هكذا..
بعد أن تجاوزنا مساحاتٍ شاسعةً: رمل وحجارة مشتعلة في شعاع الشمس الذي لا تحجزه أي غيمة. وصلنا مناطق الجبال الصفر، الخاكية الباهتة، والحمراء المشتعلة بأوكسيد الحديد.
سائقنا يبتسم، هكذا، ينتبه إلى حُفَرِ الطريق، يبطئ ويُسرع، بين حجارة منتشرة، ربما من نيزك قد انفجر قبل ساعات قليلة؛ فكأن المكان قد اشتوى في مِقلاة عملاقة. الغبار خلفنا، عاصفة من الصفرة المشعة ترقص فيها ذرات التراب والرمل، ومعادن أخرى ربما من كواكب أخرى. مع ذلك؛ فالأرض بركانية منذ ملايين السنين.
يومًا قال لي ابن عمَّتي: «حين كنتُ في نيويورك أحسستُ وجعًاً في عيني اليمنى؛ فذهبت إلى الطبيب. بعد فحص بالميكروسكوب وجد فيها ذرة من ذهب؛ ربما هنا أيضاً، في هذه الأرض البركانية، تتطاير أمامنا في صفرتها ذرات ثمينة.
لكن ماذا؟ رجعتُ. حيرتي أيضًا معها. حين نعشق ما الذي يحدث؟ يتغير الجسد.. بسر من الأسرار العليا، هابطاً من عوالم أخرى.. آه.. أهو هذا؟.. لتكن الأشياء كما هي.. لتكن الأشياء كما هي.. رجعتُ، أخذتُ أتمعَّنُ الطريق، أفحصه ، وأرقب مهارة سائقنا الذي لقبناه بالجبلي؛ لقبٌ ناله بجدارة.
«في يوم في شهر في سنة» صوت المغني.. يستمرُّ في أنينه:
«تهدا الجراحْ
وينامْ جرحي أنا
في يومْ في شهر في سنة».
على الطريق العام مع صوت المغني، مُنكئا للجراح، نظر إليَّ الجبلي وهو يزيد قوة الصوت: «تحب هذا المغني.. سيِّد حمَّادي؟» سألني، فاتحًا عينيه على سعتهما. نظرت.. هامسًا إلى نفسي: هذا الفتى الطيب!.. ثم أجبت: «مَنْ لا يحب الغناء العاطفي؟»؛ سؤالي جِديٌّ مع ابتسامة. «كلنا نحب الغناء العاطفي» عقَّب مبتسمًا، ثم نظر إلى الطريق المُسفلت قبل أن ينحرف إلى الطريق الترابي الذي، بشكل مفاجئ ومزعج، يبدأ بمطب. أدار وجهه فجأة. رفع يديه عن المقود، وبدهشة: «عجيب لماذا وضعوا مطبًّا كهذا قبل الدخول إلى الصحراء؟» ثم أكمل: «ها.. أنه لا يقلق سفينة الصحراء.. الجمل». ضحك. شاركناه دعابته. بعدها تجاوز الارتفاع، غير المعقول، بهدوء.
إنَّ اختيار طريق الصحراء، الذي لم يكُ غيره، عسيرٌ على سيارتنا الصغيرة؛ فكان أحمد ماهرًا في دورانه حول أحجار الطريق؛ اجتيازه مغامرة كاملة، مع الشمس.. التي جعلت كل الكون حولنا، حتى الفراغ يشتعل نارًا، وأنا مشتعل، صدري، رأسي، وكل أعضائي في الداخل.
«في يوم في شهر في سنة».. مرة أخرى الصوت الحزين.
«تهدأ الجراح
وينام جرحي
عمري أنا»
في يوم.. لماذا نبحث عن هذا الإكسير؟ ما هو.. يسقطنا في هوة عميقة.. نغرق.. عسيرٌ أن نقاوم.. عسيرٌ أن نخرج بلا جراح ترهق الروح.. الحب عالم كائنات بلا ماضٍ، بلا حاضر، الزمان يتوقف أمامه.. مَعلمٌ واحد.. واضحٌ مشعٌّ.. هو نفسه مَعْلَمُ الحب. وصلنا الجبال.. سطوعها يحجب وضوح الرؤية. ثم تخلينا عن السيارة فوق حصى مسودّ بعد أن اقترب الجبلي أحمد الحاتمي من حافة وادٍ عميق.
«ماذا تريد؟.. أن تهبط إلى الوادي؟». «أجاب بسرعة: لا. لا. نتقرب أكثر». على بعد أمتار من السيارة أنهيت شرب الماء من القنينة البلاستيكية، فوضعتها على أحد الأحجار لأخذها عقب انتهاء مغامرة البحث عن ينبوع ماء ما بين الجبال. نظرت إلى الخلف: إنها باقية في موضعها.. الطبيعة مثيرة للوحشية في كل هذا الحر الشديد. لاحظت ذلك والقنينة البلاستيكية واقفة في مكانها، شفافة زرقاء. والحجارة، المتفرقة، وكأنها قُدَّتْ بإزميل: رمادية معتمة، تعكس الضياء.
ونحن ننزل إلى عمق الوادي كان صديقنا الجبلي يقود الجموع، ماعزًا جبليًّا يعرف علاقته بالصخور، يقفز بسهولة كافية، مثيرة.
انعكست الأشعة من جانبي الوادي وصخوره، أكثرها مغطًى بالكِلس.. هذه الصخور الشامخة. كأننا نطفو في الضوء. جسدي خفَّ وزنه، وأمام بركة ماء، ظهرت فجأة تحت الصخور، توقفنا. لاحظت أسماكًا صغيرة تعوم؛ أسماك ها هنا، هكذا!
قال صديقي خميس قلم: «هذه الأسماك نُسمِّيها «الصَّدّ» تظهر وقت الشتاء والأمطار، وتموت بالمئات وقت الصيف، تحفظ بيوضها في الأعالي، قرب ينبوع الماء لتعود من جديد وقت الشتاء والأمطار».
عاينته في خضمِّ الضوء، والكلس يحيط بنا من كل مكان. ثم نظرت إلى البركة.. تحرك في داخلي شعور جديد، شعور البحث عن معجزة.. أريد أن تعيش هذه الأسماك.. أريد أن أتحدَّى.. لماذا تفنى حياة رقيقة؟.. من الممكن أن تطول، أن تغتنم شيئًا من الوقت.. فجأة أحسست بحركة خلفي.. كانت هي؛ ضوء سابح في ضوء.. رقيقة حنون.. تشير إليَّ من بعيد.. تقترب بخفة.. ثم أخذنا نتأمل الحياة الكائنة أمامنا، نراقب هدوء تحركها ما بين منعطفات الصخور التي ترسم كل عالمها.. عالمها الذي سيتلاشى ويتبدد.. أمسكتْ يدي.. «إنها تكتشف عالمها الزائل هذه الأسماك الصغيرة». شدت على يدي. نظرت إلى عينيها: هناك وجدت انعكاسي.. وقد ترقرق الدمع.. فهفوت أقبل عيونها.. أضمها.. كلانا يصبح ضوءًا.. ها هو كل شيء أمامها.. أسماك رمادية مختلفة الأحجام تسبح عبر البركة الضحلة تكتشف بقايا خفايا الزوايا تحت الصخور.. ربما مرت على كل سنتيمتر مئات المرات.. آلاف المرات وها هي تمضي.. تتحرك بهدوء.. تشارك موقفنا في الضوء.. وجسد الحبيبة يقترب يزخ الحياة في جوانحي.. فأرتجف.. إنها رغبة الحياة.. أغمضتْ عينيها. أغمضت عينيّ. ارتفعنا في الهواء.. فجأة سمعت صوتًا: «أيها الفنان أيها الفنان.. أيها الفنان». تنبهتُ؛ كان خميس يحاول أن يأخذني بعيدًا من.. «إنها ستموت يا حمادي.. هذا هو قانون الطبيعة من مئات السنين في هذه المنطقة الوعرة القاسية.. قانون الطبيعة». نظرت إليه. تلفتُّ. حبي تلاشى في الهواء.. تركتْ داخل قلبي عاصفة ظهورها.. تذكرني بنفسي.. حياتي التي أريد.. وأتمنى لكائنات أجيء إلى قربها.. أرى سرَّ حياتها.. ولغز تكرر وجودها وموتها.. أرفض.. أريدها أن تعيش أطول.
نظر إليَّ صديقي بتمعن، أحس بأني بعيد، مشروعي… شرحت له من بعد ذلك: الحياة الحلم.. أركاديا اللانهاية.. والعشاق يمشون بتؤدة على شاطئ البحر.. رؤوسهم مزخرفة بألوان الورد.. الصارخة. لن أكف عن الحب.. البدويُّ الذي في داخلي قد فهمته.. وجهته إلى طريق ضد الفناء، همُّه اللَّوحة.. قطعة موسيقى.. النظرة.. نظرة الحبيبة التي لا يُحتمل فراقها.
سألته: «وماذا بعد؟». أجابني بتمعن شديد: «الحياة تستمر».
كدت أبكي.
وحين تحركنا باتجاه النبع سمعت أصواتًا؛ هناك أنثى، في هذا الجو المحترق تحتمي بظلال الصخور وماء النبع. حين وصلنا كانت هناك بركة ماء عميقة بعض الشيء.. وعلى ضفافها الضيقة التي تحف بها الصخور العالية جدًّا: شاب وشابة عملا شواء. لاحظت عُدَّةَ الشواء: فضية لامعة من السيليفون. هذه البلاد تُجهِّز كل شيء، فكرتُ، ثم لاحظت: أنهما يلبسان ملابس السباحة الأوروبية. طبعًا نحن في الشرق، قانون المحافظة يملي شروطه الداخلية. كانت الفتاة سمراء، شرقية الملامح كلية، ممتلئة بهدوء، ناهدة الصدر، حين رأتنا ارتبكت، أما الفتى فأوروبي، طويل، أشقر محمر الشعر، يبدو روسيًّا، ينظر حذرا. تعجبت: هما قرينان لي والحبيبة، أنا ذو شعر أسود، شرقي، ومؤججة نيران الليل والصباح أوروبية، شعرها مشتعل بحمرة الغروب. البشر يتلاقون.. معها أفقد كل صفاتي الأرضية حين تقترب أو تنظر إليَّ بتلك النظرة: حنان ورقة. صعد الأخوان إلى أعلى الصخور لرؤية النبع الذي يخرج، كما قال خميس من بين صخور سوداء، لكنه ينساب هابطًا إلى اتجاهات مختلفة، دون أن تصل مياهه إلى البركة الضحلة، حيث أسماكي التي تنتظر الموت المحتم.
بعد قليل من الوقت ارتدت الفتاة ملابسها؛ تبدو مغربية. أعدت الفكرة وأنا ألاحظ خجلها من المفاجأة في هذه الصحراء الشاسعة، والفتى ينتظر.. ينظر إلى شكلي الغريب. جمة كثة وضفائر. تبسَّم، شعر بنظرتي.. نظرة العاشق.. لا عداء هناك سوى التهنئة، لكن كيف لي أنا أن أجلبها من الهواء؟ أو أقول لها أي شيء في التلفون الذي لا ترد عليه بسبب الانشغال، حياتها.. وأنا مهمتي المركزة: العذاب. غادر الاثنان، وأنا أراقبهما من خلال الضوء الباهر: عاشقان.
حين غادرا في سيارة «الرنغ روڤر» نظرا إليَّ، تبسَّما. لم أستطع تسلق الصخور العالية، من أجل رؤية النبع؛ خميس صوَّره بكاميرة التلفون، رأيته، ثم رأيت الجبليَّ يهبط بسرعة كأنه ماعز- لقبه بحق. في اليوم الثاني طلبت منهما: «هل من الممكن أن تعملا شيئًا جميلاً من أجلي»؟ «أهلاً وسهلاً.. تفضل» أجاب الصديقان بابتسامة واضحة وترحيب. قلت: «أريد أن تحملا سطلين.. كل واحد منكما يضع خمسة منها.. مملوءة بالماء.. من البركة الكبيرة حيث كان يسبح العاشقان.. من أجل أن تعيش الأسماك».
تمعن خميس: «آه.. تريد أن تُطيل حياتها ما بين الصخور شهورًا أخرى».
فانبرى الجبلي أحمد، العارف بقوانين الجبال: «يا أيها الفنان العزيز من الممكن في هذه الطبيعة.. حين تموت هذه الأسماك، وهذا ما سيحدث.. في الشتاء القادم سوف تجيء إلى الحياة مرة أخرى». تأملتهما.. عليَّ إدراك ذلك.. عليَّ إدراك ذلك..
تلفتُّ حولي..
أحسست الدمع يترقرق.. بحزن.. أحسست شفتيها.. أيضًا.. تمسُّ شفتيَّ الجَّافتين.. أتنهد وأحمل مذاق لُعابها كل بقية المساء، والليل. آه الغناء:
«في يوم في شهر في سنة.. تهدأ الجراح.. وينام جرحي عمري أنا
في يوم في شهر في سنة».