مع انعطافة الألفية الأولى، وبينما كانت بغداد تؤول إلى انهيار، كانت القسطنطينية تملك كلّ المؤهلات لتصبح مركز اقتصاد العالم: ملتقى يجمع بين آسيا وأفريقيا، بين الغرب وبكين، لتصبح المدينة الحاضرةمع العاصمة الصينية من بين أكبر مدن العالم، فهي تملك المال والبضائع والفضاء والقوة العسكرية والشبكات التجارية.
وعلى الرغم من ذلك، لم تنجح القسطنطينية في بسط نفوذها على بلاد الإسلام بسبب غياب روح المجابهة لدى نخبها المثقفة التي أغرقت في بيروقراطيتها، واستمرأت حياتها السعيدة المرفهة، فصار شللها في تزايد بفعل إمعانها في طريقة عيشها تلك، مدفوعة بحنينها إلى الفترة الهيلينية.
كان اليهود يعيشون في القسطنطينية فيما بينهم، ويعملون لأجل الجميع، فقد كانوا يشتغلون بالصباغة والفرّاء والنسيج والتجارة وجلب البضائع والسمسرة في كلّ شيء، وأحيانا يجلبون الثياب والمجوهرات إلى البلاط، والقلّة القليلة منهم يحترفون إمّا قرض الأموال، وإمّا التمويل، وهنا صارت الامبراطورية البيزنطية تحتكم على شبكتها الخاصة.
و منذ عهد الامبراطور «جوستينيان، انبرى جماعة من العبرانيين، وهم «الرومانيوت»، للاندماج في الروح اليونانية على وجه الخصوص حتى يتم قبولهم بشكل أفضل.
و يشتغل هؤلاء بالأساس بالحرف والمصوغات، وبالتجارة في الميناء، وقد غيّروا ألقاب عائلاتهم فصارت هيلينية، وصاروا يقرأون الكتابات المقدّسة ويؤدّون طقوسهم الدينية باليونانية، وهم يولون عناية أكثر لتعليقات حاخاماتهم على نص التوراة فقط، بل إنهم كانوا يحكمون في النزاعات فيما بينهم حسب قوانين الامبراطورية.
بعد سنة 1050، فرّ يهود آخرون من بغداد التي كانت تنهار، وقدموا إلى العاصمة البيزنطية، لكنّهم فشلوا في التعايش بعد أن اكتشفوا أنّ طقوسهم تختلف مع تلك التي يمارسها «الرومانيوت» ممّا جعل الامبراطور «ألكسيس كومبيان» يقوم ببناء جدار يفصل بين حيّي الطائفتين، وظلّت هاتان الطائفتان تشتغلان سويّا لكنهما لا تصليان في معبد واحد، ونادرا ما يحصل الزواج بينهما. لم يكن ذلك انشقاقا، وإنّما مسافة ثقافية .
و كان بلاد الإسلام في المناطق المجاورة لا تزال تضمّ ثلاثة أرباع الجالية اليهوديّة، أي ما يعادل أكثر من ثلاثة ملايين شخص، من «قرطبة» إلى «كابل»، وحتى إلى أبعد من ذلك، ولكنّ الوضع لم يعد مناسبا بالنسبة إليهم.
في القسطنطينية، كما في أيّ مكان آخر،كان اليهود يشتغلون بكل المهن المتّصلة بالتجارة والفلاحة والحرف، وكانوا يعيشون معزولين في أيّ مكان حلّوا فيه، يعيشون في زرائب، «محميين» ومُحتقرين، يُتعامل معهم بدونيّة على الرغم من كون التّجار اليهود هم الذين يضمنون الجزء الأكبر من المبادلات بين العالمين الهندي والاطلنطي، وهم الذين يدفعون مواكب قوافلهم ومراكبهم لجلب التوابل من الهند والحرير من الصين.
لم يعد للإسلام مركز آخر غير المركز الديني، جزيرة العرب التي طُرد منها اليهود، ولم تعد بغداد مدينة اليهود الأولى في العالم، كما فقدت اليهوديّة في «المدائن» دور صاحبة الفكر الذي أدّته على امتداد ألف سنة من الزمان، لم يعد ثمّة مدارس يهوديّة، وقلّ انجذاب أصحاب المال إلى الخلفاء، كما تناقص عدد سكّان بغداد من اليهود، ففي سنة 1168، لم يعُد فيها أكثر من أربعين ألف يهوديّ، وحسب رواية الرحالة «بنيامين التودلي»، الذي ظلّت حكاياته الممتعة تفتقد إلى الدقّة التاريخية، أنّه كانت في بغداد آنذاك أكثر من ثمانية وعشرين كنيسا وعَشر مدارس .
بعد مرور قرن من الزمان، وتحديدا في 1258، أورد رحالة آخر أنّه لم يعد في بغداد إلا ستّة وثلاثون ألف يهوديّ يتردّدون على ستة عشر كنيسا فقط.
وكما في أيّ مكان، في ذلك الوقت، صار اليهود في بلاد الإسلام، مجبرين على أداء صلواتهم في عزلة، ومن جهة أخرى، لم يعد عددهم في دار الخلافة يتجاوز مليون شخص، فارتحل بعضهم إلى الاسكندرية، أو اتّجه صوب الجاليات الصغيرة العديدة المتناثرة في أراضي الإسلام.
في حلب والموصل ودمشق والفسطاط والقيروان وفاس، وفي اليمن وفي إسبانيا، كانت هذه الجاليات تؤدّي عباداتها كل واحدة منها وفق طريقتها الخاصة، وقد ظلّ بعضها أحيانا لمدّة قرون تحت سلطة أسرة واحدة من التجار المتنفّذين.
لقد عانى هؤلاء من الإهانة والاضطهاد، كما حدث في فاس سنة 1032 حيث أقدم قائد عربيّ «أبو تنيم» على قتل ستّة آلاف شخص، أو كما حدث في مراكش ابتداء سنة 1150 حيث مُنعت الجالية اليهوديّة التي كانت تقيم هناك منذ سنة 1062 من ممارسة عباداتها في ظلّ سلطة عائلة جديدة حاكمة غير متسامحة: وهم الموحّدون.
أمّا في فلسطين، فكانت الوضعية أكثر بؤسا، لم يكن ثمّة من اليهود إلّا القليل، وهم إمّا في الأكاديميات، وما تبقى منهم كانوا يُعاملون في بعض المدن على أنّهم أدنى من مستوى البشر.
كان الإسلام الأكرمُ وفادةً، والأكثر ازدهاراً في تلك الفترة هو ذلك الذي عرفته مصر التي بقيت نقطة العبور من الشرق إلى الغرب.
فابتداء من عام 1000، كفلت العائلة الفاطمية الشيعية الحاكمة ازدهارا وحريّة لمصر لم يعرف تاريخ النيل لهما نظير.
في هذا المجتمع المتوسّطي، كان علماء اللاهوت البيزنطيون وعلماء اليهود يجاورون المفكرين المسلمين ويحاورونهم، وكانت الجاليات اليهودية في مصر تُمثّل لدى الخليفة بأحدهم ويُسمّى «نجيد»، وهو الذي يفاوض من أجل الجالية فيما يتعلّق بالضرائب ونظام السُّخرة، في جوّ من الاحترام المتبادل. ولمّا بسط الفاطميون نفوذهم على مكّة والمدينة والمناطق المجاورة لهما، صار «نجيد» القاهرة الناطق الرسميّ عن جاليات فلسطين وصقلّية وشمال أفريقيا:
وشارك الفلاحون والحرفيون ومُبَادلو العملات والسماسرة والصاغة في بناء العاصمة الجديدة (القاهرة) إلى جانب العاصمة القديمة (الفسطاط)، ورسم المعماريون اليهود تصميمات جامع الأزهر، وحافظ البحارة اليهود مع اليونانيين على نظام شبكة العلاقات التجارية التي تربط منذ ألف عام بين كلّ من الاسكندرية وإسبانيا و«صقلية» و«بيزا»و «أمالفي»(ميناء نابولي) و«كرفو» (جزيرة يونانية) وعمان و«كوشين» (مدينة هندية).
وكان الباعة اليهود هم الأوائل الذين لجأوا إلى ثلاثة اختراعات نسبها التاريخ فيما بعد إلى الإيطاليين:
الصكّ (ورقة يقدّمها المشتري للبائع لسداد ثمن البضاعة، ويُذكر عليها اسم كلّ واحد منهما، والموضع الذي يوجد فيه المال، والمبلغ الواجب دفعه، وآية من الانجيل على سبيل شفرة تعيين المشتري.)
ورسالة الصرف لمّا يُحوّل الدفع، والمحاسبة بالطريقة المزدوجة لتسجيل حركات ديونهما.
لكنّ الفترة الشيعية الفاطمية كانت قصيرة، ففي سنة 1164، وبسبب قلّة فيضان وادي النيل، كانت المحاصيل كارثية، وعمّت مجاعة حادّة، وقد جرّ ذلك إلى حدوث اضطرابات اقتصادية ومشادات في القاهرة، واستدعى الخليفة، بعد أن تجاوزه الأمر، فرق «أتابك» حلب السُنّيّ «نور الدين»، وكان القائد الكردي «صلاح الدين بن أيوب» قد أسرع إلى مصر بهدف إعادة النظام والأمن إليها، ونصّب نفسه بعد ذلك، وزيرا للخليفة الفاطميّ «العاضد»، وبعد قتله الخليفة، أعاد نشر أولويّة المذهب السُنيّ في القاهرة.
وتوفي نور الدين سنة 1174، وقيل إنّها وفاة طبيعية، وألحق صلاح الدين حكم سورية بمصر، وبسط سلطانه على جزء من المدائن، ومن جزيرة العرب، واستولى سنة 1187 على القدس.
لم يتغيّر وضع يهود مصر، فقد لبثوا كسابق عهدهم، إمّا حرفيين، وإمّا تجارا، وقد صار أحدهم، والمدعو ب «أبو البيجرن» طبيب الخليفة الجديد، وتولّى آخر « أبو المنجا بن شحاح» مسؤولية الزراعة، فبنى قناة مُحوّلة عن نهر النيل.
في ظلّ إسلام كهذا، متنوّر ومتسامح، لا أحد يستطيع أن يجسّد الوجوه المتعدّدة لقَدَر اليهود مثل «موسى بن ميمون» الحاخام والطبيب ومستشار الأمير.
وُلد «ابن ميمون» في قرطبة سنة 1135، ولمّا بلغ سنّ الثالثة عشرة، احتلّ الموحدون المدينة ومنعوا اليهود من تأدية طقوسهم التعبدية.وهكذا دخلت أسرته الإسلام ظاهريّا، وكانت قد نَفَت نفسها إلى المغرب، بعيدا عن الأسرة الموحدية المالكة.
وقد وجد «آل ميمون» هناك العديد من المثقفين الباحثين عن الحرية: مسلمون مثل «ابن رشد» وهو من كبار من علّقوا على أرسطو، وقد جاء إلى مراكش لاجئا، ويهود استقرّ أغلبهم في «فاس».
هناك درس موسى بن ميمون، وهو اليهودي في سرّه، التلمود والطب والفلسفات اليونانية والإسلامية، فيكتب لاحقا: « لا يوجد توحيد أكثر من صفاء الإسلام.»،و كان في الثانية والعشرين حين حرّر ميثاقا عن « الرزنامة».
وفي سنة 1165، أحكم الموحدون قبضتهم على المغرب، وصار أداء العبادات اليهودية أمرا صعبا جدا، حتّى لمّا كانت تمارس سرّا.
وفي سنة 1165، سافر «ابن ميمون، إلى الاسكندرية واستقرّ فيها مفتونا بجوّ الحريّة الذي ساد مصر آنذاك، ولكنّه وجدها مدينة آيلة للانهيار ( لم يُحص بنيامين التودلي أكثر من ثلاثة آلاف يهوديّ).
كان «ابن ميمون» في الاسكندرية قد لحق بأخيه الذي سبقه إليها طلبا للثروة عن طريق التجارة في المحيط الهندي، قبل أن يموت غرقا في البحر الأحمر سنة 1169. أصبح «موسى بن ميمون» وريثا شابا غنيا، فتزوّج وانتقل للعيش في الفسطاط، وهو حيّ بالقاهرة تعيش فيه غالبية الجالية اليهودية التي تقيم بالعاصمة، وبه تفرّغ للبحث في اللاهوت، وفي الطب.
وفي سنة 1185، صار «ابن ميمون» طبيبا للقاضي الفاضل وزير صلاح الدين الذي كان قد ذهب ليستقرّ في دمشق، وفي هذه الفترة كان «ابن ميمون» يستقبل الحاخامات والعلماء المسلمين المولعين بالرياضيات اليونانية والعلوم المصرية.
وفي جمع من المثقفين والتجار المتنوّرين الذين ارتبكوا للصدام الذي حدث بين القرآن وفكر أرسطو، سُمع بمن يبرهن باللغة العربية على أنّ الفلسفة اليهوديّة تقدّم تفسيرا عقلانيا للوضع البشري، وذلك حين كتب كتاب «دليل الحائرين» نحو سنة 1190، متجاوزا «كتاب الآباء» ومحيّنا فكر الحاخام (حلّال)، وكَيَّفَ كلّ ذلك مع العالمين: اليوناني والمسلم، كما عمل على عقد الانسجام بين الجماعي والفردي، بين العقل والإيمان، بين الانجيل وأرسطو، مثلما فعل «ابن رشد» في الإسلام.
ووفق ما يراه «ابن ميمون» فكلّ إنسان حرّ في أن يعيش الإيمان كما يراه ( يمكن وصف التوراة فقط بأنّها إلهية، أمّا بقية القوانين فهي من وضع البشر.)
في عالم التجار والرحالة هذا، كان «ابن ميمون» يعيش ويدافع عن المسؤولية الفردية، وذهب به الأمر إلى الاستنتاج التالي:» إن أفضل شكل للصدقة هي المساعدة، إمّا عن طريق الهبات، وإمّا عن طريق القروض، وإمّا بمشاركة كل من افتقر للحصول على عمل على النحو الذي لم يعد فيه محتاجا إلى طلب معونة أحد.»
وبمعنى آخر، لا يمكن التغلب على الفقر إلّا إذا قام الأغنياء بتمويل مشاريع الفقراء، ومن جهة أخرى يصير أمرا أخلاقيا أن نُقرض من ليسوا يهودا إذا كان ذلك في الإمكان، مع مراعاة عدم استغلال المقترض بنسب عالية جدا من الفائدة، كما إنّه لا يجوز تقديم قروض لامرأة وحيدة قصد استعبادها ( لضمان تبعيتها).
بعد وفاة «ابن ميمون» سنة 1204، كوّن أبناؤه عائلة حاخامات، وقادة جاليات بسطوا سلطانهم على اليهودية في مصر حتّى غزو البلاد من طرف العثمانيين سنة 1517.
وقد بدأت هذه العائلة مع صهر أحد أبنائه الحاخام «أبراهام حانانيل» أحد الأثرياء الذين يملكون مصنعا لتكرير السكر، وهو المسؤول عن مجموع المحاكم الحاخامية في مصر، وكان يقضي في كلّ المنازعات بين التجار الذين يجلبون التوابل من الهند والتجار الذين يأتون بالحرير من الصين، ويعيدون بيعهما في أوروبا.
وفي ظرف قصير عُرفت أعمال «ابن ميمون» في أوساط الجاليات الهودية والمسيحية، فسافر التجار بكتبه، وهكذا استقى الغرب المسيحي من مصر، وعن طريق هذا المفكّر اليهودي المبادىء الأولى لأخلاقيات الفردية العقلانية، ومن خلال ذلك حدّد «ابن ميمون» مبادىء فضل الفردية وخلود الروح التي استوحى منها «توماس الاكويني» فيما بعد، كما أرسى قيم الحرية والمسؤولية التي تنبع منها أخلاقيات الرأسمالية.
وقد أتى بعده كثيرون زعموا التفكير في أصول الحداثة، ونسوا المنابع اليهودية الإسلامية: «حلّال» و«ابن رشد» و«ابن ميمون».