أماندين غروس، ماري روبير- كاتبتان فرنسيتان
ترجمة: ماري طوق – مترجمة لبنانية
ماري روبير فيلسوفة وروائية فرنسية شابة، مربّية، وأستاذة في الأدب والفلسفة، وكتبها تقارب مسائل يومية من وجهة نظر فلسفية، وقد ترجمت إلى خمس عشرة لغة. في عام 2020 أطلقت البودكاست الخاص بها:« Philosophy is sexy »، حيث تكّرس كل حلقة للتأمّل في موضوع فلسفي مستقى من الأسئلة الوجودية التي تطرحها الحياة اليومية. من كتبها: “كانْت.. أنت لا تعرف ماذا تفعل، تبقى الفلسفة”. “ديكارت لأيّام الشك، وفلاسفة آخرون ملهمون”. “رحلة بنيلوب”، روايتها الفلسفية الثانية، حيث تدعونا ماري روبير إلى تتبّع بطلتها بنيلوب، في رحلة جغرافية وذهنية حقيقية. إنّها ملحمة البطلة العاطفية، بين زواجها، وحملها، والحداد على حبها الأول. هذه الرواية هي أيضًا درس في الفلسفة في حدّ ذاته، ودليل على إننا قادرون على بناء حياتنا، حتى بعد الفوضى التي تحدثها عواصف هذه الحياة.
تعتبر ماري روبير تجربة الفلسفة أسلوب حياة وليست فكرًا نظريًا بحتًا. لقد رافقتها الفلسفة دائمًا في جميع جوانب حياتها، سواء على المستوى المهني أو الشخصي. تتحدّث عن اكتشافها لحملها وكيف وجدت نفسها في مواجهة فراغ فلسفي إذ اكتشفت أنّ الفلسفة كانت صامتة نسبيًّا بشأن موضوع الأمومة والأبوّة، أو أنّها لم تتناولهما إلا في النادر. إذا كثر الحديث في الفلسفة عن خلق الذات، والإبداع الفني، فإن الصمت هو السائد عندما يتعلّق الأمر بالحديث عن الأمومة. وكأن الحديث عن ظروف الحمل سواء أكان الحمل أو الولادة من المحرّمات. هل لأن تاريخ الفكر كان في المقام الأول من صنع الرجال؟ غالبًا ما يُرجع المجتمع الأمومة إلى الجوانب الفيزيولوجية والعاطفية، وبذلك يختزل المرأة في جسدها وعواطفها. على الرغم من أن ماري روبير تدرك أهمية هذه الجوانب، إلا إنّها تجد أنّه من المقلق عدم العثور على تفكير فلسفي متعمّق حول هذا الموضوع.
بالنسبة لماري روبير، فإن التحول المرتبط بالأمومة هو تحوّل ميتافيزيقي يضيف مكوّنًا مهمًّا للهويّة وهو الأمومة. يثير هذا البعد الجديد أسئلة حول “الأنا” ويؤدي إلى تحوّل عميق في الفرد.
فيما يتعدّى الطفل الذي نستقبله، ما الذي نأتي به إلى الوجود؟ للإجابة على هذا السؤال، التقت الصحفية آماندين غروس المفكّرة والفيلسوفة ماري روبير التي أصبحت أمًا مؤخّرًا. إلى جانب نظرتها الميتافيزيقية تُضاف تجربتها المباشرة التي تحاكي الموضوع الأكثر شخصية، ولكن الأكثر عالمية أيضًا.
منذ بضعة أشهر أنجبت ماري روبير طفلها جيمس. أكثر من أن تكون مجرّد تجربة شخصية، إنّها نظرتها الفلسفية التي تضيء الموضوع. نورد في هذا المعرض رأيها وتأمّلاتها حين سألتها آماندين غروس عمّا إذا كان هناك شيء غير مسبوق انبثق مع صرخة الوليد الأولى:
“ولد جيمس في عملية قيصرية طارئة. لكأنّها دوامة اضطررت خلالها أن أتخلى عن جسدي بالذات لأتجاوز هذه اللحظة. وإذ أصبحت أمًّا، أنجبت بطبيعة الحال الحبّ اللامتناهي، وأقوى المسكّنات، لكنّ الأمر الأول الذي فكرت به هو ولادة قوّتي بالذات. ليست قوّة مرتبطة بالأمومة بل بقوّة الحياة، ما يجعلها بعدًا إضافيًا. أشعر بها مثل نبع هاجع أو مثل صهارة تنبثق من خلف الشك، مثيرة هذا التساؤل وهذه الهشاشة اللذين يستبقان الدفع إلى حياة جديدة. كنت خائفة جدًا ممّا تستطيع ولادة ابني انتزاعه مني، وتساءلت حائرة ماذا سيصير بمكاني وحريتي. وخلافًا لكلّ توقع حدث العكس. كان لديّ شعور مفاجئ بأني أستطيع فعل كل شيء.
ولادة مجهوليْن
حدث اللامتوقّع. تلك نقطة مشتركة بين جميع النساء اللواتي أصبحن أمهات. يولد شخص مجهول نتبيّنه من ملامح ذاك الطفل الذي كنّا ننتظره، ونبدأ باكتشاف كلّ شيء عنه. وهناك أيضًا المجهول الذي نصيره نحن بالذات لأنفسنا. يمكن أن نكتشف أنفسنا، ويمكن أيضًا أن نضلّ فلا نعود نتعرّف على أنفسنا. إننا نلد تمامًا اللامسبوق. ففي عصر نقوم فيه بالتخطيط للولادة، وما بعد الولادة، وللوالدة التي سنكونها أو الوالد الذي سنكونه. في عصر نستعلم فيه عن كلّ شيء، حيث لم يسبق للأمومة أن كانت قطّ موثّقة بهذا الشكل، ينبثق مظهر من كياننا لا نستطيع روْزَه. وهذا لا نستطيع الاستجابة له إلا في اللحظة الحاسمة التي يولد فيها الطفل. نتقاسم تساؤلاتنا حول تجربة تمنحنا القوة لكنها قد تشرع أبواب الخطر على حقيقة تكهنيّة. هذا يحدث بالضرورة على هذا النحو. أنا التي أملك طبيعة قلقة جدًا، كنت أتوقّع أن تكون الأسابيع الأولى شاقة. ولكن ويا للغرابة، كنت أقول لنفسي طيلة الوقت: ما يحدث لي غير مسبوق، لا أعرف هذا الشخص، ومع ذلك لا أفقد توازني، ولا أشعر أنّني في حال من انعدام الأمان. هذه الثقة التي لم أكن أفكر أنّني أمتلكها أتت لملاقاتي في عمق جلدي. يقال إنّ فكرة تناقل قصص النساء يحرّر الكلام، ولكن في الواقع، حين تصبحين أمًا، أليست التجربة هي ما تلدينها؟
ربّما كان كلّ ما يغلّف الولادة، من الحبَل إلى الإنجاب، أو خلال نمو الطفل، هو التجربة الوحيدة حيث يتواجه فيها ما هو غير قابل للتحكّم باللامتحكَّم به.
تفتّح اللامسبوق في منبت التجربة
هناك ما يقال لنا وهناك ما نعيشه. تلك هي جملة أستطيع تقاسمها مع جميع الآباء. لا أحمّلها تشاؤمًا ولا اندهاشًا ساذجًا. لا أضمّنها إلا الفكرة الأساسية وهي أن اجتياز اللامسبوق في حدوده القصوى يعلّمنا اختبار الشعور الوالديّ. أن تصبحي أمًا هو شيء حيويّ للغاية. أنجبت طفلًا بعمر السابعة والثلاثين وأنا أعمل في قطاع التربية. ومع ذلك فإن ما يبهرني في كلّ ثانية، منذ ثلاثة أشهر، هو هذا اللامسبوق المذهل. بالرغم من المعارف المسبقة التمهيدية، الأمومة تجربة قصوى. أشير إلى انعدام الخيارات الطوعية التي تحفّ بمسار الأم. في كثير من المواقف، وبفضل وسائل منع الحمل، أن تكوني أمًّا هو خيار. ولكن بعد ذلك، لا يعود هناك خيار، ولا كم من الوقت سيستغرق الأمر كي تصبحي أمًا، وما إذا كنت ستكونين ذلك يومًا، ولا المخاطر، ولا المسالك، ولا المسرّات الزائفة، ولا آثار الحمل، ولا جنس الطفل، ولا شكله، ولا طبعه، ولا الإنجاب. وأضيف إنها ولادة الخطر التي تتفتق حين نخوض تجربة إنجاب طفل. إنّها ملازمة الخطر لأنّها تثير مسألة الموت. هناك خطر موت الطفل، وكذلك وعي فائق لموتك أنت بالذات حين تصبحين أمًا. تنبثق تلك الفكرة المقلقة والمطمئنة في الوقت نفسه بأن أطفالنا سيبقون من بعدنا. نعم، حين أنجبت جيمس، فكرت بموتي للمرة الأولى في حياتي. ثمة تحدّيات تتعلّق بالصحة العقلية وكم هي شائكة وسط هذا الجمال الهائل والهشاشة الهائلة.
انبثاق الفيض، والآخر مقابل الأنا
كم من الأمهات شعرن أنهنّ على قمة جبل، يصارعن الجمال والقبح، التجاوز والاستلاب؟ يحكى عن المخاطر الجسدية لكنّ المخاطر النفسية هي أيضًا ذات خاصية فريدة. تأتي لموافاتنا في الحالات القصوى. ولهذا بالضبط توصف تجربة الأمومة على أنّها تجربة الكثافة والاتساع. هذا الالتباس مبهر. أذكر هذا الفقدان للتوازن الذي يحيي الفوارق، وأشعر به. يجب إيجاد توازن بين الضروري وما يتخطّى الواقع. إنها تجربة فلسفية أكثر من أي وقت مضى. جميع المسائل حاضرة: الحياة، والموت، وبناء الأسرة، وحياة الزوجين، والسؤال: من يكون هذا الفرد؟ وكيف أعاود تحديد نفسي؟ يجب عيش هذا التسلسل الميتافيزيقي مع هذا اليوميّ المتفاقم. (وهنا تعقّب الصحفية آماندين غروس قائلة: “من هذا التحاور مع الفيلسوفة يخطر لي السؤال الذي يصبح أكثر إلحاحًا كلّما كبر أطفالي: هل نلد البالغ أم نلد من جديد الطفل الذي كنّاه؟). أن تصيري أمًا يعني أن تخلقي ذكريات طفولتك بالذات. أن تستكشفي أراضي بكرًا، وأرض الطفولة جزء منها. ما هو أكيد هو أنّ البيئة التي نعيش فيها يعاد تركيبها، وأنّنا نتخذ خيارات أكثر حدّة ونخلق خارطة جديدة للعائلة. هل ولادة طفل تفتح المجال أمام معادلات جديدة؟ نعم إنه سحر الآخر. ما أجده بديعًا في هذه الجرأة التي دفعتني للإنجاب هو ولادة هذه الحياة الجديدة التي لديها إمكانات جديدة، والتي ليست استنساخًا”.
الهوامش
* مقالة مقتبسة من مجلة فرنسية تدعى ميلك Milk Magazine