سمر الزعبي
عبدَ القومُ صخرةً ورديّةً عظيمة على مرّ السنين، سجدوا لها، وأقاموا طقوس عبادتهم، ومناسباتهم، واحتفالاتهم الموسميّة لديها، وذبحوا القرابين عندَ مقدّمتها التي ضاقت من الجانبين، فيما امتدّ جسدُها عريضًا انطلاقًا منهما حتى مؤخّرتها الضّخمة، التي سدّت عينَ الشمس، فظنّوا أنّ حدودَها هي نهاية العالم.
اعتقدوا أنّ طائرًا، أو أكثرَ يسكنها، سمعوا ذلك من أسلافهم، لكنّهم لم يرَوه البتّة، ومع طيّ السنين صار أسطورتهم التي تحرس الصّخرة، وتحمل تاريخ أجدادهم.
ذات يومٍ تحرّك شيءٌ على سطحها، أحدثَ ضجّةً جمعتهم حولَها، ثمّ بدا أكثر وضوحًا حينما بدأ يحرّك جناحيه العملاقَين، اللذَين يغطّيهما ريشٌ وشعرٌ وردي، فانهال الرملُ عنهما، ثمّ رفع عنقَه على مهل، والرّملُ ينساب من بين عينيه الواسعتين، حتى حرّره من الأرض، ثمّ حرّر سائر جسده بالتّدريج، فاستوى واقفًا فوقَها بشموخ، بعدما كان قطعةً منها، يلتحم بجزيئات رمالها، فسجدوا له.
فَردَ جناحيه حولَ الصّخرة يغطّيها، فاحتواها بشعره الطويل، الممتدّ من بين عينيه الواسعتين، اتّساعًا يليق باستدارة رأسه، وصولًا إلى ذيله، الذي اختلط الرّيشُ فيه بالشّعر، استمدّت الدفء منه، وتحلّلت ألوان شعره وريشه الورديّة، ثمّ انسابت تندمج بألوان رمال الصّخرة وحجارتها، فانسجم اللون، ونضج ورديًّا تامّ الدرجات.
أشرقت الصحراء، وانشقّ فيها قمر مع أوّل تكسُّرٍ للصّخرة، ثمّ سقطت الحجارةُ الواحدة تلو الأخرى، وتشقّقت الصّخرة.
حفرها القومُ، ونبطوا من قساوتها معلمًا خاصًّا بهم، جعلوا فيها سيقًا عظيمًا يؤدّي إلى كهوفٍ اتّخذوها مساكن لهم، ثمّ حفروا قنواتٍ داخلَ الصّخر تتدفق فيها المياه مرورًا بالكهوف، فالأسواق، ثمّ تمرّ بمحاذاة الساحة، حيث أصبحوا يجتمعون.. حتى تصُبَّ في خزّاناتٍ عميقة.
تلك الصخرة العظيمة تحولت إلى مدينة حكمت ما جوارها، وعدلت، فتضخمت مردوداتها، حفر سكانها بالصخر ونحتوا خزنة شاهقة، أودعوها كنوزهم، التي لم يستطع أحد أن يخترقها قط. وكلّ من دخل المدينة مسالمـًا اكتسب لونها الورديّ، وشاهد القمر المشقوق على نحوٍ مختلف.
لم يرَ أحدٌ الطائر منذ ذلك اليوم، سرَت أقاويلٌ بينهم فحواها أنّه طار إلى بلاد النور قبل آلاف السنين، وفي رواية أخرى قيل إنّه خسر جناحه في عراكٍ مع أحد العمالقة كي يحمي الصّخرة، ثمّ مات على إثره، فنحت القوم تمثالًا مشابهًا له، لكن بجناحٍ مبتور، ثمّ اتّخذت المدينةُ من البترِ اسمًا لها.