"أحبك.. أموت لأجلك"
هكذا همس العاشق للفتاة التي تجلس الى جواره في القارب المختص بنقل السيدات الى الجانب الآخر من البحيرة متخفيا برداء السيدات ومتشحا بالسواد.
ورغم ان الفتاة كانت تسمع صوت ذلك الشاب للمرة الاول الا انها صدقته تماما كما صدقه كل من شاهد ذلك الفيلم المدهش الذي عرض لاول مرة في مارس الماضي في مدينة "بومباي" التي يحمل الفيلم اسمها وفي 15 دار عرض امتلأت عن أخرها، غير الحشود التي لم تستطع الدخول قبل ان ينتقل الفيلم للعرض في 100 دار عرني أخرى على امتداد شبه القارة الهندية.
ولا عجب، فالفيلم يتناول قضية شديدة الاهمية والخطورة يعاني منها المجتمع الهندي – اضافة الى قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية اخري، كما يعاني منها كثير من سكان العالم الآن مرورا بالعالم العربي خاصة الجزائر ومصر وصولا الى البوسنة حيث المجزرة الوحشية التي تعرض لها المسلمون هناك هن قبل الصرب في اطار حالة من الهوس ممثلا في العنف الذي تجتاح عدواه العالم من ادناه الى اقصده في تكريس رحب لامتلاك الطائفة للحقيقة الواحدة المطلقة، واعتبار ان الآخر لا وجود له خارج اطار الطائفة حتى لو ادى ذلك الى قتله دون النظر الى غاية الطوائف على اختلافها وهي تحقيق الانسانية للانسان.
اذن انها المواجهة الطائفية الدموية مرة أخرى وهي هنا بين الهندوس (اكثر من 80% من نسبة سكان الهند) والمسلمين ( 10%).
وقد تعرض مؤخرا المخرج الشاب "ماني راتنام" الى محاولة اغتيال حيث فجرت بعض العناصر الارهابية منزله في مدينة "مدراس" جنوب الهند باستخدام قنبلة يدوية.
وقد بدأت معاناته منذ انتهاء تصوير الفيلم لكي يحصل على تصريح الاجهزة الرقابية لعرض الفيلم حيث اعترضت اللجنة المختصة، كما يشير تحقيق منشور بمجلة "India Today" الاسبوعية في 15 ابريل الماضي – واصرت على قطع ثلاث لقطات رئيسية من الفيلم، الامر الذي واجهه راتنام بحزم ولكنهم نجحوا في قطع دقيقتين من الفيلم خلال الاحداث العنيفة وخاصة التي اشارت الى تورط مسؤولين ما زالوا موجودين في الحكومة، واخيرا نجح راتنام في الحصول على تصريح عرض الفيلم متجاوزا كثيرا من المعارضات التي اقامتها الجهات الحكومية والمؤسسات الهندوسية والاسلامية.
يحكي الفيلم قصة شاب _يقوم بالدور الممثل "ارفينج سوامي" – يعمل بمطبعة أحدى الصحف الكبرى في بومباي، وفي ذات الوقت يدرس الصحافة على امل الالتحاق بهيئة تحرير الصحيفة. ويعود خلال الاجازة الى قريته في الجنوب وتصطحبه اخته لحضور حفل أحدى صديقاتها المسلمات، وهناك يرى الفتاة شاهلا بانو – تقوم بالدور "مانيشا كوليرا لا" – التي يشغف بها من اللحظة الأولى وهي تشارك الفتيات الفناء في الحفل.
ويقرر الشاب اثر انشغاله المضني بالفتاة ان يرتبط بها رغم الاختلاف الذي يأخذ مستويين الاول عقائدي والثاني اجتماعي يعكسه حي المسلمين الفقير الذي تعيش فيه الفتاة، وفيه تتوالى محاولات الفتى التحدث او التعرف اليها في لقطات امتزجت بها الحان الفيلم الرائعة بتراتيل وتلاوات قرانية – يستخدم المخرج تلاوة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد. إلى أن يتخفى مرتديا زي الفتيات المسلمات رداء أسود طويل وبرقع ويركب معها القارب الذي يعبر بالفتيات الى السوق، وعندما تكتشف شخصيته تصرخ فيرد عليها هامسا : "أحبك.. اموت لاجلك".. معلنا ميلاد علاقة ستواجه الكثير من العقبات لاحقا فعندما يذهب شيكر الى اهل فتاته ليطلب ابنتهم للزواج يثور الاب ويسرع الى السيف القديم المعلق على الحائط مهددا الفتى بالقتل ومرددا : انت هندوسي ونحن مسلمون ودماؤنا لا يمكن ان تختلط. غير ان الفتى مدفوعا بقوة حبه يمسك بالنصل الحاد ليجرح كفه قبل ان يخطف السيف من يد الرجل ويتجه صوب فتاته ليجرحها بذات السيف في ذراعها التي سيمسكها بقوة بكفه المجروحة وهو يصرخ ها هي دماؤنا قد امتزجت.. ولن يستطيع احد أن يفرقنا.
وموقف ابو الفتى بالقطع هو اكثر تشددا لان الفتاة التي اختارها ابنه مسلمة اولا ثم لأنها ابنة بشير بائع القرميد ويختتم ثورته قائلا اذا اردت ان تتزوجها فافعل ذلك بعد موتي ولكن الفتى الذي اتخذ قرارا لا رجعة فيه يردد انني لا استطيع الانتظار حتى موعد موتك.
ويذهب "شيكر" الى بومباي مرة أخرى ثم تلحق به "شاهلا بانو" بعد ان يكتشف ابوها امر الرسائل التي تصلها من حبيبها، وهناك يتزوجان ويبدآن حياتهما الجديدة في ذات الوقت الذي ينهي فيه شكير دراسته ويبدأ عمله كمحرر صحفي بالصحيفة.. وينجبان توأما "كمال" و"كبير" يحمل احدهما لقب جده لابيه والآخر جده لامه – الاسماء تبين الديانة وتميزها – ثم يبدأ النصف الثاني من الفيلم وهو النصف الدموي حيث يتخذ المخرج من الاحداث الدامية التي وقعت نهاية عام 1992 وبداية عام 1993 بين المسلمين والهندوس مرجعا للاحداث مستخدما اياها بشكل يكاد ان يكون تسجيليا حيث يضل الاخوان الصغيران طريقهما وسط احداث الاضطرابات والعنف التي تسود المدينة ويقعان في ايدي المتطرفين الذين يقررون احراقهما بعد ان يسكبوا عليهما الكيروسين، فعندما سألوهما عن ديانتهما.. اطبق عليهما الصمت.. اذ انهما لا يعرفان اجابة للسؤال المطروح فيما راحا يرددان في سذاجة وقد تملك منهما الرعب.. مسلم.. هندو.. مسلم.. هندو".
ولكن الشرطة تنقذهما في اللحظة الاخيرة ولكن يبقى السؤال.. معلقا بلا اجابة لدى الطفلين اللذين راحا يهبان من نومهما مذعورين وملاحقين بكوابيس مرعبة فيسألان والديهما السؤال نفسه هل نحن هندو ام مسلمون.. ولا يجدان اجابة ؟
ويبدأ شيكر في عمل حملة صحفية حول الموضوع يواجه كافة الاطراف الذين يحمل كل منهم مبرراته.. رغم العشرات الذين يسقطون قتل كل يوم. غير انهم اخيرا يصمتون حينما يطلب تعليقهم بعد ان يقول لهم : "الناس تقتل بالمئات بسبب معتقداتك.. ماذا تقول ؟".
وتشتعل "بومباي" تحترق البيوت ويموت المئات كل يوم وتعم الفوضى في احداث 1993الدامية واحراق المسجد الكبير. وتصل المأساة الى بيت شيكر وشاهلا عندما يلقي احد طلاب الجامعة شعلة الى المنزل الذي فشلت كل محاولات اطفاء النيران التي اتت عليه ويخرج الجميع الا ابو الفتاة ويعود ابو زوجها وامه لانقاذه فيتفجر المنزل وهم فيه بينما يضل الولدان طريتهما مرة أخرى.
وهكذا وفي لحظة يأس يتوقف شيكر امام مجموعة من المتناحرين وهو يصرخ : ماذا تفعلون.. لقد فقدت بسببكم والدي واطفالي لماذا تريدون احراق بلدكم ؟
ويصرخ عندما يسأله احدهم عن ديانته.. لا شأن لكم بما اعتقد انا هندي مثلكم جميعا ويكفيني هذا.
وتستمر قصة كفاح العاشقين بعد ان يعثرا على طفليهما اخيرا.
واذا كان البعض يعتبر هذا الفيلم تجاريا بمنطق شباك التذاكر واحتوائه على التوليفة الاساسية حب ورقص وعنف لكل الافلام التجارية الهندية السائدة، الا ان هذا الفيلم قد خرج عن هذا التصنيف من خلال التقنيات التي استخدمها المخرج في عناصر هذا الفيلم بدءا من اختيار الممثلين الى التصوير والكادرات والموسيقى وحتى العنف ليس هو ذلك الصراع الساذج بين الاشرار وبين البطل الطيب الذي يقهر الجميع بضربات الرأس والاقدام مع مؤثرات صوتية ساذجة.. اطلاقا كان العنف هنا هو حالة من الاضطرابات والعنف الذي عاشته الهند ولا يزال ماثلا في مخيلة الناس.. وما سجل الفيلم احتراقه ربما ما زالت آثار الحريق جاثمة عليه الى اللحظة في الواقع.
بالاضافة الى اداء الممثلين الذي خلا – الا قليلا – من الانفعالات والافتعالات. ولكن يطل هذا هو فيلم مانيشا – بطلة الدور النسائي ~ بحق. ان استخدامها الرائع لتعبيرات وجهها جعلها تبدو صادقة تماما من مشاهد العشق الى مشاعر القهر والاضطهاد الى مشهد جرحها بالسيف حين امتزج العشق بالدهشة الشديدة والخوف بالرغبة المكبوتة ثم تلك اللحظة لعينيها عندما اخبرت زوجها انها على وشك الانجاب ان التعبير الذي ارتسم عل وجهها في تلك اللقطة جعلني اتذكر ما يقوله "رود ستايمبر" عن الممثل الخلاق :
"كان يتعين علي ان انظر الى جثة الشاب ثم ارفع رأسي واميل الى الوراء مطلقا صرخة مدوية وبينما الكاميرا تصور فتحت فمي لأصرخ غير انني تذكرت فجأة لوحة جيرنيكا بيكاسو المرأة ذات اللسان الحاد بالرغم من انها مجرد لوحة الا انني في حياتي لم اسمع صرخة اكثر دويا منها لذلك فقد صرخت دون ان اصدر صوتا واعتقد انها من اللحظات القليلة التي اقتربت فيها من المستوى الاعلى للتمثيل : التمثيل الشعري للحياة عند أقصى درجة للألم".
وهذا في ظني ما استطاعت ان تصل اليه مانيشا في كثير من لقطات الفيلم.
والواقع ان راتنام قد قدم فيلما قبل هذا الفيلم مستخدما نفس الطاقم ويحمل اسم "روجا" وهو فيلمه الرابع والذي بدأ من خلاله تقديم موضوعات مهمة حيث يتناول قضية الارهاب في اقليم كشمير من خلال قصة زوجة تحاول تخطي مجموعة من العقبات والقوانين البيروقراطية للافراج عن زوجها المحتجز من قبل سلطات كشمير.
اما الموسيقى فهي بالفعل أحد أهم أبطال هذا العمل.. فقد ابتعد المؤلف والمخرج الموسيقي الشاب رحمن –27 سنة – عن الموسيقى المألوفة وقدم 4اغنيات بالحان عذبة وعميقة وبحيث تستطيع هذه الموسيقى وحدها التعبير عن الحالة الوجدانية وخاصة اللحن الاساسي للفيلم.
وهكذا ساهمت عناصر هذا الفيلم الشفاف متضافرة لتوصيل رسالة المخرج.. رسالة الفيلم أن الانسان يحمل جنسية بلده أولا ثم عقيدته ثانيا وان التقدم وتحقيق الانسانية الحقيقية لايمكن ان يتم بمعزل او بالادق دون حضور الحب الذي رحنا نشرخه الآن كثيرا بسوء نية احيانا وبحسن نية كثيرا.. ثم من خلال التفاهم الذي هو صفو الحب وعموده الفقري.. فهل يستطيع هذا العالم المجنون ان يفهم الرسالة ؟!
ابراهيم فرغلي (كاتب مصري مقيم في عمان)