خميس بن راشد العدوي
«واقع البحث المعرفي».. هو بحث في البحث، ويمثّل البحث في تاريخ الأفكار وتطورها. وهذا توجه نفتقده في السلطنة، فالبحث الذي نشهده عموماً يؤرخ للأحداث والأشخاص وليس للأفكار، والمقال لا يذهب بعيداً عن هذا؛ لأن واقع حركة الكتابة التأريخية لدينا تفرض نفسها، لكن لا مناصَ من تحريك الحجارة كما يقال، أي إن دراسة واقع البحث المعرفي هو تأريخ لواقعنا الفكري، ونتائجه يرجى منها أن تدفع بالمعرفة إلى الأفضل، وهو كذلك خطوة للوعي بحركة الأفكار ومدى انتشارها في الدولة الحديثة بالسلطنة، فمعرفة موضع أقلامنا الآن ضرورية للانتقال إلى التحليل ووضع المعايير لتقدير المنجز، والاستفادة منه؛ خاصة في صنع القرار؛ ففي السلطنة لا نملك كثيراً من هذه المعايير، والسبب بنظري يعود إلى:
– غياب التاريخ العام للمنجز المعرفي.
– الضعف في جمع الوثائق وحفظها وتصنيفها، وإتاحتها للبحث المعرفي، والقائم محدود جداً، ويتحرك ببطء.
– غياب مراكز للدراسات الحضارية والثقافية، والموجود منها أكاديمي لأعماله البحثية الخاصة.
المقال.. يتتبع تأريخياً حركة إنتاج البحث المعرفي من واقع التجربة والملاحظات الشخصية، ليعطي صورة عامة عن هذا المنجز.
غياب الوثيقة
الملف.. الذي تقدمه مجلة مهمّ، للاستفادة من معطيات الماضي؛ للسير بالمجتمع نحو غدٍ معرفي وبحثي أفضل، وهذا من دور الصحافة الثقافية، فحتى الآن -بحد علمي- لا يوجد رصد معرفيّ للخمسين سنة الماضية بالسلطنة، اللهم إلا أشلاء ممزعة، وها هي الوثائق ومصادر المعرفة تتآكل يوماً إثر يوم، وما نجده اليوم قد لا نجده غداً، وهذه مشكلة حقيقيّة في واقعنا العماني، فلا نملك مؤسّسات مقتدرة على حفظ الوثائق المعرفيّة، التي يجب إتاحتها للباحثين في كل وقت، ولمختلف المجالات، باستثناء مؤسسات لا تتجاوز أصابع اليد، لم تتمكن في جمع وثائق المرحلة الماضية إلا اليسير منها، رغم توفر الأدوات العلمية والتقنية المذهلة في هذا العصر، والسؤال: أين المشكلة؟.
لا أملك الإجابة، فالجواب بذاته يجب أن يخضع للبحث العلمي، الذي نفتقده في ساحتنا الثقافية، وإن وجد في المؤسسات الأكاديمية فهو مفعّل في حقولها، وكثير من وثائقنا التي نحتاجها في البحث الموضوعي طواها الزمن، وما بقي فيحتاج إلى جهد جهيد، نصرف فيه جزءاً من حياتنا، كان من الأولى صرفه في التحليل والدراسة وتقديم النتائج والبناء المعرفي، هذا واقع قائم، ولا يكاد تجد باحثاً لا يشتكي من غياب الوثائق، وأقصد وثائق الدولة الحديثة، فكيف لو تحدثنا عن عقود أو قرون سقطت عنا في غيابات الجب؟! ويكفي أن أذكر مثالاً واحداً عانيت فيه، فقد قررت في ديسمبر الماضي أن أجمع أعداد مجلة «الوحي» الصادرة خلال الفترة (1975-1979م) عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، فحدّدت شهراً لجمع الأعداد، ريثما أبدأ بدراستها وتحليلها، التي منّيت نفسي بأن أصدر الدراسة هذا العام، فتفاجأت بأن أعداد المجلة لا توجد في أية مؤسسة بالسلطنة، وبعدما حفيت أقدامي وجدت أعداداً متفرقة، بلغت حتى الآن حوالي نصف مجموع أعدادها، وبعضها فقدت منه صفحات. والمجلة كانت تصدرها مؤسسة حكومية، وترتكز عليها سياسة الدولة حينها، لمواجهة الفكر الشيوعي؛ أكثر الأفكار راديكالية واجهها العالم حينذاك، الذي لم يكن عابراً، وإنما كان مؤثراً لدرجة أن تشن الدولة تجاهه حرباً عسكرية امتدت عشر سنوات، اشتركت فيها قوى محلية وعالمية من الطرفين. فدراسة المجلة وتحليلها هو دراسة لجانب من تأريخنا المعرفي بأوجهه المختلفة: الاجتماعي والديني والسياسي.
الوحدة التاريخية
على مستوى الوحدة التاريخية -أي دراسة حقبة زمنية من تأريخنا المعرفي- فتأتي أهمية الموضوع أنه يدرس تجربة حقبة مترابطة ومكتملة، ولا أقصد باكتمالها عدم وجد نقص بها في أيٍّ من جوانبها، وإنما هي مكتملة من حيث إن الزمن كان مواتياً لها بأن تقدّم الدولة فيه كل ما تستطيع، بغض النظر عن الاكتمال والقصور في مفرداتها، فهي لو استمرت زمناً آخر فلن تقدم أكثر مما قدمته. وبنظري.. إن الوحدة التأريخية للدولة تساوي جيلاً من البشر؛ تقديره بأربعين سنة، بحيث إن الزيادة فيها تكرار يولِّد الجمود. وبالإمكان تقسيمها إلى أربع مراحل: النشأة والتأسيس، التقليد والاقتباس، التأصيل والإبداع، النقد والمراجعة، لتبدأ وحدة جديدة من عمر الدولة. ولذلك فدراسة هذه الوحدة؛ تمكنّنا من تتبع مراحل البحث المعرفي بما يوازي مراحل الدولة ذاتها.
فعُمان تحتاج لدراسة حالتها المعرفية خلال الخمسين سنة الماضية؛ لأنها مرحلة تأسيسية، ولأنها لم تُدرَس، والأهم من الدراسة هو البحث عن مصادر المعلومات، وحفظ الوثائق وتوفيرها، وهذا ما سعيت إليه، عندما اقترحت عام 2015م بعد انتقالي للمنتدى الأدبي، ضمن رؤية شاملة قدمتها لتطوير المنتدى، بأن ننشئ «دائرة مصادر المعلومات»، لتقوم بالبحث عن وثائق المعرفة العمانية؛ لاسيما المتعلقة بالثقافة والحضارة، و«دائرة البحث الثقافي»؛ ليتمكن الباحثون من القيام بدراسات معرفية معمقة في العناصر الثقافية للحضارة العمانية، ولكن لم يُكتب لهذه الرؤية حينها أن ترى النور، والآن ولله الحمد تحقق الهدف المنشود بصدور هيكلة وزارة الثقافة والرياضة والشباب، فنرجو أن نقوم بدراسة هذه الوحدة التاريخية بصورة أجمع توثيقاً وأكثر نضجاً، وبمناهج موضوعية وأدوات أجود فاعلية.
أما على مستوى الرصد التحليلي.. الذي يروم الإسهام المتواصل في المعرفة وبناء المؤسسة الثقافية والمشاركة في صنع القرار الثقافي بالدولة؛ فإن دراسة الوحدة التاريخية تعدّ أمراً ثانوياً رغم أهميتها، فالرصد التحليلي يتطلب مواصلة البحث باستمرار، على أساس «الوحدة الموضوعية» التي غالباً لا تتجاوز خمس سنوات.
الكتابة مقياس للبحث المعرفي
إذا وُجِدت الكتابة فقد وُجِد البحث، هذا مقياس جيد لحركة البحث المعرفي في المجتمع، بيد أنه ليس الأوحد ولا الأفضل، ولكن عندما تغيب بقية المقاييس فأنت مرغم على استعماله، خاصة؛ عندما لا تتوفر المادة التي تعتمد عليها عادة سائر المقاييس. والكتابة؛ أياً كانت تستلزم نوعاً من البحث، بما فيها الإبداعية كالأدب، فالشاعر والسارد لن يبدعا ما لم يجتهدا في اجتناء المعرفة التي تغذي أغراضهما الأدبية. أما بقية المعارف فهي تقوم أساساً على البحث، فلا يمكن للباحث أن ينشئ دراسة في أي فرع من المعرفة ما لم يكن قد ضرب بسهم وافرٍ في تحصيلها عبر التنقيب في مظانها والإدمان على قراءة صحائفها. وبهذا المعنى للبحث؛ فإن الدولة الحديثة بالسلطنة شهدت حركة ملحوظة، على مستوى الكم والنوع، رغم أنها لم تخضع للقياس والتقييم.
بداية الطريق
إن ما أُنتج خلال هذه المدة يكاد يضارع ما أنتجه العمانيون على طول تأريخهم الإسلامي، ومعظم هذا الإنتاج تقف خلفه الوثيقة أو الكتاب الشخصي، أي ما يقتنيه الباحث بنفسه، حيث لم توجد بدايةً مكتبات عامة يمكن أن يُرجع إليها بسهولة، باستثناء بعض المكتبات الشخصية للفقهاء والأدباء، والتي غالبها يحوي مخطوطات وكتباً فقهية وتأريخية وأدبية لمؤلفين من الحقبة الكلاسيكية، والمكتبة العامة التي أخذت على عاتقها توفير الكتب بمختلف أنواعها لمرتاديها هي «المكتبة الإسلامية»؛ التي افتتحت في السبعينيّات، وشهدت الثمانينيّات انتعاشها، وما إن حلّت التسعينيّات حتى خفت بريقها، لعدم تطورها بما يواكب الحراك الثقافي في البلاد، فأسلمت أخيراً روحها للموت، وباستثناء هذه المكتبة خلال تلك الفترة لم تكتحل عيون السلطنة بمكتبة عامة، حتى منتصف الثمانينيّات عندما فُتحت جامعة السلطان قابوس، وكانت مكتبتها الرئيسة أهم مورد للباحثين من داخل الجامعة وخارجها، ولم يفر بعدها في أرض السلطنة نبع آخر بهذا الحجم والنوع.
شعرنا نحن خريجي الدفعات الأولى من جامعة السلطان قابوس، وبعدما ابتعدنا مكانياً عن مكتبتها، لاسيما أننا بدأنا نلج ميدان البحث والتأليف، بالحاجة الماسة إلى مكتبات في البلاد؛ قريبة منا للاغتراف من مصادرها، ولذلك؛ بدأت بعض ولايات السلطنة منتصف التسعينيّات بفتح مكتبات أهلية؛ إلا أن غياب التأهيل لإدارة هذه المكتبات والدعم المادي عنها؛ أغلق أبواب معظمها، أو توارى زاهداً بما عنده. ومن المكتبات التي نشأت في تلك الفترة وتطورت باتجاه البحث المعرفي وخدمة الباحثين «مكتبة الندوة العامة» ببَهلا. فشعورنا بغياب مصدر للمعرفة دفعنا أن نؤسس المكتبة في منتصف التسعينيّات لتفتتح رسمياً عام 1996م، ومنذ ذلك العام؛ ترفد الباحثين بمختلف مستوياتهم؛ من الناشئة على مقاعد الدراسة حتى طلاب الدراسات العليا كالماجستير والدكتوراه، بالإضافة إلى خدمة البحث الحر، وقد تعدى تقديم خدمتها النطاق المحلي لتكون محجاً لباحثين من خارج السلطنة.
لم تقف «مكتبة الندوة» عند عتبة توفير مصادر المعرفة، ولم تكتف بتشجيع الباحثين، وإنما تبنّت الإنتاج المعرفي، وكان ذلك على ثلاثة مسارات: قيام بعض القائمين على المكتبة بالبحث، وإقامة الندوات واللقاءات التي تستكتب لها الباحثين ونشر بحوثهم، وإنشاء أقسام للبحث؛ منها: «غرفة بَهلا» لتقدم خدماتها في مجال البحث التاريخي والحضاري، و«ركن جلالة السلطان قابوس» للبحوث والدراسات في الدولة الحديثة، و«المكتبة الإباضية» لتوفير مصادر البحث في المذهب الإباضي بكون عمان الحاضن الرئيس له، و«مركز الندوة للترجمة»؛ ليُعنى بنشر ثقافة الترجمة، وترجمة الكتب العمانية إلى لغات أخرى، و«غرفة الطفل» التي تنشئ الأجيال الصغيرة على مهارات القراءة ومحبة المعرفة، وكل هذه الأقسام تعمل يومياً طيلة العام. ومع الجهود التي تبذلها المكتبة إلا أن تقييمنا للاستفادة منها يؤشر إلى أنها ليست بالقدر المأمول، وهو ما يحتاج لإدارة المكتبة أن تنظر في أسبابه لتتجاوزها.
التأسيس للبحث
ثلاث مؤسسات برزت في خدمة البحث المعرفي ونشره؛ وهي:
– المنتدى الأدبي؛ الذي تأسس لخدمة الأدب العماني، بيد أنه أضاف إليه حقلاً آخر؛ وهو الفكر، لكن التوجه التأريخي غلب على أعماله، وقد اتخذ له خطاً بحثياً في مشروعين مهمين؛ هما: البحث في الإنسان؛ عبر سلسلة قراءات في فكر عَلَم عماني، والبحث في المكان؛ عبر سلسلة البلدان العمانية عبر التاريخ، وكل سلسلة ظهر منها حوالي 25 كتاباً، كل كتاب يضم بحوثاً لمتخصصين في موضوع البحث، ويعدّ إنتاج هذين المشروعين مرجعاً رصيناً في مجاليهما، بيد أن تطور مساقات البحث ومناهجه يجعلهما بحاجة إلى الانتقال لمرحلة أعمق وأكثر تحليلاً للمواضيع المدروسة، وهو ما نأمله في المرحلة القادمة.
– النادي الثقافي؛ اهتم بتقديم الندوات العامة في الشأن الثقافي، وهو ما ساهم في دفع عجلة البحث المعرفي إلى الأمام في السلطنة، خاصةً؛ تلك الندوات التي نشرها النادي. والمشروع المتميّز له هو «المشروع الوطني لدعم الكتاب العماني»، وقد ركّز على دعم البحوث المنهجية في المعرفة العُمانية، فعمد إلى نشر العديد من الدراسات الأكاديمية، التي كانت قابعة في أرفف الجامعات، وأصدر حوالي مائة كتاب.
– الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء؛ مع اهتمامها بالمثقف عموماً؛ أوجدت مشروعاً دائماً لنشر الدراسات في مختلف أوجه المعرفة، وتميّز بعدم الانحصار في البحث الأكاديمي، بل جاء أغلبه في البحث الحر المستوفي للمناهج العلمية، ولضمان ذلك؛ فإن الكتاب يُحكَّم من قِبَل متخصصين في موضوع الكتاب. وقد تدرجت الجمعية في النشر السنوي؛ حتى وصلت 30 كتاباً في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى جائزة «الإبداع الثقافي»؛ الذي تكرّم فيه الكُتّاب المجيدين، والمشاريع الثقافية الأهلية، وجائزة أفضل الإصدارات، والندوات المختلفة التي تمكّن الباحثين من تقديم دراساتهم في شتى ميادين المعرفة.
الحمولة التاريخية
ورث البحث المعرفي المعاصر الحمولة العلمية السابقة على الدولة الحديثة، فمعظم الاشتغال البحثي خلال الخمسين السنة المنصرمة كان في التاريخ والشخصيات العمانية والفكر الديني والشعر وعلوم العربية، والإنتاج خارج هذا السياق كان قليلاً، ولذلك؛ فقد انصبّت مصادر المعرفة في العلوم الكلاسيكية؛ وجرى تطوير المكتبات والمؤسسات التي تخدم هذا المجال، مثل: «مكتبة السيد محمد بن أحمد البوسعيدي» بالسيب، و«مكتبة الإمام نور الدين السالمي» ببدية، و«مكتبة الشيخ سالم بن حمد الحارثي» بالقابل. وتعتبر «مكتبة دار الكتاب» بصلالة التي أسسها الأستاذ عبدالقادر الغساني متميّزة بشمولها على المراجع الحديثة؛ خاصة؛ المعنيّة بالدراسات العُمانية، وقد بدأت تدخل في مجال البحث؛ بتقديم ندوات بحثية. وما عدا هذا الخط التأريخي كان الطريق المعرفي قليل الطَّرْق من سائر فروع المعرفة.
جمع الوثائق
لجمع الوثائق، أنشئت في سبعينيّات القرن العشرين «دائرة المخطوطات» بوزارة التراث القومي والثقافة، وهذا المشروع يعدّ أهم مشروع خدم البحث المعرفي في السلطنة في مجال التراث، حيث عمل على نشر المخطوطات العمانية بعد جمعها وتحقيقها، وكان له دور بارز في التعريف بعمان معرفياً، ولم يوجد حتى الآن مشروع يضارعه، بيد أنه كذلك أثّر في نوعية البحث، فكان معظم البحوث والدراسات منصبة في التراث العُماني، وبالذات؛ في المجالات التي اشتملت عليها المخطوطات، والتي جاءت بالمقام الأول في الفقه والعقيدة، ثم التاريخ، يليه الأدب واللغة، ولا يزال البحث واقعاً تحت ظلال هذه المجالات، مع ما تشهده المرحلة الحالية من ظهور مجالات بحثية جديدة في القصص والأساطير والذاكرة المحكية والفنون والأزياء، ونحوها، وحتى هذه المجالات تدور في فلك التراث.
قضية أخرى وجدت في نشر المخطوطات التي عمل على تحقيقها غير العُمانيين؛ وهي كثرة الأخطاء المطبعية والمنهجية والعلمية عند إصدارها للمرة الأولى، إلا أنها لم تكن مشكلة بحتة، فقد دفعت الباحثين العمانيين أن يمتلكوا الأدوات المعرفية والمنهجية التي مكنتهم من إعادة إصدار بعض هذه الكتب بصورة جيدة متجاوزة لما وقع فيها من أخطاء.
في عام 2007م؛ أنشئت «هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية»، فاشتغلت بجمع الوثائق وصيانتها وتصنيفها وحفظها، كما قامت بصيانة وثائق المواطنين، وأخذ صور منها، بغية المحافظة على أكبر قدر منها، مع رجع الأصل لأصحابه الذين لا يوافقون على تسليمه للهيئة. ومع نشاط الهيئة الواضح؛ إلا أنه يلاحظ عليها ضعف تمكين الباحثين من الاستفادة من هذه الوثائق.
لـ«ذاكرة عُمان» التي أنشئت عام 2004م بجهود أهلية؛ دور واضح في جمع الوثائق وحفظها، وقد شهدت تقدماً في توفير المصادر، واستغلال التقنية الحديثة، في جمع المخطوطات، وقد تميّزت بالجمع رقمياً، وأصدرت مجلة «الذاكرة» لتُعنى بخدمة البحث ونشر الدراسات التاريخية؛ لاسيما في مجال المخطوطات.
رغم الدور المشهود الذي قامت به هذه المؤسسة الرائدة وسائر المؤسسات، إلا أنها قليلة مقارنة بالاحتياج البحثي، بما في ذلك الدور الذي اضطلعت به وهو جمع المخطوطات والوثائق، كما أنها لا زالت تعيش في بوتقة المادة التراثية والتأريخية، وهذا المجال مع أهميته لا يمثل كل الساحة المعرفية. وبطبيعة الحال، لا يُطلب من هذه المؤسسات أن تخرج عن نطاق تخصصها، وإنما لابد من وجود مؤسسات أخرى تسد الفراغ الحاصل في سائر الجوانب المعرفية، وهو ما لم يظهر حتى الآن، إلا بعض التجارب على المستوى الأهلي.
مراكز البحث
من المراكز التي أنيط بها البحث «مركز الدراسات العُمانية» بجامعة السلطان قابوس، وهو مركز يعوّل عليه أن يحدث تقدماً في البحث المعرفي خارج مقررات الرسائل الجامعية؛ وإن بمنهج أكاديمي، وقد شرع في ذلك خلال سنواته الأولى، لكن عدم تواصله مع الباحثين وعموم الحقول البحثية قلل إنتاجه، ونأمل أن يستأنفه مع النهضة المتجددة التي تعيشها السلطنة.
«مجلس البحث العلمي».. أدى كذلك دوراً مهماً في تشجيع البحث، فقدّم عقود بحث عديدة في مجال عمله، وحتى الآن لم تُيَسر -بحسب اطلاعي- الاستفادة الواسعة من الأعمال البحثية الناتجة عن هذا الدعم لعموم الباحثين.
ما يُحسب على هذه المراكز انحصارها في البروتكول الأكاديمي؛ حيث يتطلب على مَن يريد أن يلتحق بالمركز أو يحصل على دعم المجلس؛ أن يكون حاملاً لشهادة الدكتوراه، وهذا تضييق لحقول البحث، لقد كان لديّ منذ عشر سنوات مشروع في البحث الحضاري القديم لعمان، وقد علمت عن وجود وظيفة في «مركز الدراسات العُمانية»، فتقدمت لكي أنتقل إليه لأقيم من خلاله بحوثي، وقدمت سيرتي الوظيفية والعلمية التي تشتمل على أعمالي وإصداراتي البحثية، لكن لم يقبل المركز ذلك بحجة عدم حصولي على درجة الدكتوراه، وهو ذات الجواب الذي وجدته في «مجلس البحث العلمي» عندما تقدمت إليهم لدعم بحثي في المشروع نفسه. لقد واصلت البحث بجهدي الذاتي، وتمكنت من الوقوف على الحضارة العُمانية القديمة التي أسميتها لأسباب علمية «حضارة سلوت»، وقد وقفت على أهم معالمها الدينية والسياسية واللغوية والاجتماعية، ونشرت دراسة حول ما أسميته بـ«اللغة السلوتية» في مجلة «لسان العرب»، وهي مجلة أكاديمية، كما قدمت عدة محاضرات مدخلاً لهذه الحضارة، وعملنا فيلماً وثائقياً بعنوان «ني صلت»، وهو أقدم وأهم معبد في شبه الجزيرة العربية، وقد قدمت عنه ورقة بحثية، ولا يزال البحث متواصلاً، وكل يوم نقف على مزيد من معالم هذه الحضارة.
مجلات للنشر البحثي
أصدرت وزارة التراث القومي والثقافة مجلة «الدراسات العُمانية»، وتعدّ أهم مشروع لنشر البحوث والدراسات، فهي مجلة رصينة في البحوث الحضارية بعُمان، وفي معظمها دراسات قام بها متخصصون غير عمانيين، ولذلك تصدر أغلب بحوثها باللغة الإنجليزية، ولم يترجم منها إلا القليل، مما فوّت كثيراً من الفائدة على الباحث العربي، ونأمل أن يحظى الحقل المعرفي بترجمتها، فهي ذات فائدة جليلة، وإن كانت واقعة أيضاً في النمط العام للإنتاج البحثي العماني وهو غلبة البُعد التاريخي، وهذا مهم، لكن تظل المشكلة قائمة بعدم وجود مجلات أخرى متخصصة في نشر وتشجيع البحوث في سائر المجالات المعرفية، وعمان واسعة ومتنوعة في ثقافتها.
مجلة « » الصادرة عن وزارة الإعلام «مؤسسة عُمان للصحافة والنشروالإعلان سابقا»؛ واسعة الانتشار، وقد أسهمت في رفد البحث المعرفي، وتميّزت بحضور الكاتب العماني فيها، ورغم تخصصها في الأدب؛ إلا أنها لم تقتصر على النصوص الإبداعية، وإنما عملت على النشر في مجال البحث؛ الأدبي والفكري، وتميّزت بإصدار كتاب عُماني مع كل عدد، وفتحت الباب لباحثين جدد أصبحوا اليوم مراجع معتبرة في مجالهم. ولذلك؛ نرجو منها ألا يخفت لديها هذا التوهّج.
وزارة الأوقاف والشئون الديني؛ معنية كذلك بخدمة مسيرة البحث المعرفي، أصدرت مجلة «التسامح» التي أنيط بها تطوير البحث في المجال الديني، صدر منها ثلاثون عدداً لتصدر بعد ذلك بعنوان «التفاهم»، مع مواصلة عملها ومنهجها نفسه، وقد نجحت في استقطاب باحثين متمكنين معرفياً ومنهجياً في الفكر الديني، لكنها لم تستطع أن تحقق عملية تطور البحث بالحقل العماني، لضمور الحضور العماني.
ففي دراسة مسحيّة أجريتها في أعداد «التسامح» وجدت أن المادة العمانية لا تتجاوز 2%، كما أنني أجريت استفتاءً عبر رسائل بالهاتف عن مدى قراءة العمانيين للمجلة، وكانت النتيجة في نفس الحدود تقريباً، وقد طبقت الاستفتاء على عيّنة مكونة من خمسين قارئاً في المجالات التي تنشرها المجلة. أخذت المجلة على عاتقها نشر «الفكر التنويري»، وهو ما أفسحت له المجال أمام الكاتب غير العماني؛ إلا أن العماني غاب عن الكتابة فيها، ولم تتجاوز نسبة حضوره 1.5%، وهو حضور لأقلام متكررة، رغم أن التوجه التنويري بالسلطنة أصبحت مساحته واسعة ومتمكنة في البحث.
في عام 2014م، صدرت عن «مؤسسة زوايا للصحافة والنشر» مجلة «شرق غرب»، لتُعنى بالنشر الفكري والفلسفي، وهو ما يستلزم نوعاً عالياً من البحث، فلربما مقال واحد يجهد صاحبه في البحث حتى يبلوره نقدياً، وهي ميزة مشهودة للمجلة، لقد حاولت المجلة أن تستقطب الكاتب العماني؛ إلا أنها لم تنجح كثيراً، فلا زال الحضور العماني ضعيفاً فيها، على مستوى الكتّاب والمواضيع والقراءة.
المساهمة الرقمية
النشر الرقمي.. من أهم محفزات البحث في هذا العصر، وتحتلّ «مجلة الفلق» المقدمة في الإسهام العُماني، فقد فتحت الباب بكثير من الحرية للكتابة، وأصبحت قِبَلة الباحثين لنشر مقالاتهم وبحوثهم عبر موقعها الإلكتروني، ولم تكتف بنشر المقالات، وإنما تبنّت أيضاً نشر بعض الدراسات.
الرائد في مجال خدمة البحث عبر الحوارات واللقاءات مع الباحثين المتخصصين؛ بدر العبري بعمله المتميّز في الفضاء الرقمي بالسلطنة، حيث يتواصل مع الباحثين في العالم؛ بالإضافة للعمانيين، فهو يرحل إلى الدول على حسابه الشخصي ليجري مقابلاته المعرفية في العديد من القضايا الفكرية، لاسيما، المتعلقة بالأديان والمذاهب، وقد تحوّل عمله هذا إلى قناة رقمية باسم «قناة أُنس»، والتي تجد فيها جديداً كل يوم تقريباً.
مبادرات لدعم البحث
تميّزت ولاية المصنعة على المستوى الأهلي بظهور مبادرات داعمة للبحث؛ أولها «شبكة المصنعة الثقافية»، التي عملت على دعم مسيرة البحث، فاستضافت العديد من الباحثين في مجالات عديدة، بما يجعلها في مقدمة الجهات التي فتحت المجال للبحث المعرفي بأفقه المتنوع، حيث تأسست في عام 2012م، ومنذ ذلك الوقت وهي ترفد الساحة بالندوات والمحاضرات لباحثين متمكنين في مجالاتهم، من داخل السلطنة وخارجها.
ومن رحم تلك الشبكة ولدت هذا العام «مؤسسة أنسنة الثقافية»؛ لتدشن باكورة أعمالها بالملتقى الدولي «المصنعة.. ملتقى حضارات العالم»، الذي شارك فيه أكثر من ستين باحثاً مختصاً من مختلف أنحاء العالم، وهذا يعد قفزة نوعية في مجال البحث في السلطنة على المستوى الأهلي؛ من حيث نوع الموضوع وعدد المشاركين فيه.
مبادرة «القراءة.. نور وبصيرة».. التي انطلقت عام 2010م؛ لها حضورها الفاعل في البحث المعرفي على مستوى السلطنة؛ وهي تسد فراغاً في الاحتفاء بالباحثين والكُتّاب العاملين بعيداً عن صخب الفعاليات الاحتفائية، فهي كل دورة تكّرم كاتباً متميزاً، وتصدر عنه كتاباً يحكي قصة محبة لشخصه وتقدير لمنجزه، كما أنها تحتفي بالمشاريع الثقافية التي تتخذ من العمل في العمق الاجتماعي مبدأً لها. وهي مبادرة يرجى أن يلتفت إليها مجتمعياً لدعمها حتى تواصل جهودها النبيلة.
ختاماً.. في عجالة هذا المقال اقتصرتُ على قراءة الجانب المؤسّسي الرسمي والأهلي في مجال البحث وخدمته، وإلا فإن الجانب التجاري مما ينبغي كذلك الالتفات إليه بالدراسة والتقييم، ومثله الصالونات الأدبية، ناهيك عن البحث الشخصي؛ الفردي منه والجمعي، والذي يحتاج إلى دراسة مستقلة بنفسه، وكذلك، الصفحات البحثية التي تتخذ من نوافذ التواصل الاجتماعي عيوناً تطل بها على العالم.