عندما أردتُ موعدا لحوار مع الشاعر بول شاوول عرفتُ أنه لا يمكن العثور عليه إلا في ثلاثة أماكن المكتب والبيت والمقهى، وكان ثالثها هو الأجدى بالجلوس معه، التقيت به في مقهاه ـ مقهى «ليناس» ـ الذي لا يغادره إلا يوم الخميس .
منذ الرابعة عشرة من عمره كان بول يهرب من المدرسة إلى المقهى، «أجلس في المقهى وهو ممتلئ بالناس، ومع ذلك أكون وحدي عادة، أقصد المقهى صباحا قبل أن يأتي من أعرفهم، وأقصده ليلا بعد أن يذهبوا، هذه العزلة المأهولة أحبها».
uu في كل مرحلة من مراحل كتابتك للشعر، كان هنالك تجريب جديد، في فترة من الفترات كنت تشتغل على البياض الذي يسمح للقارئ أن يفتش عن تأويله الخاص للمساحات الفارغة، لاحقا بدأت بتجريب آخر، «كشهر طويل من العشق» لمَ تسمح بوجود مساحات البياض.. أنت تُصدر ديوانا ثم تنقلب عليه..هل هي خطوات مدروسة أم نتاج الصدفة؟
– كل كتاب هو نفي للذات، ومحاولة لكسر أي قولبة ذاتية في الشعر، عندما اكتب الكتاب أعيش نوعا من الانتظار والإصغاء، كمن ينتظر اللحظة التي تخرج فيها تلك التراكمات، أي أكون مستعدا عندما يئن أوان الكتاب لإخراج الداخل، وعندما أقول الاستعداد أعني الاستعداد النفسي والاجتماعي والأهم الاستعداد الثقافي واللغوي، فلا يجب أن تفاجئنا تجربة من تجاربنا فتكون أقوى منّا، على طريقة السرياليين أو الرومنطيقيين، وهذا الاستعداد يتيح أولا وأخيرا الاشتغال على المواد الأولية، فكل بداية هي اشتغال على مواد أولية. أنا لا أومن بالتدفقات الأولية فقط، أؤمن أن هذه التدفقات، هذه الانفجارات، هذه التراكمات، ينبغي أن تجد اللغة الجديدة والمناسبة لها.
uu إذا أنت تصطاد لغتك، وليس اللغة هي من تصطادك؟
-بالتأكيد الشاعر هو الذي يصطاد لغته، ولا أفضل كلمة اصطياد لأنها ذات معنى لحظي، وإنما أفضل كلمة الاشتغال.
الشعر فن صعب، والقصيدة عندي مشروع قد يستمر إلى سنوات مثل «أوراق الغائب»، كتبتها على مدى ست سنوات، وكانت عبارة عن 600 صفحة، وبعد إعادة الاشتغال عليها، وتكثيفها تبقى منها 70 صفحة فقط. المسألة ليست مجرد البحث عن تعبير للحالة التي نعيشها، وإلا لتمكن الشاعر من كتابة قصيدة كل يوم.
مشروع كتابة قصيدة بالنسبة لي مشروع داخلي، ومشروع لغوي، وقائم على فعل التجريب، بهذا المعنى المسألة ليست سهلة كما يظن البعض. أسهل شيء على الشاعر أن يُقلد نفسه، ولو كنتُ أقلد نفسي كما يفعل الكثير من الشعراء، لكان عندي اليوم خمسون ديوانا. فلو جلستُ من الآن حتى الصباح، يمكنني أن اكتب كتابة تشبه «وجه يسقط ولا يصل»، أو تشبه «كشهر طويل من العشق»، وهذا ما لا أريده، لأن الكتابة وفق الكتابة السابقة أمر سهل جدا، ومفاتيحها متوفرة، كمن يكتشف طريقا ويسلكه إلى الأبد، هكذا أشبه أولئك الذين يكتبون بأسلوب واحد. تموت القصيدة تموت الكلمات، تهترىء ، تصطدم بالجسد، والحواس، وتمر من فوقها، هذا هو ما جافيته، واخترتُ الطريق الصعب. كل تجربة اكتبها تصبح ورائي. النسيان هو الفعل التجريبي بامتياز. النسيان هو فعل الذاكرة الايجابية. قصيدة البياض هي نوعا ما القصيدة الناقصة، القصيدة الموحية أو القصيدة التي بعضها فوق السطح وأكثرها في قعر الماء. عندما أصدرتُ كتابي «بياض» فوجئت بهجوم الجميع. بول شاؤول يكتب قصيدة من سطرين أو أربع كلمات، وأكثر الانتقادات تأتي من الرواد الذين لم يعودوا يرودون إلا أنفسهم. البعض ممن لديهم حس اللطائف والشفافية عرفوا أن هذا طريق جديد. ومنذ 78 وحتى اليوم نعرف جيدا أن الشعر العربي بدت تطغى عليه القصائد القصيرة والبياض، ومعنى ذلك أن البياض ليس زخرفا، إنه جزء من الكلام، الجزء المكمل، والموحي، والكلام الآخر الذي يكمله القارئ وينتجه، وإذا كان البياض هو جزء من البنية يعني ذلك أنه جزء من إيقاع القصيدة، وليس جزءا من بنية الشكل كما يفترض البعض. تماما كالرسام عندما يضرب اللوحة بضربتين أو ثلاث، ويترك حولها الفراغ الذي ينتمي أيضا لبنية اللوحة، ويعبر عن الصمت، وهو ليس صمت الأشياء الميتة، وإنما صمت الأشياء الحية.
uu تكتفي بالبيت والمكتب والمقهى، هل كان هذا هو خيارك الشخصي، أم ما فرضته عليك الحرب؟
– الاثنان معا. قبل الحرب كنتُ أتزعم الحركة الطلابية، وقائدا من قوادها. وأمشي في المظاهرات، وأدخل السجن، وأتعرض للضرب. وكانت حياتي مشتركة في الاجتماعات، أتقاسم اللقمة مع الأصحاب، والسهر، والندوات. كنت في الهواء الطلق، ضمن حياة جماعية. كان المجتمع معنا وقتها، وكان الخارج آمنا. لكن الحرب دمرت هذا الخارج. الرصيف أصبح قاتلا. أصبح لدى الناس عنف بسبب الطائفية، التعصب، المعارك، وأنا تعايشت مع كل الحروب، ولم تَفُتْنِ أي حرب. هذا الخارج أو المجتمع أصيب بتحولات مخيفة جدا. لم يعد هذا المجتمع هو الحليف أو الصديق، وإنما أصبح هو الإلغاء.
uu لهذا أصبحت العزلة، المكان الأكثر أمنا لك؟
– الداخل ليس هو الأمان فقط، وإنما الملجأ تماما كما لو أن هنالك كوليرا، فيعود الإنسان ليوصد أبوابه جيدا في الداخل. لكن هذا لا يعني أن العزلة تعني الهروب من المواجهة. بالعكس العزلة كانت جزءا من المواجهة. في أيام العزلة كنت اكتب مقالات، ويومها اصطدمت بعائلتي، وطائفتي، واصطدمت بالمكان الذي عشت فيه اصطداما فكريا، لأني كنت يساريا، ومع القضية الفلسطينية، وضد إسرائيل ومازلت. خطفتُ وهوجمتُ، لذا أنا هنا منذ ثلاثين عاما، وقد اخترت هذا الشكل لحياتي. هذه العزلة نوع من المقاومة، والتغلغل في ضمير المجتمع، وأنت بعيدا عنه. بعيدا عن الاحتكاكات. في هذه العزلة، كتبت كثيرا ومزقت كثيرا، وأحببت كثيرا، وخاب أملي كثيرا وكانت السيجارة هي الرفيقة التي لم تفارقني أبدا.
uu السيجارة التي لم تفارقك في عملك الجماعي أو عزلتك، هل كانت تستحق منك كتابا «دفتر سيجارة»؟ ألم تكن مجازفة، ورهانا صعبا أن تشتغل على هذه المفردة البسيطة، وتحركها ضمن مواضيع كثيرة؟
– هذا الكتاب من أجمل ما كتبت. نعم كان مجازفة كبيرة، عندما يكتب الشاعر عن الحب، فلديه مواضيع كتبت عن الحب منذ خمسة آلاف أو عشرة آلاف من السنوات، يستند إليها، ويُقابسها، ومواضيع أخرى عن الموت، وعن الدين، أما مع السيجارة فليس هنالك أي شاعر تجرأ أن يكتب كتابا عنها، إلا بضعة سطور. هذا يعني أن المجازفة في أن تبدأ من الصفر، من جسمك، من السيجارة التي بيدك ومن الحياة، وليس من الثقافة. لم يسبقني أحد إليها لأتأثر به، وهذه هي الوعورة والصعوبة.
uu ما الذي دفعك إذا لموضوع السيجارة، فرادة الموضوع؟
– عندما كنت مدير تحرير في جريدة السفير، نشر خبر عن مكافحة التدخين، فكتبت أني ضد مكافحة التدخين منذ سنة 96 ، وعلى ذلك كبرت الفكرة، وتطورت إلى كتاب كامل عنها. حلمي أن اكتب عن الكرسي والطاولة، والمنفضة ليس من باب تأثراتي، وإنما من باب أني لا أملك شيئا في هذه الحياة سوى متاعي المتنقل معي. النظارة، الولاعة، السيجارة، المنفضة، المفاتيح. هذه مؤنتي منذ 45 سنة، لم تتغير، ولم تزد ولم تنقص. هذا الذخر هو الذي أتعايش معه إضافة إلى طاولتي والكرسي واللمبة التي تضيئني، والورق الذي أحب، اتفقد الورقة كمن يتفقد الأرض قبل أن يزرعها. أو امرأة قبل أن يلمسها، أحيانا تعاندني، وأحيانا تندلق عليّ، وتعطيني نفسها بسهولة. الورقة هي أجمل ما أحمله معي. وكما يرى الواحد نفسه في المرآة أرى نفسي في الورق.
نعم موضوع السيجارة صعب، إلا أن سيجارة اليوم ليست كسيجارة الأمس، لأنها مرتبطة بالمزاج والعاطفة والمشاعر، بالجسم والحواس، بالقرف والحب. الأشياء من حولنا هي مرايانا الحقيقية في الحياة، لذا تستحق أن نكتب عنها.
uu تعلمت النجارة والحدادة وتفصيل البرادي قبل أن تتعلم الشعر؟
– «يضحك» . كان عمري 12 سنة، ذهبت إلى مدرسة «للصنايعية» لأتعلم حرفة، إلى الآن لا تزال أصابعي محروقة، كنت أهرب كل يوم، أمي تصنع لي الطعام، فآخذه معي إلى «الأحراش»، وأعود في الخامسة متعبا من الدرس. أرسلوا من المدرسة يخبرون والدي أني لم أذهب إلى المدرسة مدة ثلاثة أشهر.
وقتها بدأتُ أحب الشعر، وأذكر أني كنتُ أقرأ لـ جبران خليل جبران. سألني والدي عن ذلك، قلت له: لست سعيدا في المدرسة، فنقلني إلى مدرسة أخرى، وكان هذا هو أهم شيء فعلته في حياتي كلها. أفكر لو أني استمررت في تلك المدرسة، لكنتُ اليوم نجارا أو حدادا أو كهربائيا، كان موقفا شجاعا مني ومن أبي ومن أمي أيضا. لقد انقذني الله وأنقذ الآخرين من نجارتي، وحدادتي.
uu في سن الخامسة عشرة، نُشر لك لأول مرة في مجلة الحكمة «مناجاة عجوز» و«أوراق الخريف»، كيف كان فرحك الأول، وكيف تقارنه بفرح اليوم عندما تنشر ديوانا؟ هل يتشابه الفرح؟
– لم يكن فرحي الأول بسبب النشر فقط، ولكن لأنهم وضعوا اسمي على الغلاف، مع أسماء كبيرة في ذلك الوقت، كانت قصيدة عن جدي الذي كان ثقيل الدم، كتبتها وأرسلتها بالبريد، ولم أكن أعرف أحدا بمجلة الحكمة. ثم أردفتها بقصيدة أخرى «أوراق الخريف»، وعندما أتذكر الآن أشعر بالغرابة لماذا كتبت، وأنا في تلك السن الصغيرة عن الجد العجوز، وعن الخريف الذي يشير إلى التساقط والانتهاء! أشياء خارج عمري.
كان الفرح الأول هو فرح الولادة، فرح طفولتي في زمن آخر. محاولة الاقتراب من مجالات الكبار، كان فرحا بالدخول إلى مرحلة جديدة. أما فرح اليوم فهو مختلف، وهو لا يرتبط كثيرا بالنشر في الصحف أو المجلات، ولا يرتبط بالنشر عبر دور النشر، وإنما بكسر الكتابة السابقة. أنا أحافظ على فرحي الآن بالتجديد.
uu كنت تردد، المنبر هو إرهاب الشعر، لكن قناعتك اليوم تغيرت، ووقفت على منبر في باريس، وقرأت الشعر؟
– لا لم تتغير قناعتي أبدا. طوال40 سنة كنت أرفض المشاركة بالمهرجانات، وأرفض أن أصعد إلى المنصة، وكنت أقول: الكتاب هو المكان الوحيد للشعر، عبر القراءة. لأن جسد، وصوت الشاعر إما أن يشوه القصيدة، وإما أن يُجملها. فإذا كان الشاعر يُحسن الإلقاء رفع من حضور قصيدته، وإن لم يكن يحسن الإلقاء فإنه سيشوه القصيدة، وإن كانت جيدة. البياتي والسياب لم يكونا يجيدان إلقاء القصائد، ولا خليل حاوي أيضا. الشاعر أمين نخلة هذا الشاعر الكبير عندما يصعد إلى المنبر بالكاد يُسمع صوته. بينما نزار قباني وسعيد عقل من شعراء المنابر بامتياز.
بالنسبة لي، المنبر هو إرهاب يمارس على القصيدة، وإرهاب على الناس أيضا.
أحاول منذ بداياتي جاهدا أن اكتب القصيدة المركبة التي تحتاج إلى قراءة، وتفتيح واكتشاف، وإعادة قراءتها مجددا، وهذه الأمور غير ميسرة سماعيا. لأن المنبر يجعل الصوت والإلقاء هو المستوى الأول للقصيدة، وليست اللغة، وكذلك جسد الشاعر يصبح مستوى سابق للقصيدة.
أنا الآن وبعد 40 عاما من الرفض، أتفرج على زملائي من جيل السبعينيات والثمانينيات، الذين لم يتركوا منبرا إلا وقفوا عليه، حتى أولئك الذين لا شعرهم شعر منبري، ولا يجيدون الوقوف على المنبر، ولا يعينهم شكلهم أو صوتهم على الوقوف أمام الجمهور!
شخصيا لم أقم بأي نشاط في لبنان، لا بندوة، ولا بأمسية ولا بأي شيء آخر. رفضت حتى تكريمي في لبنان.
ولكن في باريس أنا ابن مسرح، وكاتب مسرحي، وترجمتُ كتبا لـمسرحيين كبار. لذا أنا عندما اقرأ الشعر أمسرح الشعر، ولا ألقيه. المسرحة هي نقل الشعر من مكان لآخر أو الدخول إلى جوهر القصيدة، من مكان آخر من المسرح، لأن المسرح بدأ بالشعر. لديّ الآن خمس دعوات للقاهرة والأردن والمغرب، وغيرها، ولكن أنا لا ألبي الدعوات التي يحضرها مثلا أربعون شاعرا، أو ثلاثون شاعرا.
في باريس جاءتني أنا وشاعرين دعوة، فقدمت شعري عبر مسرحة الشعر، بمعنى أن صوتي يكون تفسيرا للغة، والمعنى والحالة، لغة مسرحية داخل اللغة الشعرية، وهذا أمر صعب للغاية، تتطلب أن يكون لدى الشاعر ملكة الحركة، والصوت والمسرحة والدراسة أيضا. ليصبح الشاعر بالتالي جسما للغة.
عندما أصعد إلى المنبر أقسم القصيدة، كالسنوجرافيا، هنا فراغ هنا صمت، هنا جملة واحدة، هنا قطع الجملة..إلى آخره. تفكيك القصيدة تفكيكا مسرحيا.
uu بما أنك فسرت لنا الآن، كيف خدم المسرح الشعر، أسألك: كيف خدم الشعر المسرح؟
– كثيرا طبعا. أنا قارئ لفن المسرح العربي والأجنبي، وحاضر ما يقارب 800 عمل مسرحي، منذ عام 1971 بما فيها المسرح العماني. الذي يقدم أحيانا، وأحيانا أخرى لا يقدم، فهو مسرح يفتقر إلى الاستمرارية. ولي أصدقاء من المسرح العماني. والشاعر يتأثر بكل شيء. لقد قرأت ما كتب عن المسرح، وكتبت عنه. ولديّ ما يمكن أن اسميه بالثقافة المثلثة: (العرض والنص والنقد). وهذا ما لا يمكن أن أنكر أنه أثر في شعري. مثلا كتاب «نفاذ الأحوال» كتاب شعري ينتهي بنهاية مسرحية. «دفتر سيجارة» ينتهي أيضا بنهاية مسرحية، لديّ حوارات شعرية بإيقاع مسرحي. أيضا شعري متأثر كثيرا بالسينما، فأنا من الذين يتابعون السينما كثيرا. وقد كتبتُ مسلسلات للتلفزيون، قبل أن يصبح التلفزيون تافها ويعرض «الحاج متولي» و«باب الحارة» وغيرها من التفاهات.
الشاعر يتأثر بكل شيء، بامرأة، بشجرة، بالشعر والشعراء.
uu لا يمكننا أيضا أن نتجاهل دور الترجمة في إثراء شعرك ومسرحك؟
– الترجمة هي مطبخي الخاص الذي أعد فيه نصا جديدا، فالترجمة ليست نقلا آليا، لا بد من تفكيك النص، وإعادة تركيبه.
أكرر دائما: (كلما كثر آبائي كثرت ولاداتي)، على عكس ما يرددون من أسطورة تافهة بضرورة قتل الأب، كما قالت نظرية فرويد، (الحقيقة هذا المُنظر ما هو إلا كذبة كبيرة).
ترجمتُ ما يربو على 6 آلاف قصيدة من الشعر الفرنسي، وغير الفرنسي .
ويحدث العكس أيضا، كأن يستفيد مسرحي من لغة الشعر من حيث القدرة على اختزال وتطويع اللغة. اللغة أقوى من الشعر عند السورياليين، بينما عند الرومنطقيين الشاعر يتلقى القصيدة وهو نائم، وعندما يقوم صباحا يكتبها.
الشاعر يتأثر بكل شيء حوله، من دون أن يعرف جيدا ذلك، لكن الآخر هو من يكتشفه، بعض الشعراء المساكين يقولون مثلا: أنا لم أثأثر بأحد قبلي، والحقيقة هذا الكلام ضد الشعر تماما.
ذات مرّة قلت: أنا أترجم لأشكر كل الذين صنعوا الشعر، الموتى من ألف عام أو أكثر أو أقل. أشكرهم بالتأكيد على لحظات المتعة، والتأثر، وتكوين شخصيتي.
uu «اكتبُ كثيرا اقرأ كثيرا انشر قليلا»، هذه العبارة تنطبق عليك كثيرا، بالرغم من أننا نعرف من خلال أصدقائك أنك تخفي من القصائد الجاهزة، أكثر ربما مما نشرت إلى الآن؟
– قبل أن أنشر «كشهر طويل من العشق»، و»نفاذ الأحوال» و«منديل عطيل»، كانت هنالك سبع سنوات متتالية لم أنشر فيها كلمة واحدة. ليس لأني أتريث، ولكن لأن القصيدة مشروع طويل، ولا يمكنني أن أراهن كل يوم على كتابة قصيدة. بعض الشعراء يقولون اكتب كل يوم كما أتنفس، وأنا أقول لهم:»اصنعوا فلافل أحسن».
الشعر مشروع طويل يحتاج إلى نضج، فهو ليس زجلا. لديّ بالفعل أربعة دواوين جاهزة، سحبتها من المطبعة، وأرجعتها إلى البيت.
uu تبدو لعبة الكتابة لديك معكوسة، فأنت في البدايات ابتعدت كثيرا عن التراث الشعري العربي، وبدأت باكرا مع قصيدة النثر، وأشكال أخرى من التجريب، ومؤخرا عادت دواوينك للاستفادة من مخزون التراث العربي؟
أنا لم ابتعد أبدا عن التراث العربي، ولكني اشتغلت على التجريب كما ذكرت. اشتغلتُ في البدايات على ديوان «بوصلة الدم»، العنف التراجيدي الذي يأتي من الداخل، بينما القصيدة صامتة من الخارج. قصيدة عن الحرب، ولكنها ليست للجماهير العريضة.
ثم اشتغلت على «ميتة تذكارية»، وبعدها «موت نرسيس»: حب وجنس وعربدة وجنون. ثم «أوراق الغائب»..الخ. كل كتاب ليس له علاقة بما قبله.
أنا خريج أدب عربي، ومختص باللغة، والفقه، والكتب الدينية، لذا في ديواني «كشهر طويل من العشق»، تواجدت فيه نسمات من القديم لصناعة بيت جديد، يومها الشاعر أحمد بزون قال: هذا أول حدث شعري منذ ثلاثين عاما. وهنالك من قابل هذه التجربة بالهجوم.
في نفس الفترة، وكما اشتغلت على التراث اشتغلت على مادة أخرى وجديدة، «دفتر سيجارة». لكل كتاب حياته الخاصة. أنا لا أؤكد الذات. أنا أنفيها باستمرار، وأعدمها باستمرار.
uu بما أنك جئت على ذكر من هاجموك، فقد صدر لك كتاب عن دار الريس ردا على أدونيس، ولاحقا عادت المياه إلى مجاريها، ومؤخرا أيضا بعد الحوار الذي قام به عبده وازن مع أدونيس في جريدة الحياة، كتبت ردا عليه في جريدة المستقبل، ولا أدري إن كنت سنتشره في كتاب مجددا؟
– أنا وأدونيس كنا أصدقاء مقربين. وهذا الصراع شيء طبيعي. أنا لا أدافع عن نفسي عندما أرد عليه، فالتاريخ يشهد على مجريات الأمور، عندما يوجد من ينافق ويكذب ويلفق. اختلفُ مع أدونيس منذ ما يقارب الـ 33 عاما. لم نختلف على الشعر بقدر ما اختلفنا على بعض التفاصيل. أتذكر أدونيس منذ أيام الجامعة. كنتُ ضد الشاعر الذي يستخدم شاعرا آخر، فالشعر مع الحرية، أدونيس كان لديه من يستعبدهم، ويسكرهم لكي يمجدوه، وهذا اختيارهم، ولكني اعتقد أن العلاقة بالشعر علاقة حرية، وليست علاقة استعباد. لذا أتعامل مع الشباب بجدية، افتح لهم مكتبتي لكي يقرأوا، ولا أجعلهم ضمن حاشيتي. بينما أدونيس مصاب بهذا المرض.
هو يحاربني بطريقته في الخفاء، وأنا واجهته بطريقتي التي هي الصراحة والعلن. لا توجد مرة استغللت فيها موقعي كمدير في الأقسام الثقافية في مختلف الجرائد السفير والمستقبل، لنشر الانتقادات التي توجه ضده، ولم أمنع نشر خبر عن كتاباته.
أنا أفهم أن شخصا مثلا لا يعجبه شعري، ولكن لا أفهم أن واحدا يدعي أنه شاعر، يرفض مقالات عني أو يمنع خبرا له علاقة بي. القسم الثقافي ملك للناس، وليس ملكا للحسد والغيرة.
لستُ مهتما بنشر سجالاتي، بقدر ما أنا مهتم بقصيدة النثر، بالمسرح بالنقد، الشعر المترجم، القراءة، وحاليا أنا اكتب مقالا سياسيا فكريا في الصفحة الأولى.
uu بما أنك جئت على ذكر مقالك السياسي، هل يصفُ مقالك حقا مع صوت السلطة؟
– من قال هذا الكلام؟ وأي سلطة ؟
أنا أصف إلى جانب مبادئي، إلى جانب الثوابت. أي سلطة؟
عندما كان حزب الله يحارب في الجنوب، ضد إسرائيل، لم يكتب أحد لمؤازرتهم بقدر ما كتبت أنا. كتبتُ عن المقاومة الوطنية قصيدة طويلة جدا، و قصة طويلة عن أطفال غزة. حزب الله حرر الجنوب نعم، ولكن أصبح يريد أن يتدخل بالأمور السياسية. بأي حق؟ لذا أصبح من حقي أن أقول لهذا الحزب، إن رؤيتك للواقع اللبناني تختلف عن رؤيتي الآن.
لستُ مع أحد، أنا مع الثوابت منذ أربعين عاما. مع التحرير ومع معاداة إسرائيل وأصف مع من يصف مع هذا الهدف. والدليل أني لا أملك شبرا واحدا في هذا البلد، فأي سلطة تلك التي أصف معها!
uu لنبتعد عن السياسة، ولنرجع قليلا إلى المسرح ..كيف تراه اليوم؟
– إذا بقي المسرح على هذه الحال فإنه في طريقه إلى الانقراض. المسرح في حالة مزرية جدا، في السبعينيات والثمانينيات في القاهرة، وبغداد كان يُقدم على الأقل 30 مسرحية عربية. المسرح اليوم كالملك لير في مسرحية شكسبير تركه الجميع، وأول من تخلى عنه أهله، خصوصا المسرح التجريبي المسرح الجاد. الناس فقدوا صلتهم حتى مع المسرح التجاري.
إنها أزمة كل شيء.. المال، الجمهور، التفرغ، أزمة تلفزيون، ازمة تحول الزمن، حتى السينما تراجعت في لبنان، وقد أغلق بعضها. ثم تأتي المشكلة الأهم الديمقراطية والحرية، والتمويل، لا يوجد مسرح بدون مال. المسرح لا يظهر وهو على الورق كما القصة والشعر، وإنما عندما يقف النص على الخشبة.
أول يوم لافتتاح العرض، ونظرا للدعوات تمتلىء المقاعد، وفي اليوم التالي لا يأتي أحد. لم يعد الجمهور يحضر المسرح الجاد، ولا المسرح الدولي.
في أوروبا،أمريكا تدعمهم الدولة إضافة إلى توفر المجتمع المدني. نحن العرب في السبعينيات كُنا في بداية خروجنا من الوضع السائد، من التخلف، بينما اليوم يعود المجتمع إلى التقوقع، ورفض الحداثة. المجتمع أصبح يرفض الحرية، ويصنع حريته على طريقته الخاصة. وهنالك تعصب ديني هو ضد الدين أصلا. الطائفية ضد الدين. المجتمع فقد الثقة بالحداثة والتنوير والتكنولوجيا، المدن العربية «مزيفة» اليوم، ومخترعة. حتى المرأة يريدون أن يرجعوها إلى ما كانت عليه سابقا باسم الحرية، والرجل أيضا.
المسرح هو جزء من هذه التحولات، لذا فقد أصيب. كما هو حال السينما أيضا كان ينتج في السابق في مصر في الثلاثينيات ما يقارب 130 فيلما ، بينما ينتج الآن عشرة أو سبعة أفلام!، يديرها محمد هنيدي، اللمبي محمد سعد، نادية الجندي، سمير غانم، بينما أفلام بتوقيع محمد خان، خيري بشارة مثلا ليس لها جمهور! السينما محتاجة لإعادة رؤية. كما هو الأمر في التلفاز، المسلسلات العربية ضد الجمهور، وضد الحياة، وضد التاريخ، وضد الواقع. لقد كان المسرح آخر منطقة متبقية للاحتجاج، آخر مكان متبقٍّ للحرية، إلا أنه وحيد والدولة لا تقف معه.
uu عندما تقول أن قصيدة النثر استمدت نظريتها من سوزان برنار، أو من النصوص الفرنسية، هل تقر بوجود قطيعة بين قصيدة النثر الممارسة اليوم، وبين قصيدة التراث العربي؟
– في سنة 1971، عملت أول رسالة أكاديمية عن قصيدة النثر. وقتها كان قد صدر كتاب سوزان برنار. ادونيس وأنسي الحاج ترجما من الكتاب أول شروط قصيدة النثر من برنار. أدونيس لم يشر إلى المرجع على اعتبار أنه رأيه الخاص الذي استنبطه من الترجمة. وأنسي الحاج ألمح إلى الكتاب، ولكن أنا استندت إلى كتابها كمرجع مع كتب أخرى.
لنتعرف أولا على ما فعلت برنار أخذت النصوص الشعرية الفرنسية من أيام بودلير، وحتى ذلك الوقت، واستنبطت منها شروط قصيدة النثر الفرنسية. أدونيس وأنسي الحاج حاولا تطبيق النظرية قبل أن يكون لنا تراث فيها. صعنا؟؟؟؟؟؟ أوزان لقصيدة لم تولد بعد. كمن يكتب عن امرأة قبل أن يراها. وكمن يعمل خطة زراعية في لبنان، ويحاول سكان سيبيريا تطبيقها. من الأكيد أنها لن تنفع.
إذا قلنا أن عمر قصيدة النثر العربية اليوم 100 سنة على اعتبار أن ما كتبه جبران خليل جبران، وأبو حيان التوحيدي،وأمين الريحاني والصوفيون، أصبح من الممكن الآن أن نحضر هذه النصوص، ونحاول دراستها.
الفراهيدي عندما صنع الأوزان صنعها من النصوص العربية. لذا لا يمكن أن يأتي شخص من فرنسا ويطبقها على النصوص الفرنسية. ما فعله الحاج وأدونيس أنهما أحضرا أوزانا فرنسية وحاولوا تطبيقها على القصيدة العربية، وهذا أكبر خطأ. النظرية لا تأتي قبل النص وإنما بعده.
ليس هنالك فارق بين النثر الشعري، وقصيدة النثر. لذا اعتبر كتاب «النبي» لجبران قصيدة نثر، اعتبر «هتاف الأودية» لأمين الريحاني قصيدة نثر، وبعض أجزاء أبو حيان التوحيدي شعر نثر.
وصل الشعر إلى أماكن بعيدة جدا لأنه ورشة مشروع كبير وضخم. مغامرة روحية وإنسانية. قصيدة النثر كمستوى هي أكبر من القصيدة نفسها. ليس هنالك اليوم ما يسمى بقصيدة النثر أو الشعر.. بمعنى أننا لا يمكن أن نوقف القصيدة عن معنى محدد.
uu هل أنت متأكد من أن «الشعر العربي اليوم يعيش عصره الذهبي»؟
جيلنا كان مقيدا بالنظريات، بينما شعراء اليوم الشباب من القاهرة إلى بيروت إلى سوريا إلى السعودية إلى تونس والمغرب،أزاحوا الأيديولوجيا، ولم يعد لديهم رواد يقفون على رؤوسهم كالأصنام (أدونيس أو غير أدونيس). ليسوا معنيين بالمدارس الشعرية الكثيرة، كل شاعر لديه مدرسته الخاصة. لم يعد هنالك كاتب رديء يكتب عن قضية مهمة ويصبح مهما. من مبدأ أن القيمة تأتي من الموضوع وليس من النص، لأجل أن يكون بوقا للقضية والقضية تمجده..هذا أيضا انتهى. لم تعد هنالك ثورة وقضايا ومنبر.
المسألة الآن: هل تعرف الكتابة أم لا..لذا أصبح الشعر اليوم أجمل وأصعب.
uu على مر التاريح مرّت القصيدة بتحولات كبيرة من الوزن والقافية إلى شعر التفعيلة إلى قصيدة النثر، هل ستقف القصيدة عند هذه المرحلة أم تراهن على تحولات مستقبلية للقصيدة؟
– طبعا أراهن.
قبل 30 عاما كنت أردد أن قصيدة النثر هي آخر المطاف، ووقعت في خطأ الحتمية. ليس هنالك فوارق جوهرية بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة وقصيدة النثر، فيمكنني أن أكتب أحدها غدا، أو أصوغ الثلاثة في قصيدة واحدة، ضمن خلطة ملحمية كبيرة، وكم من الجنون.
لو جاء شاعر عمودي مستقبلا، وقرر أن يشتغل على تجريب جديد على القصيدة العمودية على اللغة، وعلى التكوين، قد يخرج بقصيدة جميلة، ومختلفة.
وصلت اليوم إلى قناعة أن هذه التقسيمات تقسيمات وهمية. لا يجب أن نقدس قصيدة النثر، ولا التفعيلة، ولا نقدس الوزن. يجب أن تكون هذه وسائل لأبعد منها، لتكوين بُنى وهياكل جديدة.
المشكلة أن من اشتغلوا على الوزن والقافية اختنقوا واختفوا، لهذا أصبحت مساحة قصيدة النثر أكبر.
بعض شعراء التفعيلة يكتبون جيدا من مثل محمد شمس الدين الذي يحاول التجديد، سعيد عقل، صلاح لبكي، علي محمود طه من مصر، وغيرهم.
ليس الشكل هو العائق أمام من يكتب شعر التفعيلة، وإنما توقفهم عن التجديد.
uu ألا تظن أنك ظلمت الرواية عندما قلت الشعر أقل بيعا من الرواية، لأن الرواية تمت عولمتها، وخضعت لمنطق الاستهلاك بينما الشعر مادة غير استهلاكية؟
– جابر عصفور صديقي يقول إننا نعيش في زمن الرواية، وهذا الكلام خطأ فإذا كان المعيار أن الرواية تبيع أكثر، فطوال عمرها وهي تبيع أكثر من الشعر. رامبو باع 3 نسخ فقط من أحد كتبه، مالارمي ، باع 37 نسخة فقط، ومشى في جنازة بودلير كلب ورجلان.
في الوقت نفسه كان بلزاك، ديستوفسكي، وتوليستوي تباع لهم الكتب بشكل جيد، لأن الرواية اجتماعية أكثر، وتنشر في الجرائد.
العولمة لا تصل للشعر لأنه غير مربح. ما حمى الشعر أن المجتمع لم يعد بحاجة إليه.
uu عدم حاجة المجتمع للشعر حماية له؟
– طبعا. أهم شاعر عربي الآن لو استثنينا محمود درويش، لايبيع ما يقارب 200 نسخة لـ300 مليون عربي. طبعا بعيدا عن فكرة التواقيع التي يقوم بها بعض الكتاب . على فكرة أنا في حياتي كلها لم أقم بعمل حفل توقيع واحد)، أكبر شاعر فرنسي لا يبيع أكثر من 400 نسخة. الشعر هو خميرة الثقافة، والعولمة لا تستهدف الشعر لأنه غير مربح بالنسبة لها. مثل عشبة رقيقة خرجت خلف صخرة ولا أحد يراها، أو يشمها. فهي ليست خيار ا أو بطاطا.
ما يؤخذ على الشعر الحديث أنقذه. فبما أن جمهور الشاعر اليوم لا يزيدون عن العشرة، فهو ليس مضطرا لأن يتنازل لأحد.
uu إذا لمن يكتب؟
– فرناندو بيسوا نشر كتابا صغيرا في الشعر، وبعد أن مات، وجدوا حقائب معبأة بالشعر. لأن الشعر هو جزء من حياته. إيميلي ديكنسون نشرت ست قصائد، وبعد موتها اكتشفوا صناديق شعرها. الشعر بدون هدف، من الذات إلى الذات. من الموت إلى الموت. إنه الموت الخلاد. الشعر لا يمشي، بينما الرواية تتحرك من هنا إلى هناك.
لكن الرواية اليوم هي المهددة بالموت وليس الشعر لأنها وقعت في الاستهلاك. الرواية معلبة، وهدفها التسليع. الشعر في عزلته العالية، والرواية في حضورها الجماهيري المنخفض، مع بعض الاستثناءات من مثل هدى بركات، ربيع جابر، علوية صبح.