في سياق تطور الحركة النسوية وتعبيراتها الفكرية والأدبية جاء ظهور الحركة النقدية النسوية في مطلع الستينيات من القرن الماضي، حيث يعتبر كتاب بيتي فريدان (الأسطورة النسوية 1962) البداية التي أسست لهذا التاريخ، وفتحت أمامه آفاقا رحبة للتنوع والتطور. لكن هذا التطور والتنوع المنهجي والسياسي الكبير الذي عرفته هذه الحركة، في عقدي السبعينيات والثمانينيات التاليين، تحت تأثير المناهج النقدية ما بعد البنيوية، كان له الأثر الكبير في تعميق حضور هذا النقد وإغنائه منهجيا وسياسيا، وساهم في تطور وتنوع نظريات هذا النقد، بسبب الطبيعة الانتقائية التي تميز بها النقد النسوي، أو نتيجة لرفض عدد من النسويات تبني نظرية نقدية نسوية واحدة، على اعتبار( أن النظرية مذكرة دائما في المؤسسات الأكاديمية، وتتضمن صفات الفحولة، من حيث المجال الفكري الطليعي الصعب في الدراسات الفكرية) (1)، إضافة إلى الرغبة في إيجاد نقد أنثوي غير مقيد فكريا، ما جعل هذه الحركة على الرغم مما كشفت عنه من تعددية وتنوع منهجي وسياسي، عبارة عن حركة واسعة، تتداخل فيها نظريات فكرية ونقدية عديدة، مثل نظرية التحليل النفسي والوجودية والتفكيك والماركسية والنقد الاجتماعي والسيموطيقي.
لقد انعكس هذا الوضع على واقع العلاقات، التي اتسمت بالصراع بين ممثلات هذه التيارات النقدية النسوية المختلفة، حتى على مستوى البلد الواحد، بسبب هذه الطبيعة الانتقائية التي ميزت علاقته بالمناهج الفكرية والنقدية التي سبقته، وجعلته يفتقد إلى وحدة المنهج والمفاهيم.
إن هذا التنوع في تيارات النقد النسوي، لم يمنع من ظهور تيار نقدي غالب، يهيمن على المشهد النقدي النسوي في هذا البلد أو ذاك، ويسمه بميسمه الخاص، كما هو الحال بالنسبة للنقد النسوي الإنجليزي، الذي اتخذ من التراث الماركسي مرجعا أساسا، بينما هيمن النقد النفسي بشقيه الفرويدي واللاكاني على الحركة النقدية الفرنسية.
لكن هذا التباين في الرؤية والمنهج والمفهوم بين الناقدات النسويات في بلدان أوربا الغربية، لم يمنع من وجود تأثيرات متبادلة بين هذه الحركات، كما ظهر ذلك من خلال التأثير الذي مارسته الحركة النقدية النسوية في فرنسا على الناقدات النسويات في أمريكا منذ نهاية السبعينيات، كما أن ذلك لم يمنع ذلك من وجود تقاطعات واضحة بين الناقدات النسويات في انجلترا وأمريكا بالنسبة إلى موضوع الهوية الأنثوية، من حيث كونه معطى اجتماعيا مكتسبا، قد حدد تاريخيا أوضاع النساء وأدوارهن.
إن هذا التنوع المنهجي والسياسي لم يكن هو السمة الوحيدة، التي تميز تاريخ هذه الحركات النقدية، فقد شهد منتصف عقد السبعينيات وما بعده تحولات وصراعات عديدة، على خلفية هذا التنوع والاختلاف الفكري والعلمي الذي استندت إليه هذه الناقدات في صياغة خطابهن النقدي، وإن كانت الاغلبية منهن قد ركزن بصورة أساسية على دراسة أدب النساء والخيال الأنثوي في أدب المرأة، والكشف عن المراحل التي مر بها تاريخ الكتابة الأنثوية، إضافة إلى دراسة السياقات الاجتماعية والثقافية التي حكمت مسيرة هذا الأدب، والدعوة إلى ضرورة تطوير الكاتبات لأشكال تعبير جديدة، قادرة على تمثيل قيمهن ووعيهن بذاتهن الأنثوية.
من خلال ما تقدم يمكن للدارس أن ينتهي إلى تسجيل بعض الملاحظات على هامش هذه الحركة النقدية، أهمها أن هذا النقد على الرغم من محاولته( الإفلات من” الثوابت والمحددات” النظرية، ويود أن يطور خطابا نسويا لا يمكن إقرانه مفهوميا بالانتماء إلى الموروث النظري المعروف) (2) باعتبار هذا الموروث تراثا ذكوريا مطبوعا بطابعه الأحادي، لا يتيح للمرأة تمثيل نفسها والتعبير عن ذاتها ووجودها، وهكذا بقيت رائدات هذا النقد عاجزات عن التخلص من الانجذاب الخاص إلى النظريات العلمية والنقدية والفكرية، مثل نظرية التحليل النفسي عند فرويد، و( النظريات ما بعد البنيوية عند لاكان ودريدا،ربما لأنهما يرفضان في الحقيقة أن يثبتا وجود سلطة ذكورية على الحقيقة، ونظريات التحليل النفسي عن النزعات الغريزية تحديدا، كانت ذا فائدة للناقدات النسويات اللواتي حاولن أن يكشفن عن المقاومة التدميرية، التي لا شكل لها عند بعض الكاتبات والناقدات، من النسوة للقيم الأدبية، التي يهيمن عليها الرجال)(3).
لقد تجسدت مشكلة المنهج في النقد النسوي في أكثر من مستوى، فقد أضافت إلى مشكلة الطابع الانتقائي الذي تميز به على صعيد علاقته بالنظريات النقدية والعلمية والفكرية، مشكلة منهجية أخرى، تجلت في تحديد المصطلح الدال على هوية هذه الكتابة، ووظيفتها وشكلها وتعريفها، من قبل هذه التيارات النقدية المختلفة. لكن الخلاف الأهم تجلى في موقف هؤلاء الناقدات من وجود الكتابة النسوية قبل كل شيء، يمكن تعريفها، وتحديد ملامحها الأسلوبية والتعبيرية الدالة، التي تعكس وجودها كذات فاعلة وتعبر عن خبرة أنثوية خاصة في الكتابة، كما تطالب هيلين سيكسو.
وبينما تعارض الناقدتان مورز وشووالتر وجود حساسية أنثوية خاصة، وتنفيان وجود تراث أدبي نسائي، يبرز الارتباك في منهج الأخيرة عندما نجدها في كتابها (باتجاه بوطيقيا أنثوية) تتحدث عن النقد الأنثوي، بوصفه ( قراءة تدرك النوع وتكشف الافتراضات والقوالب والقيم البطريركية)(4)، ثم تؤكد على أن النص هو انعكاس لواقع سابق، أي لخبرة مؤلفه الاجتماعية والسيكولوجية والعاطفية.
ويظهر التناقض في موقف سيكسو عندما تؤكد سيكسو على أن من المستحيل تعريف الممارسة الكتابية عند الأنثى، في الوقت الذي تنفي فيه أن تكون تعني هذه الاستحالة نفيا لوجود مثل هذه الكتابة. كما يتجلى هذا الاختلاط في الموقف عندما تعود سيكسو لتعترف مرة ثانية بوجود اختلاف كبير بين ما تكتبه النساء وما يكتبه الرجال.
بالمقابل نجد أن ناقدات أخريات يؤكدن على هذه الكتابة النابعة من خصوصية الوضع الاجتماعي والتاريخي والأنثوي للمرأة، كما يظهر ذلك في أطروحات الناقدتين جلبرت وجوبار، عبر تأكيدهن على وجود نفسية نسوية وخيال أنثوي، بل إن ناقدة مثل إيريجاري تذهب في دعوتها للكاتبات النسويات إلى أن يعملن على صياغة كتابة مؤنثة، تعمل على هدم ما قبلها وتشتيت أي أنا ذاتية وحيدة، من خلال التورية واللعب بالكلمات وتقطيع أوصال الجمل.
من جهة أخرى تدعو الناقدة التفكيكية دونا هاراواي إلى تجاوز ثنائية الذكورة والأنوثة، باعتبار أن لاشيء يجمع بين جميع النساء، أو بين جميع الرجال، بسبب وجود فروق طبقية وعرقية وجنسية وثقافية موجودة عند النساء، كما هي موجودة عند الرجال أيضا، الأمر الذي يستدعي من وجهة نظرها العمل على خلخلة مبدأ هذه الثنائية.
النقد النسوي، والكتابة النسوية
على الرغم من هذه الإشكاليات التي يواجهها النقد النسوي، إلا أن ذلك لم يمنع من وجود أهداف مشتركة، يتطلع هذا النقد إلى تحقيقها، تشكل الأساس الذي استندت إليه في تحديد الإطار النظري الذي اكتسبت من خلاله مشروعيتها، ورسمت حدود الفضاء الذي تتحرك فيه، وقد تمثل ذلك في( ا- مواجهة الافتراضات الأبوية المسبقة، الواعية وغير الواعية.2- استكشاف الأدب النسائي.3- فحص القوى البيولوجية واللغوية والنفسية والاجتماعية والتاريخية والسياسية التي تشكل الحياة والنقد، وتسمي إلين شووالتر أولى هذه المهام بالانتقاد النسوي، وتسمي الثانية بنقد الأدب النسائي، بينما تسمي المهمة الثالثة بـ” النقد الثقافي”)(5) .
وبينما تعلن هيلين سيكسو استحالة تعريف الممارسة الكتابية النسوية، فإنها لا تنفي وجودها، بل هي تؤكد ديمومة هذا الوجود في الوقت الذي تكشف فيه عن صعوبة تعريفها أو ترسيم حدودها أو تشفيرها، ثم تذهب أبعد من ذلك عندما تطالب الكاتبات النساء بأن يضعن أجسادهن فيما يكتبن( اكتبي نفسك يجب أن أن تسمعي صوت جسدك، فذلك وحده هو الذي يفجِّر المصادر الهائلة للاشعور)(6).
إن سيكسو التي تستخدم مصطلح الكتابة المؤنثة بديلا عن الكتابة النسوية، تنطلق في هذا الموقف من كون هذه الكتابة تمثل بالنسبة لها فعل مقاومة، طالما أن اللعب بالكلمات والاستعارات والتورية في كتابتها، هي خروج على أحادية المعنى الواحد، ومنطق التماثل الذي تفرضه الكتابة الأبوية، لذلك تشكل الكتابة المؤنثة عندها فعل هدم وتقويض للمنطق، الذي يكمن وراء هذه اللغة الأبوية المسيطرة، فهي إذ (تكتب المرأة نفسها بواسطة “خطاب النساء”، فإنها تعود إلى الجسد، وتصبح اللغة وثيقة الارتباط بالنوع الجنسي)(7)
وعلى خلاف رؤية سيكسو ترى إيلين شوالتر أن الحياة التي تعيشها المرأة، وما يفرض عليها من واجبات تنتج مضمونا أدبيا، يختلف عما ينتجه الكاتب، الأمر الذي يجعل هذا الأدب يمتلك ملامح مشتركة، تكفي لكي تتشكل تقاليد أدبية نسائية واضحة( عندما ننظر نظرة جامعة إلى الكاتبات نستطيع أن نلمس ملمحا متصلا على مستوى الخيال، وأن نلحظ تكون ظهور أنماط وموضوعات ومشاكل وصور معينة من جيل إلى جيل)(8) .
لقد تجاوز الخلاف بين الناقدات النسويات مسألة صياغة مفهوم واضح ومحدد للكتابة النسوية، إلى مسألة منهجية أخرى تخصُّ المفهوم الدال على هوية هذه الكتابة، فقد تباينت هذه المواقف نظرا لتباين المرجعيات العلمية والفكرية التي تستند إليها هؤلاء الناقدات في تشكيل وعيهن النقدي. فهناك منهن من يرفض مصطلح النسوية لأنه مصطلح يشمل مفاهيم وأهدافا سياسية، وتحاول في الآن ذاته التمييز بين مصطلح
أنثوي لأنه( يحدد الجنس البيولوجي، و”مؤنث” بصفته مصطلحا يشير إلى المفاهيم
الثقافية للنوع الاجتماعي)(9)
وتلخص الناقدات النسويات المحاور الأساسية التي يدور حولها الجدل بين هؤلاء الناقدات، فيما يتعلق بموضوع الاختلاف الجنسي في محاور خمسة، هي: قضايا البيولوجيا والتجربة التي تعيشها المرأة والخطاب واللاوعي، إضافة إلى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي يفرضها المجتمع عليها.
والغريب أن النقد النسوي الأمريكي الذي اتصف في سبعينيات القرن الماضي بالقوة والتضافر والهجوم القوي على الحضارة الأبوية، قد انتقل فيما بعد إلى مرحلة مختلفة اتسم فيها بالتنوع والتناقض على صعيدي الممارسة والنظرية. وعلى الرغم من التقاطع الذي كان قائما على صعيد التمييز بين الجنس والنوع (الجندر)، باعتبار الأول قضية جنسية، والثاني تصورا اجتماعيا، في النقدين النسويين الأمريكي والانجليزي، فإن ذلك لم يمنع من ظهور تيارات أخرى، مثل تيار التحليل النفسي القائل بأن الجنس والهوية القائمة على النوع، هما مرتبطان ومتداخلان بصورة واسعة، وتيار النقد الماركسي الذي يعد مكونا هاما وأساسيا من مكونات الحركة النسوية، إضافة إلى تياري النقد الثقافي ونقد التفكيك.
بالمقابل انشغل جزء كبير من الناقدات الفرنسيات، من أصحاب الاتجاه التحليلي النفسي والسياسي بأطروحات لاكان، بوصفها نظرية تعمل على إعادة بناء نظرية فرويد بصورة (تساعد على الدفاع عن التحليل النفسي بشروط نسوية، ما يمكن من استخدامه كنموذج مفسر للعلاقات الاجتماعية والسياسية)(10). وبينما وقف الجزء الأكبر من الناقدات النسويات ضد فرويد ونظريته في التحليل النفسي، باعتبارها تؤكد على الهيمنة الذكورية، وعلى دونية المرأة المتأصلة، فإن الناقدة النسوية جولييت ميشيل تتخذ موقفا مخالفا تماما، فهي ترى في هذه النظرية تحليلا للمجتمع الأبوي، وليس تأكيدا عليه. وتذهب في كتابها التحليل النفسي والنسوية إلى الدفاع عن هذه النظرية وبيان فوائدها من خلال تأكيدها على أن الحالة الجنسية مبنية على أساس اجتماعي، وليس بيولوجيا، إضافة إلى نظريته عن اللاشعور.
تيارات النقد النسوي الغربي
تعددت مناهج وتيارات النقد النسوي الغربي، وإن بدا أن هناك بعض المناهج قد استطاعت أن تحتل حيزا أكبر في المشهد النقدي لهذا البلد أو ذاك، كالنقد النفسي التحليلي في فرنسا، والنقد الماركسي في انجلترا، والنقد الثقافي والاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية. ويمكن أن نجمل أهم هذه المناهج في ثلاثة عشر منهجا هي:
النقد النفسي- النقد الماركسي – النقد الأدبي التاريخي – النقد التفكيكي – نقد استجابة القارئ – النقد السيمولوجي – نقد الأسطورة – النقد الاجتماعي – النقد الثقافي- النسويات السود – نقد العالم الثالث المعادي للاستعمار – النقد الوجودي – النقد الاجتماعي. لكن أهم هذه المناهج تمثل في ثلاثة منه، هي:
1/1 النقد النسوي النفسي:
انقسم النقد النسوي النفسي إلى تيارين أساسيين، هما تيار النقد الذي اتخذ من نظرية فرويد في التحليل النفسي منطلقا له، والتيار الآخر المضاد الذي جعل من المفاهيم النظرية التي قدمها جاك لاكان أساسا في ممارسته النقدية. وتعد الناقدات الفرنسيات الأكثر تمثيلا لهذين الاتجاهين، اللذين حاولا بلورة نظرية جنسية أنثوية تتجاوز المعايير الذكورية، وتعمل على صياغة المفاهيم والأدوات التي تمكنها من فحص النصوص الأدبية سعيا وراء الكشف عن تجليات الرغبة اللاواعية للأنثى وعلامات كبتها، إضافة إلى دراسة الكيفية التي يتم بها بناء( الأنثوي) في أنظمة الخطاب المختلفة. وتمثل إيلين سيكسو وسوزان جوبار وساندرا جلبرت أهم رموز هذا النقد.
لقد كان الاتجاه اللاكاني هو الاتجاه الغالب في النقد النسوي النفسي في فرنسا على الرغم من أن علاقة الاتجاه الراديكالي فيه كانت علاقة صراع مع أطروحاته. لذلك نجد ناقدة مثل إليزابيت جروز في كتابها جاك لاكان مدخل نسوي، لا تكتفي بإظهار الجاذبية الخاصة، التي تنطوي عليها أفكاره، بل هي تبرز أصالة فرويد في ما قدمه في نظريته، وذلك عندما تقول بأن( قراءاته لفرويد تؤكد أصالة فرويد، وقدرته على الهدم، وتساعد على الدفاع عن التحليل النفسي بشروط نسوية، مما يمكّن من استخدامه كمنوذج مفسر للعلاقات الاجتماعية والسياسية)(11) .
وعلى الرغم من تمركز نظرية التحليل النفسي عند فرويد ولاكان حول مفهوم القضيب، إلا أن أهمية الأخير بالنسبة لهن تتمثل في ما استطاع أن يحققه، من تحويل لنظرية فرويد حول ضرورة انفصال الطفل/الطفلة عن الأم لتحقيق الهوية الذاتية، إلى نظرية لغوية تجعل الانفصال عن الأم هو الذي يبني هذا الوعي، في فترة دخول الطفل مرحلة النظام اللغوي . لهذا يعدّ الدخول في اللغة عنده بداية ظهور اللاوعي عند الطفل/ة، حيث يمكن للغة عندها أن تقوم بإعادة توجيه الرغبات المحرمة نحو أهداف اجتماعية.
لقد تجلت أهمية لاكان بالنسبة لهن في أنه استطاع قراءة فرويد، على ضوء المعطيات اللسانية البنيوية، التي ترى أن اللغة كنظام رمزي ليست سوى شبكة من المعاني المفروضة، وأن الذات هي إرجاء مستمر للهوية.
2/1 النقد النسوي الماركسي:
اتخذت ممثلات هذا التيار لاسيما البريطانيات منهن، من التراث الفكري الماركسي أساسا في تشكيل فهمهن للكيفيات التي يتم بها تمثيل الهوية الجنسية، وتركز هؤلاء الناقدات على الدور الذي تلعبه التربية الاجتماعية، في تشكيل الذات الأنثوية وموقعها الاجتماعي، الأمر الذي ينعكس على شكل ومضمون ما تكتبه المرأة، حيث تلعب الأوضاع الاجتماعية والتاريخية، التي يعيشها كل من الرجل والمرأة دورا أساسيا (في شكل ومضمون ما يكتبه كلا الطرفين على نحو لا تستطيع”المرأة” معه فصل الأسئلة الخاصة بقولبة الهوية الجنسية، عن أوضاعها الاجتماعية في التاريخ)(12).
وترفض الناقدة الأمريكية الراديكالية ليليان روبنسون وجود أي استقلال بين الشكل الأدبي والأسلوب والتاريخ، لأنها جميعا لا تتمتع بأي استقلال عن المضمون والايديولوجيا والسياسة، كما تنفي وجود معايير جمالية موضوعية يمكن أن نطبقها على النصوص الأدبية، ولذلك تطالب (النقاد النسويين بدراسة الأدب داخل نطاق اجتماعي عريض، خواصه هي الجنس والعنصر والقهر الطبقي، لأن النقد النسوي كما يدل اسمه هو نقد ذو قضية..)(13).
وترفض شوالتر من جهتها وجود نزعة جنسية ثابتة وفطرية ، أو خيالا أنثويا، ورغم ذلك فإنها توجد اختلافات كبيرة بين ما يكتبه الرجال وما تكتبه النساء.
3/1 النقد النسوي الاجتماعي (الجندر):
يركز أصحاب هذا الاتجاه على دراسة الفوارق الجنسية التي تكرسها الثقافة السائدة ويتم على أساسها تحديد أدوار كل منهما في المجتمع، إضافة إلى البحث في القيم الثقافية والاجتماعية وما تولده من تصورات عنها. ولذلك ترى الناقدات الاجتماعيات أن ما هو قائم من اختلاف بين المرأة والرجل ليست سوى سيرورات تاريخية، اجتماعية وثقافية، ما يجعلهن يركزن على عملية الكشف عن الأشكال التي يتم من خلالها تجسيد صورة المرأة في الأدب.
إن الناقدات الاجتماعيات لا يغيبن مسألة الفوارق البيولوجية بين المرأة والرجل، وتأثيرها على اللغة، خاصة وأن اللغة هي التي تعمل على تجسيد وبلورة الأفكار والممارسات الخاصة بالنوع ( الجندر).
النقد النسوي الأمريكي
عرف النقد النسوي الأمريكي الذي دشن تاريخ ظهوره بظهور كتاب السياسة الجنسية لكيت ميللت، تنوعا واضحا في المناهج والممارسة وصل في عقد الثمانينيات إلى مرحلة التناقض، وذلك نتيجة الترابط الذي كان قائما بين النقد والسياسة. لكن الغريب أن هذا التناقض امتد إلى تقييم الدارسين لهذا النقد، فبينما يذهب فنسنت ليستش في كتابه النقد الأدبي الأمريكي من الثلاثينيات وحتى الأربعينيات، إلى أن هذا النقد قد ركز بصورة خاصة على مسألة الجندر (العوامل الاجتماعية) وليس على العوامل البيولوجية البحتة، انطلاقا من أن النقد النسوي الأمريكي قد تمحور حول (الكشف عن المنطلقات الأبوية وأفكارها المسبقة، ودعم اكتشاف وإعادة تقييم الأدب الذي كتبته النساء، إلى جانب فحص السياقات الاجتماعية والثقافية للأدب)(14)، فإن العنود محمد الشارخ في كتابها الغضب الناعم: الرواية النسوية بين العربية والانجليزية تذهب في قراءتها إلى أن النظرية النقدية عند النسويات الأمريكيات، تتطابق مع النظرية النقدية الإنجليزية، من حيث تركيزها على موضوع النساء بوصفهن كيانات بيولوجية حقيقية، ولذلك فهي تعمل على صياغة سياسات تقوم على التجربة والاحتياجات المشتركة.(15)
لقد تشكل تاريخ هذه الحركة النقدية، من مجموعة متنوعة من التجارب التي اعتمدت في صياغة خطابها النقدي على مرجعيات ثقافية وعلمية مختلفة، حاولت من خلالها دراسة خيال المرأة وعلاقة المرأة بالأدب، ودور التنشئة الاجتماعية في تحديد هوية الأنثى وانعكاس ذلك على حياتها وأدبها، وكيفية تصوير النساء في الأعمال الأدبية إضافة إلى دراسة أدب المرأة. ومن الأسماء التي تصدرت هذه التيارات النقدية النسوية باتريشيا ميير سباكس وإيلين شوالتر وليليان روبنسون( النقد الثقافي)، وإلين مورز (النقد التاريخي والاجتماعي)، وساندرا جلبرت وسوزان جوبار( النقد النفسي)، وأنيس برات، وبيتي فريدان( النقد الاجتماعي). كذلك ظهرت الناقدات ذوات النزعات الراديكالية، واللواتي تميزن بتوجهاتهن الانفصالية، إضافة إلى الناقدات السود اللواتي اعتبرن أنهن يعانين من قهر مزدوج، بسبب طبيعة بشرتهن السوداء.
تمحورت النظريات النقدية النسوية الأمريكية في سبعة تيارات، تتصدرها أربعة اتجاهات أساسية، هي:
تيار النقد الاجتماعي الذي ظل يركز في عمله على الأدوار والوظائف التي تعطي للمرأة في المجتمع، وأشكال تمثيل المرأة في الأعمال الأدبية.
وهناك تيار النقد النفسي الذي اعتمد في نظريته على المعطيات التي قدمتها نظرية التحليل النفسي عند فرويد ولاكان، حيث حاولت ممثلات هذا التيار صياغة الأدوات التي تساعدهن على فحص النصوص الأدبية بهدف الكشف عن التعبيرات الواعية وغير الواعية للرغبة الأنثوية وآثار كبتها، حيث حاولن الاستفادة من دراسة الحالة الجنسية المبنية على أساس اجتماعي ونظرية اللاشعور عند فرويد بصفة خاصة.
ولا يختلف كثيرا النقد السيموطيقي عن النقد الاجتماعي، فقد ظل مشغولا بدراسة النظم الدلالية التي يتم تصنيف النساء على أساسها، ويجري تحديد الأدوار الاجتماعية لها وفقا لتلك النظم. بينما ينشغل التيار الماركسي بدراسة موضوع الهوية الجنسية للمرأة، في ظل أوضاع القهر الاجتماعي والسياسي الذي عانت منه المرأة في التاريخ، ولم يزل قائما، أي بالشروط المادية التاريخية التي تعيش فيها المرأة، والتي تجعل الأدب أداة لإعادة إنتاج هذه العلاقات.
وتحت تأثير الاتجاهات النقدية، التي أعقبت عصر البنيوية كالنقد الثقافي والتفكيك والنقد السيمولوجي ودراسات ما بعد الاستعمار، ظهرت الموجة الثانية من هذا النقد، في السنوات الأولى من حقبة الثمانينيات الماضية. ركزت هذه الموجة الجديد من النقد النسوي على البعد الثقافي لنظام الهيمنة الذكورية على المرأة، إذ اعتبرت (أن النظام الأبوي أيديولوجية مبطنة بالمفاهيم اللاهوتية، التي تخللت جوانب الثقافة كافة، وهيمنت عليها، ودمغتها بطابعها الذي لا سبيل إلى محوه فورا، إنما البدء بزحزحة ركائزه في المرحلة الأولى، ثم التشكيك بجدواه قبل تجريده من الدعاوى الزائفة التي قام عليها)(16) .
كما ظهرت تيارات أخرى كتيار نقد استجابة القارئ والنقد الوجودي والنقد الأسطوري ونقد نساء العالم الثالث، ونقد الشواذ.
النقد النسوي الفرنسي
كان لنظرية التحليل النفسي عند فرويد ولاكان تأثير كبير وأساسي على النقد النسوي في فرنسا، وإن تفاوت هذا التأثير بينهما، حيث لعبت نظرية لاكان دورا أكبر عند ناقدات التيار الراديكالي، على الرغم من حالة الصراع التي وسمت هذه العلاقة، إذ اتسمت علاقة هؤلاء الناقدات مع نظرية فرويد في التحليل النفسي بالتباين، بعد أن قامت مجموعة من هؤلاء الناقدات بمهاجمة هذه النظرية، باعتبارها تنطوي على تمييز جنسي لكونها تجعل الرجل مقياسا لكل شيء، كما تقول لوس ايريجاري في نقدها لهذه النظرية، كذلك تجعل الحالة الجنسية الإيجابية هي الحالة المذكرة بالدرجة الأولى.
أما الاتجاه الذي تأثر بنظرية فرويد فقد دافع عنه بالقول إن مفهوم القضيب عنده هو مفهوم رمزي وليس بيولوجيا. وتذهب الناقدة الفرنسية جولييت ميتشيل في دفاعها عن هذه النظرية إلى القول بأن رفض هذه النظرية أمر قاتل، لأن التحليل النفسي عنده ليس تزكية للمجتمع الأبوي، بل هو تحليل له.
لقد ركزت الناقدات الفرنسيات على موضوع الكبت، وهاجمن القيم والأنظمة بقوة باعتبارها تتمركز حول الرجل، كما تناولن بالبحث الكيفية التي يتم بها بناء الأنثوي في أنظمة الخطاب واللغة والتحليل النفسي. وقد تميز عملهن بطابعه الجماعي من خلال تشكيل مجموعات وصالونات خاصة .
وتتفق الناقدات اللواتي تأثرن بنظرية لاكان على أن طبيعة الإبداع والخيال عند الأنثى متحررة من الاختلاف والثنائية الجنسية، وتكون مرتبطة بالأم، لأن الأطفال الذكور والإناث، كما تقول النسوية الفرنسية في كتابها( إعادة إنتاج الأمومة: التحليل النفسي وسيكولوجية النوع1987)يعيشون مرحلة ما قبل الأوديبية متوحدين مع الأم، قبل أن تبدأ المرحلة الأوديبية التي هي دخول في النظام الرمزي، وتشكل البداية الأولى لعملية الكبت، والارتباط مع قانون الأب، ما يعني الخضوع لسلطة المجتمع واللغة واللاوعي. ولذلك تهدف الناقدة هيلين سيكسو من وراء دعوتها لاكتشاف الخبرة الأنثوية في الكتابة، إلى إيجاد شكل من الكتابة، تتحقق معه استعادة العلاقة ما قبل الأوديبية المكبوتة مع الأم، بغية التحرر من ربقة النظام الرمزي، والتخلص من هوية جنسية أحادية مفروضة.
الهوامش
1)) النظرية الأدبية المعاصرة- رمان سلدن- ترجمة جابر عصفور- الهيئة العامة لقصور الثقافة-ط2- القاهرة 1996- ص234.
2)) النقد الأدبي الأمريكي: من الثلاثينيات إلى الأربعينيات- فنسنت ليستش- ترجمة محمد يحي- مراجعة ماهر فريد- المجلس الأعلى للثقافة- القاهرة 2000- ص188.
3)) النقد الأدبي الأمريكي- تأليف فنسنت ليستش- ترجمة محمد يحيى ومراجعة ماهر شفيق- المجلس الأعلى للثقافة- القاهرة 2000- ص 188/189.
(4) نظرية الأدب وقراءة الشعر- ديفيد بشبندر- ترجمة عبد المقصود عبد الكريم- الهيئة المصرية للكتاب- القاهرة 1996- ص 156.
5)) النقد الأدبي الأمريكي- فنسنت ليتش……مرجع سابق- ص 325
6)) الأدب والنسوية- تأليف بام موريس- ترجمة سهام عبد السلام- المجلس الأعلى للثقافة- القاهرة 2002- ص258
7)) الغضب الناعم: الرواية النسوية بين العربية والانجليزية-دراسة مقارنة- تأليف العنود محمدالشارخ- ترجمة: سامي خشبة_ المجلس القومي للترجمة- القاهرة2007- ص18.
(8) النسوية وما بعد النسوية- تأليف سارة كامبل- ترجمة أحمد الشامي- المجلس الأعلى للثقافة- القاهرة 2002- ص 198.
9)) الأدب والنسوية_ تأليف بام موريس- ترجمة: سهام عبد السلام……مرجع سابق- ص30/31.
10)) الأدب والنسوية- بام موريس- ترجمة سهام عبد السلام….مرجع سابق- ص160.
11)) الأدب والنسوية- بام موريس- ترجمة سهام عبد السلام….مرجع سابق- ص 160.
(12) الأدب والنسوية- تأليف بام موريس- ترجمة سهام عبد السلام…مرجع سابق- ص243.
(13) النقد الأدبي الأمريكي- فنسنت ليستش- ترجمة: محمد يحيى- مراجعة ماهر شفيق- المجلس الأعلى للثقافة- القاهرة 2000- ص328.
(14) النقد الأدبي الأمريكي من الثلاثينات وحتى الأربعينيات- فنسنت ليستش- ترجمة محمد يحيى… مرجع سابق- ص317
(15) الغضب الناعم: الرواية النسوية بين العربية والانجليزية_ ترجمة سامي خشبة…. مرجع سابق- ص 16.
16)) السرد النسوي: الثقافة الأبوية، الهوية الأنثوية والجسد- د. عبدالله إبراهيم- المؤسسة العربية للنشر- بيروت 2011- ص 63.
مفيد نجم