غالبا ما فحصنا علاقتنا بلغة الآخر، وقلما درسنا علاقة الآخر بلغتنا، وعلى الخصوص إدراكنا للكيفية التي ينطقها بها. حاولت أن أحلل جانبا من هذه المسألة الشاسعة في لن تتكلم لغتي، وإحدى فرضياتي أننا لا نحب حقا أن يتكلم أجنبيّ لغتنا: لا نحب أن يتكلمها بكيفية سيئة(1)، لكننا لا نحب على الأخص أن يتكلمها بإتقان. افتراض من شأنه أن يصدم القارئ، أُقر بذلك، إلا أنني كلما فكرت فيه، بدا لي أنه يستحق أن يؤخذ بعين الاعتبار. تجربتي الشخصية، وصُدف قراءاتي من شأنهما أن يؤكدا هذا الإفتراض إلى درجة ما. لنعتبر، على سبيل المثال، المخبر الشهير عند أغاتا كريستي، هركول بوارو Hercule Poirot، وهو بلجيكي نفى نفسه إلى إنجلترا. شخصية مثيرة للاستهزاء: جمجمة بيضاوية، وشوارب طويلة، وعلى الخصوص إدعاء لا محدود. من لا يذكر ما يردده حول الخلايا الرمادية؟ ليس هذا كل ما في الأمر: يحصل له في بعض الأحيان أن يتكلم الإنجليزية بنبرة واضحة مقترفا أخطاء تركيب فادحة، وعلى الخصوص في رواية دراما في ثلاثة فصول. هل يعني ذلك أنه لم يتعلم هاته اللغة جيدا، وأنه، بالتالي، عاجز عن النطق بها؟ الواقع أنه يوحي في بعض الأحيان أنه لا يتقنها، وذلك بهدف إخماد يقظة محاوريه، واستبعاد حذرهم. ذلك أيضا سرّ ادعائه، كما يشير إلى ذلك في نهاية الرواية، جوابا عن سؤال ساترويث:» – قهقه بوارو: آه، ذلك الأمر! سأشرحه لك! أنا قادر أن أتكلم الإنجليزية دون الوقوع في أخطاء، لكنّ نبرتي ميزة لا يقدّر ثمنها. ينظر إليّ الإنجليز بترفّع. بوه! مَن هذا الأجنبي الذي لا يعرف حتى تكلم لغتنا بإتقان؟ لكن في الحقيقة أنني لا أريد أن يتخذ الناس حذرهم. أفضّل أن يسخروا مني. وأنا أشجعهم على ذلك، وأتباهى به. الإنجليز لا يحبون ذلك، ويتساءلون: «رجل في مثل هذا الغرور لا قيمة له على الإطلاق». هذا ما يعتقدون، إلا أنهم يخطئون تماما. وهم ليسوا على حذر. يَمثل الموقف الملتبس إزاء لغة أجنبية في رواية أغاتا كريستي عن طريق المسافة، والسخرية، ومسحة من اللعب. في مكان آخر، يمكن لهذا الموقف أن يكون مصدر مأساة. في رواية رعب وخفقان تحكي أميلي نوطومب Amélie Nothomb يبدو أن اليابانيين لا يغفرون لها كتابة هذه الرواية(حدثا يستحق التنبيه. فبطلتها، التي هي الساردة في الوقت ذاته) وهي بلجيكية، مثلها مثل الكاتبة، ومثل هركول بوارّو (تعمل في مقاولة كبرى باليابان. يمثل عملها في تقديم فناجين القهوة إلى رؤسائها. أخذْتُ هذا الدور بالجدية التي يفرضها كونُه الدور الوحيد الذي أسند إليّ. «ذات صباح، إستقبل رئيسها بعثة من عشرين شخصا ينتمون لمقاولة صديقة»[…] قمت بالدور على أحسن وجه: قدمت كل فنجان بتواضع كبير، مرددة أكثر عبارات الترحيب رهافة، خافضة العينين منحنية الجسد. «كانت تعتقد أنها قد أدت بذلك دورها، ولكن ما أن ذهبت البعثة حتى استدعاها رئيسها، وقال لها بنبرة غاضبة: «لقد أسأت كثيرا إلى بعثة المقاولة الصديقة!» ما الذي أزعج الضيوف؟ وما الخطأ الذي ارتكبته؟ «قدمْتِ القهوة بعبارات توحي أنك تتكلمين اليابانية بكامل الإتقان!» عيب المستخدمة الشابة هو أنها تتقن اليابانية وتعرف لويناتها. وهكذا يتبدى أن إتقان التكلم بلغة أجنية خطأ كبير لا يغتفر. مهما حاوَلت التذكير بأن تمكّنها من اللغة اليابانية هو الذي كان السبب في توظيفها في الشركة، فإن الرئيس لم يفهم ذلك على هذا النحو: «لقد خلقت جوا مقيتا في اجتماع هذا الصباح: كيف كان لشركائنا أن يشعروا بالثقة، مع وجود بيضاء تفهم لغتهم؟ «هذا هو جوهر الحكاية: لم يرتاحوا إلى وجود أجنبية تفهم ما يقولونه. لقد انزعجوا، وترتيب الأمور الذي تعودوا عليه قد اختل. ليس للأجنبي أن يتكلم اليابانية بإتقان، وبالأحرى إن كان الأمر يتعلق ببيضاء. البيضاء ليس لها وليس عليها: فمن جهة، ليس لها أن تتكلم اليابانية، فذلك من غير المعقول، ومن جهة أخرى ليس عليها أن تتكلمها، فهذا محرم عليها. كل ما هو مسموح به لأجنبي، هو معرفة تقريبية باللغة: حينئذ يظل وضعه كأجنبي غير قابل للمساس، فهو الآخر بصفة واضحة، ومكانه محدد تحديدا جيدا.(2) وإلا فإن وضعه يختل، وتغدو هويته إشكالية: فهو ليس نحن، إلا أنه يتكلم مثلنا! المسألة مسألة نظام وترتيب: ضمن أيّ صنف نضع هذا الدخيل؟ ولكن أيضا: أين أضع نفسي؟ أين نضع أنفسنا؟ هذا ما أزعج مبعوثي المقاولة الصديقة. إنهم لم يشعروا بالثقة، شيءٌ ما سُلب منهم، ولم يعد العالم مثلما كانوا يتمثلونه ويعرفونه. لقد تجرأت البيضاء أن تتكلم بطلاقة، وبلغت بها الوقاحة أن ترقى إلى مستوى المتحدثين الأصليين، أرادت أن تلغي الفروق بأن تتحرر من نفسها بغير حق. عليها إذن أن تُكفّر عن ذنبها، وسرعان ما صدر الحكم: «ابتداء من الآن، لن تتكلمي يابانية». لقد حكم عليها بالخرس، وعليها أن تركن إلى الصمت. وبالفعل، فإن عدم التحدث باليابانية، يعني عدم التكلم على الإطلاق، بما في ذلك لغتها الأصلية، تلك اللغة التي رُدت إليها، والتي لا يفهمها من حولها أحد. تُذَكّر بما نسيته، وهو أنها أجنبية، تُذَكّر بأن تتلقى الأمر بنسيان اللغة اليابانية. طريقة جذرية لمحو الخبرة التي اكتسبتها في اليابان، ولما تعلمته هناك، وهذا جزء من العمر لا يُعوّض. في نهاية المطاف، فهي قد رُدّت إلى بياضها، وغربِها، وفرنسيتها، واختلافها. ومع ذلك فقد حاولت أن تفهم الأمر على نحو بيّن، ظنت أنها لم تسمع الحكم جيدا، راودها الأمل: » – عفوا؟ – لم تعودي تعرفين اليابانية، الأمر واضح؟ […] – يستحيل، لا أحد يمكنه طاعة أمر كهذا. «لا يجهل رئيسها أنه من المستحيل نسيان لغة. وهو نفسه لا يعمل إلا على ترديد الأمر الذي تلقاه)» تلقيت أوامر في شأنك(3) «(وفي النهاية يتوجه إلى البيضاء متصالحا: «جربي على أية حال. على الأقل تظاهري بذلك». هذا ما يهم في نهاية الأمر. ها نحن نعود، بعد انعراج صغير، إلى هركول بوارو، الذي تَظاهر بأنه لا يعرف الإنجليزية.
الهوامش:
j هذا النص سينشر ضمن ترجمة لكتاب لعبد الفتاح كيليطو سيظهر باللغتين الفرنسية والعربية في الوقت ذاته تحت العنوان المؤقت : أتكلم اللغات جميعها، لكن بالعربية.
1. أمام أجنبي يبذل جهده للتعبير باللغة العربية، بإمكاني أن أشعر بنفاذ الصبر، بله بالسخط. ولوضع حد لهذا الوضع غير المريح، ربما أميل إلى الرد عليه بلغته. قد يبدو أنني أهب لنجدته، لكن في الحقيقة أنني أرده على عقبيه، وأحيله إلى لغته، وأنزع عنه الحق في استعمال لغتي. هناك طريقة لمنعه من العودة إلى ذلك: الضحك السادي، خصوصا عندما يؤدي النطق السيّئ إلى قلب المعاني، فمن شأن حرف نطق به على نحو سيّئ أن يؤدي إلى دلالات ماجنة أو جنسية أو قذرة.
2. لاحظ كاتب فرنسي فيما يتعلق بكتابي حصان نيتشه: «ليس هناك أي خطأ لغوي». إذا ما تأملنا الأمر ف»أنت تتقن التكلم بلغتي«، تعني »أنت لا تتكلم لغتي«. وفي هذا الميدان، لا أحد بمنجى من الخطأ. أعترف أنه كثيرا ما أتيحت لي فرصة التعبير عن عدم تسامحي اللغوي. كان من عادتي أن أهدي كتبي عند ظهورها إلى صديق فرنسي قديم. رأيته ذات يوم بعد غيبة طويلة، فسألني إذا ما كنت قد نشرت شيئا. اجبته: «نعم، لم أبعث إليك كتابي لأنه باللغة العربية». رد عليّ متعجبا: «أنا أعرف العربية»، فخجلت من نفسي. كنت أعلم أنه درس هاته اللغة، وأنه يتقنها، بل إنه، فضلا عن ذلك، قد نقل إلى الفرنسية كثيرا من الروايات العربية. كنت أعلم كل هذا، ومع ذلك فقد أنكرت عليه معرفته لغتي. عماء ونسيان لا يغتفران… سادت بيننا لحظة انزعاج متبادل. من شدة نبله، لم يلاحظ هفوتي التي كانت بالفعل غير مقصودة، إلا أنها لا تفهم بالرغم من ذلك. من غريب الصدف أنه هو نفسه الذي نقل إلى الفرنسية، مدة قليلة بعد ذلك، كتابي لن تتكلم لغتي.
3. يطرح الجدال في مستوى الثنائي شرق- غرب. القيمة المعنية هي الطاعة. إذا صدقنا رئيس المقاولة الياباني، فان الطاعة)حتى ولو كانت استجابة لأمر غير معقول(، تعني النظام، الذي لا يقوى عليه الغربي في نظره.
عبد الفتاح كيليطو ترجمة :عبد السلام بنعبد العالي
مفكر من المغرب