في عمله الروائي «بيت الديب» يمضي الكاتب المصري عزت القمحاوي في مسار مختلف عن أعماله الإبداعية السابقة، ولعل هذا المضي في مسار جديد مع كل عمل إبداعي يُعتبر تيمة في كتابة القمحاوي التي تنحو إلى التجريب في المضمون والشكل الروائي والقصصي؛ فلا نجد في أعماله شخصيات متشابهة، أو نماذج تعيد إنتاج ذاتها، بل يمكن القول أن كل رواية من أعماله تشكل بناءً مستقلًا عما سبقها ولا تشترك معها سوى بالأسلوب الساخر والفانتازي، مع كثافة لغوية، وسلاسة تحمي السرد من أي زوائد، وتضمن الاحتفاظ بالقارئ حتى النهاية.
ففي رواية «مدينة اللذة» التي بناها القمحاوي على وجود مدينة مفترضة، يحضر عالم فانتازي وعبثي تمامًا، أما في «غرفة ترى النيل» فهناك عين ساردة تراقب الموت المتسلل إلى الحياة في مصر. بينما يحضر هاجس القمع بشكل مباشر في رواية «الحارس»، التي تخوض أكثر في البناء النفسي لشخصية البطل المتماهي مع السلطة.
في «بيت الديب»، يقف القارئ على عالم متشابك وواسع لعائلة مصرية ريفية تعيش في قرية «العش» التي تقع في محافظة الشرقية في دلتا مصر، وعبر متابعة حياة أربعة أجيال على مدى أكثر من مائة وخمسين عامًا، يكتشف القارئ أسباب نشوء القرية وتجمع العائلات فيها، فالسبب الرئيس في وجود قرية «العش» هو التهرب من الضرائب؛ عدة أفراد انحدروا من أماكن مختلفة تجمعوا عند مستنقع «شرعوا في تجفيفه وتأسيس قريتهم على أرضه السبخة قليلة الرجاء» صـ 22. لكن ما قد يجعل تلك القرية أقرب إلى التخيل منها للواقع هو حالة السلام الموجودة فيها، والمصاحبة لحالة من المساواة في كل شيء تقريبًا، فالبيوت كلها مبنية من دور واحد، ومساحات الحقول متساوية، والقرية ليس فيها حارات مسدودة بل شوارع كلها تفضي إلى الحقول.
في هذا الفضاء الجغرافي المتصل والمنفصل مع العالم، يتشكل العالم الروائي، حيث يحيل عنوان «بيت الديب» إلى فضاء مكاني مصغر هو البيت، وهذا البيت الذي يرمز للأمان والحماية والحياة، ينتمي لعائلة «الديب» التي سيتتبع القارئ سيرورة حياة أبطالها الكُثر، من جيل إلى جيل، وإذا كان الجيل الأول ظل محصورًا في غالبه في قرية «العش» إلا أن الجيل الرابع سيهجر القرية، وستتقلص علاقته معها لتصير موسمية، هكذا يتلاشى الفضاء المكاني المصغر لبيت الديب، ليتشعب في أماكن متعددة من مصر إلى اليمن، وفلسطين، والعراق، وكأن بيت الديب هنا وأفراده يمثلون النواة الصغيرة التي ستكبر وتنمو في فضاءات أخرى بعيدة عن تربتها الأولى. هناك منتصر الذي يفر من ظلم عمه، ولا يُعرف له مستقر، يحارب ضد الإنكليز، وفي نهاية الرواية نعرف أنه تزوج وعنده أحفاد، أيضا سالم الديب وإنجابه طفلين من زوجته اليونانية، وهناك نجية التي تتزوج في فلسطين، ثم تعود مع ابنتها زينة إلى «العش». لكن كل هذه التشعبات بعيدًا عن الأرض، ستكون أكثر تأثيرًا مع الجيلين الثالث والرابع الذين ينطلقون واحدًا تلو الآخر نحو العالم، بحثًا عن دراسة، أو وظيفة، أو عمل، «فالعش» لم تعد المكان القادر على تقديم ما يمكن أن يُشبع حيواتهم.
تنفتح الرواية على الجدة «مباركة» وقد أصبحت طاعنة في السن، لكنها واعية وحاضرة الذهن لكل التغيرات التي تحدث حولها، لذا نراها تطلب من أحد أحفادها وهو ينقر على جهاز الكمبيوتر ليتحدث مع رفاق له في جانب آخر من الأرض، أن يكتب رسالة إلى الرب يخبره فيها بأن حياتها طالت، مخافة أن تبدو «قليلة الحياء بعيشها حتى هذه السن» صـ 5. تمثل مباركة الفولي خط السرد الأول الذي يتم تضفيره مع خط سردي محوري آخر هو عائلة الديب، حيث يتقاطع مصير «مباركة» مع ثلاثة من أفراد العائلة: حبيبها منتصر الديب، الذي ظلت تذكر رائحته حتى بعد أن تقدم بها العمر وشحبت ذاكرتها، ثم زوجها مجاهد الديب الذي تزوجها غدرًا بعد أن ذهب لخطبتها لابن أخيه منتصر لكنه يطمع بها لنفسه، ثم ابن زوجها «ناجي» الذي ترتبط معه في علاقة جسدية ، ثم يختفي في مصير مجهول. لنقرأ: «عندما ظهرت على مباركة أعراض حمل جديد أحس مجاهد بالتشوش، وهو يسترجع تحرشاته الذليلة بها.. هل ولجها بين الصحو والنوم دون أن يتذكر؟ هل هي مخاوية الجان حقًّا؟» صـ 104.
تمثل مباركة مزاوجة بين الفضائين الداخلي والخارجي، إنها حلقة الوصل بين عالم القرية والمدينة، هي التي ولدت وشبت في القرية، ثم انتقلت للمدينة لكنها تحمل في فطرتها السلوكية جرأة نساء المدن، تنتصر مباركة لجسدها، ولاختياراتها الجسدية، وترى أن الجسد أكثر حضورًا، سنجد دلالة هذا في علاقتها مع جسدها حين تنتقل إلى المدينة، وتسكن مع أبنائها كي يكملوا دراستهم الجامعية، هناك تنظر إلى جسدها في المرآة لأول مرة، تتفحصه بدقة، وتتأمل تفاصيله. ولعل علاقة «مباركة» المبتورة مع «منتصر»، تركت في داخلها عطشًا أبديًّا للحب، وصارت تجد في تحقق الحب أمامها نافذة للسعادة، هذا ما نجده في موقفها من ابنها سالم حين يقع في حب (خركيليا) اليونانية، توافق سريعًا على زواجه منها. أما ابنها الأصغر يوسف، فحين يقيم علاقة غير شرعية مع جارته المتزوجة من رجل مسافر، ويكون نتيجة العلاقة طفلة يتم تسجيلها باسم ابنة المرأة التي أقامت علاقة مع يوسف، وفي كل هذا تكون مباركة متواطئة مع ما يحدث. أما حين يكبر الأبناء ويتزوجون فنرى «مباركة» تسترق السمع من خلف الأبواب وتستغرب كيف أن الشباب والبنات لا يصرخون عند ممارسة الحب، لكنها تنتهي إلى التسليم بأن الدنيا تغيرت، وأن هؤلاء المساكين أتلفتهم المدارس والحروب.
الذاكرة والتاريخ
يمسك دفة السرد في «بيت الديب» راوٍ عليم منذ البداية إلى النهاية، بيد أن التيمة الأساسية لهذا العمل هي الرجوع للوراء، إمساك خيط الذاكرة الأول والالتفاف حول التاريخ القصي بغية تأطير الحكايات ومحاولة الوصول إلى أبعد نقطة فيها، وهذا يتضح مع إصرار الكاتب على تقديم تاريخ القرية البعيد وسبب وجودها، هكذا يتقاطع التاريخ الفردي لجماعة من الأفراد الهاربين من الضرائب، مع التاريخ الجمعي لمصر لنقرأ: «لم يتصور أحد أن انتفاضة عمر مكرم، التي نجحت في تحرير مصر من حكم العبيد، هي التي ستؤدي إلى احتلال العش» صـ23.
هكذا يحضر إلى القرية باشا تركي هو «متين آغا» يبني سرايا كبيرة وسط القرية، ويمارس ظلمه على الفلاحين، لكن لن تلبث الأحداث أن تدور لتصير تلك السرايا لأحد أفراد عائلة الديب، لسلامة تحديدًا الذي يصير عمدة البلدة، ويضع يديه على السرايا بعد أن كانت مهجورة ومتروكة للعفاريت، ويمثل هذا الحدث دلالة هامة في انتقال عائلة الديب لتحيا في تلك السرايا، وكأن الأمور عادت لنصابها في عودة السرايا الدخيلة والتي بناها باشا تركي، لتكون لأحد أبناء القرية.
يحضر تاريخ مصر متواريًا خلف الأحداث الرئيسة لحيوات الأبطال. ترصد الرواية واقع العلاقات الإنسانية في القرية المصرية، والتحولات الاجتماعية التي غزت القرية جيلًا بعد جيل، بدءًا من التحول إلى الصناعة بدلًا من الزراعة، ثم انتقال أفرادها إلى المدينة، وما يتخلل هذا من صراعات وتوترات أسرية. يعيد القمحاوي رصد الواقع بلغة تمتاز بالاحتشاد، وأجواء يمتزج فيها الواقع بالسحري والمتخيل، حيث يظل مصير عدة أبطال مجهولًا، بحيث يتمكن القارئ من المشاركة في التأويل، ووضع فرضيات لنهاياتهم.
ورغم أن التاريخ وما فيه من تحولات انعكس بشكل مباشر على مصائر الأبطال، وتقلبات أحوالهم، وتحولاتهم الاجتماعية والنفسية، لكنه ظل مثل أرضية ثابتة يقف الأبطال عليها مع المضي للأمام من دون النظر إلى أسفل، ولعل ما ينبغي الإشارة إليه في الحديث عن التاريخ في رواية «بيت الديب» هي تلك الحرفية الفنية العالية في تحقيق النقلات الزمنية الطويلة المتوازية مع المنعطفات والتحولات السياسية الكبرى، والاكتفاء بتقديمها عبر مصائر الأبطال من دون التشعب في تفاصيلها، فمن ظلم الضرائب العثمانية، إلى الإقطاع، إلى قيام ثورة يوليو وحرب اليمن، ثم العبور وحرب أكتوبر، إلى جانب تقاطع هذه الأحداث التاريخية في مصر، مع أحداث عربية كبرى مثل وقائع تهجير الفلسطينيين في 1948، وغزو العراق للكويت، وحرب الخليج. لنقرأ مثلًا:
«عاد سلامة الديب من الحرب بعد أربع سنوات لم تدع إلا أثرًا خفيفًا من الملامح تدل عليه».صـ 117.
«تكفل الزمن بطي صفحات لم يتصور أحد بأنها يمكن أن تطوى، مثل ذكريات الطاعون والكوليرا ودمار الفيضان».
صـ 87.
«عندما عاد العقيد سالم الديب من اليمن ملفوفًا في علم شارك في تغيير لونه الأخضر إلى ألوان الموت…» صـ 292.
«استقبلوا بيان العبور بحذر، خوفًا من خديعة جديدة. كان الكذب في الأيام الأولى من النكسة ماثلًا في الأذهان»
صـ 296.
«نزل السادات سلم الطائرة عائدًا من القدس، وخلفه عشرة من الأسرى كانوا في عداد المفقودين» صـ 279.
بيد أن هذه الوقائع التاريخية المتصلة بالواقع تمامًا، يظل حضورها متواريًا خلف التخييل الروائي الذي يحيل القارئ على فرضية السؤال، إن كان هذا قد حصل بالفعل، بداية مع وجود قرية «العش» المفترضة، ثم شخصية البطلة التراجيدية مباركة، ومصيرها الذي يتقاطع مع مصائر باقي الأبطال. مباركة هنا تمثل جزءًا هامًا من الذاكرة الحية، إنها ما تبقى من الجيل القديم، لكن الماضي البعيد الذي حمل معه حبيبها منتصر، لم يبقَ منه شيء منذ لحظة شق الموت طريقه نحو أفراد العائلة، وصار يختطفهم واحدًا تلو الآخر، لذا نرى التعويض عن الفقد بتسمية الأولاد والأحفاد بذات الأسماء، وهذه دلالة مهمة جدًّا في الرواية، تتكرر الأسماء مع الاختلافات في الأزمنة والنتائج، لنقرأ: «في ثلاث سنوات امتلأت السرايا والداران بأطفال لهم السحنة نفسها، كأنهم خرجوا من خط إنتاج بمصنع واحد؛ لأنهم جاءوا مما أسماه ناجي تزاوجًا ذاتيًا، مشبهًا التزاوج داخل العائلة بانقسام المخلوقات وحيدة الخلية… ولم يعد هناك ما يمكن بيعه لإعالة هذا العدد، فبدءوا في البحث عن وظائف» صـ276.
تكون المشاهد الأخيرة في الرواية مع «مباركة» أيضًا، لنعود في سرد دائري ممتع إلى النقطة الأولى، تلمح مباركة من بعيد وهي جالسة عند دوار السرايا صورة رجل شاب ترى فيه منتصر، وللوهلة الأولى نظن أنها تتخيل، أو أن ملاك الموت يوشك على زيارتها، لكن في الحقيقة كان ثمة رجل يقترب بالفعل، وحين يدنو منها وتتحسس وجهه تبدأ بترديد اسم «منتصر» فيرد عليها القادم: «لا أنا حفيده يا جدة». وهكذا في عودة الحفيد تكتمل أسطورة «منتصر» الغائب الحاضر.
يمكن القول أن «بيت الديب» بكونها رواية أجيال متسلسلة، وأبطال يتناسلون باستمرار، يمكن أن تنطبق تفاصيلها وأحداثها على أي قرية أخرى في ريف مصر، لقد تمكن القمحاوي في هذه الرواية من تقديم شريحة اجتماعية عريضة لأبناء قرية مصرية، وما طرأ من تحولات بفعل عوامل شتى تركت آثارها على الأماكن والأشخاص. ولعل من ضمن أهم مميزات هذا العمل هو غياب التيمات الثابتة في الحديث عن القرية وعلاقتها بالمدينة، في «بيت الديب» تحدث التحولات بسلاسة تامة، حين ينتقل الأفراد إلى المدينة بسبب الدراسة أو العمل، من دون التركيز على بريق المدينة الذي يخطف أبصار القرويين السذج، لا يوجد مثل هذه الأفكار، كما يغيب من الناحية النفسية فكرة الثواب والعقاب بالشكل المباشر، حيث هناك تجاوز للفكرة نحو متابعة سير الحياة ككل، التي لا تمضي حتمًا وفق قواعد ثابتة؛ كما نجد في مصير «ناجي» الأول الذي اختفى بلا أثر يدل على وجوده كما لو أن اختفاءه نتيجة لعلاقته الجسدية مع مباركة زوجة أبيه، أو نهاية «حفيظة» زوجة مجاهد الأولى، التي تموت معلقة على شجرة، كرد فعل على الشر الذي يغلف روحها.
هناك لا منطقية أو عبثية تحكم الحياة، وبالتالي نجدها في الرواية، فالموت، والحروب، عطب الجسد، غياب الحبيب، أو فقدان أحد الأبناء، كلها أمور قدرية ليس للاختيارات الفردية سلطة عليها. من هنا جاء مصير الأبطال في «بيت الديب» متوائمًا مع هذا المعطى، وإن كان ثمة مصائر يمكن ربطها بقانون الفعل ونتيجته، فإنها تأتي بتلقائية شديدة حاملة تأويلاتها الخاصة بأسلوب يخلو من أي مباشرة أو قصدية.