(1)
الحديث عن المنازل يثير الشجن لدى الفلسطينيين. لذلك، ساحاول، قدر الامكان، ان لا اكون «جاستون – باشلاريا». ومع ذلك، فان الاحالات الى باشلار ستكون خفية وظاهرة ، وسيكون باشلار «بطل» هذا الحديث بلا منازع . فلو كان باشلار حيا، وهذا على سبيل الافتراض، فلربما جرّب الكتابة عن البيت الفلسطيني، الذي قد لا يكون كبيرا بما فيه الكفاية، بيد انه يشتمل على اسرار ماتعة ، كغرفة الصالون الواسعة التي تنشر عبق الضيوف الودود والابواب المفتوحة في وجوه الغرباء. اعترف بان البيوت الفلسطينية لا تبز البيوت الاخرى. على العكس، ستجدها بيوتا عادية، واجمل ما فيها هو فن البناء الشرقي البسيط، اذ شاء مخططوها وبنّاؤوها ان يحققوا البساطة والجمال في آن واحد. بالطبع، لا يخفى عليكم، ان فن البناء الغربي اخذ يجتاح المنطقة منذ فترة ليست بالقصيرة . فن بناء عربسكي عربي، او فلسطيني، يتمازج مع فن بناء غربي.
اني شخصيا لا اؤمن بالتقسيمات , فان كلمتي «شرق» و«غرب» لا تجدان دلالة خاصة في نفسي. فانا في الشرق «غرب»، وفي الغرب «شرق». ان للبيت الفلسطيني طابعا خاصا ستجدون تفصيلا، او تأصيلا، لتفاصيله في الادب الفلسطيني عامة، وفي رواية انطون شماس «عربسك» ، خاصة في قسمها القروي الباشلاري بامتياز. لقد شاء الكاتب الفلسطيني انطون شماس ان يكتب روايته المذكورة باللغة العبرية، ربما على سبيل المفارقة. فالادب، كالبيوت، مليء بالمفارقات.
يشبه الادب الفلسطيني البيوت الفلسطينية – بيوت قد تبدو عادية في البداية، لكن ما ان تجتاز قدماك عتباتها حتى تصاب بالدوار. التجريد ليس قائما في مساحات هذه البيوت، وحواسك الخمس ستأخذ بالانتعاش حال غمسك الخبز بالزيت والزعتر. وعندما تفرغ ، ستتلمظ طلبا للمزيد. ارجو ان لا تغرنك التقنيات الحديثة وآخر صرعات فن العمارة، فما زالت جملة تولستوي ترن في رأسي: «الحقيقة بسيطة وقصيرة». البناء الفلسطيني «العقد» ما زال مثالا للبيوت المريحة، بتقسيماته الداخلية، والاهم كونه دافئا في الشتاء بدون اي «سنترال هيتينغ» وباردا في الصيف بدون مكيّف هواء . اذا ما زرتم بلادي في هذه الايام فلن تجدوا «العقد». «الاوكسدنتال» اخذ يغزو المنطقة. وآخر مرة سمعت فيها عن بيت فلسطيني كانت قبل خمس سنوات.
سأحكي لكم قصة بيت فلسطيني، لانها تنطوي على اكثر من دلالة ادبية، وهي الى حد ما، تعبّر عن حالة فلسطينيي الشتات الذين هججوا او رحّلوا في نكسة الـ1948، والذين ظنوا انهم سيرجعون الى بيوتهم بعد ايام، وما زالوا يحافظون على مفاتيح بيوتهم حتى هذا اليوم. وستجد، انهم يحتفظون ايضا بذكريات دقيقة لشكل البيت ومحتوياته ورائحة القهوة التي لم يحتسوها ساعة تشردوا من بلادهم. ذكريات تفوح في اعمال ادبية فلسطينية عديدة. وادب شفوي غير مسجّل يحمل ذكريات لادق خصائص البيت او المنطقة ونوعية الحياة والعلاقات الاجتماعية قد لا تجد له مثيلا في آداب او ذكريات الشعوب الاخرى المقتلعة. واذا ما سئل المحدّث عن علاقته ببروست وزمنه الضائع، فانه سيمط شفتيه استغرابا, فذكريات الفلسطيني عن بيته الضائع وزمنه المدمر، الذي يدور في اكوان اخرى، سيختلف عن زمن بروست. اما عن العبث الفلسطيني الذي يصل حد الجنون، والذي يضرب عميقا في الارض الفلسطينية، فانه يفوق العبث الكفكائي. ولو قدّر لكافكا المصاب في صميم انسانيته، ان يطل على العبث الفلسطيني فانه سيسارع بالتخفي وراء ستارة المسرح، التي حتما، ستحول دون ذر الملح على جرحه الذي لم يندمل في حياته، فكيف في حالة بعثه في زمن فلسطيني كهذا؟ اما فالتر بنيامين، الذي احب كتابة الادب، فقد يكتب فصلا جديدا عن الفلسطيني المقتلع من بلاده وقد يمضي الى انتحاره هادىء البال !
«ألف ليلة وليلة» هي اعظم الآثار الادبية عندي (وان كنت مغرما ومفتونا الى ابعد الحدود بـ«الكوميديا الالهية» لدانتي اليجيري). انهما كتابان يتحديان الزمن: الاول بفنطازيته وغرائبيته، اما الثاني فيتميز بسيولته وبساطته وقمميته التي لا تضارع، وعلى صفحاته يجري لقاء الشوامخ التي لا تخشى بعضها: فيرجيل يقود دانتي اليجيري في رحلته الاسطورية الى الجحيم والمطهر ويرأف به ويحدب عليه حدب الاب وباتريشيا تسارع بالحضور الى الجحيم في حالات الخطر لتحمي صاحب اجمل الاعمال الشعرية من المخاطر. شهرزاد ام باتريشيا؟ يعجبني حضور السيدتين معا، وان استحال الامر بسبب المضارة او المنافسة او الغيرة. فالاولى (شهرزاد) قالت وابدعت، اما باتريشيا فلقد قوّلت وفجرّت ينبوعا من الشعر العذب الخالد. لذا، فاني اكثر ايثارا، مرغما لا اختيارا، لشهرزاد الحكيمة والمحنكة، لحبي للنثر ولفشلي في قرض الشعر – وبرغم هذا، فان كتاب دانتي الذي لا يضارع على الاطلاق سيرافقني كما لم يرافقني ولا اي كتاب. انه كتاب الكتب. «الف ليلة وليلة» جعبة الحكايات التي لا ينضب معينها، بفعل التصاقها بكل فئات وطبقات الشعب وبسبب لغتها البسيطة غير المتخشبّة وغير المحتشمة والتي تشبه لغة الحياة الى حد بعيد، تساير كل الاذواق وتستفز الخيال. وقصص الفلسطينيين، وخاصة الشفوية، التي قد تسجّل مستقبلا، ربما تتحدى الزمن.
وعلى الطريقة الالف ليلية، اعود الى حكاية البيت الفلسطيني. ثمة ملياردير فلسطيني هجّر من بلدته سنة 1948. لقد قرّر هذا المتمول، الذي قضى حياته في مناف عديدة، ان يزور البلاد هو وابنته، قبل ان ينتقل الى دنيا الآخرة . لقد حمل ذاك الشخص شكل ورائحة بيته اينما حل. فرائحة زيت الزيتون في الخابية الكبيرة كانت تنبعث في ذاكرته كلما رأى تنكة زيت في بيت او في ابسط سوبرماركت. هذا الرجل حوّم ما يزيد على الساعة حول بيته. اما ابنته فقلقت اشد القلق، لئلا يصاب بنوبة قلبية لشدة انفعاله، الى ان لجأت الى حيلة , وهي طلب الاطلال على البيت من داخله لانه يختلف عن كل بيوتات المنطقة. الفكرة كانت لامعة وصاحبة البيت لم تعترض. وعندما دخلا رأيا ما لم يتوقعاه: الحيطان كانت مليئة بلوحات لرسامين غربيين، اما خوابي الزيت فقد ابقيت في اماكنها فاغرة افواهها، كجروح تطالب بالثأر من كل هذا الديكور الجديد. ابنة المتمول حطمت الصمت بسؤالها المرأة عن فكرة شراء البيت. المرأة الاسرائيلية اجابت بالحرف الواحد: «هذا اجمل البيوت في نظري. لا اريد استبداله ولا بأي فيلا. انه بيت اصيل ينبع من روح المنطقة». ولقد تبيّن، فيما بعد، ان صاحبة البيت كانت مهندسة معمارية. مفارقة معمارية ومفارقة ادبية.
البيوت كالادب. سيسعد الغاستون باشلريون من التوصل الى هذه النتيجة. ذاك الفلسطيني الذي جاء خصيصا لزيارة بيته كمحب الادب: البيت هو الملهم. وفي التحليل الاول، يبدو البيت هو الموقع الاكثر اهمية لكل انسان وللكاتب لكي يكتب. اللابيت هو الطريق الى البداوة. البداوة هي حالة شعرية اكثر مما هي حالة نثرية. فالنثر، وحتى الشعر مرات، بحاجة للاستقرار.
الكاتب الانجليزي جون برجر يكتب عن اهمية البيت بالنسبة للمنفيين. فما الذي سيقوله عن الفلسطينيين في الشتات، الذين ما زالوا يحلمون بالعودة الى بيوتهم؟ ولكي نخفف من حدة هذه الحالة سنلجأ الى لغة المجاز والاستعارة. فالفلسطينيون يخلقون اوطانهم الخيالية في كافة اصقاع الارض – او يخلقون ما يشابه فلسطين. فحتى في اميركا ستجد ما يقارب الـ15 بلدا تدعى فلسطين، كما وجد انطون شماس. وفي حالة عدم خلق «فلسطين» ستكون الاوطان الخيالية هي البديل. هل يقدر الادب على رأب الصدوع بخلق اوطان موازية للوطن الحقيقي؟ نترك حق الاجابة عن هذا السؤال للكاتب سلمان رشدي، فهو الاكثر جدارة فيما يتعلق بالاوطان الخيالية.
تخيّلوا بلدة في امريكا (امريكا ما غيرها!) تدعى فلسطين. اليس هذا غريبا بعض الشيء؟ ! اما عند الشعوب الاخرى، فستجدون ان الادب ينتقل من مكان الى آخر والاوطان تظل ثابتة في اماكنها. عند الفلسطينيين، وبالذات المشتتين، ستجدون شيئا مختلفا: يخلقون صورا لأوطانهم الى حين العودة، والادب يدور دورته في زمن ووطن وهميين آخرين. لقد عبّر عن جوهر هذه المشكلة الشاعر محمود درويش بقوله:
وطني ليس حقيبة
وانا لست مسافر
(2)
من يعرف القليل من التراث العربي الكبير، فسينبهر وسيحتاج الى عمر ميتوشالح لقراءة البعض من هذا التراث. اسوق هذا الكلام لاعطي فكرة عن البيت الذي اتحدّر منه. اعترف هنا ان التراث اليوناني اشمل واعظم. اما الجيتو الذي اعيش فيه، والذي لا اتمناه لاحد منكم، فلم يحل دون تواصلي مع هذا التراث، حتى عندما كانت الجسور مغلقة بسبب الحروب في المنطقة. المعجزة الكبرى التي اجترحها ما يسمون بفلسطينيي الـ48، او ما يحلو للبعض ان يطلق عليهم عرب اسرائيل، هو بقاؤهم في بلادهم رغم سياسة الدولة الفتية التي هدفت الى بناء دولة يهودية لليهود. الجليل، بالنسبة لي، منطقة صغيرة تكتنز تجربة نادرة. فهناك نشأت وتبلورت مواهب عديدة اثبتت جدارتها، رغم كل الحصار. ما يسمى عندنا بادب المقاومة اينع واثمر على جرح كارثة الـ1948، التي تركت جرحا عميقا في نفوس كل الفلسطينيين. وكما يقول جان جينيه، فان الجرح هو اصل الكتابة. اسماء عديدة لكتاب عالميين وشعراء مقاومة ستجدونها اليفة لدى القارىء الفلسطيني العادي والمثقف والكاتب. انه لمن الصعب ان تجد مثقفا فلسطينيا لا يحتفي بشعراء كنيرودا ولوركا واراغون والوار وماياكوفسكي وبوشكين. انها اسماء اضاءت ليلنا في حلكة جيتو خانق.
ولان الفلسطينيين، كشعب، كانوا يحاولون لملمة اشلائهم على هذه البسيطة، فان الشعر كان اقدر على الاستجابة على الفاجعة. وسيكون هناك خطابان: خطاب الضحية وخطاب الجزار. سيكون خطاب الضحية (الجرح) بسيطا وعميقا في الآن ذاته وسيأخذ بالشعر والنثر الى الذرى من اجل الحفاظ على البيت والحياة. فالادب، في حالتنا، يحاول الحفاظ على البيت وعلى المكتبة، اذا شئتم ذلك. اما خطاب الجزار فسيكون مفبركا ومنمقا. كأن يقول الاول: «كان الخنجر رسول موتي» او كأن يقول الثاني: «كان الخنجر ذا الوان زاهية تفرح القلب…» وهكذا دواليك. في الخطاب الاول، ستجدون شاعرا بمستوى محمود درويش يكتب عن جندي يحلم بالزنابق وسيحاول تعليم الاعداء تربية الحمام. لا تستغربوا هذا، فالضحية تحاول ان تؤنسن جزارها! لكن من اين للجزار ان يستوعب الشعر الحقيقي؟! الجزار يحب الكلام المنمق. لوركا، الذي نثر الفراش في لحية والت ويتمان، سيكون، وسيظل، شاعرا طاغي الحضور في بلادنا. ثمة قرابة قوية جدا بين الاسبان والعرب. فعندما اقرأ لوركا لا اجده غريبا عني. وعندما اقرأ مسرحه اشعر انه يكتب عن العرب. وتمتد هذه القرابة لتلتقي مع غالب ادب اميركا اللاتينية. وهذا ينطبق ايضا على ماركيز. لا يعود احتلال ماركيز لمكان مرموق في عالمنا العربي بسبب عشقه للعرب وكتابته عن سانتياغو نصار او ميغيل ليتين الفلسطيني الاصل، وانما لاصالته (فكل سطر من سطوره هو روح ونفس ماركيز، واي محاولة للتأثر به هي بمثابة الابحار في مياه قد تبدو للوهلة الاولى هادئة وصافية، الا انها سرعان ما تدخلك الى حوام جامح، قد تنجح في تخليص نفسك منه وانت في غاية التحقق من انك فقدت الكثير من خواصك وحتى نفسك. انه الاصيل الى درجة اللايحاكى او اللايضارع) ولقدرته على التخييل ولقرابة اجوائه من الاجواء العربية. مقطعان رائعان ضربا عميقا في داخلي من رائعته الجنونية: «مائة عام من العزلة» . الاول يدور عن البيت والقبر (: «الانسان لا ينتمي الى مكان الا عندما يكون له فيه قبر» وردت اورسولا بتأكيد هاديء: «اذا كنت مضطرة للموت من اجل ان تبقوا هنا، فسأموت.»)
جدتي، لابي، التي كانت تشبه الهنود الحمر الى حد بعيد، كانت تمقت الهاتف اشد المقت وتلعنه في سرها مرات كثيرة. اما ابن اختها الذي كان يهاتفنا من امريكا، فهو الوحيد الذي كان يجرؤ على طلب جدتي للتحدث معه بالتلفون. ورغم معزّته عندها، الا انها لم تذعن لالحاحه وقبول التحدث معه بهذه الآلة الشيطانية. لذا كانت جدتي تناديني لأصل بينها وبين ابن اختها الذي كنت اهتف بجمله بصوت عال. كان يقول لي: «قل لخالتي اني اريد العودة، لكني خائف من ان تقتلني عظام ابني في طريق عودتي. خيانة ضنايا في قبره.» كانت جدتي تزجرني لانهره، منبهه الى ان حديثه يقلقل راحة الموتى وهذا يعتبر كفرا مريعا. كان الحنين يقتله، الا ان موت ابنه في حادث طرق وطلاقه من زوجته الامريكية التي ملته لادمانه الاكتئاب مزقا عالمه تماما. كان يجوح على التلفون، سائلا حلا للعودة الى البلاد، الى ان قال لي ذات مرة ما هزني وصعقني. قال لي: «سأعيد رفات ابني الى البلاد». ما ان سمعت جدتي ما قيل حتى صرخت بان «هذا تجديف لا يقبله اي كافر، فكيف بنصراني؟!» بعد هذا الحديث، كانت جدتي تحني رأسها وتبكي ابنها وحيدها الذي مات في عز شبابه، لكنها كانت تعزّي نفسها بحقيقة وجود قبره في البلدة التي ولد فيها مع بقية قبور ابناء العائلة. اما تعليق جدتي عن ابن اختها، الذي سيموت بعد سنين قهرا في بلاد الغربة , فسيكون على النحو التالي : «هذه لعنة. كان لا يجب ان يترك البلاد ويجري وراء شقراء لا يعرف اصلها من فصلها. انه منكوب، لانه لم يصلّ بما فيه الكفاية . الجحيم سيكون من نصيبه . سأصلّي له ». ثم ترسم اشارة الصليب وتدمدم: «لقد اخذه الله الى جواره ليريحه من عذاب التفكير في الموت والقبور. انها لعنة حلّت به ليموت في بلاد بعيدة». الاقتباس الماركيزي الثاني، هو حين يصرخ الكولونيل اوريليانو بوينديا، قائلا: «في احد الايام، ساعمل على تسليح اولادي للتخلّص من هؤلاء الامريكيين الخرائيين». اتخيّلني احيانا وانا اقرأ ماركيز ان الدم العربي يجري في عروقه. فالمجتمع الذي يكتب عنه ماركيز يشبه المجتمع العربي، خاصة في مجال المعتقدات والخرافات. ولا يقف الامر عند هذا الحد، بل يتعداه الى حوار شهير، غالبا ما يدور في المدينة التي اعيش فيها، يتمحور حول حقيقة ان ماركيز يشبهنا في الخلقة ايضا. قبل سنين، وقعت لأحد اصدقائي نادرة طريفة في باريس، اذ حالما دخل مقهى «الكوبول» رأى ماركيز وزوجته يشربان القهوة. ان هذا الصديق، الذي كان مفتونا بكتابة ماركيز لم يجرؤ على طرح السلام عليه. لقد جلس قبالة ماركيز وزوجته وتأملهما ما يقارب الساعة. وعندما سألته عن السبب لعدم اقباله على التعرف على ماركيز قال لي بالحرف الواحد وهو منفعل جدا:»كان الهبّال يطلع منه. كان يبدو كالبركان وهو ينفث دخان سيجارته.» وعندما فوجئت من هذا الوصف، لاني سمعت ان ماركيز شخص متواضع وحيي، سألت صديقي: «احقا، كان يبدو لك كذلك؟ا» قال لي: «كان يبدو لطيفا جدا، لكني هكذا تخيلته.» ساعترف لكم اننا شديدو الاعتداد بماركيز. فالواقعية السحرية هي مظهر من مظاهر الحديث العربي اليومي وستجد مئات الحكايات العربية المذهلة الشبيهة بقصص ماركيز.
(3)
لقد طغى الصوت الانساني على ادبنا. اذ انحاز الادب الفلسطيني الى التحالف مع آداب انسانية اخرى، سيكون على رأسها ادب الشعوب المقهورة، امثال دول امريكا اللاتينية التي ترفض التحول الى مزرعة لامريكا. ثمة اعتقاد راسخ في ذهني, وهو ان الشعوب المقهورة غالبا ما تقدم خطابا مختلفا عن خطاب الدول المهيمنة. لذلك لن يكون غريبا علي كل من خطابي الشاعرين العظيمين نيرودا وسيزار فاييخو. اذكر هذين الاسمين على سبيل المثال. وسيكون خطاب الشاعر الفلسطيني محمود درويش رافدا جديدا ومكملا لما بدأه شعراء سبقوه . اتحدث عن الشعر، لأن الشعر اقدر على التحالف والتآلف من النثر. النثر يرفض العموميات ويدحضها ويعنى بالتفاصيل والخصوصيات. هذا لا يعني، بأي حال من الاحوال، ان الانماط ذاتها ستتكرر. فلكل تجربة خصوصيتها، كما ان الشكل الفني سيكون تابعا ذليلا للمضمون. وسنتفق مع بورخيس، بانه اذا ما قمت باعادة نسخ عمل كالدون كيخوته في زمننا، فان النص المنسوخ ( المنقول) سيكون مختلفا عن النص الدون كيخوتي الاصلي، فكيف والامر يتعلق بتجربة اخرى ؟!
الحكاية تكتب نفسها. الادب الشفوي في العالم العربي كثير. ان كاتبا امريكيا، كبول بولز ستجدونه يلجأ الى تسجيل بعض الحكايات الشفوية. طبعا، ستحذره زوجته من مغبة هذا التسجيل، فقد تقع هذه الكتابة القصصية، لمن هو خارج هذه الثقافة، في اطار التبسيط. انها مغامرة غير مأمونة، ومع ذلك فقد اعجبت ببعض هذه الحكايات.الادب الشفوي الفلسطيني كثير. ولقد عملت على تسجيل بعض هذه الحكايات سيدة انجليزية تدعى روز ماري صايغ وكتابة كتاب مذهل، لا بل نادر، عن الفلسطينيين. هذا الكتاب يعتبر جوهرة عندي وان كنت لا اذكر عنوانه الآن.
ان كاتبا افريقيا قد يستوعب تجربتي اكثر مما يستوعبها اتباع سيدني شيلدون. وقد يبدو الادب، لمن هو خارج التجربة، مجرد رومانسيات او حتى سياسيات او جماعيات. وعلى هذا اذكر الحكاية التالية التي تتردد كثيرا في حياة الفلسطينيين الذين اقتلعوا من بلادهم. سيكتب لي احد الاشخاص الذين يقيمون في الخارج طالبا مني ان ارسل له غصن زيتون من بلدته. اما آخر، فسيطلب مني ان اطلب من محتلي بيته في حيفا ان يسمحوا لي بان اطل في البوفيه، اذا ما بقيت، بحثا عن رسائل حب كان يتبادلها مع فتاة حيفاوية. ادراج فلسطينية في بيت فلسطيني بحيفا؟! جاستون باشلار سيصاب بالذهول. بعد كل هذه السنين ما زلت تذكر رسائل الحب الاولى؟! اما ثالث، فسيطلب من احد اصدقائه ان يصوّر له برج الحمام. اما لقاءاتي مع اصدقائي الباريسيين فلقد كانت تتعبني. كان يتعبني حنينهم الى البلاد التي كنت اكرهها كرها شديدا – وما زلت لا اطيقها حتى هذا اليوم – لانه من الافضل لك ان تولد على جبال الهملايا على ان تكون عربيا فلسطينيا اقلاويا داخل حدود دولة اسرائيلية عنصرية. كان حنينهم يزعجني، لكنه كان يموضع سؤالا كبيرا: الا يحق لنا ان نكون جاستون باشلاريين بحق وحقيقة؟ قد يبدو هذا الامر غير مهم، لكنه سيكون على غاية الاهمية لمن ذاق تجربة التشرد والاقتلاع.
ثمة مثل عربي يقول: «للبيوت حرمات.» كذلك للادب حرمات. اعترف ان كل البيوت التي دخلتها افدت منها. اما ذكر الاثر الذي تركته عليّ هذه البيوت او الكتب بالتحديد، فلن تكون عملية سهلة. وساعجب دائما بصراحة هنري ميلر لتسجيله مائة كتاب أثّرت عليه تأثيرا كبيرا. انه كاتب يحترم البيوت التي يدخلها. وبما اني لن احتل عراء هندي احمر، ولن احتل بيتا فلسطينيا فسيكون للادب العالمي تأثيره علي. فانا لن احتال عليكم ببدعة الاصيل. الاصالة عندي ما تنبع من روح المنطقة التي تأتي منها، مع ما يتداخل على التجربة او البيت من عناصر غريبة اخرى. ويعرف الكل هنا ان التداخل بين ثقافات العالم، على كل المستويات قائمة. فالعالم قد يتحول الى قرية واحدة، طبعا ليس على طريقة السياسة الامريكية الكريهة، وانما عبر التواصل الثقافي الانساني. والمثال على ذلك هو البيوت الفلسطينية، التي ما ان تدخلوها، حتى تجدوا لوحات لرينوار ولفان حوخ وبيكاسو معلّقة الى جانب لوحات اسماعيل شموط. حال الادب، تماما، كحال البيوت. فيد التجريب تطال البيوت ايضا. والحداثة تغمر الجدران الداخلية والخارجية، حسب ذوق صاحب البيت او الرواية او القصة. انها حكاية الثقافة منذ الازل. فجلجامش ملّ الوحدة (وهي الكتابة الواحدة عندي) وبحث عن صديق صدوق يحادثه (الصديق عندي هو على مستوى التيارات الوافدة من الاماكن الاخرى .) صداقات تأتي وتروح، وبيوت تتغيّر باستمرار وتحكي حكايات اصحابها. كنت حذرتكم منذ البداية اني ساحاول الا اكون جاستون باشلاريا. لكن يصعب الحديث عن البيوت وعن العناصر الاولى شبه البدهية، دون ان يطل علينا جاستون باشلار بشعره الشائب وخطواته الثقيلة، لينقب مرة اخرى اعماق البدهيات لرفدها بحياة جديدة، وليثبت ان الحياة في البيوت تحوي سحرا خاصا، اذا ما عملنا على نبش الكنوز الخفية في اعماق هذه البيوت. فكيف سيكون الحال، بالنسبة للفلسطيني، الذي يحاول ان يثبت بيته او العودة الى البيت من اجل ان يؤسس مكتبته ويضع على ارففها كتب الكتّاب الانسانيين، الذين عملوا من اجل بيوتهم، وبشكل غير مباشر من اجل البيت الفلسطيني ؟
سيكون مملا الاتيان على ذكر كل الكتب التى تحظى بمكانة خاصة في عقلي وقلبي. فهذا كحال العاشق الذي يسأل عن معلوماته في الحب، فيشرع في سرد قصة حياته: احببت مادلين لعذوبتها ورقتها، واحببت جوزفين لغنجها النسائي، واحببت مارلين لجمال شعرها وطعم شفتيها، واحببت ناريمان لصوتها الوسنان، واحببت بياتريس لجمالها الاخاذ. وعندما يسأل العاشق «النشيط» : «وكيف كنت تحب قبل هؤلاء؟» سيجيب العاشق جوابا ليس ناضجا بما فيه الكفاية: «كنت احبهن جسديا اكثر. اما الآن فاحبهن واحب صفاتهن الروحية اكثر». الم يقل توماس مان في رائعته «الجبل المسحور»: «جمال الوجه من جمال الروح»؟ هكذا الادب، عندي، والعفو على هذه المقارنة. ان جمال الشكل والاسلوب ينبعان من جمال المضمون. اما المتهافتون على التكنيك دون ان يملكوا موضوعا، او جسدا حقيقيا، فلا أستطيع قراءتهم. وهكذا ترون ان كل البيوت التي دخلتها أثّرت عليّ، وارجو ان اكون قد حافظت على حرماتها، على الأقل، من باب الادب ! واعترف، اني كنت وما زلت عاشقا كبيرا لكل ما هو حقيقي واصيل، دون ان احاول تفسيره اكثر من اللزوم، لئلا اقتله. فالتشريح قاتل، وهذه ليست مهمتي. ولا يخفى عليكم ان ثمة اشياء تحبها دون ان تستطيع تفسيرها او تفسير اسباب هذا الحب. يكفي ان تحب، لتجد سببا وجيها لان تعيش اكثر واكثر، ولأن تكون مجديا، ولو على القليلة من اجل هذا الحب!
jj (الكلمة التي القيت سنة 1994 في جامعة ايوا الامريكية ضمن «برنامج الكتابة الابداعية العالمي» والمعنونة اصلا بـ«بيتي ليس كبيرا بما فيه الكفاية: ما الذي أخذته عن الآداب الأخرى؟»).
رياض بيدس
كاتب وقاص من فلسطين