إعداد وتقديم: هدى حمد
نختبرُ «الألم» بصورة يومية في أشكال لا تنضب، نختبره بأجسادنا وأرواحنا، ونراه ماثلًا في عددٍ لا يُحصى من التمثلات الشعرية والقصصية والدرامية والسينمائية التي تُقدمُ الإنسان مُتألمًا أو باعثًا لألم غيره، نراه منذ العصور القديمة ماثلًا في الأساطير والمرويات، حيث يتضاءل الإنسان أمام موجات قهره العنيفة.
لقد كابد الإنسان منذ بدء الخليقة سؤاله الأبدي حول قيمة «الألم» في صميم حياته! فهل كان ينبغي حقا أن نُختبر بالشقاء لننضج نفسيا وروحيا؟ وهل صحيح ما تزعمه الفلسفات التي تُبرر السعادة بأنّها لا تتحقق إلا عبر مخاضات من الأوجاع كالولادة والموت!
لقد مجدت الأديانُ «الألم» ورفعته إلى قداسة رفيعة، حيث تستوجب تحمل العذاب والمشقة في سبيل حياة أبدية مُرفهة على نقيض عذابات الدنيا!
ويرى بعض الفلاسفة أنّ رفض تقبُّل الألم كجزء طبيعي من الحياة، يمكن أن يدفع المرء لأن ينظر لنفسه كضحية، ولذا فالتعامل الواقعي مع فكرة «الألم» تؤدي إلى التحرر من وطأته، كما يفعل نيتشه الذي يكتشف السعادة الكامنة في قلب بؤسه المرير!
تفتحُ مجلة هذا الملف ليس للحصول على أجوبة وإنّما على سبيل الاقتراب من النظرة الفلسفية لتاريخ ألم الإنسان وما كابده في رحلته من الميلاد إلى الموت، وكيف تدرجت الفلسفة في فهم «الألم» حتى صاغت نظرياتها حوله.
فيذهبُ عبدالسلام بنعبدالعالي إلى أنّ تجربة الألم تتوقف على الدلالة التي نُعطيها نحن له. فبينما تُحطم بعض التجارب أشخاصا فإن أخرى تساعد على بنائهم. معنى ذلك غياب معنى الألم في ذاته، إذ يستمدُ دلالته من التجربة الكلية التي يدخل فيها. وتؤكد مارلين كنعان على أنّ سرّ الارتباط الجوهري في الحياة الإنسانية يكمنُ في تجربة الألم والفقد والخسارة أكثر مما يكمن في تجربة الطموح وتحقيق الذات، إلا أنّ مشكلة الإنسان الأساسية تمكثُ في غياب الجواب على سؤال: لِمَ الألم؟
«الطبّ والتعذيب يستقران معا في الفضاء الحميم للجسد الحسَّاس للإنسان، ويستعمرانه: أحدهما لإنقاذه والآخر لتدميره»، هكذا ينبعثُ الألم الناتج عن عنف الاستبداد الذي أشار له عيسى مخلوف، «حيثُ ينطفيء الجزء الأوّل من حياة الأسير بدءًا من الضربة الأولى التي يضربها الجلّاد في اللحم الحيّ».
ويجد محمد آيت حنا أنّ بعض الخطابات التي تُضفي على الألم طابعًا تطهيريًا، باعتباره مرحلة ينبغي تقبُّلها لتجاوزها نحو ما هو أفضل؛ هي في الغالب خطابات لا تنظر إلى الألم كحركة بقدر ما تنظر إليه كسُكون، ولا تعتبره في ذاته، بقدر ما تبحث له عن دورٍ، عن غايةٍ، عن هدفٍ، فهو تارةً الجرعة المرّة الضرورية للشّفاء، وطورًا العامل المحفّز للنّضج. ويضعنا أحمد برقاوي أمام أطاريح مختلفة من صور الألم، يضعنا أمام المرآة باعتبارها الشاهد اليومي على تحولات الجسد. فتحولات الجسد من المرض إلى الموت البطيء، تخلق مشاعرَ متناقضة من الألم والخوف والرغبة في الحياة في آن.
وكما يبدو فكل واحد منا يمنحُ «الألم» المعنى الخاص به، منطلقًا من فلسفة ما أو من إيمان عميق بمعتقد أو بسبب المجتمع الذي يُهيئ تصوراتنا الأولى عن العالم، لكن لعلنا أيضا نذهب إلى ما ذهب إليه جلال الدين الرومي «الجرح هو المكان الذي يدخل منه النور إليك».