في تمهيد قصير سأتحدث عن المراحل التي مثلت الاتجاهات الأساسية في عملية تطور الخطاب النقدي في العصر الحديث , وألقي الضوء على الخطاب النقدي في مسيرته الإبداعية , وصولا إلى تلك المرحلة المتطورة فى نهاية القرن الماضي.
فقد مر النقد الأدبي بعدة مراحل نوجزها فيما يلي:
المرحلة الأولى مرحلة الخطاب النقدي في صورته الأولى
تأتي هذه المرحلة منذ نشأة النقد الأدبي حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريبا, وتركز على دراسة الأسلوب درسا دلاليا لغويا تركيبيا , وتنطلق هذه المرحلة في البلاغة والنقد القديمين من مبدأ المثالي والمنحرف تركيزا على التركيب والدلالة.
والملاحظ أن المستوى المثالي للغة يقصد به المستوى الأول لها أو المستوى (العادي). وهو المستوى الذي استقر في عرف الاستخدام اللغوي لدى مستخدمي اللغة بشكل عام.
وتتسم اللغة المثالية في هذه المرحلة بما يلي:
أنها استقرت على شكلها الحالي المستخدم، فصارت لغة اصطلاحية في أعراف قواعدها وقوانينها الحاكمة. أنها أسبق في استخدامها، وبالتالي فهي أسبق في الوجود .
أنها صارت بقواعدها واستخدامها وسبقها مثالية ؛ حيث وصفت بذلك لأن السبق أعطاها حق الحكم بالمثالية،أما الانحراف اللغوي عن تلك المثالية،فهو يمثل الاستخدام الإبداعي للغة الأدب.
ومن سمات اللغة المنحرفة مايلي:
أنها تتميز بالفردية والاستخدام الخاص، فكما يقول الناقد الدكتور الطاهر أحمد مكي: « كل شاعر يطبع الكلمات والأصوات المتفق عليها بلون جديد وأن ألفاظ الشاعر لا تعطي معنى فحسب , وإنما تثير لونا وطعما ورائحة وظلا وحركة ومزاجا ومواقف وغيرها (1)
إن انحراف اللغة جاء في مرحلة تالية على مثاليتها،فهوإذن مستوى لاحق لمستواها العادي.
اتسام اللغة بالانحراف يأتي قياسا على قواعد اللغة الحاكمة لها في سياقها الأول(المثالي) وقوانينها المنظمة لها.
وفي هذه المرحلة دار الخطاب النقدي حول القضايا التالية : المثالي والمنحرف في الدلالة والتركيب. التقديم والتأخير , الحذف والذكر ,التقدير والتأويل. البناء للمعلوم والبناء للمجهول. النقص عن طريق : الإيجاز,الحذف, الاختصار. الزيادة عن طريق:الإطناب, والتكميل, والتذييل , والتكرير. التصريف، ويشمل: الشخص , العدد , النوع , التعيين. قضايا المطابقة بين العناصر. وتشمل : استخدامات الأفعال , الدلالات الزمنية , التعدي واللزوم , الزيادة للمبالغة في المعنى.
ودرس الانحراف في لغة الأدب , هو درس نقدي لغوي دارت حوله قضايا النقد الأدبي والبلاغة في تلك الفترة، وقد أدى بالنقاد والبلاغيين إلى درس المثالي والمنحرف في الأسلوب دراسة دقيقة .
والحقيقة أن هذه الفكرة «لم تكن غائبة عن الوعى النقدي العربي في عصوره المختلفة وظل الجدل حولها مستمرا وإن كثر واشتد حول أولئك الشعراء الذين ولعوا بالإمعان في الابتداع وأغربوا فيه كأبي تمام والمتنبي» (2)
وقد فطن قدامى النحاة والبلاغيين لفكرة الانحراف فقد نقل حازم القرطاجني(3) عن الخليل بن أحمد الفراهيدي قوله: «الشعراء أمراء الكلام يصرفونه أنى شاءوا, ويجوز لهم مالا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده , ومن تصريف اللفظ وتعقيده , ومد المقصور وقصر الممدود, والجمع بين لغاته, والتفريق بين صفاته, واستخراج ما كلت الألسن عن وصفه ونعته والأذهان عن فهمه وإيضاحه , فيقربون البعيد , ويبعدون القريب ويحتج لهم ولا يحتج عليهم «إذن فقد أباح الخليل للشعراء هذا الخروج اللغوي , وهو انحراف أو عدول عن اللغة المثالية , ولاحظ كثيرون غيره من النحويين والنقاد والبلاغيين ذلك.
المرحلة الثانية : مرحلة الدرس النقدي في ضوء علم اللغه الحديث
وهذه المرحلة بدأت منذ مطلع القرن العشرين وحتى بداية النصف الثاني منه , والملاحظ أن الخطاب النقدي اللغوي في هذه المرحلة بدأ متشابها في شكله العام مع الخطاب في المرحلة السابقة ولكن بمصطلحات جديدة، مثل التوليدية -التحويلية- البنية السطحية – البنية العميقة الخ حيث تكون الصورة اللغوية الظاهرة للنص الإبداعي هي الاستخدام الفردي أو الفني، وتمثل اللغة في هذه المرحلة الاتصاف بالفردية والحداثة والانحرافية، على حين تمثل الصورة الباطنة المستوى العادي الأولى للغة، وهو ما يطلق عليه البنية العميقة التي اتسمت بالسبق والمثالية والاصطلاحية في استخدامها.
ويستطيع المتأمل أن يجد تشابها بين بداية هذه المرحلة والمرحلة السابقة، إلا من تحديث المصطلحات واستخدامها سعيا وراء التطورات المتعاقبة لعلم اللغة الحديث، وتمثل هذه البداية امتدادا للبلاغة القديمة والنقد الأدبي القديم في جزء منهما، غير أن هذه البداية ما لبثت أن تحولت تحولا مغايرا عندما توزع النظام النقدي في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى اتجاهين :
1 – الاتجاه الأول السائد، وهو التركيز على دراسة التراكيب اللغوية وضرورة أن يكون المدخل إلى عالم النص الأدبي مدخلا لغويا، وهو ما يسمى بالاتجاه الداخلي في الدرس الأدبي
2 – الاتجاه الثاني، وهو مايمكن أن يطلق عليه الاتجاه الخارجي، وهو الذي يركز على ما يوجد خارج النص الأدبي مثل : السيرة الذاتية للمبدع، وتاريخه والظروف المحيطة بالنص وصاحبه،وهو مايطلق عليه الموقف اللغوي، وكذلك تأثيرالمجتمع وظروفه على النص.
وظهر الصراع واضحا بين مؤيدي داخل النص ومؤيدي خارجه لفترة إلى أن انتصر أصحاب النقد الداخلي باعتبار أن اللغة هي المادة الخام للعمل الإبداعي.
وتم ذلك من خلال النظر اللغوي الحديث، وهو ما يسمى بالنقد الجديد، ويتكئ هذا الاتجاه على تطوير البلاغة والنقد الأدبي إلى ما أطلق عليه علم الأسلوب اللغوي، وهو يركز على العلاقة البينية بين اللغة والأدب، ويبرز هذا الاتجاه قدرة الناقد على إيضاح تباين لغة الاستخدام اليومي عن لغة الأدب بما ينتج عنها من تفرد الاستخدام ومدى انحرافها عنها في أصل استخدامها مركزا على متابعة ما يحدث من تباين وانحراف من استخدام الكلمة في علاقات جديدة وبناء الجمل بشكل مميز.ودراسة الأساليب التي تؤدى إلى التوكيد أو لفت الانتباه لشيء ما.
ويشير الدكتور. عبد الحكيم راضى(4) إلى تقسيم d.c.freeman دي سي فريمان لهذه الاتجاهات الجديدة في ميدان الأسلوبية اللغوية إلى أنماط ثلاثة، هي:
1- الأسلوب باعتباره انحرافا عن القاعدة.
2- الأسلوب باعتباره توترا أو تواطؤا على قالب تركيبي.
3-الأسلوب باعتباره استغلالا خاصا لممكنات النحو.
وبطبيعة الحال لم ينس هذا الاتجاه معطيات النحو ومدى التزام المبدع بها.، ولم يستبعد هذا الاتجاه درس المعجم الشعري لدى المبدع والحقول الدلالية وارتباط كل ذلك بالمشاعر التي ينتجها النص الأدبي سلبا أو إيجابا، وقد تم كل ذلك في إطار اللغة القياسية (المثالية) واللغه الانحرافية.
تطورت هذه المرحلة في ظل تلك الطفرة الواضحة في نمو الدرس اللغوي على يد العالم الأمريكي تشومسكي وما أطلق عليه النحو التوليدي والتحويلي.
وقد عدت حينئذ هذه النظرية جديدة على الفكر اللغوي في العالم، وأنها ساعدت على أن ينحى النقد الأدب منحى لغويا جديدا من خلال تلك النظرية التي تفرق بين البنية السطحية والبنية العميقة. وفي ظل هذه النظرية يمكن للمبدع أن يستخدم أنماطا خاصة من التوليد والتحويل تظهر هذه الأنماط شخصية المبدع وتفرده عن غيره.
ويمكن أن يلحظ التوافق بين اللغويين والنقاد العرب في مرحلتهم الأولى، والأسلوبين في المرحلة الثانية.، غير أن المتأمل لهذا المشهد النقدي يمكن أن يلحظ التباين بين المرحلتين، وهو أن اللغة المثالية أو الأصلية قبل أن يصيبها الانحراف لا وجود لها في الاستخدام اللغوي في غالب الأحوال وأن الموجود لدينا بالفعل هو تلك اللغة الفنية أو اللغة المنحرفة، وذلك هو الموجود لا غير،هذه اللغة هي الحقيقة، وما عداها لا وجود لها، وتبقى تلك اللغة المثالية من صنع اللغويين والنحاة.
أما القول بالتوليد والتحويل فإن المثالي موجود وكذلك المنحرف؛ حيث يكون للأسلوب بنيات متعددة تسمح بها اللغة، ويمكن استخدام المثالي والمنحرف منها، ويترتب على هذا الفرق فرق آخر يوجد بين المرحلتين، وهو وسيلة تحديد الطريقة التي تحدد المثالي والمنحرف وكيف يتحدد هذا النمط أو المعيار؟ أو كيف تتحدد البداية الأصلية التي ننطلق منها إلي الانحراف؟
اتفق المحدثون الممثلون للمرحلة الثانية على أن الاختيار الأوحد لتحديد ذلك النمط إنما يكون من بين مستويات اللغة العربية المعاصرة في مستواها العادي، وأن يقاس التغير والانحراف في النص الأدبي الى ما يعاصره من الكلام العادي، والملاحظ أن هذا التحديد يتباين عن تحديد البلاغيين والنقاد العرب الذين يلجأ ون الى مستويات لغوية ونحوية قديمة.، ويكون هذا أيضا نقطة اختلاف بين المرحلتين، غير أن الملاحظ أنهما يتلاقيان في بعض الأمور الأخرى التي تؤكد أن المرحلة الثانية مبنية علي الأولى وأنها امتداد لها، وهي فكرة المثالية والانحراف، أو الظاهر والباطن، أو الشكل الغائب والحاضر.
المرحلة الثالثة إرهاصات نحو النص
بدأت هذه المرحلة مع إرهاصات ظهور نحو النص أو علم اللغة النصي، الذي جاء مغايرا للمرحلتين السابقتين.، فقد ظهرت هذه المرحلة مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين علي يد (هاريس)، وتطورت علي يد (فان دايك) الذي يعد مؤسس علم اللغة النصي، والذي انبثق منه نحو النص،الى أن جاء (روبرت دي بوجراند) فوضع الأسس العامة للنظرية في الثمانينات من القرن الماضي، وهنا بدأت مرحلة جديدة متطورة ناتجة عن دراسات لغوية مكثفة، قامت بها المدارس اللغوية الأمريكية والأوروبية لفترة طويلة.(5)
والذي ميز هذا الاتجاه النصي وجعله وسيلة مهمة لتحليل الخطاب النقدي اللغوي أن من أهم ملامح علم اللغة النصي أنه جاء نتاج تفاعل وامتزاج واختلاط بين مجموعة من العلوم المتنوعة، بعضها لغوي مثل النحو والصرف والأصوات والبلاغة، وبعضها غير لغوي مثل الفلسفة والمنطق والتاريخ والجغرافيا وعلم النفس والاجتماع، ومما زاد من قيمته أنه أسس علي تفاعل مجموعة من الثقافات المختلفة التي تنوعت وامتزجت.، مما جعله علما مهما وفعالا في تحليل الخطاب النقدي اللغوي للإبداع الأدبي، وقد ركز الخطاب النقدي اللغوي في نحو النص على المعايير النصية السبعة التي كانت تنضوى تحت بؤرة اهتمام أي باحث يريد الدخول الى نحو النص، وأيضا اهتمام أي ناقد يريد الدخول الى عالم النص الأدبي،و تلك المعايير هي:
1 ـ السبك Cohesion
2 ـ الحبك Coherence
3 ـ القصد Intentianality
4 ـ القبول Acceptabilty
5 ـ الإعلامية Informativity
6 ـ المقامية (الموقفية) Situationality
7 ـ التناص Intertextuality
إذا تتبعنا نحو النص منذ بدايته فإننا سنراه قد ارتبط ارتباطا مباشرا بتحليل الخطاب النقدي وتناول النص الإبداعي، باعتباره بنية كلية لا على أنه جمل تمثل بنى فرعية للنصوص، وقد أدى هذا إلى تطور حقيقي في النظرة إلى النص الأدبي، فالنص الأدبي كل لا يتجزأ وأن محاولة تجزئة أي نص إبداعي ما هي إلا وهم وخيال، ومن هنا اختلف الأمر كثيرا عن نحو الجملة حيث تجتذبه الجملة في النص وهو تناول جزئى، أما كلية النص فقد تركت لنحو النص ومعطياته، ولهذا كان اختلاف التناول منهجيا ؛ حيث كانت طريقة تناول النص عبارة عن تحليل للمفردات وشرحها مع قلة تناول العلاقات العضوية داخل النص. ومن هنا اهتم نحو النص بظواهر تركيبية نصية منها – كما يقول Sowinski – علاقات التماسك النحوي النصي وأبنية التطابق والتقابل والتراكيب المحورية والتراكيب المجتزأة وحالات الحذف والجمل المفسرة والتحويل إلى الضمير والتنويعات التركيبية وتوزيعاتها في نصوص فردية وغيرها من الظواهر التركيبية التي تخرج من الجزء إلى الكل (6) والملاحظ أن هذه المعايير النصية السبعة تتناول النص الإبداعي من زوايا وأبعاد متنوعة، سواء أكانت داخل النص أم خارجه، وهي :
البعد الأول : علاقة النص بالسياق، فهناك سياقات مادية واجتماعية وثقافية ومواقف لغوية ونفسية، ويتمثل هذا البعد في معيار المقامية، وهذا البعد غير نصي ؛ فهو من خارج النص
البعد الثاني : علاقة النص بمجموعة النصوص التي سبقته أيا كان نوعها وحجمها، ويتمثل هذا البعد في معيار : التناص، وهو دراسة علاقة النص بنصوص سابقة تداخلا أو تماسا لفظيا أو معنويا، وهو بعد مرتبط بالنص منطلقا من الداخل إلى الخارج
البعد الثالث :علاقة النص بمبدعه حيث يمثل معيارا 🙁 القصد والإعلامية ) وهذان المعياران من خارج النص0
البعد الرابع : علاقة النص بالمتلقى ويتمثل في معيار: القبول عند متلقى النص وهذا البعد أيضا من خارج النص.
البعد الخامس : العلاقة المفهومية والعلاقة الرصفية بين أجزاء النص، وكما هو واضح فإن هذين المعيارين يركزان على الترابط اللفظي والمعنوي بين أجزاء النص الواحد، وهو الأكثر أهمية في موقفنا هذا ؛ لأنه يتعامل مع المنتج بشكل مباشر، ويتمثل في المعيارين : السبك والحبك.
ومن الواضح أن المعيارين المتصلين بالترابط النصي (السبك والحبك) نالا النصيب الأوفر في الدراسة عند كل من تناول نحو النص أو علم اللغة النصي ؛ حيث كان الاتساق النصي من أهم أهدافهم عند تحليل الخطاب النقدي، ومن هنا شرع «علماء النص يولون التماسك عناية قصوى، ويذكرون أنه خاصية دلالية للخطاب، تعتمد على فهم كل جملة مكونة للنص في علاقتها بما يفهم من الجمل الأخرى ويشرحون العوامل التي يعتمد عليها الترابط «فقد تجسدت أمامهم فائدة الترابط والتلاحم بدءاً بالربط بين المستويات اللغوية المختلفة في النص الواحد، فكان هذا الإصرار من نحاة النص على رفض الفصل بين المستويات اللغوية، ولهذا كان من أهم ملامح نحو النص دراسة الروابط مع التأكيد على المزج بين المستويات اللغوية المختلفة، وكل هذا يؤدي إلى الاتساق الذى يتضح في تلك النظرة الكلية إلى النص.
ومن هنا بحث علم اللغة النصي عن وسائل الترابط واهتم بها كثيرا، فهي القضية الكبرى التي شغلته،واشتركت علوم كثيرة في تحقيق هذا الترابط، ومن هنا تنوعت تلك الوسائل وامتدت إلى علوم كثيرة مثل: البلاغة والنحو والتاريخ والمنطق والفلسفة والاجتماع، بل والثقافة العامة… إلخ.
وعرض النصيون نماذج كثيرة للربط منها:
الوصل التشريكي (بالواو والفاء وثم)
التعارض بالاستدراك (لكن)
المعارضة بالتقابل (لا، بل)
الفصل بالتخيير (أو)
العلة (كي واللام) الإشارة
الظروف (زمانية ومكانية) الضمائر
الشرط المتحقق وغيره، والمستمر وغيره- الغاية (حتى – إلى – أن) الموصول.. إلخ
لكنهم اهتموا في نهاية الأمر بمجموعة من الروابط مثل : إعادة اللفظ – التضام- التعريف- التعريف-الاستبدال- الحذف- الربط الرصفي – الإحالة
وتستحق كل جزئية من هذه الجزئيات دراسة مستقلة، تناولت كثيرا منها في كتاب نحو النص وفي بحث بعنوان : الإحالة في نحو النص –دراسة في الدلالة والوظيفة (7) وقد قام كثير من الباحثين بتطبيق هذه الأفكار على النصوص العربية فظهرت المفارقة التي أكدت أننا عندما استعرنا هذه المناهج بكل تفصيلاتها وأقحمناها على الخطاب العربي فقد تأكد لنا خطأ هذا التطبيق، وظل البحث مستمرا لإيجاد نحو نص يحتويه منهج نصي عربي له ملامح عربية وهوية عربية يراعي ظروف البيئة والسياق والثقافة والمجتمع وكل ما يرتبط بالبيئة العربية.
المرحلة الأخيرة المتطورة، وهي : المرحلة الرابعة :
( نحو نص عربي ملائم )
ارتبطت هذه المرحلة بمجهود مجموعة من النقاد العرب حاولوا إيجاد نحو نص عربي ملائم ليخرجوه من عباءة علم اللغة النصي في صورته الأجنبية، ومن أهم هؤلاء النقاد الدكتور تمام حسان والدكتور سعد مصلوح والدكتور محمد حماسة عبد اللطيف، فلكل منهم محاولاته ومجهوده في هذا الحقل، والمتتبع لهذه القضية يجد أن محاولة الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف هي المحاولة الأقرب إلى التكامل، من خلال هذا التصور الذي يبدو أنه شبه متكامل، إن لم يكن متكاملا بالفعل، ولهذا سيكون التركيز عليها.
منذ بدأت إرهاصات نحو النص في أوروبا وأمريكا في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، ظهرت محاولات تطبيقية جادة لإيجاد نحو نص عربي ملائم يراعي بجزئياته النص العربي والثقافة العربية، وقد بدأت هذه المحاولات الجادة على يد الدكتورتمام حسان في دراساته عن نحو النص(8) وتطبيقاته المفيدة جدا في هذا المجال ثم الدكتور سعد مصلوح الذى حاول تطبيق هذه الفكرة في بحث بعنوان : نحو أجرومية للنص الشعري. دراسة في قصيدة جاهلية(9) وقد بدأ الدكتور سعد مصلوح أكثر ميلا لعدم استخدام منهج نحو النص في شكله الغربي، ولكنه لم يفلت من حصار هذا المنهج ومصطلحاته حيث كانت جدته طاغية وسطوته واضحة في هذا الوقت المبكر نسبيا فقد عرفنا الدكتور سعد مصلوح علي نحو النص، وذلك في بحثه الذي نشره في الكتاب التذكاري عن شيخ المحققين عبد السلام هارون بعنوان البحث : من نحو الجملة إلى نحو النص(10)، وهذا البحث من بواكير البحوث التي عرفت القارئ العربي بنحو النص، وفي بحثه : نحو أجرومية للنص الشعري وضع الدكتور سعد مصلوح في بداية الأمر مجموعة من الأسس والمقولات والإجراءات المنهجية، بدأها بالحديث عن وسائل السبك التي تجعل النص محتفظا بكينونته واستمراريته وجمع هذه الوسائل في مصطلح عام هو : الاعتماد النحوي بما تحمله صفة النحوية من مدلول واسع يقصد بها المستويات الصوتية والنحوية والدلالية والتركيبية، وأشار إلى أن تحقق الاعتماد يتجسد في شبكة هرمية متداخلة من الأنواع هي :
1- الاعتماد في الجملة 2- الاعتماد فيما بين الجمل 3- الاعتماد في الفقرة أو المقطوعة
4- الاعتماد فيما بين الفقرات والمطبوعات 5- الاعتماد في جملة النص
وعند تناوله لمفهوم الحبك أشار إلى أنه يقصد منه تلك الاستمرارية الدلالية المتحققة في عالم النص عن طريق منظومة المفاهيم، والعلاقات الرابطة بين هذه المفاهيم، تناول الدكتور سعد مصلوح النص من هذه المنطلقات فدرس تقسيم النص ومفاتيح هذا التقسيم، ثم درس وسائل السبك في النص، ثم تناول المفاهيم والعلاقات التي تمثل فضاء رحبا للترابط النصي، وأخيرا تناول أزمنة النص الجاهلي. كل هذا في محاولة جادة لاستظهار نحو نص عربي ملائم للقصيدة العربية في العصر الجاهلي.
بعد ذلك وفي صيف عام 1996 م نشر الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف بحثا بعنوان : منهج في التحليل النصي للقصيدة(11) يستطيع المتأمل لهذا العنوان إدراك أن الدكتور حماسة يقدم مقترحا لتحليل القصيدة العربية تحليلا نصيا هدفه فك شفرتها، وقد أعيد نشر هذا البحث في كتابه الإبداع الموازي(12) مع مجموعة من البحوث الأخرى التي تتوزع في الحوار عن هذه القضية بين النظر والتطبيق، حيث تناول فيه المفاهيم والإجراءات والغاية التي تصلنا بهذا المقترح الذي يضعنا أمام نحو نص عربي، وسوف تظهر مقاصد الدكتور حماسة فيما يلي :
المفهوم: مفهوم التحليل عند الدكتور حماسة هو عملية فك البناء لغويا وتركيبيا من أجل إعادة بنائه دلاليا..
الإجراءات: التحليل النصي لابد أن يؤسس على النص نفسه، ولن يصبح النص نصا إلا إذا كان جديلة مضفورة من المفردات والبنى النحوية، هذه الجديلة تؤلف سياقا خاصا بالنص نفسه، ينبث في المرسلة اللغوية كلها.
حيادية الناقد
أشار الدكتور حماسة أيضا إلى بعض الإجراءات للدخول إلى النص، يتصل بعضها بمواصفات الناقد وثقافته وعقيدته ؛ حيث كان يتناول هذه المواصفات ويشير بشكل مباشر إلى ضرورة حيادية الناقد، تلك المواصفات التي ينبغي أن تتجسد في الناقد جسدها فيما يلي:
1) عدم توظيف ثقافة الناقد الخاصة للبحث عما لايوجد داخل النص وعدم إسقاط ثقافته على القصيدة.
2)إذا كان الناقد مذهبيا فلا ينبغي أن ينحاز لما يعتقده، ولا أن يوظفه من قريب أو من بعيد في تفسير النص.
3)إذا كان الناقد تصنيفيا مهتما بتصنيف الشعراء ووصفهم في جداول متنوعة: مثل أن يحكم على الشاعر بأنه وطني أو قومي أو عاطفي أو تقليدي أو حداثي، فلا ينبغي أن يجعل هذا التصنيف في بؤرة اهتمامه، ولا أن يحكم من خلاله على النص الذي يتناوله..
4) بعض النقاد لا يهتمون عند تفسير النص الأدبي إلا بتفسير المفردات الغامضة، فالشعر عندهم هو نثر يضاف إليه الوزن، ومثل هؤلاء النقاد أيضا ينبغي استبعادهم عن التحليل النصي للقصيدة..
5) في نطاق المنهج الأسلوبي الوصفي الذي يعتمد في التحليل على القارئ وتعامله مع النص المنتج من الكاتب لا على الكاتب نفسه، فرق الدكتور حماسة بين عدة مناهج :
المنهج الأول: الأسلوب هو الانحراف، وهذا الاتجاه ينظر للأسلوب على أنه انحراف؛ أي ميل عن معيار أو مفارقة أو عدول أو مجاوزة، ومعظم المتخصصين يستخدمون هذه المصطلحات اليوم، وعن هذا التوجه يؤمن الدكتور حماسه بما أكده جون كوين الذي يرى أن هذا المصطلح لا يحمل إلا معنى سلبيا، واستخدام هذا المصطلح إنما هو حيلة مقصودة لجذب انتباه القارئ، وأوصلنا الدكتور حماسة إلى تحديد الانحراف وتعيينه بناء على تكرار سمة لغوية ما إلى درجة غير عادية، ولو لم تكن في حال انفرادها مختلفة اختلافا قويا عن نمط اللغة المعيارية،كما قال الدكتور شكرى عياد.
ثم أشار الدكتور حماسة إلى تحديد الانحراف المقبول في النظرية الأسلوبية عند(برند شبلنر) في كتابه (علم اللغة والدراسات الأدبية) حيث تناول أنواعه الخمسة، وهي:
1- الانحرافات الموضعية أو الشاملة، فالموضعية مثل الاستعارة، والشاملة مثل تردد وحدة لغوية معينة بكثرة لافتة للنظر أو بقلة لافتة للنظر لغرض ما.0
2- انحرافات ذات صلة بنظام القواعد المعيارية وهي إما سلبية أو إيجابية، ولا ينظر للسلبية فيها على أنها تضيف أو تقييد للمعيار، أما الانحرافات الإيجابية فإنها تقدم قواعد إضافية لتقييد المعيار وتحديده.0
3- انحرافات في ضوء النظام اللغوي، وتصنف على ضوء صلة المعيار بالنص الذي هو مجال التحليل.
4- انحرافات تصنف بناءعلى المستوى اللغوي الذي تحدث فيه خطيا وكتابيا وصرفيا ودلاليا
5- انحرافات تميز بناء على أسس أخرى يراعيها الدارس لأسلوب النص..
المنهج الثاني : الأسلوب اختيار وانتقاء، ينطلق منهج الدكتور حماسة من أن الأسلوب اختيار وانتقاء، وليس انحرافا، فالاختيار يتم من بين قائمة الاحتمالات المتاحة في اللغة، وقد ناقش الدكتور حماسة فكرة الاختيار والانحراف وتوصل إلى أن الأسلوبية القائمة على هذه الفكرة لم تستطع أن تدحض الاعتراض الأساسي التالي:
ليس كل اختيار أسلوبا، وليس كل ارتفاع في نسبة إخبار بلاغ ما أسلوبا، وليس كل انحراف أو عدول ما أسلوبا، وأن هذه النظرية ليست العصا السحرية لكشف الأساليب وقياس قيمتها الجمالية قياسا ثابتا، كما قال جورج مونان في هذه القضية.
المنهج الثالث: الأسلوب هو الإحصاء، فقد انتقد الدكتور محمد حماسة الدراسات الأسلوبية القائمة على الإحصاء ؛ حيث يقوم أصحاب هذا الاتجاه بالتعامل مع جانب واحد من جوانب النص كإحصاء المفرادات وحدها أو أنواع الأنظمة النحوية وحدها، ويحولون الأسلوبية كما يقول الدكتور حماسة إلى أسلوبية جافة، فهم لايحققون إيضاحا ولا إضاءة للنص المدروس. غير أن الدكتور حماسة كان موضوعيا، ولم يرفض الأسلوبية مطلقا، لكنه أشار إلى الجانب الإيجابي فيها في قوله عن هذا الاتجاه (13) بأن فيه بعض الأسس المفيدة التي يمكن توظيفها، وأهم هذه الأسس أنه ينظر الى النص بوصفه كيانا مستقلا، ويبتعد عما كان شائعا في الدراسة الأدبية من تتبع مصادر الأفكار وقضايا التأثير والتأثر والاهتمام بالدلالات السياسية والاجتماعية، ولا يهتم إلا بالعمل الأدبي نفسه، بوصفه بنية مستقلة، تحمل في تضاعيفها مفاتيح حل رموزها جميعا من خلال تكوينها الخاص، على اعتبار أن الأدب فن لغوى قبل كل شيء.
الغاية: الغاية من التحليل النصي للقصيدة محاولة فهمها وتفسيرها من خلال مكوناتها، بصرف النظر عن الغرض الذى أنشئت من أجله أو المناسبة التي لابست إنشاءها، والذي يساعد على الدخول في عالم القصيدة ليس هو معرفة غرضها أو مناسبة إنشائها، بل هو إضاءتها وكشف أسرارها اللغوية، وتفسير نظام بنائها وطريقة تركيبها وإدراك العلاقات فيها وبيان الوجوه الممكنة للنص، ولا يتم هذا النوع من التحليل النصي إلا بالاعتماد على المادة نفسها التي تكون منها النص الشعري.
والملاحظ أن منهج الدكتور حماسة لا يعول كثيرا على ما هو خارج النص، فلا يهتم بمعرفة غرض القصيدة ولا بمناسبة إنشائها، وبالتالي لا يهتم في هذا المقام بالسيرة الذاتية للمبدع ولا بحياته الشخصية، ومن هنا فإن تفسير النص الشعري والولوج إلى فضاءاته ينبغي أن يكون من خلال اللغة وطريقة بناء النص، والوسائل الفنية المستخدمة في هذا البناء.
التصور المقترح
بعد هذا العرض التمهيدي الذي شمل المفهوم والإجراءات والغاية «انتقل الدكتور حماسة إلى وضع تصوره المقترح للتحليل النصي المبني على رؤية عربية واضحة، ظهرت في مجموعة من المرتكزات والأسس (14) تظهر فيما يلي :
1 -المجموعة الأولى :تتصل بالتراث العربي القديم.
2- المجموعة الثانية : تتصل بالدرس النقدى الحديث على أن يحتفي بالنسيج العربيللنص الأدبي.
3 – المجموعة الثالثة :تتصل بالأفكار الوافدة من الغرب، وإن كان بعضها كالعضو الغريب المزروع في الجسم الإنساني «إلا أنه يمكن الاستفادة من بعضها -كما قال د حماسة- بشرط وضوح الشخصية الثقافية وتميزها واستقلالها، فالثقافات ذات الشخصية المستقلة يتجاوب بعضهامع بعض، وتفيد كل منهامن الأخرى، دون حساسية أوعقدة الإحساس بالنقص أوالتعالي.
وقد حلل الدكتور حماسة تلك المرتكزات على النحو التالي:
المجموعة الأولى : ما يتصل بالتراث النحوي:
1- النحو، :أشار الدكتور محمد حماسة إلى الإفادة من النحو باعتباره نحوا تفسيريا لا نحوا تعليميا والذي يكشف عن البني العميقة التي تعطى الجملة معناها، فالنحو–كما قدمه علماؤنا الأوائل-علم نصي لأنه يتعامل مع التركيب.0
2 – الحديث حول إعجاز القرآن الكريم ؛ حيث أشار القدامى إلى أن الإعجاز يكمن في نظمه وتركيبه،وفي دلائل الإعجاز ما يدل على عبقرية عبد القاهر الجرجاني في كلامه عن نظرية النظم الذي اعتمد فيهاعلى النحو، ويمكن الاستفادة من هذه النظرية –كما يشير د حماسة – مع تطور النظرة إليها في سياق النص الكلى وبيان تفاعل العلاقات في السياق الواحد.
المجموعتان الثانية والثالثة : المرتكزات المعاصرة والوافدة وهي :
1- أولا : المرتكزات المتمثلة في الدعوة إلى توجيه النقد في الأدب العربي إلى وجهة لغوية عن طريق النقد التطبيقى ؛ حيث تكون القاعدة الأساسية للنقد عندهم هي النص، لا بيوجرافيا الكاتب ولا تاريخ عصره، وفي هذه الحالة هي أقرب إلى علم اللغة.0
2- ثانيا، تتمثل في الاتجاه الأسلوبي، وهي أيضا تعتمد على النص نفسه، وتنطلق من إحصاء بعض السمات الخاصة في النص، شريطة أن تكون معبرة عن نص بعينه،وأشار د حماسة إلى عيوب هذا الاتجاه وهي :
أ- إهماله جانب السياق، وهو جانب مهم.0
ب- إغراق بعض الأسلوبيين في مصطلحات غامضة وغير واضحة.
ج- استعمالهم رسوما وأشكالا معقدة، لا تضيء العمل بقدر ما تعقد السبيل إلى فهمه.
3- ثالثا : توظيف بعض منجزات علم اللغة الحديث؛ حيث تقدم البحث اللغوي على يد فرناند دي سوسير الذى طور المناهج اللغوية والنقدية، تلك المناهج التي تعنى ببنية النص ذاته وبمعايير بنائه، وقد كانت جهود سوسير في تطور علم اللغة الحديث الأب الشرعي للأسلوبية الحديثة، فقد تحول النقاد في عملهم إلى علم يقترب من الضبط،بدلا من الانطباعية والأحكام الذاتية.
معالم المنهج: أشار د حماسة إلى مجموعة من المعالم المهمة التي تمثل مبادئ أساسية لهذا المنهج المقترح، تلك المعالم هي :
1- النص بنية كلية متكاملة، تتفاعل أجزاؤه وتتداخل، ولا يغنى جزء منه عن جزء آخر.
2- النص الواحد تحكمه علاقات لغوية ودلالية، تعمل على تماسكه وترابط أجزائه،وعلى من يتصدى لتفسير النص ضرورة الاستعانة بهذه العلاقات بنوعيها اللغوي والدلالي.
3- النص عبارة عن وحدة دلالية واحدة،ولا بد من الاعتماد على القصيدة وحدها في تفسير النص، دون اعتبار لما هو خارج النص.
وفي هذه الجزئية أشار د حماسة إلى أن السياق نوعان :
الأول سياق لغوي
والثاني سياق حالي
أما السياق اللغوي، فهو موجود في النص دائما بوصفه نصا واحدا متماسكا.
وأما السياق الحالي، فهو الظروف والملابسات المحيطة بالنص،وهو على أحد أمرين :
أ-ما يتضمنه سياق القصيدة اللغوي، فهو إذن سياق لغوي، ويمكن توظيفه في تفسير النص
ب- سياق آخر لا يتضمنه سياق القصيدة اللغوي ولا يشير إليه، وفي هذه الحالة فإن بناء القصيدة لا يحتاج إليه، ولا يمكن الاستفادة منه في تحليل بنية النص.
وقد أجاب الدكتور محمد حماسة عن سؤال لم يطرحه هو، ولكن طرحه كان واجبا؛ لأن أى متابع لهذا المقترح لابد أن يضع هذا السؤال في الاعتبار، هذا السؤال هو :
هل يستطيع محلل الخطاب النقدى أن يدخل على أى نص بمفاتيح خطابية واحدة وأدوات واحدة، تتشابه في التناول ؟ أو بصيغة أخرى للسؤال هي : هل يكون المدخل إلى النصوص كلها بطريقة واحدة ؟
يبدو أن الدكتور محمد حماسة أحس بأن سؤالا كهذا سوف يطرح فأجاب قائلا:
«ينبغى أن تدرس كل قصيدة على حدة، وتفسر وحدها في ضوء معطياتها»(15)، وما يحكم به على نص لا يحكم به على نص آخر، وما يقال عن شاعر معين يصبح عديم الجدوى والفائدة إذا كان غير مؤسس على دراسة كل قصيدة وحدها، وأن لكل قصيدة ما يطلق عليه( المرتكز الضوئي) الذى يكشف العلاقات ويوجهها في القصيدة، وهذا المرتكز الضوئي عبارة عن تركيب لغوى وارد في القصيدة تتمحور فيه ذروة القصيدة التي يكون ما قبلها مفضيا إليها، وما بعدها ناتجا عنها أو تفريعا عليها.
ولهذا جمع الدكتور حماسة خبرته في الجزء الأخير من كتابه الإبداع الموازي(16)،وأشار إلى ضرورة التسلح بمجموعة من مفاتيح النص الشعري. وتلك المفاتيح تشمل أسس المنهج المقترح، حيث تناول كيفية الدخول إلى النص الشعري، وكانت هذه هي الجزئية الأخيرة من هذا المنهج،وهذا يدل على أنه يصنع ترابطا بين أجزاء كتابه، وكأن لسان حاله يقول :يستطيع المبدع أن يصنع ربطا بين كل جزئيات القضية الواحدة إذا تناولها، لا في الإطار العملى فقط، بل في إطارها النظرى أيضا، وتلك المفاتيح هي :
1- لا توجد طريقة واحدة يمكن الأخذ بها والاعتماد عليها في الدخول إلى النص الشعري؛ لأن كل نص يمتلك وسائل خاصة به، فالشعر فيه خاصية الوزن وفيه أنماط التركيب المتماثلة وفيه الخصائص الأسلوبية للجنس كله من جانب وللشاعر الواحد من جانب آخر وللعصر الواحد، ومن هنا يجب البحث دائما عن السمة الخاصة بالنص نفسه.
2- من هذه المفاتيح المهمة التي قد تفيد في بعض النصوص «حركة الضمائر على سطح النص» وتنوعها وتحولها أحيانا، واحتواء بعضها للبعض الآخر وما ينتج عن كل ذلك من حركات دلالية في النص نفسه تعد انعكاسا لحركة الضمائر.
3 – من هذه المفاتيح ما يطلق عليه «الجملة المحورية» أو جملة الانطلاق في نمو النص وحركة الدلالة فيه، وقد تتنوع هذه الجملة بتنوع النصوص نفسها، ولعل هذا قريب مما أطلق عليه الدكتور حماسة (المرتكز الضوئي) وهو ما يمكن أن يطلق عليه الذروة الإبلاغية وكأنه الغاية التي تسعى القصيدة إلى إبلاغها.
والفرق بين المرتكز الضوئى والجملة المحورية أن الأول جانب دلالي والثانية جانب تعبيري، ولا شك أن الجانب التعبيري أوضح من الجانب الدلالي، ولذلك قد يختلف الموقف من قارئ لآخر في تحديد المرتكز الضوئي في القصيدة، ولا يكاد يكون هناك اختلاف في الجملة المحورية فيها.
4- من تلك المفاتيح أيضا ما يمكن تلمسه في القصيدة من الوسائل الأسلوبية الخاصة بها، فلكل نص وسائله الأسلوبية التي تخصه هو، وقد يكون بعضها موجودا في نصوص أخرى، ولكنها في النص الواحد تمثل ملمحا مميزا.0
5- من هذه المفاتيح أيضا ظاهرة التكرار الذي يأخذ أشكالا متنوعة ومنها: التكرار الصوتي والتكرار الصرفي والتكرار التركيبي والتكرار الجملي وتكرار البنية العميقة للصور؛ بحيث تختلف الصور في مكوناتها، ولكنها في عمقها تأخذ الاتجاه نفسه.
6- من هذه المفاتيح توظيف نظرية الحقول الدلالية في النص، فبعض المفردات تنتمى إلى حقل دلالي واحد أو متقارب أو متضاد، وغير ذلك مما يكسب التركيب والسياق في النص معاني مختلفة تؤدي إلى تماسك النص وبنائه من جانب، وإلى إنتاج الدلالة من جانب آخر والدكتورحماسة قدم في هذا المقترح صورة، إن لم تكن متكاملة، فهي شبه كاملة لتصور نحو نص عربي، يمكن توظيف معطياته في الخطاب الأدبي، وما قدمه يمكن القول عنه أنه يمثل نظرية عربية من الواقع، والملاحظ أنه لم يتأثر بالمصطلحات الأجنبية، لكنه وضع مصطلحات عربية لها عمقها ودقتها وكيانها مثل: المرتكز الضوئي والجملة المحورية، بل إن التصور الذي طرحه فيه جدة وعمق، ففي تخيله أننا.لا نستطيع أن نمسك بطائر الفن المحلق، وإنما نحاول الاقتراب منه ليمكننا وصف تناسق ريشه الجميل، وهكذا يكون النص كطائر الفن المحلق.
وأرى – في النهاية – ضرورة تقديم تلك الملاحظات على هذا التصور الذي يمثل مشروعا أدبيا للدكتور محمد حماسة عبد اللطيف , وتلك الملاحظات هي :
1 = انطلق الدكتور حماسة إلى تحليل النص الأدبي من النحو في تناول متميز فتح به , مغاليق النص من خلال رصده لمعطيات البناء النحوي, بادئا بتحليل هذا البناء على مستوى الجملة أولا, ثم على مستوى النص كله ثانيا , وهذا ماجعله يعتمد على النظريات التراثية المفيدة التي تعتمد هذا المنهج النحوى ,وذلك مثل النظرية النصية التي وضعهاعبد القاهر الجرجانى , وعرفت بنظرية النظم حيث كان سر استمرارها,هو اعتمادها على البناء النحوى, بما يضمه ويحتويه من مفردات تضيء البناء النحوي, والنحو هو الركيزة الأساسية للمعن.
2- استخدم الدكتور حماسة مصطلحات وعبارات وجملا خاصة به ليس مسبوقا إليها , وتدل على تفرده بها, من أمثال ذلك : المرتكز الضوئي-السليقة النصية – الذروة الإبلاغية – الجملة المحورية – جملة الانطلاق – حركة الضمائر على سطح النص – النحو التفسيري – القصيدة هي طائر الفن المحلق لانستطيع إمساكه، وإنما نحاول الاقتراب منه ليمكننا وصف ريشه الجميل , كل هذا ورد في كتاب الإبداع الموازي في مواضع متفرقة من هذا الكتاب , ومن أمثلة ماورد في كتبه الأخرى ,مدللا بذلك على اتساق الفكر ووضوح المشروع لديه : البؤرة الضوئية ( 17 ) شعر البيت بديلا من الشعر الحر أو شعر التفعيلة (18) وهذه نماذج من هذا المشروع.
3= جاء المشروع عربيا خالصا , مازجا بين الأفكار النقدية القديمة والحديثة والوافدة مزجا كاملا بحيث لانستطيع أن نفصل بين تلك الأفكار المتماسكة التي يأخذ بعضها بزمام بعض.
4 = عدم استخدامه للمصطلحات الأجنبية التي تشيع في نحو النص , مع استفادته من هذا النحو وتوظيفه لآراء بعض نحاة أوروبا وأمريكا , ممن ذكر آراءهم التي تخدم النص العربي
5= آمن – وهو على حق – بأن المدخل إلى النص ينبغي أن يكون مدخلا لغويا فمادة النص هي اللغة , ولهذا استبعد كل ما هو خارج النص , إلا إذا كان متصلا ببنيته وبيئته وسياقه اللغوي , ولهذا لم يعول كثيرا على المقامية والإعلامية والقصد , مما شاع كثيرا في نحو النص , وهو من خارج النص الإبداعى.
6= توظيف الأفكار الوافدة الواردة في نحو النص , وخاصة مايتلاءم ويتوافق مع النص العربي ,فلم يأت بتلك الأفكار لمجرد عرضها ولم يذكرها إلا إذا كانت مفيدة صالحة للتطبيق على النص العربي , غير مناوئة للبيئة العربية وثقافتها.
7= أكد الدكتور حماسة أنه وضع منهجا قابلا للتطبيق , عندما قام بتطبيق هذا المنهج الذى اقترحه على مجموعة من النصوص القديمة والحديثة.
هوامش البحث
1- الشعر العربي المعاصر- روائعه ومدخل لقراءته ص 101 «.
2- مفهوم العدول في البلاغة العربية للدكتور السعيد الباز، مجلة كلية دار العلوم العدد38 ص 128
3- في كتابه منهاج البلغاء وسراج الأدباء ص 143، 144
4- في كتابه : نظرية اللغة في النقد العربي ص 481
5- نحو النص – اتجاه جديد في الدرس النحوي د أحمد عفيفي ص 11
6- ( اللغة والإبداع الأدبي – د محمد العبد ص 33 )
7- كتاب نحو النص المشار إليه في هامش رقم 5 أما عن بحث الإحالة فقد نشر في كتاب المؤتمرالذي أقامته كلية دار العلوم جامعة القاهرة بعنوان : بين نحو الجملة ونحو النص، فبراير 2005
8- انظر كتاب : البيان في روائع القرآن فقد قدم الدكتور تمام حسان جموعة من التطبيقات الجيدة في هذا المجال .
9 – انظر مجلة فصول – المجلد العاشر – العددان الأول والثاني – يوليو – أغسطس 1991 م
10 – الكتاب التذكاري عن شيخ المحققين عبد السلام هارون صادر من قسم اللغة العربية بجامعة الكويت عام 1989/1990 م وكان عنوان البحث : من نحو الجملة إلى نحو النص
11- مجلة فصول العدد الثاني من المجلد الخامس عشر عام 1996 م البحث بعنوان : منهج في التحليل النصي للقصيدة للدكتور محمد حماسة عبد اللطيف.
12- انظر كتاب الإبداع الموازي ص 15 وما بعدها.
13- كتاب الإبداع الموازي ص 28
14 – كتاب الإبداع الموازي ص 29 وما بعدها
15 – كتاب الإبداع الموازى ص 38
16- ص 177 وما بعدها
17 ظواهر نحوية في الشعر الحر للدكتور محمد حماسة ص 47
18 اللغة وبناء الشعر للدكتور محمد حماسة ص 196
المصادر والمراجع
1- الإبداع الموازي. التحليل النصي للشعر – د محمد حماسة عبد اللطيف – دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع –القاهرة – 2001 م
2- الإحالة في نحو النص دراسة في المفهوم والوظيفة – دأحمد عفيفي – بحث منشور في كتاب المؤتمر الذي أقامته كلية دار العلوم جامعة القاهرة بعنوان : بين نحو الجملة ونحو النص فبراير 2005 م
3- البيان في روائع القرآن – دراسة لغوية وأسلوبية للنص القرآني د تمام حسان – عالم الكتب –القاهرة 1993 م
4- الشعر العربي المعاصر –روائعه ومدخل لقراءته – د الطاهر أحمد مكى – دار المعارف – ط 1 عام 1980 م
5- ظواهر نحوية في الشعر الحر – دراسة نصية في شعر صلاح عبد الصبور– د محمد حماسة عبد اللطيف – مكتبة الخانجي – القاهرة 1990م
6- اللغة والإبداع الأدبي – دار الفكر للدراسة والنشر والتوزيع – القاهرة – ط 1 – 1989م
7- اللغة وبناء الشعر – د محمد حماسة عبد اللطيف – دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة – 2001م
8- مفهوم العدول في البلاغة العربية في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة – د السعيد أحمد الحسيني الباز – بحث منشور في مجلة كلية دار العلوم جامعة القاهرة – العدد 38 عام 2006م
9- من نحو الجملة إلى نحو النص – د سعد مصلوح – بحث منشور في الكتاب التذكاري عن شيخ المحققين عبد السلام هارون صادر من قسم اللغة العربية بجامعة الكويت عام 1989/1990 م
10- منهاج البلغاء وسراج الأدباء – حازم القرطاجني – تقديم وتحقيق محمد الحبيب بن الخواجة – دار الغرب الإسلامي – بيروت – لبنان – ط 3 – 1986 م
11 – منهج في التحليل النصى للقصيدة – د محمد حماسة عبد اللطيف –
مجلة فصول العدد الثانى من المجلد الخامس عشر عام 1996 م
12- نحو أجرومية للنص الشعري – دراسة في قصيدة جاهلية – مجلة فصول – المجلد العاشر – العددان الأول والثانى – يوليو – أغسطس 1991 م
13- نحو النص اتجاه جديد في الدرس النحوي –د أحمد عفيفي – مكتبة زهراء الشرق – القاهرة 2001 م
14- نظرية اللغة في النقد العربي – د عبد الحكيم راضي– مكتبة الخانجي القاهرة 1980 م
أحمـــد عفيفـي باحث واكاديمي من مصر