يصعب إحصاء عدد الشعراء السوريين في العقدين الأخيرين، خصوصاً إذا أضفنا إلى القائمة شعراء مطلع الألفية الثالثة. هناك طابور طويل، لم يجد مكاناً له في الحافلة، فاخترع دروباً ومحطات افتراضية، لتأكيد شرعية وجوده في القائمة. بضع قصائد، يتم توضيبها على عجل في كتاب هزيل، وينتهي الأمر. لعل هذه العملية تشبه عملية رتق البكارة في عيادة سريّة، بوجود دور نشر صغيرة في الشوارع الخلفية تلتقط الشعراء الضالين بمئاتي نسخة على «الريزو»، ثم يتأبط «الشاعر» ديوانه، ويوزعه على الصحف، وموائد المثقفين، فيحظى باعتراف وهمي، ثم يدخل الحلبة بقوة شكيمة الجعّة الوطنية والصراخ في الحانات. بعد اختراع «بيت القصيد» في احدى حانات العاصمة، بات الحصول على «بطاقة شاعر» أمراً بمنتهى السهولة. بقليل من التصعيد الكحولي تمتطي الميكرفون، وتقرأ شيئاً ما، ركيكاً في الغالب، وبأخطاء نحوية فادحة، فتطوّب شاعراً لا يشق له غبار. لعلها شجاعة الجهل، ذلك أن من يمنحك شهادة حسن سلوك شعرية، يحتاج هو نفسه إلى اعتراف وشرعية، لكن الهواء المخنوق في المكان، وانتعاش الثقافة الشفوية بين «النخب»، وصداقة محرر في صحيفة، تتكفل بمثل هذه الولادة القيصرية. سينسى هؤلاء –لجهلهم ربما- أن فاتورة الشاعر السوري، على وجه التحديد، باهظة أكثر من غيرها في جغرافيات عربية أخرى، فأنت تكتب في بلد خرج منه نزار قباني، وأدونيس، ومحمد الماغوط. والأخير خصوصاً، سدّ كل نوافذ الضوء في اجتراح قصيدة مغايرة، لمن أتى بعده. فالشعر السوري الجديد، لم يتمكن، إلا نادراً، أن يبتعد عن «المعلف» الماغوطي، وإذا بقطيع من الشعراء يتلذذ ببلاغته الجارحة، سواء اعترف بطعم ونكهة أعشابه البريّة الطازجة، أم لم يعترف.
وإذا كان جيل السبعينيات قد قدّم اقتراحاً مغايراً في كتابة قصيدة النثر عبر تجارب نزيه أبو عفش، وبندر عبد الحميد، ومنذر مصري، إلا أن هذه التجارب كانت في معظمها ترجيعاً لمنجز الشعر العالمي، فقد كان جاك بريفير، ويانبيس ريتسوس، وولت ويتمان، وكفافيس، يحلّقون في فضاء هذه القصائد لجهة اليومي والاعتناء بالتفاصيل، بخلطة ماركسية غاضبة ومتمردة، وما أن تكشّف غبار هذه الحقبة، حتى أتى شعراء الثمانينيات محمّلين بالقيم عينها، ولكن بنبرة أقل ثورية. إنه جيل الوقت الضائع، جيل وجد نفسه تائهاً في ظل هزائم جديدة، دشنّتها إسرائيل بغزو بيروت(1982)، فانكفأ إلى ذاته، وراح يمجّد العزلة، وإذا بالساحات المفتوحة التي بشّر بها السبعينيون تنتهي إلى غرفة ودرج وانتظار امرأة ما. هكذا نشأت قصيدة الغرفة بوصفها حدود بلاد الشاعر ومحيطه الجغرافي. كانت تجربة رياض الصالح الحسين الذي مات باكراً، برزخاً بلاغياً بين فضاءات محمد الماغوط وإيماءات جيل الثمانينات المرتبكة التي لم تغادر تخوم المقترح السبعيني كلياً. هناك خلخلة ما في نصوص هؤلاء، خصوصاً ورشة «ملتقى حلب الشعري»، هذه الورشة التي سعت إلى تأصيل اليومي والحميمي والعابر، وإذا بهذه التجارب عبر اختبارٍ بسيط، تخرج من قالب واحد بتماثل معجمها الشعري، حتى أننا نخال أن هؤلاء الشعراء غرفوا من محبرة واحدة. قصيدة ترتجف من الصقيع البلاغي، والارتباك اللغوي، و«قلة الزاد ووحشة الطريق»، عدا صوت مفرد كان يغرّد خارج السرب، هو صوت عبد اللطيف خطاب، وإن باتكاءات أوليّة على معجم سليم بركات لجهة السرد ونبش تراب المكان الأول: بداوة خشنة واستغاثات ميثيلوجية هي مزيج من غنائية مقموعة، وتفرّد بلاغي. هذا ما نجده في مجموعته الأولى والأخيرة «زول أمير شرقي»، إذ توفي هذا الشاعر منذ سنوات بخطأ طبي «أنا صديق القادمين من الخراب. القرى تزدهر بدول البدو والبابونج، وتعانق الأفاعي المزدانة بالبرجوازيين والسمّ». ولكن ماذا بخصوص جيل التسعينيات ومطلع الألفية الثالثة؟ سنجد هنا، بقليل من الفحص والانتباه خريطة محددة الاتجاهات. هناك سهم عريض يقود إلى المائدة الأدونيسية، وآخر إلى متاهة سليم بركات، ولن نعدم مريدين للشعر اللبناني في نسختيه القديمة والجديدة: شوقي أبي شقرا، ووديع سعادة، وبسام حجار مثلاً. لعل هذه العودة إلى المتخيّل البلاغي الميتافيزيقي، إشارة إلى حيرة وعدم يقين وخواء، لذلك انحسر المد الماغوطي قليلاً، لتدخل التجارب الجديدة في ألعابٍ لغوية في المقام الأول. تجارب تنأى بنفسها عن المحسوس والملموس الذي دمغ تجارب الثمانيين. هكذا أتت تجارب متنافرة في هواجسها الجمالية بافتتان صريح بالصنعة وتركيب جملة باذخة، لكنها في المقابل، لن تترك أثراً واضحاً لدى المتلقي، وهذا ما قاد معظم أبناء هذا الجيل إلى مراجعة مدوناتهم، وكتابتها على نحوٍ آخر في تجارب لاحقة، أمثال أكرم قطريب، وخضر الآغا، وعلي سفر، إذ باتت قصائدهم أكثر دنيوية وملموسية، وإن لم تتخلص تماماً من ذلك البريق الوهمي للجملة الشعرية، إلى افتتان بالغرابة. يقول أكرم قطريب «تحت أبطيك ننصت من الألم»، فيما يسمّي علي سفر إحدى مجموعاته بـ«اصطياد الجملة الضالة»، ويجد فارس البحرة في عبارة من نوع «فمي خرّبته المطرقة» نوعاً من الامتياز البلاغي. هذه المجازفات اللفظية، لم تتمكن في الواقع، لدى معظم شعراء التسعينيات، انتهاك الأرض المحرّمة للشعر، بل ظلت عند التخوم، من دون أن تشتبك فعلياً مع تحولات اللحظة الراهنة بعمق ودراية وتأكيد، وكأن هذا الجيل الذي وجد نفسه في لحظة انفراج سياسية، لم تكن متاحة لجيل الثمانينات، أُخذ على حين غرّة، في انسحاب الخطاب الإيديولوجي الذي وسم الشعر السوري طويلاً، فاكتفى بتمارين بلاغية، وأكروبات لفظية، بفحوى قتل الأب، ولعل هذا ما جعل الناقد خضر الآغا يصف هذه التحارب بـ«البياض المهدور». بقليل من الفحص أيضاً، سوف يطل سليم بركات بين سطور بعضهم، ولكن من دون بلاغته الرخيمة، فيما يحرس أدونيس حقول بعضهم الآخر بنبرة ريفية هذه المرّة.
في انطولوجيا الشعر السوري(1980-2008)، تحصي رشا عمران نحو500 شاعر كتبوا في هذه الحقبة، وتختار 63شاعراً كنماذج تعبّر عن أطياف المشهد الشعري بحساسيته المختلفة، أمثال:بشير البكر، وإيمان الإبراهيم، وحسين بن حمزة، وحسين درويش، ومحمد فؤاد، وعابد إسماعيل، وعبد اللطيف خطاب، ولينا الطيبي، ومرام المصري، ونوري الجراح.. ، وهذا ما فتح الباب على مصراعيه للاحتجاج على هذه الانتقائية، في حربٍ مفتوحة، قادها الشعراء المطرودون من هذا الفردوس من جهة، والتفعيليون من جهةٍ ثانية، بعد أن باتت قصيدة النثر خياراً نهائياً لهذا الجيل.
الدراسة النقدية التي كتبها خضر الآغا مقدمة لهذه المختارات تضيء جانباً من خصوصية «شعرية الثمانينيات وما بعدها» التي جاءت بمثابة «انقلاب شعري» يكاد يضاهي الانقلاب الجذري على يد «شعراء الحداثة» في الخمسينيات، بفارق أنّ هذا الشعر لم يطلع من عباءة القومية أو غيمة الموجة الماركسية التبشيرية، بل أتى مع انهيار الإيديولوجيات. وإذا بقصيدة جديدة تتفتّح على نبرة خفيضة بصوت خائف ومنزوٍ. لعلّ شاعر الألفية الجديدة هو «شاعر ما بعد الفشل» لا يرغب في تغيير العالم، لكنه يعيش العالم برغبة تدميرية، و«كتابة اللامعنى».
لاشك أن القطيعة محققة بين منجز السبعينيات والثمانينيات وبين ما يقترحه جيل المدوّنات و«الإنيميشن» فهولا يعرف شيئاً عن أسلافه عدا شذرات مدرسية عابرة والتفاتات تجد تمثلاتها في اضاءات خفيفة تعمل على القماشة الأولى للنص، من دون أن تتوغل عميقاً في المتن . ههنا سنجد أنفسنا أمام أصوات جديدة مثل جولان حاجي، وهنادي زرقة، وقيس مصطفى، وسامر إسماعيل، وتمام تلاوي.. هؤلاء، أو بعضهم، لم تكن مرجعيتهم محمد الماغوط مثلاً، ولا حتى أدونيس، كما اعتدنا مع تجارب السبعينيات والثمانينيات فجيل الألفية الثالثة جاء عارياً إلى الوليمة من دون آباء شرعيين أو بيانات شعرية. هكذا بدت قصائدهم مدونات في الألم الشخصي والهباء والعدم. عناوين المجموعات تَشي ببوصلتهم («أبحث عنك على غوغل»، «تفسير جسمك في المعاجم»، «زائد عن حاجتي»…). نحن هنا أمام لغة جارحة وخشنة وربما «شوارعية» (إذا جازت، تجاوزاً، النسبة إلى الجمع).
هناك تفاوت بين نصٍ وآخر… لكن هذا الحشد الشعري ينطوي على انعطافة في المختبر الشعري السوري: هناك انخراط في كتابة قصيدة النثر من موقع مغاير، عبر مزج السرد باليوميات والإنصات إلى الذات في تشظيها الشخصي، بعيداً من هموم الجموع… والاشتباك المباشر مع مفردات الشارع: تجاور البلاغة والركاكة هما إحدى سمات الكتابة الجديدة المتفلتة من مقاييس الجودة، كما لو أنّها «لوغو» شخصي للعصيان.
لن نستغرب إذاً أن يفتتح رائد وحش مجموعته «لا أحد يحلم كأحد»بقصيد ة تحمل عنوان استفزازي» سأتزوج أنجلينا جولي»، ليقول ببساطة: «بالنسبة لي، كحمار على الأقل، سأحبك كما لو أن الحبّ لم يكن من قبل». حتى إنّه لا يتردد بالقول «أبوس حذاءك». هذه النبرة المفارقة للمعجم الشعري التي تنسحب فيها الفحولة إلى الوراء، إحدى علامات الشعر الجديد، فالشاعر الجديد يسعى إلى إعلان ذاته بكامل هشاشتها. يقول قيس مصطفى في «أبحث عنك على غوغل»: « آخر مرة جاءت حبيبتي، كنت مخدّراً وسافلاً معاً، هذا ما أنا متأكد منه»، فيما يدخل جولان حاجي منطقة عزلاء لا تخلو من غنائية فجائعية « لقد حذفت حياتي وما تبقّى ليس إلا الهوامش انتثرت كالفُتات على حوافّ ورقة وسخة/ أقرأ فيها صمت الإشارة/ وألمح موت اليقين»
هناك قصيدة الجسد أيضاً، لكنّ الجسد هنا هو شهوة وجحيم «الخطيئة كانت ترعى جسدي»أو «ما أهمية الفلسفة الآن، وأنت أمامي عارية على السرير؟». إيروتيكية لا يتردد أصحابها في اقتحام مجاهل الجسد بأقل العبارات بلاغةً، في نصوص شبقة تحدث في أماكن عشوائية غالباً. تقول إيمان الإبراهيم «إنني ورقة خاسرة وبلا رقم»، لعل هذا التوصيف الذي يعتمد الكلام العادي ينسحب على تجارب كثيرة أخرى، اكتفت بالخسران، من دون ندم أو احتجاج. ذوات مكلومة لا ترتجي أفقاً، وكأن الحياة المعطوبة قدر التائهين في مفازة الذات «خوفي كيف سأكسره، بينما ظلي، موطوءاً لتوه، يتغطّى بي، وكلامي صحرائي ويوجعني»(جولان حاجي).
وإذا كان التماثل وسم تجارب جيل التسعينيات لجهة انشغالها بالتفاصيل، فتجارب هؤلاء الشباب تتشظى إلى اهتمامات متباعدة، كمحصلة لبيئات مختلفة تنبئ عن اغتراب وشتات وأوجاع، تضع الفرد في مهبّ أسئلة طارئة عن الهوية. يتساءل محمد أبو لبن «من أنا؟ لاجئ بوثيقة زرقاء/ يقف أمام لوحة المطار» ربما ينبغي علينا أن نختبر هذه الأصوات بمبضع نقدي آخر، يشتبك مع معجم هوائي لا يمكن الإمساك بمفرداته وصياغاته البلاغية، بل اللابلاغية في مقاصدها الجمالية ومقترحاتها الضائعة في متاهة الميديا الجديدة، علها تكون نقطة من أول السطر، لينفتح المشهد على مفازة شعرية أخرى.11011