أول ما قرأتُ لخيري منصور كانت دراسة نقدية في الديوان اليتيم للشاعر البحريني الشهيد سعيد العويناتي الذي مات تحت التعذيب في نهاية عام 1976، ولست متأكداً الآن ما إذا كانت هذه الدراسة قد نشرت في مجلة «الطريق» اللبنانية أو «الأقلام» العراقية، لكن الذي نعرفه أن خيري كان في تلك الفترة مقيماً في بغداد، ويعمل في مجلة «الأقلام» بالذات.
بعد ذلك بنحو عشرين عاماً قادتني الأقدار للعيش والعمل في إمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، حيث صرت متابعاً للمقال اليومي لخيري في جريدة «الخليج» الصادرة هناك، حيث تعرفت على الوجه الآخر لكتابة خيري، غير وجه الشاعر والناقد، وهو وجه كاتب المقالة الصحفية المتفرد.
ورغم «تزاملنا» في الكتابة اليومية في الجريدة نفسها، حيث استمر خيري ينشر مقالاته فيها حتى اليوم الأخير في حياته، إلا إننا لم نلتق إلا مرتين أو ثلاثا، واحدة منها كانت في إحدى دورات المؤتمر السنوي لجريدة «الخليج»، وأخرى في إحدى دورات المنتدى الإعلامي بدبي، حيث أشرف خيري، يومها، على فعالية تتصل بالاستشراق، وهو أحد الحقول التي شغف بها، متأثراً، فيما أظن، بكتاب إدوارد سعيد حول الموضوع نفسه، حتى أنه أصدر كتاباً حول الموضوع.
وفي ذاكرتي حكاية سمعتها من خيري نفسه في واحد من لقاءاتي القليلة معه، تتصل بتداعيات مقال نشره في جريدة «الدستور» الأردنية التي منحته امتيازاً من النادر أن يمنح لكاتب، وهوأن يكون مقاله على الصفحة الأولى بالجريدة، وكان المقال يحمل نقداً لاذعاً لموقف فرنسي يتصل بقضية سياسية عربية ملحة في حينه، لم أعد أذكرها. أثار المقال حفيظة السفارة الفرنسية في عمّان التي وجهت احتجاجاً عليه إلى أعلى المستويات الرسمية في الأردن.
في صبيحة اليوم الثاني لنشر المقال، رنّ جرس الهاتف طويلاً في منزل خيري، وهو بالمناسبة كائن ليلي، ممن يجدون في الليل صديقاً للسهر والكتابة والقراءة، وحين أفاق على رنين الهاتف بعد تكرار الاتصال، وجد على الخط رئيس تحرير «الدستور»، والتي أشرف خيري على ملحقها الثقافي الأسبوعي، وكان من عادته الذهاب للجريدة متأخراً.
طلب منه رئيس التحرير التوجه فوراً إلى مقر الجريدة لأن الملك حسين شخصياً موجود في مكتبه، ويرغب في الحديث معه، ومن فوره غادر خيري المنزل قاصداً مكتب رئيس التحرير ليجد الملك هناك، الذي استقبله بود قبل أن يشرح له أن مقاله كاد أن يتسبب في أزمة، «فالدبوماسيون الأجانب يتابعون كل شاردة وواردة»، ما يستدعي من الصحافة الانتباه فيما تنشر.
وبهذه الزيارة للجريدة واللقاء مع الكاتب أراد الملك احتواء الأمر، بإظهار أنه اهتم شخصياً باحتجاج الفرنسيين على المقال، لكن ذلك اللقاء انطوى أيضاً على إشارات تقدير لواحد من أهم كتاب المقالة، لا في الأردن وحده، وإنما في العالم العربي عامة، فلم يترك الملك الأمر لجهة حكومية أخرى لمتابعة الأمر، بطريقة قد تعرض فخري لشكلٍ المساءلة لم يكن الملك يرضاها.
برحيل خيري منصور تكون صحافتنا العربية فقدت واحداً من أهم وأجمل كتاب العمود الصحفي، هو الذي كان بين قلة على المستوى العربي ممن صانوا مهابة وعمق ورشاقة العمود الصحفي، ونأوا به عن السطحية والابتذال والتملق، لا بل جعلوا منه أدباً وثقافة ومعرفة.
ونظرة على سيرة خيري منصور، تُرينا أن عطاءه الأدبي والصحفي هو نتاج تجربة حياتية ثرية، وهو الذي ولد عام 1945 في قرية دير الغصون القريبة من مدينة طولكرم، وأنهى دراسته الجامعية في القاهرة، وأبعدته السلطات الإسرائيلية من الضفة الغربية عام 1967، فتنقل بين عدة بلدان عربية قبل أن يستقر في الأردن.
وعلى الدوام كانت فلسطين التي فيها ولد وإليها ينتمي، في قلب كتاباته ومواقفه، وكانت دليله ليس فقط في تمسكه بقضايا أمته العربية، وإنما أيضاً في الانحياز الإنساني لقيم العدالة والتقدم.
ولدى خيري من المهارات والقدرات واللياقة المشهود لها في الكتابة، ما جعله قادراً على أن ينشر في اليوم الواحد أكثر من مقال بتعدد المنابر الصحفية التي كان يكتب فيها، دون أن يفرط في شروط الكتابة المسؤولة، الحريصة على المهنية والتجويد، وعلى عمق المحتوى الذي يقدمه بلغة مثقفة، ملآى بالمعاني، دون أن ينساق إلى الإطناب والاسترسال والتكرار وترهل العبارة، فكان مثالاً يُعتد به في تكثيف العبارة واختزالها، دون أن يُخل بشروط المعنى والمحتوى، وعلّمنا أن لغتنا العربية، حين تكون بقلم موهوب ومتمرس، جديرة بأن تقول أعمق المعاني بأقل قدر من المفردات.
نجح خيري منصور، عبر تجربته الطويلة، الممتدة في كتابة المقال في تحقيق ما عجزت عنه الغالبية الساحقة من كتاب المقال في العالم العربي، في تحقيق مهمة صعبة نريد أن نطلق عليها: «تثقيف السياسة»، وعلى الرغم من أن السياسة تخترق كل تفاصيل حياتنا اليومية، فهي تتصل بمصائر الأوطان ومستقبل المجتمعات، وبلقمة عيش المواطن وحقوقه الأساسية في جوانب حيوية كالعمل والسكن والتعليم والصحة وما إليها، إلا أن لدى الجمهرة الواسعة من القراء نفوراً من قراءة المقالات السياسية، التي لا تجذب إلا المهتمين، لكن كتابة خيري منصور تشكل خير نموذج للكتابة الصحفية التي «ثقّفت» السياسة، بمعنى أنها أضفت عليها روح الثقافة والمعرفة، فلا نعود إزاء كتابة شعارية، أو دوغمائية تكرّر نفسها، وإنما إزاء كتابة جاذبة تجعل قراءتنا في الشؤون السياسية ماتعة وجاذبة.
هيأت خيري منصور لمثل هذا النوع من «الكتابة السياسية المثقفة» إن جاز لنا وصفها كذلك عدة أمور، بينها متانة تكوينه الثقافي والمعرفي والإبداعي، كونه شاعراً وناقداً وأديباً ومنشغلاً بالفكر والمعرفة، فهذا التعدد في اهتماماته ومواهبه، كان يتكثف في المئات القليلة من المفردات التي يتشكل منها عموده اليومي في عددٍ من الصحف العربية، كأنه كان يقطر خلاصات معارفه العميقة في هذا العمود، ما أكسبه رشاقة العبارة ورهافة الشعور وعمق الفكرة، فلا يخرج الكاتب بعد أن يفرغ من قراءة كتابة خيري بتصور معين حول الموقف السياسي من القضية التي يتناولها، وإنما يخرج أيضاً بحصيلة من المعلومات التي تثري معرفته في الثقافة والأدب والفكر والتاريخ، وبذا كان يسهم في التأسيس لقارئ من نوع جديد.
من الأمور التي تركت أثرها في نضج كتابة خيري، هناك أيضاً تجربته السياسية، فمن النادر أن تجد مثقفاً فلسطينياً في عمر خيري لم يمر بتجربة حزبية، ولو لفترة من فترات حياته، وهي تجربة لا بد أن تترك أثراً، يتفاوت في العمق والنوع، في وعي من مرّ بها، حين تمكنه من أدوات في التحليل لا تتوفر بالغنى والكفاءة نفسيهما لدى من لم يمر بتجربة مشابهة.
وأنا أعدّ هذه الورقة استوقفني واحد من مقالات خيري منصور التي كتبها قبل أيام قليلة فقط من رحيله، اختار
اسم الرواية الشهيرة لفيودور ديستوفسكي: «الجريمة والعقاب» عنواناً له، بدأه بالحديث عن ما طبع روايات القرن التاسع عشر من طول، حيث يمكن للرواية الواحدة أن تقع في آلاف الصفحات، كما هو الحال مع روايات ديستوفسكي نفسه وتولستوي ومارسيل بروست في «الزمن الضائع»، وعزا ذلك إلى «نمط الحياة، الذي كان يسيطر على العالم؛ بحيث لا بد من وجود وقت من الفراغ؛ كي يمكث الإنسان ساعات طويلة في سريره؛ لينهي رواية طويلة أو يتمطى على مقعد مريح عدة ساعات؛ ليسمع سمفونية».
لكن ما يهمنا هنا الخلاصة التي انتهى إليها خيري في مقالته، حين رأى أن جرائم كتلك التي تناولها ديستوفسكي في «الجريمة والعقاب» ما زالت تحدث حتى اليوم في روسيا وفي غيرها، لكن ثمة فارق، هذا الفارق بين زمنين «لا يقتصر على جوهر الجريمة فقط؛ بل على كيفية التعامل السايكولوجي والأخلاقي معها، وهذا أحد أهم أسباب عدم تكرار كاتب الجريمة رغم إمكانية تكرار الجريمة ذاتها؛ لأنه ما من ديستوفسكي آخر» !!
أما وقد غاب عنا خيري منصور، فبوسعنا القول أن كتاباً كثيرين سيتناولون في مقالاتهم الكثير من القضايا التي تناولها هو في مقالاته، لكنهم لن يبلغوا ما كانت عليه هذه المقالات المشعة بالنور والمعرفة، وأناقة المفردة والعبارة، لأنه، ببساطة، ما من خيري منصور آخر!
حسن مدن *