الأسطورة، في الأساس، حكاية مقدّسة، أبطالها من الآلهة أو من أنصاف الآلهة. وهي نص أدبي جميل كان يُتلى في المعابد أو يُمثّل على المسارح القديمة. وكلمة «أسطورة» ذات أصل آرامي (سرياني) من فعل «سطر» أي كتب، ومنها كلمة «سطّر» بالعربية. أما في الإغريقية فهي (Istoria) وتعني «أخباراً تاريخية»، ومنها جاء مصطلح (History). غير أن للأسطورة بعداً معرفياً أيضاً، هو أنها محاولة لاستكشاف خفايا الكون وغرائبه الكثيرة، وهي، في الوقت نفسه، محاولة لتفسير أسرار الكون المتشابكة. وتنتمي الأسطورة، زمنياً، إلى مرحلة حضارية سبقت نشوء الفلسفة وبدايات العلوم، فكانت تفسَّر بطريقة أولية، وربما بدائية أحياناً، ظواهر الكون والطبيعة، ولا سيما مظاهر التغير في السماء والأرض. فأسطورة «برسيفوني» تفسّر، إلى حد ما، تعاقب الفصول الأربعة. وأسطورة الثالوث المصري «إيزيس وأوزيريس وحورس» حاولت أن تقدم تفسيراً لظاهرة الخصب تبعاً لجريان نهر النيل وفيضانه، أي ثالوث الموت والانبعاث والخلق، أو الخير والشر والانتقام. فاتحاد النيل بالأرض ثم بدء عملية الإنبات هو تماماً مثل اتحاد إيزيس وأوزيريس وإنجاب حورس.
فأوزيريس هو إله الخضرة (الخضر = جريس) ابن الإله «رع» إله الشمس. وهذا الإله اتخذ أخته إيزيس زوجة له فأنجبت حورس وساعدته على القضاء على عمه الشرير «ست»(1) الذي قتل والده أوزيريس. وحورس هنا هو المنتقم لأبيه من عمه. وإيزيس المصرية هي قرينة لفظية وتبادلية مع «العزى» العربية، مثلما أن أوزيريس (أوزير) هو نفسه «العُزير» العربي. وفي أي حال فإن التثليث كان شائعاً في معظم الحضارات المائية والزراعية القديمة ولا سيما في مصر وسورية واليونان وشبه الجزيرة العربية. فاللات ومناة والعزى، الآلهة الثلاث الإناث، نجدها في شبه الجزيرة العربيـة. والأعداد 1 و 2 و 3 لدى اليونان حيث العدد يبدأ من الواحد لا من الصفر، أي من الوجود لا من العدم، وحيث الواحد هو الأول، أي الله الذي لا ينقسم (Atom)(2)، والاثنان هو زوج الواحد، ومن حاصل زواج الواحد والاثنين (1 + 2) جاء الثلاثة. ومن هذه(الأعداد الثلاثة ولدت الأعداد اللاحقة حتى التسعة، وجميعها من مضاعفات الأعداد الثلاثة الأولى؛ فالأربعة مضاعف العدد اثنين أو حاصل جمع الواحد والثلاثة… وهكذا حتى العدد 7 الذي لا ينقسم إلا على نفسه، وهو ليس حاصل جمع أي أعداد سابقة، لهذا صار رقماً مقدساً. وعلى هذا المنوال ظهر ثالوث العقل والنفس والكلمة في اليونان أولاً، ثم لدى بعض الحركات الباطنية الإسلامية في ما بعد كالإسماعيلية. وظهر ثالوث الاسم والمعنى والباب (الشمس وقرص الشمس ونور الشمس) أي محمد وعلي وسلمان لدى العلويين، أي وحدة أقانيم الخليقة التي كان تعبيرها الأرقى في الثالوث المسيحي في سوريا التاريخية، أي الأب والابن والروح القدس أو عقيدة الموت والقيامة والتجسد.
التماثل الأسطوري
لم ينفصل التاريخ عن الأسطورة إلا في زمن متأخر نسبياً، مثل انفصال وظائف زعيم القبيلة في المجتمعات القديمة. فزعيم القبيلة هو الرئيس، وهو الكاهن، وهو الطبيب، وهو الساحر معاً. ثم راحت هذه الوظائف ينفصل بعضها عن بعض بالتدريج كلما تقدم المجتمع في تنظيم شؤونه اليومية والدينية، ولا سيما مع انتقال ذاك المجتمع من النسق البدائي إلى النسق القبلي، ثم إلى النسق الحضري الزراعي. وقد وجدت العلوم الإنسانية الحديثة في الأساطير مناجم معرفية غنية بالرموز والإشارات التي كثيراً ما حجبت خلـف غلالاتها الرقيقة حقائق تاريخية شتى، فاتجهت هذه العلوم، ولا سيما الأنثروبولوجيا، إلى كشف معاني تلك الرموز، والى إماطة النقاب عنها. وهكذا ظهر ميدان جديد من ميادين المعرفة هو «الميثولوجيا». لكن الثورة العلمية الحديثة كادت، في إحدى مراحلها، أن تقضي على الأسطورة، خصوصاً بعد أن حوّلتها إلى مجرد حكاية مسلية. لكن القرن التاسع عشر جلب معه ثورة فنية وجمالية أعادت إلى الأسطورة مكانتها الرفيعة كشكل من أشكال التعبير الفني والأدبي. فالحركة الرومانسية، على سبيل المثال، رأت في الأسطورة أصلاً للفن والدين والتاريخ. وكانت هذه الرؤية في منزلة الرد على جفاف العلم وعلى العقل البارد الذي سيطر على أوروبا طوال ثلاثة قرون. وفي سياق هذه الرؤية ظهر كتاب «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر في سنة 1900.
شُغل العرب، مثل غيرهم من الشعوب، باكتشاف الكون، وبمحاولة تفسير ظواهره. وتحتوي المصادر العربية القديمة، ولا سيما الشعر والنصوص الأدبية والتواريخ، أخباراً متفرقة عن معتقدات العرب ودياناتهم قبل الإسلام. لكن هذه الأخبار، أو ما بقي منها بعد إبادة معظمها في العهود الإسلامية اللاحقة، لا ترقى إلى مرتبة الأسطورة على الإطلاق. والغريب أننا لا نعثر على نماذج أسطورية كاملة لدى العرب. فقصة الزير سالم مثلاً، أو تغريبة بني هلال، أقرب إلى الملاحم لا إلى الأساطير. ويمكن الافتراض أن العرب عرفوا الأساطير، لكن هذه الأساطير راحت تندثر، بالتدريج، بعد الإسلام الذي لم يفسح في المجال للأسطورة كي تعيش وتزدهر، فاعتبرها كثير من الفقهاء والمتكلمين نصاً مخالفاً للعقيدة. والفارق بين الملحمة والأسطورة هو أن الملحمة حكاية طويلة تدور أحداثها على الأبطال من البشر، بينما تدور أحداث الأسطورة على الآلهة والبشر معـــاً. وفي تاريخ الملاحم العربية كانت الملحمة الأبرز «مأساة إبليس(3)، التي كثيراً ما اقتربت في بنيتها الأساسية من التراجيديا، خصوصاً أن البطلين الرئيسين هما الرب وكبير الملائكة. وعنصر التراجيديا هنا يتمثل في التمرد على الرب ومواجهة القدر. لكن هذه التراجيديا تعتبر تراجيديا ناقصة لأنها لا تنتهي بالمصالحة، أو بالحل الوسط بين إرادة الإله ورغبة البشر المعاكسة لها. غير أن بعض الجماعات العقيدية في بلادنا كالإيزيدية مثلاً تقول إن يوم الدينونة سينتهي إلى غفران خطايا إبليس بعد أن يملاء سبع جرار بدموع عينيه، ثم يلقيها على نار جهنم فيطفئها. وفي تراثنا الملحمي قصة «المنتقم لأبيه» المسطورة في حكاية «الزير سالم أبو ليلى المهلهل»، حين يقتل جساس بن مُرّة ابن عمه كليب بن ربيعة (مُرّة أخو ربيعة)، فيقوم الجرو ابن كليب أو الهجرس (لاحظ التوافق اللفظي مع حورس) بقتل خاله جساس ثأراً لوالده. وقصة «المنتقم لأبيه» هذه تشبه مسرحية «هاملت» المنتقم لأبيه الملك من عمه كلاوديوس الذي قتل أخاه (أي والد هاملت)، وتزوج الملكة غيرترود (أم هاملت)، ونصّب نفسه ملكاً.وتشبه أيضاً ملحمة أوريست ابن أغاممنون الذي قتل أمه كليتمنسترا، زوجة أغاممنون، حاكم مسينا، الذي عاد من حرب طروادة ليلقى مصرعه على يد عشيق زوجته إيغستوس(4).وفي ما بعد قام أوريست بقتل الأم وعشيقهـا انتقاماً لأبيه، وبتحريض من أخته إلكترا(5). وقد استند سيغموند فرويد إلى هذه الأسطورة لاستخراج «عقدة إلكترا»، مثلما استند إلى أسطورة أوديب لاستخراج «عقدة أوديب».
تروي الأسطورة أن إلكترا بنت أغاممنون استنفرت أخاها أوريست وحرضته على الانتقام من أمها وعشيقها، تماماً مثلما فعلت اليمامة بنت كليب حين راحت تحث عمها الزير سالم على الثأر مــن جساس بن مُرة قاتل أبيها كليب (وفي ما بعد سيظهر الفتى هجرس بن كليب ليكمل عملية الانتقام). وكليتمنسترا زوجة أغاممنون تشبه تماماً الجليلة بنت مُرة زوجة كليب الذي غزا اليمن وقتل ملكها التبع حسان. وكــان أغاممنون غزا طروادة وقتل ملكها بريام وولده باريس الذي كان خطف هيلانة وأشعل حرب طروادة. ومع أن جساس قتل كليب، إلا ان زوجته الجليلة انحازت إلى أخيها القاتل، أي إلى قومها، تماماً مثلما انحازات كليتمنسترا إلى إيغستوس عشيقها.
إن هذا التماثل الهائل في التفصيلات يدعونا إلى التأمل طويلاً في الطراز الأسطوري أو الملحمي المتنقل بين الحضارات، أو في النماذج الأسطورية التي ظهرت في حضارات معينة، لكنها تطورت واكتست عناصر جديدة، ثقافية وعقيدية، وتخللتها حكايات عن حروب وتواريخ من حضارة أخرى، حتى يمكن المجازفة بالاستنتاج أحياناً أن أسطورة بعينها ليس بالضرورة أن تكون قد نشأت في البلد الذي ازدهرت فيه، بل ربما يكون منشؤها في بلد آخر ومختلف عن الأول تماماً. وهذا هو مقصدنا في بحث عناصر التماثـل بين أسطورة أوديب اليونانية وقصة أخناتون المصرية مثل التماثل بين قصة المسيح وقصة كريشنا الهنــــدي على سبيل المثال(6).
قصة كتابين
في أوائل سبعينيات القرن العشرين قرأنا كتاب «موسى والتوحيد» لفرويد، فقَلَب رؤوسنا التي اعتادت قصص الأنبياء التقليدية الباهتة، وزحزح استقرار معتقداتنا الموروثة. ثم وقع بين أيدينا كتاب خطير لإيمانويل فلايكوفسكي عنوانه «أوديب وأخناتون»، فسحرنا بعدما فتل عقولنا من مواقعها. وبحسب فرويد في كتابه «موسى والتوحيد» الذي نشره في سنة 1939، فإن موسى مصري لأن اسمه عبارة عن لاحقة لفظية مصرية مثل «تحوتموس» أو رعموس». ويرى فرويد، في هذا الكتاب، أن الأصل المصري لموسى يمكن أن تبرهنه الشواهد التالية:
1 ألزم موسى العبرانيين (اليهود لاحقاً) إتباع عادة الختان، وهي عادة مصرية إفريقية، وليست كنعانية.
2 فرض عليهم عدم أكل لحم الخنزير، وهي عقيدة مصرية قديمة ترى أن إله الشر يتجسد أحياناً في هيئة خنزير.
3 عدم قدرته على التحدث بالعبرية، ولذلك اتخذ هارون مترجماً له. وهذا يدل على أن لغته الأم، أي المصرية، هي غير لغة قومه، أي العبرية.
يؤكد فرويد أيضاً أن موسى كان أحد كبار قادة بلاط الفرعون أخناتون. وبعد إقصاء أخناتون بانقلاب كبير، التجأ موسى إلى قبيلة العبرانيين التي كان أفرادها يعيشون شرق الدلتا، ونقل إليهم عبادة الإله «أتون»، وأخرجهم من مصر، وصار زعيماً لهم. وقد انضمت إلى هذه الجماعة عناصر بدوية من شمال شبه الجزيرة العربية كانت تعبد الإله «يهوه» (إله البراكين(7). وفي قادش اجتمع الفريقان : المصريون (اللاويون) والساميون (أهل شمال جزيرة العرب)، وهناك تقبلوا على يدي موسى العبراني (وهو غير موسى المصري الذي قُتل) اسم الإله «يهوه»، وحل محل الإله المصري «أتون»، أي إله الشمس والنار. ومن سخرية المصادفات أن أوديب وأخناتون كانا بطلين لكتاب فرويد «موسى والتوحيد»، وهو لم يدرك تماثلهما الوثيق، وإنما رأى في أوديب مثالاً للزاني المجرم، بينما رأى في أخناتون مثالاً للقديس، واعتبره أول الموحدين في تاريخ البشرية.
لكن فلايكوفسكي يطيح هذه النتيجة من أساسها، ويبرهن أن أخناتون ليس قديساً وإنما مجرم. وهو يتوصل إلى هذا الاستنتاج استناداً إلى تحليل صورة له يقود فيها أمه «تاي» من يدها وهي شبه عارية، وقد وُجدت هذه الصورة في مقبرة والدها «يويا». وعلى هذه الصورة بنى فلايكوفسكي اعتقاده أن أخناتون تزوج أمه «تاي» وأنجب منها ابنة، تماماً مثلما فعل أوديب حين تزوج والدته جوكاستا.
المعروف أن فلايكوفسكي عالم فيزياء روسي ويهودي معاً. ولد سنة 1895، ودرس في جامعة موسكو، وتابع دروسه في جامعات برلين وفيينا وأدنبره، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة في سنة 1939، وعاش فيها إلى أن مات سنة 1980(8)، وقد كرس جهده للبرهان على أن موسى سابق لأخناتون. وحين أصدر كتابه الخطير «عصور في فوضى» سنة 1952، قامت ضده قيامة المؤرخين، وظهر أن نزاهته العلمية مشكوك فيها كثيراً. وكانت الغاية من هذا الكتاب حل لغز عدم وجود أي إشارة في الآثار المصرية إلى دخول بني إسرائيل إلى مصر، أو إلى خروجهم منها، وإلى عدم وجود أي ذكر لقبيلة إسرائيل أو للشخصيات المشهـورة في التوراة أمثال داود وسليمان وشاوول، في النقوش المصرية القديمة(9). ولهذا قام بإعادة ترتيب وقائع التاريخ المصري القديم بطريقة تمنح اليهود مكانة ما في هذا التاريخ. وجوهر نظريته أن هناك 600 سنة اختفت من التاريخ اليهودي، وتكررت في تاريخ مصر. وترتب على ذلك، بحسب فلايكوفسكي، اختلاف التزامن الصحيح للحضارات القديمة. فكان أن عمد إلى ترتيب أحداث 1200 سنة من التاريخ المصري القديم بطريقة تتيح له تفسير الحوادث الكبرى الواردة في العهد القديم بوقائع طبيعية وجيولوجية حدثت في مصر مثل التغيرات الكونية والكوارث الطبيعية. فالضربات العشر الواردة في التوراة يخرجها فلايكوفسكي من إطار «المعجزة الإلهية» إلى دائرة الكوارث. والخروج العبراني من مصر ليس معجزة البتة، وإنما هو كارثة طبيعية سببها اصطدام ذيل أحد المذنبات بالأرض، أي أنه حاول تفسير الدين بالعلم، وليس نقض الدين بالعلم.
قصة أخناتون
أخناتون هو الفرعون أمنحوتب الرابع ابن أمنحوتب الثالث من زوجته الثانية «تاي» ابنة وزيره «يويا». وكان أمنحوتب الثالث تزوج، أول مرة أخته «ست أمون» وله منها ابن يدعى تحوتمس وكان مثليّ الهوى. وكانت التقاليد تقضي بأن يكون وارث العرش هو الابن البكر تحوتمس. لكن أمنحوتب الثالث أراد أن يكون ابنه أمنحوتب الرابع هو الفرعون بعده، وليس ابنه تحوتمس، فأنكر الكهنة هذا الأمر. وخافت «تاي» على ابنها من الكهنة، فتركت مدينة «منف» بالقرب من سقارة وذهبت إلى العيش في مدينة «زارو» القريبة من القنطرة اليوم، ثم أرسلته إلى بلاد الميتانيين في شمال سوريا(10). ولما كبر أمنحوتب الرابع وبلغ السادسة عشرة جاء إلى «طيبة»، بعدما اختفي شقيقه تحوتموس في أحوال غامضة، وراح يشارك والده الحكم، ويعلن مبادئه الجديدة القائمة على عبادة الإله المتجسد في قرص الشمس (أتون) الذي لا يمكن حجبه، وهي مبادئ معاكسة لعبادة (أمون) الذي يعني اسمه «المختبيء» أي الذي لا يُرى.
اتخذ أمنحوتب الرابع اسم «اخناتون»، وشاد معبداً في الكرنك للإله أتون(11). وتحت ضغط كهنة أمون اضطر إلى مغادرة قصر والده في طيبة إلى تل العمارنة وغير اسمه نهائياً إلى أخناتون. ولما تـوفي والده صار هو الحاكم لأرض مصر كلها. وهنا بدأت المشكلة؛ فالكهنة وقفوا ضد عقيدة أخناتون، والحاكم الجديد يريد أن يفرض عقيدته على الشعب، وأن يلغي عبادة «أمون».
كان أمون رع في نظر كهنة مصر هو القوة الشاملة والإله غير المنظور الذي يتجسد في عدد من الآلهة، بينما «أتون»، بحسب أخناتون، هو إله منظور (قرص الشمس)، لكنه غير متجسد في أي إله آخر. والعبادة الأمونية تُعنى بالبعث بعد الموت وبالثواب والعقاب مثل المسيحية والإسلام في ما بعد، ومثل العبادة الأوزيرية، بينما العبادة الأتونية لا تعنى بذلك كله، وهي، في هذا الشأن تشبه، اليهودية. ومهما يكن الأمر، فلم يدّعِ أخناتون أنه إله أو ابن إله، وعكف على بناء مدينة جديدة للإله «أتون» هي مدينة «اخيتاتون» (أي تل العمارنة)، وأقام فيها بعد أن تزوج أخته نفرتيتي، وراح يمحو أسماء أمون واسم والده أيضاً من المعابد (محو الاسم يعادل القتل) لأن اسم والده (أمنحوتب الثالث) يتضمن كلمة أمون. وأمام رفض الكهنة هذه العقيدة الجديدة جرى الاتفاق بين خمسة من القادة هم «آي» (خال أخناتون) وحورمحب ورمسيس وسيتي ونختامين، علاوة على رجل إضافي هو «مايا»، على القيام بانقلاب في القصر الملكي، وإرغام أخناتون على التنازل عن العرش لمصلحة ابنه توت عنخ أمون(12). وبعد هذا الانقلاب نُفي إلى سيناء، وعاش قريباً من المكان الذي يقوم عليه اليوم دير سانت كاترين، وتوفي في سنة 1358 ق.م. بعد أن حكم مصر سبعة عشر عاماً. وبوفاته زالت عقيدته تماماً من مصر.
قصة أوديب
تعتبر هذه التراجيديا أعظم التراجيديات اليونانية، ويُعتبر نص سوفوكليس أفضل النصوص التي وصلت إلينا، وهو النص الكامل لهذه المأساة. والمعروف أن اسخيلوس كتب مأساة أوديب قبل سوفوكليس،وأن يوربيدس كتبها بعده. لكن معظم ما كتبه اسخيلوس ويوربيدس ضاع، وبقي نص سوفوكليس الذي ألهم كثيرين جاؤوا بعده، بمن فيهم سيغموند فرويد الذي صاغ نظريته في عقدتي «أوديب» و «إلكترا» من هذه التراجيديا الإنسانية الباهرة.
ولد سوفوكليس في قرية «ديموس» القريبة من مدينة «كولونا» اليونانية سنة 496 ق.م.، وتوفي في سنة 406 ق.م.. وكان والده من أثرياء اليونان المعروفين. عاصر هيرودوت وسقراط، وكتب عدداً من المسرحيات والنصوص المسرحية أشهرها: أنتيغونا، إلكترا، أوديب ملكاً، أوديب في كولونا، بنات تراخيس. وقد تعاقب على كتابة «أوديب» كل من الشاعر سينيكا قبل الميلاد بنحو خمسة أعوام, وكورناي (1656) وفولتير (1718) وأندريه جيد (1930) وجان كوكتو (1934). وغزل على منوالها من الأدباء العرب توفيق الحكيم (1936) وعلي أحمد باكثير ووليد إخلاصي (1981). وكان أول من ترجم «أوديب ملكاً» إلى العربية،على الأرجح، علي حافظ، وصدرت في «سلسلة المسرح العالمي» في الكويت (آب 1972)، وهي ترجمة سقيمة. ثم ترجمها محمد صقر خفاجة وصدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في سنة 1974، وترجم المسرحية أيضاً طه حسين سنة 1946(13). وحكاية أوديب كانت معروفة قبل سوفوكليس واسخيلوس، وقد تناقلها الشعراء الجوالون والمغنون قبل أن يصوغها سوفوكليس في نص تراجيدي أخاذ. وفي العادة يضيف الشعراء الجوالون كثيراً من الأحداث والحوارات والشخصيات إلى القصة الأصلية للتشويق، حتى يمكن القول إن الحكاية الأصلية اختفت تحت طبقات من الإضافات المتراكمة عبر السنين(14).
مهما يكن الأمر فإن قصة أوديب، كما وصلت إلينا في صيغتها النهائية، يمكن إيجازها كالتالي: رزق الملك لايوس، ملك طيبة، وزوجته جوكاستا ولداً. وقبل أن يطلق عليه اسماً محدداً جاءته نبوءة من الإله أبولو أن هذا الطفل سيقتل أباه ويتزوج أمه. عند ذلك كان لا بد من القضاء على هذا الطفل. لكن الملك لايوس لم يقتله فوراً، بل سلمه إلى راعٍ، وأمره أن يُلقي بالطفل عند سفح جبل «سيثرون» النائي، بعدما يقوم بتجريح قدميه بمسمار كي ينزف ويموت. لكن الراعي رق قلبه للطفل، وبدلاً من أن ينفذ أوامر الملك لايوس، أخذه إلى مدينة كورنثيا البعيدة عن طيبة، وأودعه لدى راعٍ آخر يخدم لدى بوليبوس ملك كورنثيا. وكان بوليبوس بلا أطفال فكفله ورباه كأنه ابنه، وأطلق عليه اسم «أوديبوس»، أي ذو القدم المتورمة. وعندما بلغ أوديب مبلغ الرجال علم بنبوءة أبولو، وكي لا يتيح للقدر أن يحقق النبوءة فر من قصر والده، وهام على وجهه بعيداً عن بوليبوس وزوجته ميروب اللذين اعتقد أوديب أنهما والداه الحقيقيـان(15). وقادته قدماه إلى طيبة التي كانت تقاسي تسلط أبو الهول (سفينيكس) الجاثم عند باب المدينة. وأبو الهول هذا عبارة عن أسد مجنح له رأس امرأة وذيل أفعى، وقد أرسلته الآلهة «هيرا»(16) من إثيوبيا عقاباً للملك لايوس لأنه عشق فتى يدعى خريسبوس من مدينة بيزا. وكان أبو الهول يسد طريق الناس إلى طيبة ويعرض عليهم السؤال التالي: ما هو الكائن الذي له صوت واحد ويمشي على أربعة ثم على قدمين ثم على ثلاثة، ويكون وهو أضعف حالاً كلما كانت أقدامه أكثر. وعندما يعجز الداخل إلى طيبة عن الإجابة كان أبو الهول يبتلعه على الفور.
للمصادفة القدرية، وبينما كان أوديب متجهاً إلى طيبة مرت به عربة الملك لايوس، وداست عجلاتها قدميه، فثارت ثائرته ورمى سائق العربة بالرمح فقتله. وعندما أراد الملك لايوس أن يقف على ما جرى لسائقه قتله أوديب أيضاً من غير أن يدرك أن لايوس هو والده الحقيقي. وعلى مشارف طيبة واجه أبو الهول وأجاب عن سؤاله بالقول: إنه الإنسان الذي يبدأ حياته بالزحف على أربعة أطراف، ثم يقف على قدميه، وفي شيخوخته يمشي متكئاً على عصا. فاغتاظ أبو الهول لهذا الجواب الصحيح، وانتحر بإلقاء نفسه في الوادي من قمة جبل «فيسيوم». وقد فرح أهل طيبة بهذا القادم الذي أنقذ مدينتهم، ونادوا به ملكاً عليهم، ثم تزوج الملكة الأرملة جوكاستا من غير أن يعلم أنها أمه. ونتيجة لهذه الخطيئة الجديدة حل الطاعون بمدينة طيبة. وعند ذلك شرع أوديب في استشارة المنجمين والعرافين وأصحاب الرؤى، فاكتشف هؤلاء أن هناك شخصاً قتل أباه وتزوج أمه وهو يتربع على عرش طيبة. وأدرك أوديب أن قدره قد نفذ، وأنه لم يستطع الهروب من قدره، ففقأ عينيه بدبوس، وانتحرت أمه جوكاستا شنقاً، ونفي نفسه إلى مدينة كولونا التي عاش فيها بقية عمره منبوذاً (17).
أوديب بين التاريخية والأسطورية
هل أسطورة أوديب قصة خيالية لا تستند في منشئها إلى أي أحداث تاريخية واقعية؟ هل إن حكاية أوديب وأمه جوكاستا ووالده لايوس مجرد فيض شعري، أم أن ثمة أحداثاً جرت بالفعل تشبه وقائع تراجيديا أوديب؟
إن جميع الحفريات في اليونان والجزر الهيلينية فشلت في العثور على أي أثر لأوديب أو لبيـــت لايوس، وهذا ما عزز عدم تاريخية قصة أوديب(18). فإذا كان من المحال العثور على الأصل التاريخي لهذه الأسطورة في اليونان، فهل من الممكن العثور عليه في مصر مثلاً، ولا سيما أن هناك إشارات مصرية كثيرة في ثنايا القصة مثل «طيبة» و «أبو الهول»؟
نحن، إذاً، أمام مفتاحين: أبو الهول الذي هو على صورة امرأة ذات أجنحة، ومدينة طيبة في اليونان، يقابلهما أبو الهول، ومدينة طيبة التاريخية في مصر. وهذان المفتاحان ربما يعبدان الطريق للسير في منهج المقارنة بين البيئة التي ازدهرت فيها هذه الأسطورة، والبيئة التي نشأت فيها في الأصل. فمدينة طيبة اليونانية ذات الأبواب السبعة تحمل بعداً سورياً هو العدد سبعة المقدس. وأبو الهول الأنثى الذي يحرس مدينة طيبة اليونانية كان معروفاً في مصر في عهد أمنحوتب الثالث، والد أخناتون، وهو يمثل زوجته الملكة تاي.
يروى أن قدموس هو الذي بنى مدينة طيبة اليونانية في مقاطعة بيوتيا(19). وربما كان قدموس هو نفسه الملك «نكميد»، ملك أوغاريت الذي فرّ إلى اليونان من ميناء جبيل بعد أن غزا الأشوريون الساحل السوري، وجعل من الكتابة المسمارية حروفاً دُعيت «الحروف الأبجدية». أما أبو الهول، الأسد المجنح، فهو نقش أشوري في الأصل، وكان منتشراً في سوريا. وكان الهكسوس السوريون الذين حكموا مصر بين 1730 و 1570 قبل الميلاد يستخدمون هذا الرمز كثيراً في نقوشهم. ولعل هؤلاء حين انتقلوا إلى اليونان بعد إزاحتهم عن مصر على يدي أحموس الذي استباح عاصمتهم الزاهرة «أفاريس»، نقلوا معهم رموزهم، ومنها الأسد المجنح(20). والمأنوس أن زوجة «نكميد» ملك أوغاريت (أي قدموس) كانت مصرية. وفي أي حال، فإن حكاية الملك القاتل والزاني انتقلت من مصر إلى اليونان إما من خلال السوريين القدماء، واما من خلال اليونانيين الذين طردهم الأشوريون من المدن السورية.واللافت أن يوربيدس أطلق اسم «الفينيقيات» على إحدى مسرحياته التي تتناول مصير ابني أوديب. وفي مسرحية «أوديب» لسوفوكليس تتضـرع أنتيغوني قائلة» «وأنتِ يا أرض طيبة المقدسة الزاخرة بعرباتك الحربية، أنتِ أخيراً ستشهدين على حالي»(21).
طيبة المصرية هي التي تزخر بالعربات الحربية، وليست طيبة اليونانية. هنا, وعند هذا الحد، بات من الممكن الانتقال إلى المغامرة في الاستنتاج أن أصل قصة أوديب، أي النموذج الأسطوري، يمكن العثور عليه في مصر أولاً. ومع انتقال هذا النموذج من مصر إلى سوريا ثم إلى اليونان، تسربت إليها،عناصر حكائية شتى، وأكسبتها ملامح جديدة، يونانية وسورية. لكن النموذج الأسطوري الأولي ظل هو هو في صيغته المصرية (22).
لنتذكر أن جريمة لايوس والد أوديب هي أنه اختطف شاباً يدعى خريسبوس بعد أن عشقه. لكن بلاد اليونان لم تكن تنظر إلى الحب الذكري على أنه جريمة، بينما اعتبرته مصر أمراً محرماً. وجريمة أوديب أنه قتل والده وتزوج أمه. لكن زواج الابن من الأم لم يكن جريمة في مصر. لنتذكر أيضاً أن لأمنحوتب الثالث والد أخناتون صوراً تظهره بالملابس النسوية، الأمر الذي يعني في نظر بعض الدارسين أنه مثليّ الهوية الجنسية، وقد ابتُلي بالعشق الإغريقي. لكن الحب الذكري لم يكن أمراً قبيحاً أو بغيضاً في بلاد اليونان، بينما كان قبيحاً في سورية ومصر. لهذا يمكن أن نجد أصل خطيئة لايوس، أي حبه للفتى خريسبوس، في مصر وليس في بلاد الإغريق، وفي مدينة طيبة المصرية بالتحديد، وأن أرض الإغريق ليست هي الأرض التي ولدت فيها مأساة أوديب أول مرة(23).
ليست مأساة أوديب، بحسب فلايكوفسكي، مجرد حكاية خيالية، بل هي قصة واقعية جرت حوادثها لا في مدينة طيبة اليونانية التي بناها قدموس الأوغاريتي بعدما سافر من جبيل(24) إلى اليونــان، بل في مصر، وفي مدينة طيبة المصرية التي كتب عنها نجيب محفوظ روايته المشهورة «كفاح طيبة»(25). إنها قصة أخناتـون.
أوديب وأخناتون: مقارنة القصة نفسها
الشواهد الأولى التي وردت سابقاً تبدو، أحياناً، غير مقنعة تماماً، والبرهان فيها غير قوي أو غير كافٍ. لكن، ثمة شواهد كثيرة غيرها من شأنها أن تدعّم متانة الافتراض أن قصة أوديب وأخناتون، أي مأساة الزاني والقاتل، هي نفسها، لكنها وصلت إلينا في سياقين مختلفين. أما البدايات فهي أن مصر في عهد أخناتون راحت تتفكك نتيجة للصراعات الدينية الداخلية ولثورات الأقاليم. وادعى كهنة أمون أن خطيئة حلّت بالبلاد وجلبت إليها الكوارث، وألقوا باللائمة على أخناتون نفسه الذي ارتكب جريمة مزدوجة هي إلغاء عبادة أمون و «قتل» والده أمنحوتب الثالث بمحو اسمه من النقوش، لأنه يحتوي كلمة أمون. وكانت اليونان في العصر المفترض لأوديب قد أصابها الوهن بعد حروب طروادة، وادعى الكهنـــة أن خطيئة كبرى ارتُكبت في طيبة الأمر الذي دفع الإلهة «هيرا» إلى إرسال أبو الهول المجنح (سفينكس) إلى محاصرة طيبة، ومعاقبة ملكها لايوس الذي ارتكب خطيئة عشق الفتى خريسبوس واختطافه ومواقعته.
إذا أوغلنا أكثر في المقارنة سنكتشف ما يلي: إن كلمة أوديب تعني باليونانية «ذو القدم المتورمة». وتصور رسوم تل العمارنة، وهي المدينة التي بناها أخناتون وأطلق عليها اسم «أخيتاتون»، أخناتون نفسه بفخذين منتفخين، الأمر الذي دفع الباحث جيمس برستيد إلى القول إن أخناتون كان يعاني تشوهاً طبيعياً في أطرافه(26). ثم إن كلمة أمنحوتب، وهي اسم أخناتون الأصلي، يمكن أن تتحول إلى أمنحوديب باستبدال الدال بالتاء. وأمنحوديب تصبح، بتحريف قليل، أوديب. وأخناتون أطلق على نفسه لقب «ذلك الذي عاش طويلاً»، وهو لقب غامض إلى حد ما. أما أوديب الذي كان مقدراً له أن يموت طفلاً بعد ثقب قدميه، فقد عاش بالفعل طويلاً. وحادثة البقاء في قيد الحياة، على الرغم من الكوارث والمصائب والأهوال، تعتبر شأناً حاسماً في سيرة البطل الأسطوري. وهذه المعجزة هي نموذج أسطوري يتكرر مع معظم الأبطال الأسطورييـن الخارقين(27)
لم يظهر أمنحوتب الرابع (أخناتون) قط في الرسوم الكثيرة لوالده، لأنه عاش، على الأرجح، في بلاد الميتانيين في سوريا(28). لكن، بعد موت والده، وبعد أن تقلدت أمه «تاي» العرش، ظهر ابنها فجأة على مسرح الأحداث، وتسلم مقاليد السلطة، وتزوج أمه، ثم حدثت ضده ثورة من داخل القصر، وتولى ابناه العرش قبل أن يقتتلا ويقتل احدهما الآخر بالتناوب. وهذا ما حدث بالتمام مع أوديب الذي عاش بعيداً عن والديه، ثم تولت أمه جوكاستا الحكم بعد موت زوجها لايوس، ثم جاء أوديب ليتسلم الحكم بعدما أنقذ سكان طيبة من شرور أبو الهول المجنح، ويتزوج أمه. وبعد انكشاف النبوءة، يُقصى عن المُلك، ويعيش أعمى بقية حياته بعدما تنازع ابناه العرش واقتتلا وقتل واحدهما الآخر جراء اللعنة التي حلّت عليها لأنهما طردا والدهما من قصره، فتنتحر جوكاستا بعد أن تشاهد بعينيها ولديها قتيلين(29).
تزعّم «آي» أخو الملكة الذي تمتع بنفوذ قوي في طيبة المصرية بعد موت أمنحوتب الثالث، الثورة ضد أخناتون، وتحالف لهذا الغرض مع كهنة أمون، كأنه هو نفسه «كريون» أخو جوكاستا الذي تمتع بنفوذ قوي في طيبة اليونانية بعد موت لايوس، وهو الذي تزعم الثورة ضد أوديب بالتحالف مع ابني أوديب بولينيكيس وإثيوكليس. وقد اتفق الابنان على تداول الحكم، فحكم بولينيكيس أولاً، ثم تنازل لأخيه راجع مسرحية «الفينيقيات» ليوربيدس، ومسرحية «مأساة طيبة» لراسين. وجوكاستا في هذا الموقف هي المرأة البائسة التي أ نجبت من زوجها زوجاً لها، وأنجبت من ابنها أبناءً لها. إثيوكليس. وحين جاء دور الأول ثانية ليتولى الحكم رفض إثيوكليس ذلك الأمر وتحصّن في طيبة. عند ذلك تحالف بولينيكيس مع سبعة ملوك وهاجم طيبة(30). وتقاتل الأخَوان وقُتلا معاً وتولى السلطة بعدهما كريون نفسه. وقد دُفن إثيوكليس بمراسم ملكية، بينما حرّم كريون دفن بولينيكيس بطريقة لائقة، لأنه خان بلده وتحالف مع الأغراب. لكن أخته أنتيغوني تدفنه سراً على الرغم من أوامر كريون، فعاقبها كريون بالسجن في كهف. وقد كانت لها علاقة محرمة بشقيقها بولينيكيس.
هذه الوقائع مطابقة تماماً لقصة أخناتون. فبعدما أقصي أخناتون عن العرش حكم ابنه سمنقرع عاماً كاملاً، ثم تولى العرش ابنه الثاني توت عنخ أمون بدعم من الكاهن آي الذي أصبح حاكماً بعد موت توت عنخ أمون. وقد دُفن سمنقرع بلا أي احترام في كهف تعمه الفوضى،(31) وقامت أخته «ميريتاتن» بدفنه، علماً بأنها كانت زوجته في الوقت نفسه. وعلى الأرجح أن سمنقرع رفض التنازل عن العرش فقُتل، ثم أزيح تـوت عنخ أمون(32) ليتسنى للكاهن آي تولي العرش، بعدما تزوج شقيقة توت عنخ أمون واسمها «أنخس أمون».
عاش أوديب بعد إقصائه عن عرش طيبة كرجل أعمى؛ فقد اقتلع عينيه ما إن علم أنه قتل والده وتزوج أمه، وبقي فترة قصيرة سجيناً في قصره، ثم نفاه ابناه من مدينة طيبة. وقد وجد نقش على حجر طيني في مصر يقول:»يا أمون، إن شمس الذي لم يقدرك قد غابت. إن فناء ذلك الذي هاجمك يسبح في ظلام دامس، بينما يسبح العالم كله في ضوء النهار». ويعتقد فلايكوفسكي أن كلمة «فناء» يجب أن تُترجــم إلى «عين»، لأنها هكذا وردت منقوشة بالهيروغليفية، بحيث يصبح النص على النحو التالي: «إن عين ذلك الذي هاجمك تسبحان في ظلام دامس»، الأمر الذي يعني أن أخناتون صار في نهاية حياته أعمى مثل أوديب.
في قصة أوديب كان للعرّاف «تيريسياس» شأن خطير في إسقاط أوديب عن عرشه. وفي قصة أخناتون تولى الحكيم «أمحوتب بن حابو» هذا الدور تماماً. أما الخلاف الوحيد، ربما، بين حكاية أوديب وحكاية أخناتون فهو أن أوديب تزوج أمه جوكاستا وأنجب منها وهو غير عالم بأنها أمه، بينما أخناتون تزوج أمه «تاي» وأنجب منها وهو عالم تماماً أنها أمه.
نظم أخناتون «نشيد التوحيد » على لسان إلهه «أتون» الذي يقول في أحد شطوره:
«دّبرتُ لكل إنسان ما يحتاج إليه
وجعلتُ لكل منهم أيامه المعدودة
لقد تفرقت ألسنتهم باختلاف لغاتهم
كما اختلفت أشكالهم وألوان أجسادهم»
هذه المعاني الشعرية ستطرق أسماع العرب بعد نحو ألفي سنة، لكن بصيغة جديدة هذه المرة، أي بلسان نبي العرب محمد بن عبد الله الذي راح يعلم الناس أن «الله يرزق من يشاء بغير حساب» (البقرة: 212)، وأن «ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم» (الروم: 22)، ويؤكد ما قاله أخناتون قبل عشرين قرناً أن ما من أنثى تحمل أو تضع «إلا بعلمه، وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب» (فاطر: 11)… وهكذا.
إذا كانت إحدى القصص التاريخية المصرية (قصة أخناتون) قد انتقلت إلى اليونان في الزمن الغابر على أيدي الهكسوس السوريين، وتحولت في بيئتها الجديدة إلى نموذج أسطوري مهاجر (أسطورة أوديب)، أي إذا كان التاريخ قد تحول إلى أسطورة، فإن أفكار أخناتون انتقلت، بدورها، إلى سوريا والى جزيرة العرب، لا كحكاية أسطورية هذه المرة، وإنما كعقيدة أينعت، أكثر ما أينعت، عند أطراف فلسطين وشمال الحجاز، حين سطت اليهودية على بعض عقائد الأخناتونية، واستعارت منها بعض العناصر الفكرية في إبان تكوين هذه الديانة اليهودية الرعوية، ثم ازدهرت لاحقاً في بعض عقائد الإسلام ذي المنشأ الصحراوي التجاري. أما المسيحية، كدين زراعي وارث لجميع عقائد الخصب الجميلة والأسرار المقدسة والتراث الآرامي (السرياني)، فلها تاريخ آخر ومختلف إلى حد كبير.
المصادر
– اسخيلوس، «أوديب ملكاً» (ترجمها عن اليونانية: محمد صقر خفاجة)، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1974.
– إيمانويل فلايكوفسكي، «أوديب وأخناتون» (ترجمة فاروق فريد)، القاهرة: دار الكتاب العربي، د.ت.
– إيمانويل فلايكوفسكي، « عصور في فوضى» (ترجمة رفعت السيد)، القاهرة: دار سينا، 1995.
– جان بيار فرنان وبيار فيدال ناكيه، «أوديب وأساطيره» (ترجمة سميرة ريشا)، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009.
– سوفوكليس، ثلاثية «أوديب ملكاً» و أوديب في كولونيا» و «إلكترا».
– سوفوكليس، «انتيغوني» (ترجمة محمد صقر خفاجة)، الكويت: سلسلة من المسرح العالمي، حزيران 1973.
– سيغموند فرويد, «موسى والتوحيد» (ترجمة: جورج طرابيشي)، بيروت: دار الطليعة، 1973.
ـعبد الرحمن بدوي، «تراجيديات سوفوكليس»، و «تراجيديات اسخيلوس»، بيروت: المؤسسة العربية للدارسات والنشر، 1996.
– عصام الدين حفني ناصف، «موسى وفرعون بين الأسطورية والتاريخية»، القاهرة: دار العالم الجديد، 1975.
– عصام الدين حفني ناصف، «المسيح في مفهوم معاصر»، بيروت: دار الطليعة، 1979.
– فراس السواح، «مغامرة العقل الأولى»، دمشق: دار المنارة، 1990.
– لويس عوض، «أسطورة أوريست والملاحم العربية»، القاهرة: دار الكاتب العربي، 1968.
– مونتسكيو، «روح الشرائع» (ترجمة عادل زعيتر)، القاهرة: دار المعارف، 1953.
– نبيلة إبراهيم، «أشكال التعبير في الأدب الشعبي»، القاهرة: دار نهضة مصر، د.ت.
– يسرائيل فنكلشتاين ونيل آشر سيلبرمان، «التوراة واليهودية» (ترجمة سعد رستم)، دمشق: دار صفحات للدارسات والنشر، 2007.
– James Breasted, “History of Egypt”, 1912.
– James G. Frazer, “The Golden Bough: A Study in Magic and Religion”, London: Macmillan and Co, 1900.
1) «ست» هو أخو أوزيريس وعم حورس. تبناه الهكسوس (الملوك الرعاة السوريين) إلهاً لهم، ودعاه اليونان «تايغون». وهو إله القفار والصحراء، والنقيض لأوزيريس إله الخضرة والنيل. ودائماً هناك ثنائية الرحمن والشيطان، الخير والشر، النور والظلام، الحرارة والبرودة، الرطوبة واليبوسة.
2) في «كتاب الموتى» المصري ترنيمة تقول: «أنا توم الذي خلق السماء والأرض، خلقت ذاتي بذاتي، وخلقت كل كائن فوق الأرض، وخلقت كل كائن في السماء».
3) أنظر: صادق جلال العظم، «نقد الفكر الديني»،بيروت: دار الطليعة، 1969.
4) أنظر»: لويس عوض، «أسطورة أوريست والملاحم العربية»، القاهرة: دار الكاتب العربي، 1968. وأغاممنون هو زوج كليتمنسترا ابنة ملك إسبارطة التي أنجب منها أوريست وإيفيغيني وإلكترا وخريسوتميس. ولما خطف باريس ملك طروادة هيلينا زوجة مينيلاس (شقيق أغاممنون) ورفض إعادتها إلى زوجها، هبت مدن اليونان إلى محاربته. وبينما الأساطيل تستعد للانطلاق سكنت الريح تماماً، واستحال الإقلاع. فقام أغاممنون ليضحي بابنته إيفيغيني للآلهة أرتميس كي تطلق الريح. غير أن أرتميس ما لبثت أن هدأ غضبها، واكتفت بالتضحية بغزالة بدلاً من ابنة أغاممنون. لكن زوجته كليتمنسترا غضبت بشدة على زوجها لقراره التضحية بابنتها. وفي أثناء غيابه في حروب طروادة عشقت إيغستوس. وبعد عودة زوجها من الحرب ضاقت حياتها، فدبرت له مكيدة وقتلته.
5) حكايات قتل الأم كثيرة. نيرون، مثلاً، قتل أمه «أغربينا» لأنها سممت أباه، وكانت تأتيه في الحلم بأوضاع شبقية. والطاغية هيبياس الذي زحف على أثينا بمساعدة الجيش الفارسي حلم أنه تزوج أمه. وقد فسـر ذلك الحلم بأنه سيعود إلى أثينا وسيحكمها مجدداً ويموت فيها. ويفسر بعض المحللين حلم الزواج من الأم (أي الأرض التي منها ينبثق كل شيء وإليها يعود كل شيء) بأنه يعني إما الموت وإما الاستيلاء على السلطة.
6) ثمة تماثل يصل إلى حد الإدهاش في قصة المسيح وقصة كريشنا الهندي. فقد تزامن ميلاد كريشنا بظهور نجم في السماء مثل نجم المجوس في قصة يسوع. وولد كريشنا من أم عذراء في 25 كانون الأول (ديسمبر) مثل المسيح تماماً، وتعمد المسيح بمياه الأردن، وتعمد كريشنا بماء الغانج. عاش كريشنا بين الرعاة ردحاً من الزمن وهربت به أمه مايا (مريم) إلى قرية تدعى ماطورة (المطرية بحسب قصة المسيح). واسم كريشنا الكامل هو كريشنا زيوس، واسم والمسيح (Christ)، ولقبه يسوع، مثل كريشنا تماماً. وقد صُلب كريشنا في الهند بين لصين سنة 1200ق.م. مثل المسيح تماماً. والاثنان لم يتزوجا. وحتى الإله الفارسي ميثرا ولد في 25 كانون الأول في كهف من أم عذراء وصلب في سنة 600 ق. م..
وعلاوة على ميثرا هناك الإسكندر المقدوني الذي حملت به أمه العذراء «أوليمبياس» من الإله زيوس، وفيتاغوراس الذي حملت به أمه العذراء من الإله أبولو. وحتى أفلاطون حملت به أمه العذراء «بريتونيا» من الإله أبولو أيضاً. وفي قائمة من حملت بهم والدتهم العذراء نعثر على بروميثيوس وكيرينيوس وكثيرين غيرهما.
7) ظهر الله لموسى في جذوة تشتعل في قمة جبل حوريب، الأمر الذي يعني فوهة البركان. وكان الله يظهر لقبائل العبرانيين التائهين في سيناء في صورة عمود من دخان. وكان شمال غرب الجزيرة العربية، ولا سيما عند أطراف الحجاز، منطقة بركانية ناشطة في الزمن المفترض لظهور موسى.
8) والد إيمانويل فلايكوفسكي يدعى «سيمون»، وهو مؤسس مستعمرة «روحاما» في النقب، وساهم في عملية إحياء اللغة العبري، ومات في إسرائيل، في سنة 1937.
9) الإشارة الوحيدة إلى إسرائيل موجودة في لوح مرنبتاح المحفور على تابوت الفرعون مرنبتاح ابن رعمسيس الثاني (1208 ق.م.)، وهو موجود في المتحف المصري بميدان التحرير في القاهرة. أما الإشارة فتقول: «وقعت أرض كنعان فريسة لضروب من الشر كلها، فقد أُخذت عسقلان، وتم الاستيلاء على جازر، وبدت ينوعام كأنها لم تكن، وأقفرت إسرائيل من الحرث والنسل». وفي ترجمة أخرى لهذا النص ورد ما يلي: خرّ الأمراء على الأرض صارخين: الرحمة. لا نرى رأساً بين الساجدين التسعة. ليبيا صارت خراباً، وحاتي هدأت خلف حدودها. أما كنعان فقد دهمتها كل بلية ومحنة: أشقلون انهارت، وغزة محيت من الوجود. إسرائيل صار خراباً وفُنيت بذرته. وحورو (أي فلسطين) صارت أرملة أمام هجوم مصر».
10)خافت أم أخناتون عليه من الكهنة، فأرسل إلى بلاد الميتانيين في مدينة «قرقميش» على نهر الفرات، وهي مدينة جرابلس اليوم في حلب. والميتانيون كانوا يعتبرون زواج الابن والأم رباطاً مقدساً. وأحد والدي «تاي» والدة أخناتون من أصول ميتانية. أما والدها فيدعى «يويا» ووالدتها تدعى «تويا».
11) أتون تعني قرص الشمس. وفي بلاد الشام تعني الفرن الذي يُشوى فيه الفخار. ومن معانيها الرب أو السيد مثل أدون أو أدوناي.
12) توت عنخ أمون أشهر حاكم لمصر، وعندما اكتشفت المومياء العائدة إليه كانت كاملة لم تمسها أيدي اللصوص، وقد ثبت أن توت عنخ أمون هو ابن أخناتون، لكن ليس من زوجته نفرتيتي، بل من «تاي»، وهي أم أخناتون التي تزوجها بعد وفاة والده. وجراء هذا الزواج تراجع دور نفرتيتي تماماً مثلما تراجع دور أوريجينيا زوجة أوديب بعد زواجه من أمه جوكاستا.
13) طه حسين، «أوديب»، القاهرة: دار الكاتب العربي، 1946، وهي ترجمة من الفرنسية للدراما التي كتبها أندريه جيد.
14) ورد ذكر أوديب في الإلياذة لهوميروس، وفي الأوديسا وفي ملحمة طيبة المنسوبة إلى هوميروس. وهوميروس شاعر إغريقي يبدو أنه غير تاريخي مثل آدم والنبي إبراهيم وغيرهما من الأبطال الأنبياء.
15) في نص مختلف جاء أن رجلاً سكيراً شتمه في إحدى الحفلات ناعتاً إياه بـِ «الابن المنسوب إلى غير والديه»، أي الدعيّ. عند ذلك ذهب أوديب إلى مدينة دلفي للاستفسار من أبولو عن هذا الأمر. وقد أخبرته الوسيطة أنه سيقتل والده ويتزوج أمه، فقرر ألا يعود إلى كورنثيا وذهب إلى طيبة حيث سيتم قدره.
16) «هيرا» إلهة الأرض وزوجة «زيوس» إله السماء، وحامية الحياة الزوجية.
17) هناك أوديب روماني أيضاً أي من رومانيا وليس من روما. ففي إحدى قصص ذلك البلد أن ثلاث جنيات أتين امرأة في الحلم بعد أن ولدت صبياً، وقلن لها إن هذا الصبي سيقتل أباه ويضاجع أمه وهو لا يعلم ذلك. ارتعبت المرأة لهذه النبوءة، فعمدت إلى وضع الصبي في برميل وألقت به في نهر الدانوب. لكن بعض البحارة شاهدوا البرميل فسحبوه، وأنقذوا الطفل ورباه أحدهم. ولما بلغ هذا الطفل السابعة عشرة أخبروه كيف وجدوه في النهر، وكيف أنقذوه، وأن عليه منذ الآن فصاعداً أن يتدبر رزقه. فغادرهم، وراح يجوب الأماكن بحثاً عن مصيره ومعاشه. وفي إحدى جولاته التقى رجلاً رقّ له قلبه، ودعاه إلى العمل حارساً لكرومه. ونبهه إلى أن عليه أن يطلق النار على أي متسلل إلى الكروم ليلاً إذا لم يكن يحمل مصباحاً. وفي إحدى الليالي بينما كان صاحب الكروم يحمل العشاء إلى الحارس، وكان قد نسي المصباح في المنزل، أطلق الحارس النار عليه فقتله، ولم يكن يعرف أنه رب عمله وصاحب الفضل عليه. وبعد أن دفن صاحب الكرم، دعته زوجة القتيل إلى الزواج منها، فقبل بفرح غامر لأنه أخيراً سيكون له بيت وزوجة. وفي ليلة العرس، بينما هما مضطجعان، وقبل أن يتضاجعا، سألته عن حياته، فراح يروي لها قصته. عند ذلك اكتشفت ان زوجها هو ابنها، وتأكدت أنه ابنها من ساقيه الملتويتين. وهكذا تحقق نصف النبوءة: قتل الأب فعلاً، لكن الزنى لم يتحقق.
أما هسيود (السوري) فيقول في كتابه «نشأة الآلهة»: في البدء كان السديم والخواء (chaos), وكل جسم يسقط يتوه في الخلاء. تصدت غايا لهذه الحال، وأنشأت الثبات. غايا هي الأم الكونية التي خلقت نقيضها (أورانوس) أو السماء المذكرة من ذاتها ومن دون أب. ثم ضاجعته فأنجبت ابنها (كرونوس)، فهو ابنها وزوجها معاً. ولما كانت السماء (أي أورانوس) مطبقة على الأرض (أي غايا)،الأمر الذي يحول دون أي خلق جديد، أمرت غايا ابنها كرونوس بارغام أورانوس على الارتفاع عن الأرض. وهكذا انفصلت السماء عن الأرض، وفغر بينهما الخلاء، وراح الليل والنهار يتعاقبان، وصارت السماء تخصب الأرض بالمطر. إن فكرة انفصال السماء المذكرة عن الأرض المونثة هي جوهر قصة التكوين في «العهد القديم» وفي قصة غلغامش، ولا سيما في ملحمة «إينوما إيليش» (عندما في الأعالي)، وفي قصة الخليقة السومرية التي تروي كيف ان الآلهة «نمو» أنجبت من ذاتها الاله «آن» والآلهة «كي»، وكان «آن» و «كي» ملتصقين. وقد تزوج «آن» أخته «كي» فأنجبا «إنليل» إله الهواء. وظل «إنليل» محصوراً بين أبويه، ولم يطق البقاء على هذه الحال، فقام بإبعاد أبيه عن أمه، فرفع «آن» فصار إله السماء المذكر، وبسط «كي» فصارت إلهة الأرض المؤنثة.
18) قصة أوديب تماثل، إلى حد الإدهاش، قصة قورش الفارسي. فقد أمر قمبيز (والد قورش) أحد أعوانه قتل الطفل قورش لرؤيا رآها تشير إلى أن هذا الطفل سيغتصب العرش. غير أن الرجل المكلف قتل الطفل امتنع من قتله وأرسله إلى أحد الرعاة الذي ربته زوجته (اسمها قونو، واسم والدة قورش مانداني). ولما كبر قورش عاد إلى والديه.
19) لاحظ التماثل في كلمة «قدموس»، صاحب القدم، مع كلمة أوديب التي تعني صاحب القدم المتورمة. أما طيبة المصرية فكانت تسمى «نو أمون»، أي مسكن الإله أمون، وهي مدينة الأقصر اليوم. والشائع في الرواية أن قدموس نزل في منطقة «تيرا» التي تدعى اليوم «سنتوريني». وقدموس صوري، ووالده أغينور كان ملك صور، وأشقاؤه هم : أوروبا، كيليك، فينيق.
20) أبو الهول المجنح نقش هكسوسي سوري، وهو رمز من رموز السلطة. وعن انتقال الهكسوس من مصر إلى اليونان يتحدث اسخيلوس في مسرحية «الضارعات» أو بنات داناؤوس أو «المستجيرات» عن مجيء داناؤوس الهكسوسي، ملك ليبيا إلى أرغوس اليونانية مع بناته الخمسين هرباً من أبناء شقيقه إيغيبتوس ملك مصر، وعددهم خمسون أيضاً، الذين أرادوا الزواج من بنات عمهم. وشن إيغيبوتس حملة على أرغوس وانتصر فيها، وتزوج كل واحد من أبنائه بنتاً من بنات داناؤوس. وفي ليلة العرس تلقت كل بنت خنجراً من أبيها وأمراً بقتل زوجها. وهكذا قتلت 49 بنتاً 49 رجلاً ما عدا هيبرمسترا التي عشقت زوجها لونكي. وفي الأثر قام لونكي بالانتقام لإخوته القتلى، فقتل داناؤوس وبنات عمه جمعيهن ما عدا زوجته.
21) الهكسوس هم الذين أدخلوا العربة ذات العجلات التي تجرها الجياد إلى مصر.
22) ظهرت الحضارة اليونانية فجأة قبل 800 سنة قبل الميلاد من دون تمهيد متدرج على عادة الحضارات القديمة. وهكذا وجدنا طاليس في الفلسفة ولم يكن أحد قبله. وظهر زينون في الفلسفة أيضاً، وهسيود في الأدب وهوميروس في الملحمة، وسافو في الشعر، وهيرودوت في التاريخ دفعة واحدة، مع أن اليونان بلاد بركانية متناثرة على عدد كبير من الجزر، ولم تكن طبيعتها مهيأة لنشوء حضارة مميزة. وكان هذا الأمر لغزاً ظل إلى فترة قريبة بلا تفسير مقنع. والحقيقة أن الحضارة المسينية (نسبة إلى مدينة مسّينا) التي ظهرت في سنة 1650 ق.م. لم تعش طويلاً واندثرت سنة 1200 ق.م. تقريبا، جراء البراكين، وعاش اليونانيون بعد ذلك طويلاً كأقوام بدائية، وهاجر بعضهم إلى الساحل السوري في الأناضول وفينيقيا، وتفاعلوا مع السكان الأصليين واكتسبوا ثقافتهم وحضارتهم. وبعد نحو ثلاثة قرون تمكن التجار السوريون من ربط خطوط التجارة بين سوريا وبلاد اليونان، وساهمت هجرة الهكسوس من مصر إلى اليونان في تأسيس مستوطنات بشرية سورية في اليونان، وهؤلاء حملوا معهم معارفهم وثقافتهم وصنائعهم. وعندما غزا الفرس سورية سنة 727 ق.م. هاجرت أعداد إضافية من الصناع والتجار والحرفيين السوريين إلى اليونان. وفي هذه الأثناء كان عدد كبير من اليونان الذين قطنوا شمال سورية وفينيقيا قد بدأوا في العودة إلى ديارهم الأصلية. وفي تلك الحقبة أيضاً بدأت المدن اليونانية بالظهور مثل أثينا وأرغوس وإسبارطة وكورنثيا وطيبة، وراحت الحضارة اليونانية تتبرعم وتزدهر، ويتعلم أهلها الكتابة، مع أن الكتابة كانت معروفة تماماً في مصر وسومر وسوريا منذ 2500 سنة قبل الميلاد. وكانت نظرية فيثاغورس معروفة أيضاً في مصر وبابل قبل ألف سنة من ولادة فيثاغورس في صيدا. ولمع في اليونان من ذوي الأصول السورية كثيرون أشهرهم: زينون (قبرص)، لوقيان (سميساط في شمال سوريا)، فيثاغورس (صيدا)، هيرودوت (كيليكيا)، علاوة على أوفيد وطاليس وهوميروس وسافو وغيرهم.
23) ثمة خطيئة سابقة لخطيئة أوديب هي «خطيئة لايوس» الملتبسة. فقد كان والد لايوس الذي يدعى «لابداكوس» أعرج (لاحظ قصة القدم دائماً)، ولما توفي لابداكوس كان لايوس في سنته الأولى، الأمر الذي أتاح لرجل غريب يدعى لوكوس (لوقا) الاستيلاء على العرش. وأُبعد لايوس إلى مدينة بيزا لدى الملك بيلوبوس. ولما بلغ لايوس صار مثلي الجنس وأفرط في اللواط مع ابن بيلوبوس المدعو «خريسبوس». وانتهى الأمر إلى طرد لايوس من بيزا، فعاد إلى طيبة، واستولى على العرش وتزوج جوكاستا، ثم اختطف «خريسبوس» الذي انتحر لاحقاً. وكان يأتي زوجته جوكاستا خلافاً للطبيعة تجنباً لحبلها، وكي لا تنجب صبياً يحقق النبوءة التي أخبرته بها وسيطة أبولو في دلفي، التي قالت له إن الصبي الذي سينجبه سيقتله ويتزوج أمه ويفني نسله. لكن لايوس أفرط في السكر في إحدى الليالي، وضاجع جوكاستا طبيعياً، فحملت منه وولدت أوديب.
24) اسم جبيل هو اسم عربي كنعاني، أما اسم بيبلوس فهو يوناني وأطلق عليها لاحقاً. وجبيل هي المدينة الصغرى التابعة لأوغاريت التي وُجدت فيها الأبجدية الآرامية في الألف الأول قبل الميلاد، والتي تُعتبر تطويراً فذاً للكتابة المسمارية في بلاد الرافدين. وكلمة أوغاريت تعني بالكنعانية «غوبلو» أي جبل، وجبيل تصغير جبل، وكانت تابعة سياسياً وثقافياً لحضارة أوغاريت.
25) نجيب محفوظ، «كفاح طيبة»، القاهرة: مكتبة مصر، 1962.
26) لاحظ التماثل بين «ذو القدم المتورمة» وسؤال أبو الهول للعابرين عن الكائن ذي القدمين وذي الثلاثة أطراف والأربعة أطراف.
27) كما وقع للطفل الإلهي أوزيريس الذي كان الملك أموليوس يريد قتله، فأخفاه أبواه في بعض شعب النيل بعد أن وضعه «ست» في صندوق محكم. وهذا ما وقع للزير (قارن مع أوزيريس) الذي ألقاه «سلطان» (قارن مع «ست») في النهر بعد أن وضعه في تابوت ليجرفه التيار إلى بيروت. أما صندوق أوزيريس فسارت به الأمواج إلى جبيل (بيبلوس) تماماً مثلما رسا صندوق الزير عند قصر حكمون ليهودي في منطقة خلدة القريبة من بيروت بحسب سيرة الزير سالم. وهذا ما وقع أيضــاً لموسى. وكلمة موسى أو موشى تعني المنتشل من الماء، أي الولادة الخارقة لأسباب جرمية. فوالد موسى عميرام تزوج عمته يوكابد وأولدها موسى وهارون (سفر الخروج 6: 20). وهذه جريمة زنى المحارم لدى اليهود أو سفاح القربى («عورة أخت أمك أو أخت أبيك لا تكشف»: لاويون: 20 :19). وقصص المنتشلين من الماء شائعة لدى الشعوب النهرية مثل العراق القديم ومصر القديمة. وقصة سرغون الكبير، أول ملوك الأكاديين الذي حكم بابل قبل المسيح بنحو 2500 سنة تقول إنه حينما كان صغيراً وضع في سلة مصنوعة من ألياف النباتات وطُُليت السلة بالقار (الزفت)، وتُركت عند حافة النهر، فجرفه الماء إلى مكان بعيد. لكن أحد الناس أنقذه ورباه حتى بلغ فاستخدمه في أراضيه. لكن الإلهة عشتار عشقته فتزوجته ومكنته من الوصول إلى عرش بابل، فصار ملكاً. وحدث الأمر نفسه مع حورس في مصر، وزرادشت في فارس، ورومولوس في ايطاليا، وحي بن يقظان في بلاد العرب.
28) في أحد التفسيرات أن أخناتون أُبعد إلى أرض أجداده في بلاد الميتانيين ليموت هناك (مثل أوديب تماماً). لكن الوفاة الغامضة لشقيقه تحوتمس أعادته إلى قصر والده وهو في السادسة عشرة كي يكون، في ما بعد، وارثاً لأبيه على عرش مصر.
29) راجع مسرحية «الفينيقيات» ليوربيدس، ومسرحية «مأساة طيبة» لراسين. وجوكاستا في هذا الموقف هي المرأة البائسة التي أنجبت من زوجها زوجاً لها، وأنجبت من ابنها أبناءً لها.
30) أنظر مسرحية «سبعة ضد طيبة» لاسخيلوس.
31) اكتشفت مقبرة سمنقرع سنة 1907.
32) ظلت حياة توت عنخ أمون وموته سراً من أسرار التاريخ المصري القديم على الرغم من اكتشاف قبره في 4/11/1922 على يد العالم البريطاني هوارد كارتر. والراجح أن توت عنخ أمون توفي بالملاريا، وهذا الاكتشاف الحديث الذي أذاعه زاهي حواس مدير الآثار المصرية سنة 2010 يلغي الكلام على موته بالاغتيال. أما الثقب الذي وُجد في جمجمته فهو ناجم عن التحنيط. وكان توت عنخ أمون يعاني تشوهاً في القدمين منذ الولادة (التواء كعب القدم إلى الداخل). وبات من الثابت أن نفرتيتي ليست والدته، بل والدة شقيقاته الست. أما والدته فهي ابنة تاي من زوجها الأول أمنحوتب الثالث. وقد وُجدت مومياء أخناتون في المقبرة رقم 55 في وادي الملوك، وقد سرق منها أحد الأصابع في سنة 1907 في أثناء قيام العالم الإنكليزي هاريس بفحصه، واستعادته مصر في 14/4/2010 من سويسرا. أما مومياء الملكة تاي فهي موجودة في المقبرة رقم 35 في وادي الملوك. وفي 6/12/1912 عُثر على تمثال خلاب لرأس الملكة نفرتيتي، وجرى تهريبه إلى ألمانيا حيث لا يزال معروضاً إلى اليوم، وترفض ألمانيا إعادته إلى مصر.