بعبارتها المحورية:إيش أسوي؟ مرضاش» حيث انكسر على أعتابها وجدانه إلى الأبد، ووصل الفعل الهووي بكل تخومه إلى مآله.
هوامش الدراسة
-1 جريماس وفونتاني، سيميائية الأهواء من حالات الأشياء إلى حالات النفس، ترجمة وتقديم سعيد بنكراد،
دار الكتاب الجديد المتحدة، طرابلس، ط1، 2010.
2 آسيا جريوي، البعد الهووي ودوره في حركية الإنجاز دراسة في رواية سيدة المقام لواسيني الأعرج، مجلة المخبر جامعة محمد خضير بسكرة الجزائر2012، ع8، ص39
3 سيمائية الأهواء محمد الداهي ، عالم الفكر عدد 35/ مجلد 3، 2007، ص205
4 حسين خمري، هوى الخطاب، سيمائيات التمشهد وبلاغة الذات، مجلة فصول، ع 81،82 الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012م، ص524
5- جريماس، فونتاني، مرجع سابق، ص86
6 جريماس، فونتاني، السابق، ص159
7 -حسين خمري، مرجع سابق، ص526
8 حبيب عبد الرب سروري،ابنة سوسولف، دار الساقي، ط1 بيروت 2014 ص40
9 جابر عصفور، زمن الرواية، الهيئة المصرية لكتاب ، ط2 القاهرة، 2000، ص236
10 ابنة سوسلوف ص71
11 محمد فكري الجزار، البلاغة والسرد، الهيئة العامة لقصر الثقافة، ط1 القاهرة، 2011، ص256
12 ابنة سوسولوف، ص33
13- تجليات الأهواء في رواية « الضوء الهارب» لمحمد برادة-د.محمد الداهي، http://www.mohamed-dahi.net/
14 محمد الداهي، السابق
15 ابنة سوسلوف ص86
16 ابنة سوسلوف ص87، ص136
17 محمد الداهي، السابق
18 جريماس سيمائيات الاستهواء، مقدمة المترجم، ص32
19 السابق، ص41
20 نزوي سيدي محمّد بن مالك ، سيميائيّة الوصف في رواية »قرّة العين« لجيلالي خلاّص يناير 2013
سيميائيّة الوصف في رواية »قرّة العين« لجيلالي خلاّص يناير 2013
21 جريماس، السابق، ص16
22 باتريك شارودو، ص160
23 باتريك شارودو، معجم تحليل الخطاب، ص، ص159،
24 صبري حافظ http://tahrirnews.com 7/9/2014، ابنة سوسلوف وكيف دمر الإسلامجية أحلام الربيع العربى ج2، والمقال في أكثر من موقع مثل موقع الكاتب حبيب عبد الرب، موقع الحوار متمدين، صحيفة عدن الغد
25 جريماس، السابق، ص88
26 لسان العرب ، مادة فتن
27 ابنة سوسلوف، ص96
28 ابنة سوسلوف، ص96
29 ابنة سوسلوف، ص96
30 لسان العرب، مادة هوا
31 باتريك شارودو دومنيك منغنو، معجم تحليل الخطاب، ص95
32 السابق، ص95
33 السابق، ص95
34 ابنة سوسلوف، ص1
35 ابنة سوسلوف ص26
36 ابنة سوسلوف ص29
37 ابنة سوسلوف ص50
38 ابنة سوسلوف ص85
39 ابنة سوسلوف ص100
40 ابنة سوسلوف، ص101
41 ابنة سوسلوف،177
42 سيمائية الأهواء في الرواية السياسية ، عائشة الدرمكي، فصول ع 87،88 2013،2014 ، ص405
43 جريماس، سيمائيات الاستهواء، ص79
44 جريماس، سيمائيات الاستهواء، ص332
45 جريماس، سيمائيات الاستهواء، ص334
46 ابنة سوسلوف ص128
47ابنة سوسلوف ص129
48 ابنة سوسلوف ص131
49 ابنة سوسلوف، ص146، 147
50 ابنة سوسلوف ص131
محمود فرغلي