باعتباره يقع في المنطقة الباردة من التجاذب المعرفي والفلسفي؛ يكون المسار النقدي للفهم البشري إزاء النص الديني أمرًا يتسم باليسر والسهولة أكثر منه الخوض فيما هو أعلى منه رتبة؛ كفكرة «تاريخية النص الديني» والتي لا يزال النقاش حولها مفتوحًا وغير محسوم؛ أسوة بمفاصل عديدة يظل التفكير معها في لهاث مفتوح للبحث عن كنوز الحقيقة. الأمر الذي يستدعي التفريق ما بين (النص الديني) و(الفهم البشري له) ليس في المعالجات أو الأمور الطارئة التي يفرضها الواقع المتغير فحسب، بل في بدايات التأسيس للنقد المعرفي باعتباره نقطة الانطلاق ماراثونية بين الإنسان والوجود. بمعنى أن الجهد البشري على مر التأريخ لا يمكن مناقشته بمنأى أو معزل عن الواقع أو البيئة أو حتى الظرف الذاتي والاجتماعي للإنسان نفسه.
فالأحكام الفقهية مثلا تتغير بتغير الظروف، والمفاهيم هي عرضة للتبدل والتطور حسب حاجات الواقع ومتطلباته، كذلك الفهم البشري الذي يتملك من القابلية للتجدد والتطور وهذا ما يتمظهر في اختلاف النظرة والحكم بين المتقدمين والمتأخرين من الفقهاء والمجتهدين؛ ليعطي الضوء إلى شرعة تتسق وطبيعة متغيرات الزمان والمكان، فالانتصار للواقع وما يختزنه من مضمون مؤثر، هو بحد ذاته تجلٍ للكوامن الفكرية المتجددة؛ الصادرة عن دوافع حاجة الإنسان وتفاعله مع الحياة بكل تفاصيلها الحيوية؛ لأن أي إهدار للواقع الجديد هو بالضرور إهدار للإنسان وإبداعاته المتنوعة والمتعددة.
ولا غرو إذا ما تغير الرأي في موضوع معين أو محدد؛ حسب تغير الفهم البشري وتجدده، والذي لا يمكن لنا وسمه بالموضوعية دون الاستفادة من اللحظة التأريخية، ليس من قبيل ما تختزنه في جوهرها مستوجبات إنسانية وحسب، بل لأن التفكير البشري على الرغم من قدراته الهائلة يبقى في حالة إرباك دائم أمام كثافة الأسئلة المتولدة عن الواقع الجديد، بالتالي يتعذر عليه ادّعاء منتهى الحقائق. وما فلسفة القناعة بالتنافس الخلاّق بين البشر – أفرادًا وجماعات – إلا أنموذج؛ لا يفسر ماهية الاعتبار البشري بقدر ما يوضح طبيعة العلاقة مع ذاته، والآخر، وكل الوجودات. الأمر الذي يستدعي منظومة فكرية متحررة ومتجددة تنسجم وحاجات الإنسان ومتطلباته بالدرجة الأولى، وإلا.. الأفكار أو الأيدلوجيات أو الأحداث أو التصورات أو الانطباعات لا يمكن أن تكون مرآة صادقة عن الواقع بدقة. وليس من المبالغة القول: إن الواقع المعاصر يستدعي صورة جديدة من التفكير؛ المنفتح على الآخر، في تراثه وتجاربه ومنجزاته الفكرية.
بحاجة إلى أشبه ما يكون وصفه بـ «عقل تداولي» حسب علي حرب، عقلٌ يعقد الصلة مع العديد من النقاط المضيئة في تاريخ البشرية .. مع فلسفة الغزالي وابن رشد، ونظرية النظم للجرجاني، وتواصلية هابرماس، وتفكيكية ديريدا، وهرومنطيقية شلايرماخر … عقل وطريقة تفكير تُسقط كافة الأفكار والمؤدلجات الطوباوية، وتساهم في تفكيك المقولات والمرويات، بصورة مزدوجة؛ تتغير معها بنية الفكر والمعنى بتغير الواقع وفق ميزان التخلف والتقدم. وبكلام آخر: إن الإنسان المعاصر هو أحوج ما يكون إلى لحظة حضارية ناشئة عن انتاج منهجي متجدد، يجعل الأزمة ومفاتيح الحل تأخذ طابعا تداوليًّا أكثر منه انكفاءً وانغلاقًا. بمعنى أن الواقع الراهن يفرض معالجات عامة وليست خاصة، فلم يعد المرض خاصًا بالبيئات الموبوءة، كما لم يعد الإرهاب يعترف بالحدود أو بالجغرافيا والتأريخ، أو أن المتغيرات المناخية تمنح خصوصية الأمان لبيئة عن أخرى. فواقع الانفتاح ينبغي أن يواجه بالانفتاح وليس العكس!.
وفي مثل هذا السياق تجدر الإشارة إلى مؤثرات التأريخ ومدياتها في إصدار الموقف البشري من حادثة ما، أو الانطلاق بالفهم من منصات أيدلوجية أو هويات دينية أو مذهبية، فمجرد القبول بمثل هذه العوامل – وعوامل أخرى أيضا – هو بالضرورة يعني تعذر الوصول إلى الصورة النقية من تلك السيرة أو الحادثة، وهذا لا يعني «موت الحقيقة» أو إلغائها بقدر ما يعني غيابها في التأريخ. لذا ثمة مدعاة لنظرة جديدة لهذا التأريخ؛ انطلاقًا من الواقع الإنساني وحراكيته التفاعلية. وإلا فالتباين بين الأفهام البشرية لم يكن لغزًا محيرًا، بل لم يكن يومًا محل نزاع وجدال، غير أن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا ينزع البعض إلى الاستئثار بالحقيقة واحتكارها !؟.
حتى أن التفاسير القديمة لبعض آي القرآن الكريم والتي بالإمكان تصنيفها حسب مضمونها العلمي قد رسمت صورة مغايرة تمامًا عمَّا هي عليه في التفاسير الحديثة والمعاصرة، بل إن الواقع الحديث بكل معطياته العلمية تحديدًا قد كشف حجم الجمود والتكلس للموقف التقليدي، فقد شهد العقل المعاصر حالة أشبه ما بالإمكان وصفها بالتحرر والاستقلال عن سلطة المفاهيم التأريخية، وقد استطاع العلم الحديث أن يحدد جنس الجنين، فضلا عن التنبؤ بهطول الأمطار، وتغييرات المناخ… وكأننا في أشبه ما يكون بطوفان من التأويلية الفلسفية الجديدة تستوجب إعادة النظر في العديد من المواقف القديمة والحديثة، وهذا خلافُ لما تظهره التفاسير القديمة، مثل: موضوع الشهب والسماوات السبع، أو دحض نظرية مركزية الأرض، أو ثبات الشمس من الأرض!.
ومن جهة أخرى أيضا، إذا ما تم استثناء بعض الآيات القرآنية والتي تحمل مضامين الأحكام من أوامر ونواهٍ، كالإرث والبيع والإجارة .. إلخ، فإنه ومن خلال ما سبق يمكننا تقديم أكثر من تفسير لنص واحد، وهذا يدلل على مشروعية الاختلاف في تقدير فهم النص وتفسيره، بل ويدفع باتجاه القناعة بتعددية الفهم إزاء موقف واحد، فالتفاسير؛ التقليدية منها والمعاصرة، توضح بجلاء مدى تعددية المعاني مع ثبات اللفظ. وبغض النظر عن الأسباب الموضوعية الكثيرة جراء هذا التعدد، إلا أننا لا نستطيع أن ننفي حالة الإثراء من جهة، وربما التيه والغموض من جهة أخرى. والتي ولا شك ألقت بظلالها السلبية على مستوى الوعي المجتمعي فضلا عن المسار التأريخي للبشرية بأكملها، مع ذلك كله؛ لا وجه للمقارنة ما بين التعددية المعرفية والأحادية إزاء احتكار الحقيقة وادعائها.
لقد رفض هنري برغسون وغيره تلك الاحتكارية والحتمية كما رفضها جان مولر باعتبارها تجيز سحق الآخر بكافة أشكال العنف ولو بلغ الأمر للتصفية الجسدية. الانطلاق من مبدأ أن الحقيقة متعينة قد يكون مقبولا من باب الاطمئنان الخاص، لكن من غير المقبول أن يتم إسقاط ذلك على الممارسة والعلاقة مع الآخر، خاصة إذا ما كان هذا الآخر في موقع لا يكفل له ضمان الدفاع عنه نفسه، والصورة تبدو فاقعة في مشهد العلاقة بين الحاكم والمحكوم. أو بين الفقيه والمكلف. وفي السياق نفسه؛ ووفقًا للاعتبارات الخاصة، إنه ولمجرد إيجاد وفرة من القناعة على أن الحقيقة متعينة ومدركة، فإن ذلك يعني نهاية الإبداع، بل ونهاية منظومة قيم العلاقة بين بني البشر. فالتعددية مع بعض التيه أفضل بكثير من آحادية التحكم والسيطرة. والتعددية ثراء وإن أدت بنا إلى «صراع التأويلات» حسب بول ريكور.
من هذا المنطلق يكون كل تفسير أو فهم أو رؤية أو نظرية أو تعبير قد دخل في إطار شرعة الاختلاف والتعدد بين البشر، وأنه ما بالإمكان أن تنفصل هذه الأفهام والتفاسير عن سياقها التأريخي أو الظرف الخاص للمفسر نفسه أو صاحب الموقف، حتى لو تعارض أو اختلف مع فهم آخر، وهذا لا يعني الانتصار للحظة التأريخية على حساب متطلبات الواقع وحاجاته، فأهمية هذا الأخير بالنسبة للإنسان المعاصر أكثر منها تلك النظرات التأريخية المتعددة والمختلفة، بمعنى آخر: أن إتيقيا التفكير هي ذاتها سواء كانت موغلة في التأريخ أو هي ممعنة في الواقع، تظل هي العلامة الفارقة بين لحظة الانتفاح العاقل على التأريخ وبين لحظة الانخراط في الواقع بأداءٍ واعٍ ومسؤول، وهذا ما يتناغم مع بول ريكور في فكرة «صراع التأويلات» القائمة على تلازم تاريخية المعارف رغم اختلاف الأفهام وتوالد النظريات والأفكار وتعاظمهما. وبمحصلة نهائية وفي معرض البحث عن المعنى الخفي منه الظاهر؛ إنه ليس من المبرر الانتصار مثلا: لعقلانية ابن رشد ضد الغزالي أو العكس، أو المرور على «هرومنطيقا» شلايرمخر دون الوقوف عند «فينومينولوجيا» هوسرل!.
إذن؛ الفهم البشري يتولد متأثرا بعوامل عدة، بيد أن أهم عامل هو تلك اللحظة التأريخية بكل ظروفها التفصيلية، مستفيدًا هذا الفهم من المعارف القبلية والاجتهادات المتعددة، ومستلهمًا من الواقع؛ الحاجة الحيوية للإنسان والتي وإن لم ترقَ به نحو سقف الحقيقة، فإنه يكفيه البذل والسعي للبحث عنها. وبغض النظر عن مقاربة الفهم البشري للحقيقة من عدمه، فإن مجرد التسليم لفكرة تطور المعارف عبر التأريخ لا يعتبر فقط ضمانة حقيقية لاستمرار التنوع والتعدد الخلاق بقدر ما يُدخل هذه الأفهام وتعددها في تعاقب تاريخي متواصل؛ لتتلقفها العقول المتنورة ولتسخر ما فيها للواقع، ثم تطلقها مرة أخرى للمستقبل .. وبصريح العبارة ومع الاعتراف بتاريخية الفهم البشري، يظل الواقع دائما محور الأسئلة والجدل بالنسبة للإنسان المعاصر، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون!.
كاتب واعلامي من السعودية