محمد الحجيري
كاتب لبناني
أصاب الباحث أحمد بيضون حين قال غداة وفاة إلياس خوري بأنه “لا يعد ولا يحصى”، فالروائي المجدّد والمثقف “الملتزم” بالمعنى السارتري و”النقدي” بالمفهوم الإدوارد سعيدي و”العضوي” بالتسمية الغرامشية، وأحد رواد “رواية الحرب” في لبنان مع رشيد الضعيف وجبور الدويهي وحسن داوود وشارل شهوان، وصاحب الكتابات الكثيرة الاستعارات والمعاني، و”المسيحي الملحد الذي يعشق فضاء الكنيسة” كما يصف نفسه، وحاصد الجوائز الكثيرة من الخليج والناقد بقوة لثقافة البترودولار، والمقاتل حامل البندقية وأحد أبرز منتقدي الحرب وطرق تأريخها من خلال القلم، وهو ولد عام 1948، لعائلة من الطبقة المتوسطة. نشأ في حي بيروتي، في الأشرفية، والتي تسمى أيضًا “الجبل الصغير” لأنها تلة صغيرة في شرق بيروت. كانت الأشرفية أشبه بقرية داخل مدينة، وكانت طفولة إلياس كما يقول ذات وجهين: في مدينة كبيرة، ومحمية بقرية داخل المدينة الكبيرة، والأشرفية كانت في الأساس حيًا مسيحيًا أرثوذكسيًا، تتمتع بكل أوجه القرية: بستان الزيتون الكبير في كرم الزيتون، والحقول، والبيوت البيروتية الصفراء القديمة المحاطة بالأشجار. وأتت نشأة إلياس مع كل أساطير المسيحيين الشرقيين، وخاصة أسطورة كونهم من نسل قبيلة غسان العربية، الذين قدموا من حوران في سوريا وكانوا ملوكًا، وتلك النشأة أنعكست على كتاباته ورواياته ولغته.
وسط عائلته المشرقية اللبنانية، اكتشف إلياس خوري قصص ألف ليلة وليلة والثقافة العربية وأيضا الشعر الكلاسيكي من خلال جدته لأمه. كانت في الثمانين من عمرها تقريبًا، تتلو معظم الشعر الكلاسيكي عن ظهر قلب، كل قصائد امرئ القيس. وكانت العائلة تحت تأثير النهضة العربية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وكانت فكرة النهضة هي النسخة التي ابتكرتها حركة الشبيبة الأرثوذكسية، وقد انضم إليها خوري عندما كان في الرابعة عشرة من عمره. ولم تكن التحركات الأرثوذوكسية بمنأى عن التأثير الروسي (زمن الشيوعية) إلى جانب التأثيرات الأخرى. ففي مراهقته تعرف خوري على بعض الكراسات الشيوعية في الكنيسة، ولاحقًا على مجلات “شعر” و”الآداب” و”حوار”.
عاش خوري حياة حافلة بالأحداث والتشعبات والحيوات والأحلام والأفكار الجيفارية والعروبية، اللبنانية والفلسطينية، استقل سيارة تاكسي من بيروت إلى عمّان، ليلتحق بالمقاتلين الفلسطينيين العام 1967، زار مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، ثم انضم إلى حركة “فتح” التابعة إلى منظمة التحرير الفلسطينية. وبعد أحداث “أيلول الأسود” عام 1970، سافر إلى باريس لمواصلة دراساته، قدّم بحثًا في علم الاجتماع عن حرب المارونية الدرزية في جبل لبنان 1860، وبعد عودته إلى بيروت، شارك في الحرب الأهلية اللبنانية، التي اندلعت في العام 1975، وأصيب بجروح خطيرة في عينه.
وإلياس خوري المثقف المتعدّد، عاشق الشعر العربي من المتنبي إلى محمود درويش ومن امرئ القيس إلى جورج شحادة، لم يكتب الشعر، بدأ حياته بالنقد الأدبي في وقت مبكر، سرعان ما مال إلى كتابة الرواية التجريبية التي مدحها صديقه إدوارد سعيد… كثر كانوا يظنونه فلسطينيًا أو مزدوج الانتماء لأنه كتب رواية “باب الشمس” التي أخرجها المصري يسري نصرالله فيلمًا. ظل حاضرًا في نهضة بيروت ويكتب عنها بدءًا من السبعينيات حتى قبل أيام من وفاته، انضم إلى هيئة تحرير مجلة “مواقف” عام 1972. وكانت تتألف من «أدونيس، وكمال أبو ديب، وكمال بلاطة، وهشام شرابي، ومنى السعودي، وخالدة سعيد، وصادق جلال العظم، وغيرهم». يقول خوري «كانت مجلة مهمّة للغاية ولكنها هامشية». وكان المشهد الأدبي يهيمن عليه صحيفة “النهار”. لم نكن من اليمين الليبرالي ولا من اليسار الكلاسيكي. من الناحية الفكرية، كنا مرتبطين ارتباطًا وثيقًا بالتجربة الفلسطينية. كان المشهد الأدبي اللبناني الذي دخلته في السبعينيات يهيمن عليه الشعر. لم يكن أحد مهتمًا حقًا بالسرد وهذا أعطاني الكثير من الحرية. داخل مجموعة «مواقف» «لم أكن أُعتبر روائيًا قط، ولم أعتبر نفسي كذلك».
ولم يكن إلياس خوري بمنأى عن الأهواء “الثورية” التي أصابت “مواقف” غداة الثورة الخمينية وسقوط الشاه، وكتابة أدونيس قصيدته الشهيرة “تحية لثورة إيران” في جريدة “السفير”. مثل كثير من اليساريين، بعد اغتيال كمال جنبلاط وتصدّع الحركة الوطنية، توهّم خوري خيرًا من الثورة الخمينية، ولكن سريعًا ما أصيب بخيبة أمل. تقول الكاتبة السورية و(الزوجة السابقة) لمحمود درويش، رنا قباني في مذكراتها “كنا في شقتنا نشرب الشاي مع إلياس خوري، الذي حول نفسه من مقاتل في الحرب الأهلية اللبنانية (وجرح في عينه أثناءها) إلى روائي قدير ولامع، حين جاء خبر وصول الخميني إلى طهران، بعد أن غادرها الشاه. وكانت الحشود في المدن الإيرانية تحتفل بنجاح ثورتها الشعبية على “السافاك” الذي طالما حاربت نظامه المخابراتي المخيف، أثناء انتفاضتها على الفروق الطبقية القبيحة التي أخذت تتعمق أكثر فأكثر في البلاد (كما تعمقت بشكل كارثي في يومنا هذا)”. تضيف قباني “أذكر كم فرح إلياس بهذا التحول الكبير، ولكن محمود درويش كان حذرا للغاية، وقال له: “عليك أن تنتبه من المرحلة المقبلة، التي سيقودها رجال دين!”. كم أصاب ببعد نظره وكلامه، خاصة بعد ما تبين -وبسرعة مخيفة- أن رغبات الحكام الجدد في إيران، انعكست من طلب الديموقراطية، إلى تمكين حكومة ولاية الفقيه”.
في تلك الفترة أيضا بدأ يطرح سؤال الحرب الأهلية ونقدها، وكان إلياس خوري كتب روايته “الجبل الصغير” قبل عامين من نشرها، في حرب السنتين 1975/1976، يقول: “كنت أكتب عكس ما كنت أعيشه ولكنني كنت أؤمن حقًا بأيديولوجية السياسة وكنت أعتقد أن الأدب شيء آخر”، أيضًا انضم خوري إلى مجلة “شؤون فلسطينية” التي أدار تحريرها من 1975 إلى 1979 مع الشاعر محمود درويش، “كانت المجلة المكان الوحيد الذي كان بإمكانك التعبير فيه عن بعض الانتقادات. كان النقد صعبًا للغاية لأن الثورة الفلسطينية كانت مقدسة في وعينا”، يقول إلياس، يضيف: “لم يكن بإمكانك انتقادها. ومع ذلك فعلنا ذلك. في مرحلة ما أراد ياسر عرفات أن يسجنني، لكنني استقلت بعد ذلك من مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، وغادر محمود درويش أيضًا”. وكذلك عمل إلياس في مجلة “الكرمل” في عاميها الأولين 1981–1982 وقبل هجرتها إلى قبرص. في تلك المرحلة جذبت روايته “الوجوه البيضاء” التي صدرت عام 1981، انتباه منظمة التحرير الفلسطينية لأنها كشفت تفاصيل عن مختلف فصائل المنظمة. وقد منعت المنظمة الكتاب عمليًا، وهدّدت الموزعين كثيرًا حتى أنّ الرواية لم تظهر في المكتبات إلا بعد عام 1982، أو بعد رحيل الفلسطينيين. حينها اكتشف خوري أن عمله كمثقف مهم أولًا، وثانيًا لا معنى له، ولا يمكن أن يتم إذا لم يكن ناقدًا للوضع الذي يعيشه. و”الوجوه البيضاء” هي رواية عن التشظّي الاجتماعي. وطريقة السّرد فيها ليست رمزيّة، بل واقعيّة وعبثية وكافكاوية ، «الوجوه البيضاء» هي قصة رجل عادي، وهو ساعي بريد، قتل دون سبب واضح ورمي فوق كومة من القمامة. يمكن إعطاء قصته تفسيًرا رمزيًا، ولكنها قصة ترفض أي محاولة لاستخراج المعاني منها أيضًا.
وبرز إلياس خوري في مرحلة كانت فيها بيروت تضج بالغرباء الذين شاركوا في إرساء الطابع الثقافي الحداثي العربي والكوزمبولوتي للعاصمة اللبنانية قبل تصدعها بفعل الاجتياح الإسرائيلي. وبقي يعيش إلياس خوري نوستالجيا لتلك المرحلة الصاخبة يقول: “إننا ندفع ثمن الاستبداد وانهيار القوى الديموقراطية والعلمانية في المشرق العربي. أما الثمنُ الأكبر الذي ندفعه فهو ثمن انهيار المقاومة الفلسطينيّة، وهذا ليس تفصيلًا. صحيح أنّ خطابَ المقاومة الفلسطينية كان خطابًا كيانيًّا فلسطينيًّا، ولكنْ عمليًّا تحت هذا الخطاب يوجد خطاب عروبيٌّ تحرّري”.
بعد انتكاسة الوجود الفلسطيني في لبنان وصعود المليشيات اللبنانية في الثمانينيات، ثمة محطة تذكر عابرًا في حياة خوري، وتتمثل في مشاركته في تحرير مجلة “الطريق” الشيوعية.. يقول إلياس خوري: “أنا القادم من صفوف اليسار الجديد والمقاومة الفلسطينية. كان ذلك بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. في ذلك الزمن كنا نتخبط بحثًا عن طريق، إلى أن دلّني كريم مروة على مجلة “الطريق”، وانخرطت بعدها بشكل غير مباشر في عمل جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي.
فوجئت يومها بالعرض الذي قدمه لي ولصديقي روجيه نبعة، بالانضمام إلى هيئة تحرير مجلة “الطريق”، فنحن لم تكن تربطنا بالحزب الشيوعي أي علاقة، بل كنا من أشد المنتقدين له، لكننا لم نكن نملك سوى أن نوافق، فهمُّنا في تلك المرحلة كان العمل على طرد قوات الاحتلال من لبنان، فصارت المجلة مكرسة للمقاومة إلى جانب اهتماماتها الثقافية المتعددة. تلك التجربة القصيرة التي كسرتها حرب الجبل بفظائعها الطائفية”.
والدور الطليعي الذي أداه خوري في خضم الوجود الفلسطيني في بيروت، سرعان ما استعاده بعد زوال الاجتياح الإسرائيلي عام 1983، سواء في إدارته القسم الثقافي في صحيفة “السفير” (1983–1990)، وكانت منبرًا للمثقفين اليساريين والعروبيين والقوميين، ثم إدارته لـ”ملحق” النهار في التسعينيات، ففي 14 آذار 1992، أعادت صحيفة “النهار” إصدار ملحقها الأدبيّ بعد سنوات من توقفه، يقول خوري: “عرض غسان تويني عليَّ بالعمل في “النهار” كان مفاجأة كبرى، كيف يمكن لمنبر ليبرالي أن يحتمل لغة اليسار والمقاومة الفلسطينية التي جئت منهما؟ وكيف لي أن أتعامل مع وسط ثقافي “نهاروي” لا يستسيغ التجربة الثقافية والأدبية التي انتميت إليها ولا أزال؟
كانت عبقرية غسان تويني تكمن في قدرته على التقاط النبض الثقافي الجديد. والحق يُقال إن تجربة السنوات الثماني الأولى كانت مثالية”..
منذ افتتاحيّته الأولى، حدّد إلياس خوري الذي يتبنى الثقافة النقدية، وجهة “الملحق” فوضعه في مواجهة مع مؤتمر مدريد للسلام الذي لن يسمح “للعبيد بأن يكونوا أكثر من عبيد” ، ومع “الذاكرة المثقوبة” التي فُرضَت على مدينة بيروت. تبنّى الملحق “رؤية بديلة لإعمار بيروت”، وفتح صفحاته لمهندسين ومعماريّين دافعوا عن وسط مدينةٍ يحافظ على نسيجها الاجتماعي وعمارتها وأسواقها وأمكنتها ومقابرها.
إلى جانب نقد مشروع الإعمار الحريري والنيو-ليبرالية ككلّ، تحوّل “الملحق” إلى منبر للدفاع عن مبانٍ بعينها، كرثائه مبنى سينما الريفولي أو البيوت العثمانية ذات القبب الحمراء، أو دفاعه عن فندق “السان جورج” الذي بناه أنطوان تابت على شاطئ بيروت و”مبنى بركات” والسرايا الحكومية. رأى إلياس خوري ورفاقه أن إعادة إعمار وسط بيروت وفقا لمخطط سوليدير هو محو لذاكرتها تحت الأسمنت دون معالجته: “كانت الفكرة ألّا نسمح للحرب وقيَم الرأسمال المتوحّش التي التصقت بها، عبر اتفاق الطائف وبَعده، أن تكون مهندس مدينتنا الوحيد. صحيح أنّ الحروب هي أكبر مهندس تنظيم مدني في التاريخ، لكنّ الصحيح أيضا هو أنّ البشر يعيدون هندسة ما صنعه توحّش الحروب بنكهة البُعد الإنساني الذي يدافع عن قيَم الحياة. غير أنّ محاولتنا الفاشلة كانت النذير الأوّل لمسار الخراب الروحي والمادي الذي سيجتاح وطننا الصغير”. خسر “الملحق” المعركة، وربح نفسه، وكان منبرًا هجينًا في جريدة “النهار”، لمواضيع جريئة في زمن أمني وأسماء متناقضة متجاورة تحت سقف واحد، أيديولوجيات يمينية ويسارية متقاربة، سياديون وعروبيون، تقليدية وربّما طائفية، وما بعد حداثية، شعرية وروائية، فتية وكهلة. يقول إلياس خوري: “جسم “النهار” التقليدي، بصفحته الثقافية التي كان يديرها شوقي أبي شقرا، وبمكانة أنسي الحاج الكبرى، لم يكن يستسيغ ما نقوم به. كنا في عزلة كبرى داخل الصحيفة. لكن هذا لم يؤثر على قدرة “الملحق” على التحوّل إلى المنبر الثقافي الأبرز في لبنان، حيث كتبت فيه جميع الأقلام اللبنانية اللامعة من أجيال مختلفة، وتحوّل إلى منبر للجديد في الأدب والمسرح وفنون العرض والفن التشكيلي، لكن الأهم من كل ذلك هو أنه تحول إلى منبر متعدّد للنضال الديمقراطي في لبنان وسورية، وإلى إطار يحتضن قضية فلسطين”. فتح “الملحق” ملفات مثل السجون والطلاب وتاريخ الحرب والصحافة والرواية والشعراء وخاض معارك ضد الرقابة والمنع، سواء منع كتب “حديقة الحواس” للشاعر عبده وازن، أو كتب المفكر الليبي الصادق النيهوم أو محاكمة الفنان مارسيل خليفة بسبب أغنية “أنا يوسف يا أبي”. وتجربة “الملحق” أصيبت بانتكاسة كبرى حين تسلّم جبران تويني مسؤوليات جريدة “النهار” بعد قرار والده التقاعد، تقلصت صفحات الملحق من باب التوفير وعدم استساغة رأي إلياس خوري المغاير. أكثر من مرّة كان يلجأ جبران تويني الى منع المقالات السياسية الانتقادية التي تتعارض مع سياسته وتوجهاته، غير أن الدور الذي لعبه الشاعر عقل العويط والتدخل المتواصل من قبل غسان تويني منعا انهيار التجربة.
لكن المناخ بدأ يتغير ويتبدّل، وخصوصًا بعد اغتيال سمير قصير في حزيران العام 2005، ومن ثم اغتيال جبران تويني في العام نفسه الذي كان يعني أن الضربة التي وجهت إلى “النهار”، كانت شبه قاتلة. وبعد جبران، حلّت ابنته نايلة في إدارة الجريدة وطردت إلياس خوري عام 2008.
إلى جانب إدارة “الملحق” كان يدير إلياس خوري “مسرح بيروت” الذي أحدث، نهضة مسرحية جديدة في العاصمة اللبنانية. في المسرح ساهم خوري في إطلاق ورشة ثقافية جمعت المسرح بالفن التشكيلي، والموسيقى بالشعر والفنون المعاصرة، ومن ضمنها مسرح أيلول مع باسكال فغالي، والموسم المخصّص للذكرى الخمسين للنكبة الفلسطينية، إضافة إلى المسرحيات البارزة اللبنانية والعراقية والتونسية والجزائرية والمصرية، من الفاضل الجعايبي إلى جواد الأسدي، ومن جليلة بكار الى رينية ديك، كلهم كانوا ضيوف المسرح الصغير في عين المريسة. وأكثر من مرة كان المسرح محط أضواء لمواجهته السلطة أو الواقع اللبناني، سواء في استضافته أنشطة مدنية لدعم إقامة انتخابات بلدية في لبنان، أو دعوته مثقفين يهود عرب لتقديم كلمات تؤيد فلسطين، وقد هددت بعض الميليشيات مسرح بيروت، اضطر بعدها إلى إلغاء أنشطة المثقفين اليهود.
وبحلول العام 2004، كان إلياس خوري يشارك في تأسيس “حركة اليسار الديمقراطي” مع الشيوعي السابق إلياس عطالله والكاتب سمير قصير وآخرين. لكن الاختلاف في بعض وجهات النظر داخل الحركة حول تحالفاتها ووجهتها، ثم حول الموقف من «حرب تموز» 2011 بين إسرائيل وحزب الله، أخرج إلياس وغيره الكثيرين من الإطار التنظيمي. ثم لما اندلعت الثورة السورية العام 2011 سرعان ما انتقل بصفته مثقفًا عضويًا، مناصرا للمعارضين والمهمشين، وكتب كثيرًا من المقالات في شأن الثورة وشارك في ندوات ومؤتمرات حولها. وسمحت له كتاباته الأسبوعية في جريدة “القدس العربي” الفلسطينية بالتعبير عن مواقفه السياسية والثقافية والنضالية، ولم ينج من تهم عجيبة فارغة وجهها إليه بعض الكتّاب. فاجأته التظاهرات اللبنانية العام 2019 لإسقاط النظام ليكون ناشطا فيها ثم منتقدًا لقادتها، جاء القضاء عليها بالترافق مع الانهيار المالي والمصرفي. ووصف خوري تجربته السياسية بأنها كانت “حماس شاب يشارك من خلال الحس الإنساني، والتماهي مع المهمشين والمقهورين؛ لأنه واحد منهم”.
في معظم تجاربه وأعماله كان إلياس خوري محركًا ثقافيًا في بيروت، كان لديه الشغف الذي يجعلنا نسمية مثقفًا عضويًا، وكان أكثر من شخص في شخص واحد، متعدّد المرايا في بيروت التي يقول بأنها “ليست جميلة”، ولكنها “فاتنة” و”الفتنة في لغة العرب قد تكون ابتلاء، وقد تكون ذوبانًا بالنار التي تجعل الذهب يلتمع، وقد تكون جنونًا وعذابًا”. ويعدّد خوري الأدوار والعناصر التي تجعلها فاتنة فيجد أنهم كلهم غرباء من الشعراء والكتّاب إلى الرأسماليين السوريين والمصريين والعراقيين، إلى المثقفين والصحافيين العرب إلى رواد مجلة “شعر” السوريين يوسف الخال وأدونيس ومحمد الماغوط. والصيرفيّ المقدسي يوسف بيدس. حتى نظرية لبنان، الجبل والبحر وجمهورية التجار، صاغها العراقي الآشوري ميشال شيحا. والشعوذة والسحر نشآ على يدَي الدكتور داهش، واسمه سليم العشي، الفلسطيني السرياني القادم من بيت لحم. وبيروت التي “تملك ميزة المزج بين الخفّة والتراجيديا”، وفتنة بيروت الأساسية كما قال في مقابلة مع مجلة “باريس ريفيو” إنها مدينة المهاجرين والغرباء، فـ”في بدايات القرن التاسع عشر، كانت قرية من ستة آلاف شخص. لم تكن مكانًا حيويًا على أي صعيد، لا تجاريًّا ولا فكريًّا طبعًا. ثمّ بدأ إبراهيم باشا، في فترة الـ 1830، ببناء الميناء، وجلبت حروب عامي 1840 و1860 الكثير من المسيحيين من جبل لبنان. في بداية القرن الأخير، بيروت كانت ملجأً أساسيًّا للأرمن الهاربين من الأتراك. وقد جاء الكثير من الفلسطينيين إلى بيروت عام 1948 بالطبع واستمروا بالقدوم في السنوات اللاحقة. في الستينيات والسبعينيات، جاء الشيعة من الجنوب. بيروت مدينة بناها الغرباء -اقتصاديًا، فكريًا، ثقافيًّا- وهذا يجعلها مكانًا منفتحًا. هذه هي ميزتها الحقيقية في المنطقة. العيش فيها يشبه العيش في عدة مدن مختلفة في الوقت ذاته. يمكنك المشي من مانهاتن إلى باريس مرورًا بقم وكولومبو. من الممكن لأي أحد أن يكون بيروتيًّا. لا يستطيع أحدٌ أن يمنعك من ذلك”. لكن إلياس خوري بعد كارثة المرفأ المروعة في 4 أغسطس 2020، شعر بموت مدينته كما لم يشعر من قبل طيلةَ حياته فيها. قال: “في 4 آب/أغسطس 2020، رأينا ما يشبه النهاية.
صار الزجاج المتشظي عيون المدينة المنثورة على الأسفلت المليء بحطام البيوت؛ الجرح ينزف في العيون، وبيروت ترى نفسها للمرة الأولى في مراياها المحطمة.
مشينا على عيون المدينة، نتلمس ببقع الدم التي نزفها ألوف الجرحى طريقنا وسط العتمة”.
وفي الذكرى الثانية لانفجار المرفأ، قال خوري: “بالانفجار لما مشيت بالشوارع على القزاز حسيت حالي عم إمشي على عيوني مش لأنه صورة أدبية، فعلًا كنت عم إمشي على عيوني”. يرى خوري أن بيروت مرآة العالم العربيّ، و”بيروت التي ماتت، أعلنت موت العرب”، ويضيف: “صرلنا زمان عم نرثي بيروت عاملين حفلة رثاء عمليًا من الحرب بس فعليًا حفلة الرثاء بلشت بتدمير البلد القديم بمشروع إعادة الإعمار ومن وقتها ونحن عم نبكي على المدينة”.
انهار فضاء المدينة التي كانت رافعة كل شيء في الجمهورية اللبنانية، تبخرت ودائع الناس في المصارف، تقلصت الأنشطة الثقافية أو تحولت، أقفلت الصحف البارزة، ولم تعد بيروت عاصمة النشر والتوزيع مع بروز مؤسسات كبرى في الخليج العربي، في النهاية صرنا في في بيروت أجواء رواية “يالو”، وفيها ينطلق خوري من عالم السجن، بل من جو التحقيق العبثي وربما الكافكاوي الذي يخضع له الشاب السرياني الموقوف الذي يدعى يالو. نقرأ في مستهل الرواية: “لم يفهم يالو ماذا يجري. وقف الشاب أمام المحقق وأغمض عينيه، وكذلك كان يفعل دومًا. يغمض عينيه حين يواجه الخطر”. تجري أحداث الرواية عام 1993، تدخل عالم السجن وترصد أحوال التعذيب والمعاناة في داخله. يقول خوري “يالو” عملتُ فيها على موت اللغة. وموتُ اللغة حدثٌ مخيفٌ في الوعي الإنسانيّ. لقد ذكرت وأشرتُ في الكثير من كتاباتي إلى موت الآلهة، فهناك آلهةٌ ماتت واختفت واستُبدلت بآلهة جديدة. هذه المرّةُ الأولى وأنا أجلس في بيروت أعيش تجربةَ موت مدينة. وموتُ المدن قاسٍ بمعنى أنه يستطيع محوَك. لقد ماتت اللغة السريانية لكنّها ذابت في اللغة العربيّة، لم تمُت بمعنًى ما، دعني أقول إنها تقمّصت، لذلك عندما عملتُ على السريانيّة وعلى علاقتها باللغة العربية اكتشفتُ اكتشافاتٍ مذهلة، اكتشفتُ كم أنّ في لغتنا المحكيّة من السريانية. والآلهة أيضًا لم تمُت، لأنها ذابت أيضًا في آلهةٍ أخرى. تقمّصت في آلهةٍ أخرى. لكنّ المدن يمكن أن تموت نهائيًّا. وموتُ المدن يعني تحويلَ الحياة إلى آثارٍ وذكريات. حاولت استكشاف ذلك في “يالو”، حيث يتم تعذيب بطل الرواية ويجبره المحققون على كتابة اعتراف. لذا فالكتابة هي تقنية تعذيب وتحرّر في الوقت نفسه، طريقة لفهم النفس. عبر الكتابة، نحوّل الحقيقة إلى مادّة للخيال”.
الهوامش
(*) استندت أقوال إلياس خوري إلى بعض مقالات وحوارات متفرقة أجريت معه في عدد من المجلات والمواقع الثقافية (بدايات، باريس ريفيو، قنطرة، بانيبال ودرج).