من خلف نظارته الشمسية تجد هدوءه مختزلا خلف ظلامها، وما أن ينتحيها جانبا تبرز علامات الحزن والسخرية السوداء، حيث إن لعينيه بريقا حين يقبض على فكرة ينتصر لها، فيخاتلك بالاسترسال حولها حتى وإن كنتما تتحدثان في موضوع آخر خشية أن تضيع منه. وبالتالي يعتبرك موثقا لفكرته، وكما لو أنه نسر يصطاد فريسته ليهبها للآخرين.
فعندما اكتشف غارسيا ماركيز الوحدة الوراثية واستشعر في أعماقه الفراغ العميق والإحساس في مواجهة سجن الحياة نجد أن بول شاوول له الألم نفسه وأن عليه أن يكتشف مخلوقاته الخرافية ويدافع عنها حتى يثبت هويتها، ولكنها لم تكن في العمل الروائي بل في الترجمة والمسرح والشعر والعمل السياسي الذي كان يمثل جدارا صلبا يحاول فيه تكسير أجزائه من اجل الأدب، وخصوصا أنه عاصر فترة التحولات السياسية الكبيرة في وطننا العربي ابتداء من الأحزاب المتعددة ثم تمركزها في الحزب الواحد الحاكم إلى أن تنتهي بالتعددية الطائفية والمذهبية..
ولو عدنا إلى كتابه دفتر سيجارة نجد عالم الوحدة يقسو على كتابنا كثيراً ويبدأ في مخاطبة مخلوقات أخرى بوسائل افتراضية تكون بطلتها رفيقة دربه « السيجارة»، حيث ما تبقى له من حوار واقعي افتراضي من المحيط الخانق برتابته وهمجيته، ورغم ذلك يشعر أن هذه الرتابة هي عالمه الوجودي الذي لا يطيق عنه، فبالرغم من جدوله اليومي بين الشقة والمقهى وجريدة المستقبل، هي عالمه اليومي إلا أنها تمثّل منطلق كتاباته وترجماته، والتي تتوقف حين يغادر هذا الروتين، فلا يستطيع الكتابة في السفر أو الإقامة خارج جدوله البيروتي.
الكتابة عن المرأة وأول مجموعة شعرية مكتملة حولها ولم تصدر؟
– كتبت عن المرأة كثيرا ولكنني لا يمكن أن أكتب عنها ككائن مجرد في الشعر أو كقضية، ربما سأكتب عنها مقالة حول حرية المرأة وحقوقها أو غيرها من المواضيع التي تمثل قضايا معينة في المجتمع، أما عن عمل شعري ما يخص المرأة فلا يمكن أن تكتب عنها إلا من خلال تجربة مع امرأة معينة بكافة نواحي الحياة في المشاعر والمعيش والجنون وغيره مما يخص الاتصال المباشر معها، ولذلك فالكتابة عن المرأة في بيروت تختلف عن الكتابة عنها في باريس كبلد هادئ لم يعرف الحروب منذ مدة طويلة بينما بيروت فالموت هو الرفيق الأول على امتداد خمسة وثلاثين عاما، ولذلك فحتى الموت كنت أجده أحيانا شريط تواصل بيني وبين المرأة بل في أعماقنا أحيانا، كما هي الشهوة والرغبة والحب والعنف، مختلطا بالورود والهدايا وبالكراسي والطاولات وما تحتويه من قبلات بيننا، وكذلك من الصعب علي أن أكتب عن المرأة خارج علاقة الحب أو خارج التجربة بعموميتها، ولذلك ليس هناك ما يسمى الكتابة عن المرأة بل هناك امرأة وكل منها تتمتع باختلاف تماما كالأزهار وكالشجر والغيوم، ولذلك كم تضحكنا بعض الآراء التي تقول إن النساء متشابهات وكمن يرسم عنهن لوحة من مخيلته الفقيرة حول تجربة بسيطة، فالمرأة هي الفرادة والتجربة والمزاج والبيئة والتاريخ، وهي يصنعها تاريخها وليس تاريخ الآخرين، ولذلك فالشاعر لا يصنع تاريخ المرأة كما يدّعي البعض وإنما هي من تصنع الشاعر، إذا كان لأحد منهما أن يصنع الاخر، بل أن المرأة هي التي تختار الرجل وهي بمثابة عقل العالم وليس كما يظن الرجل في أنه هو من يختارها بغرائزه الرجولية. وأعتبر ديواني «كشهر طويل من العشق» تجربة جديدة بالنسبة إليّ في البنية الشعرية التي يختلط فيها النفس القديم والجديد بطريقة مختلفة، لأنني ربطت الحروب والمرأة بالغرائز التاريخية أي باللغة في بدائيتها والشهوات والموت واللذة والمغامرة كل في بدائيته ولهذا فقد أخذ مني هذا الكتاب حيزا كبيرا عند من قرأوه أو كتبوا عنه ومنهم اعتبره من أهم حدث شعري منذ ثلاثين عاما حين صدوره أمثال الناقد أحمد بزون والشاعر شوقي بزيع وغيرهم، فهناك ضربة صعبة في تركيبته، وبنيته مكونة من طبقات وراء طبقات ولا يمكن أن تقرأه مرة واحدة.
ولكن لماذا لم تنشر ديوانك الشعري الأول الذي يمثل بعمق تجربة مباشرة مع المرأة؟
– كان هذا في بداية السبعينات وهو ديوان كامل كنت أضعته لمدة ثلاثين عاما وفجأة اجده بين كهوف الكتب واللوحات في بيتي التي تضيعني أنا فيها أحيانا، فبيتي هو مكتبة تشبهني، فبيت الشاعر يشبهه، على خلاف بيت رجل الأعمال.
وماذا يمثل البيت للشاعر؟
– بيتك هو جسمك, كما ألبس ما أشتهي من الملابس، ألبس بيتي وأحيانا بيتي يلبسني، وسريري يلبسني وأصبح جزءا واحدا مع الطاولة والكرسي ولمبة الإضاءة ومع النوافذ، لأنك حين تفتح النافذة وكأنما تفتح رئتيك، فترى من خلالها الغيوم وكأنها تنظر إلى يديك، والكتاب في البيت هو انضمام عفوي وجسدي ومادي وروحي، فهو بالنسبة إليّ كائن وليس مجموعة أوراق تماما كما لو أنني أتجول في غابة وأراها مجموعة أشجار، وكائنات حية تسمعني وتحس معي فنتآلف في قصة حب وكره وهذه كلها تشمل مواضيع حياتية عدة، فعلى سبيل المثال لا أرى الحيوانات بالمعنى القديم والمتداول بل أراها كائنات حية تشبه الإنسان، وهذه هي النظرة الشعرية للعالم، حتى في كتاباتي السياسية التي غالبا ما تكون عنيفة وشرسة وخطرة بسبب مواقفي فيها والتي أرفض من خلالها أن أطلب مقابلها ثمنا. بالرغم من أن الشعراء في غالبيتهم عودونا أن يقبضوا ثمنا مقابل مواقفهم السياسية، والمجانية في الكتابة من أجل الحرية والديموقراطية والإنسان هي التي لا تطلب شيئا لنفسها، وأنا لا أزدهر إلا في الخطر، وقد واجهت في السبعينات من القرن الماضي ميليشيات طائفتي عندما اخطأوا وارتكبوا مجازر في حق الفلسطينيين ووقفت في وجه عائلتي كلهم وتم اختطافي من قبل الميليشيات المسيحية وهوجمت في منزلي فهربت إلى بيروت منذ ثلاثة وثلاثين عاما وما زلت هنا، بمعنى أن التوتاليتارية العائلية والطائفية هي مقتلة الإنسان الفرد والحرية وتصبح كأنك جزءا من قطيع وهذا مناف للشاعر الذي يتمتع بحريته السياسية تمتعه بحرية التنفس.
بمعنى أنك هربت من الرهاب العائلي والطائفي لمواجهة الخطر المباشر لمواقفك السياسية والحزبية ببيروت؟
– الكتابة هنا كموقف, وقد كتبت ضد الميليشيات عندما كان الماركسيون والقوميون والليبراليون والعلمانيون تركوا كل هذا المواقع لينضموا إلى طائفيتهم, كنت أنا عكسهم في موقف الهجرة المضاد إلى مكان فيه كل الطوائف وهنا مكمن الخطر حيث طيّف كل شيء ووقفت ضد المسلك الكونتوني لأحزاب الطائفة وضد كل من يريد أن يعمل دويلة ضمن الدولة اللبنانية كوليد جنبلاط وحزب الكتائب وحزب الله . إذن ما يهمني أولا هو لبنان ثم العروبة فأنا عروبي حتى العظم وقد تربيت في بيئة بها سنة وشيعة ودروز وفلسطينيون وأرمن، فقد أنجبتني أمي مع توأم آخر وفي تلك الفترة تعذر وجود أغذية الاطفال المعلبة, فكانت أمي تضطر إلى أن تذهب إلى امرأة أخرى لترضعني مع طفلها، لذا فقد رضعت من أمهات شيعة وسنة وغجر وغيرها، فكل هذه الطوائف في دمي وهم أخوتي بالرضاعة، فكيف أكون ضدهم وكيف لي أن أكون طائفيا، وأنا بيلوجيا ضد الطائفية. إلى جانب الجامعة اللبنانية التي كنت فيها من القيادات الكبرى في الثورات الطلابية التي تعرضت خلالها للضرب والسجن من قبل السلطات، وليس جديدا عندما أقول لك أنني أزدهر في الخطر لأنني كنت أكتب دائما فيه، فقد كنت بين الميلشيات المسيحية وأنا أكتب ضدها، وضد ياسر عرفات عندما كان مسيطرا في بيروت وبدأ ينحرف عن قضيته ويتدخل في الشؤون اللبنانية، وأيدت المقاومة الوطنية عندما كانت تخلص لمشروعها وكذلك أيدت مقاومة حزب الله عندما كان مقاوما وصرت ضده عندما حمل السلاح وصار يهددني ويريد أن يحكم البلاد، وأن تكون معارضا لسياسة حزب الله لا يعني أنك ضد الشيعة، فهؤلاء أهلي وأخوتي وهم لبنانيون وعرب قبل كل شيء، وهذا ما أريده فدائما أكتب على حافة الخطر حتى حين يحذرني أصدقائي من نتائج هذه المواجهة، دائما يكون ردي بأني لست أفضل ممن استشهدوا من أجل الحرية في هذا البلد وفي العالم العربي كله، فلست أفضل ممن ماتوا في ميدان التحرير بمصر أو تونس أو في ليبيا أو اليمن أو في سوريا أو حتى في فرنسا عندما كانت الثورة الفرنسية أوي مكان على مدى التاريخ فهناك ثورة من أجل حرية الإنسان، وهي ليست قضية خاصة ولست معنيا بها وحدي وانما هي قضية الإنسانية كلها، وقد ولدنا أحرارا، هكذا علّمنا عمر بن الخطّاب في مقولته المشهورة، والخطر هو جزء من اللغة فأنا لا أكتب إلا على حافّة خطر اللغة، وهذا يعني أنه ليس عندي أي كتاب يشبه الآخر، فكل كتاب هو مجازفة وخطر على اللغة وعليّ أنا أيضا، قد أفشل ولا أفشل وقد أسقط ولا أسقط, ولهذا يقال عن الشعر أنه تجربة وجميل أن يفشل الشاعر في قصيدة وأن ينجح في قصيدة أخرى، وهذا عموما حال الشعراء والروائيين والفنانين، حتى شكسبير لديه مسرحيات رديئة أحيانا.
لذلك هناك بداخلك طفل لا يكبر بالخبرة ؟
– التجربة بمعناها الواسع هي لكل تجربة انسانية تجربة لغوية، والذين كانوا يصرخون في الستينات والسبعينات أنهم دمروا اللغة ودمروا التراث ودمروا كل شيء، اكتشفنا أن أعمالهم كانت دون التراث فلا أحد يغلب اللغة ولا أحد يغلب التراث ولا أحد يغلب الحواس ولا الجسد ولا العقل لأنها جميعا إرث، فتطور الإنسان بيولوجيا عبر العصور هي عبارة عن تجارب كل تجربة لها خواصها وفرادتها، وبالتالي ينبغي على الشاعر أن يبدأ كل تجربة وكأنها تجربته الأولى، ولذلك فبإمكاني الآن أن أكتب في لحظتي هذه عشرين صفحة من كتابي «كشهر طويل من العشق» لأن مفاتيحه معي ولكن لا يمكنني ذلك، لأن كل كتاب أصدره أنساه وكأنني دفنته، فالكتاب هو مقبرة النص أو كلقيط يترك بجانب الجامع أو الكنيسة أو الشارع فيصبح ملك غيرك، وعليك أن تبحث عن غيره ولا أن تقلده فأسهل شيء عند الشاعر أن يقلد نفسه وهناك شعراء قلدوا أنفسهم أمثال الشاعر سعيد عقل فهو منذ خمسين عاما كان شاعرا كبيرا وقد انتهى، في حين كان العكس عند محمود درويش لأنه انقلب على ذاته بعد عشرين عاما من الكتابة الجماهيرية، لذا فبعد «الجدارية» و«سرير الغريبة» أصبح محمود درويش هو الذي يكتب القصيدة وليس الجمهور ولا القضية، فانبثقت فرديته بعد أن كانت مطموسة في قضية وتحول من شاعر قضية إلى شاعر قصيدة.
وهذا ما حدث عندما صرح بأنه ليس شاعر قضية في فترة متأخرة من حياته؟
– هذا غير مهم فهو مجرد تفصيل بدليل أنه كتب عن محمد الدرة بعد ذلك وما يهم في حالته تلك هي الكتب التي انتجها، وكنت قد اختلفت مع محمود درويش عام 82 من القرن الماضي، وهاجمني أنا مع الشاعر عباس بيضون عندما كتب «أنقذونا من هذا الشعر» ورددنا عليه، وبالرغم من سكننا بجوار بعض إلا أنه كان ينقصه السلام بيننا، ونتجنب أحدنا الآخر إلى أن أصدر «الجدارية» و بعدها «سرير الغريبة»، وكان لي لقاء صحفي في تلك الفترة مع احدى الصحف، فأعلنت بها بأن محمود درويش بدأ مرحلة جديدة وقصيدة جديدة، وبعد تلك المقابلة التقينا بالقاهرة وصار بيننا حديث مستفسرا عن سبب ما أعلنته بالمقابلة فقلت له أنت الشاعر العربي الوحيد الذي تطور في قصيدته وجددها وبدأ يغير من مرحلته للجديد، وايضا هو الوحيد من بين الكثير من الشعراء ممن ديوانهم الأول ليس أهم من دواوينهم اللاحقة بل هي سلسلة متجددة ومتطورة، ومنها أصبحنا من أهم الأصحاب، وما استدرجني لهذا الحديث هو مثال بعض ممن يدعون بأنهم كبار الشعراء تجد أن أول ديوان شعري لهم هو أهم عمل لتجربتهم من أمثال محمد الماغوط «حزن في ضوء القمر» و أحمد عبدالمعطي حجازي في ديوانه «مدينة بلا قلب» وانسي الحاج في ديوانه «لن» وسعيد عقل في ديوانه «قدموس» وصلاح لبكي في قصيدته «أرجوحة القمر»، فمعنى ذلك أنهم لم يتجاوزوا أنفسهم، بمعنى أن هؤلاء اكتشفوا طريقا وظلوا يسلكونها طوال حياتهم، وأصبحت اللغة خارج الجسد والانفعال وصارت الكتابة عقدة آلية، في حين أن الكتابة يجب أن تكون كسرا لهذه العقدة، وهذا ما أوضحته لمحمود درويش، وبالمجمل العام هو مشكلة الشعر العربي، فالشعراء العرب يشيخون في الثلاثينات والأربعينات لأنهم يمتنعون عن القراءة والانخراط في المجتمع وغرف تجاربهم ويقعون في النرجسية العقيمة وتكثر لغة الأنا لديهم، ولكن هناك نرجسية نظرة متفتحة وهي النرجسية الجماعية الكونية بدلا عن النرجسية الفردية المريضة, ولذا فهناك أسوأ ما نسمعه أحيانا أن يقال هذا ليس بشاعر وهذا أعظم شاعر وهذا أكبر شاعر، وهذه كلمات دالة على جاهليتها بمعنى أنه عندما يكون هناك تنوع في الشعر لا يمكن أن تقارن بشاعر يختلف عن شاعر وأن تقيمه بترك نقاط مثل ما يحدث في تقييم ملكات الجمال، أي أن تضع مواصفات جاهزة لشاعر ليكون هناك مفاضلة بينهم وهذا ضد الشعر، تماما كما هي المدارس الشعرية كلها ضد الشعر من الدادائية للرمزية للسوريالية لأن الشعر سؤال وهذه النظريات وضعت قبل الشعر ووضعت أجوبة سحقت الشعر وأخرجت منها روادا ولذلك أسوأ ظاهرة في العالم العربي هي بروز الرواد فالشاعر الأوحد تماما مثل القائد الأوحد وهذا ما يمثل عقل الإيديولوجيا ويشبه تماما العقل الديني وكل ايديولوجيات القرن العشرين هي ايديولوجيات دينية وخصوصا الماركسية والوجودية كما هو سارتر والمدارس المسرحية كما عند بريخت فهو صاحب عقل ديني لأنه يضع أجوبة قبل النص ويضع بيانا بوجوب كتابة النص كما لو كان وصايا دينية.
إذن كان غياب مجموعتك الأولى بسبب ضياعه بين الكتب في الأرفف؟
– كنت صعبا جدا والحقيقة هو لم يقنعني يوما, حتى أنني عندما أصدرت أول ديوان لي «أيها الطاعن في الموت» اخترت من مئات القصائد ستة قصائد فقط, أما عن ديواني الثاني «بوصلة الدم» اشتغلته ثلاثا وسبعين مرة، فكان ستمائة صفحة وصار اربعين صفحة، كذلك اشتغلت على ديوان «أوراق الغائب» ست سنوات لأن الشعر هو فن الحذف، وليس فن الإضافة فقط، وينبغي على الشاعر أن يكون قاسيا على نفسه، فبدل أن يحذف القارئ الجملة يجب أن يتم حذفها من الشاعر برغم صعوبته مثلما يسلخ جلده وترمي ما تكتبه في القصيدة مثلما ترمي جزءا من جسدك ولكن في المقابل هي زوائد، حتى عندما تفيض في نص طويل، فالشاعر لا ينبغي أن يغرقه طوفان اللغة، ولا طوفان التجربة، فالسورياليون هم رومنطيقيون والشعر عندهم ينزل من ربة الإلهام كاملا ويفيض للاوعي .
هذا يعني أن الشاعر هو ناقد لنصه؟
– كل شاعر ناقد وأسوأ الشعراء وأكبرهم خطرا عندما يفقد النقد الذاتي على نفسه، وعندما يظن أن كل ما يكتبه جيدا فهذا معناه أنه يعلن نهايته، ولهذا فقد كنت أحيانا ابدأ بقصيدة أو بنص سنة أو سنتين ويوما ما اكتشف بأنه رديء أرميه، لذا فقد نشرت بما نسبته عشرة بالمائة مما كتبت، فالنقد الذاتي يكمن في إعادة النظر بالكتابة, لذلك تحتاج إلى إعداد الدفق الأول لبناء تضع من خلاله الأساسيات وهو لا يكتمل مرة واحدة، ولذلك أنا ممن يخافون من القصيدة المكتوبة لأول مرة، ويجب إعادة كتابتها لتزيل نقاط الضعف فيها، فالقصيدة لا تولد دفقة واحدة، وهنا يجب أن يراجع الشاعر لقصيدته كي يحيلها إلى كائن يتنفس بكل حواسه.
ولكن ماذا عن تحولات الشاعر في مواقفه السياسية والأيديولوجية أو حتى العاطفية مثلا؟
– الشاعر يتحول ككائن وليس في فكره فالفيلسوف هو فقط من يتحول في فكره، فالعقل يمثل جزءا كبيرا من الكتابة ولكن معه الحواس والجسد والعاطفة والمعرفة والتجربة تجتمع جميعها في خلق الذائقة لتقوم عليها القصيدة، والعقل وحده لا يستطيع خلق عمل شعري، وبالتالي بإمكانك كتابة نص سياسي، ولكن يجب أن تمر السياسة عبر الحواس، تحول الإدراكات الفكرية والسياقية إلى ادراك شعوري وحواسية وجسدية وإلا يصبح النص كمقال سياسي أو خطاب.
إذن يكمن الحذر لديك عند كتابة القصيدة بتجمع كل الحواس؟
– لأن الشاعر لا يكتب بيديه ولا بعينيه ولا بأذنيه، يجب ان تكون الكتابة بكامل حواس جسدك، فعندما تكتب عن المرأة لا تستطيع الكتابة عن الجسد مفصولا عنها، أي للاستهلاك فقط، كما هي طريقة نزار قباني بل لابد الكتابة عنها ككائن مركب طبقات فوق طبقات بتناقضاتها المختلفة، فكل يوم عند المرأة مكون من فصول أربعة، ضعف وجنون وحكمة وقوة وهذا ما يجعل علاقة الشاعر بالمرأة مكتملة، فالكتابة عنها ليست ضمن حدود نهائية يتم رسمها، فالمرأة غابة كلما توغلت فيها، اكتشفت أنا جديدة فيها يحمل تاريخا جديدا، وقسوة جديدة وأيضا ينابيع وأنهر جديدة، وهذا كله يكمن في الكلام الجديد لديها وأيضا في الصمت الآخر لديها، فهي عميقة مثل السياسة ولذلك فلقاء الرجل بالمرأة مثل غابتين تلتقيان أو غيمتين أو مدينتين، وهذا يصعب على كل منهما بتحويل الآخر إلى كائن ليسهل الكتابة عنه، فالمرأة ليست تمثالا أو كرسيا، وإذا كان الكرسي الذي يجلس الشاعر عليه يتحول إلى كائنا، فما بالك بالمرأة .
ولكن هناك من يكتب قصيدة ما أو يصدر ديوانا معينا ثم يعتذر بعد ذلك عن كتابته بسبب تحولاته الفكرية أو السياسية أو غيره أين تكمن الشعرية في ذلك؟
– من حق الشاعر أن يحذف الطارىء واليومي والهامشي من قصيدته، تساعد على أن تقلل إمكانية الندم عمّا كتبت، لأن العارض السياسي لا بد أن يتحول لظاهرة دائمة أو للغة لا تموت مع الحدث، والتحول لا يكمن عند السياسي فقط بل هو ممزوج مع التحول الفكري والعاطفي أيضا فجميعها مادة واحدة من الشاعر، لها ارتباط بالواقع وبالتناقضات الاجتماعية والتاريخية والدينية والطائفية فكلها تشكل موقفا سياسيا متعلقا بجزء صغير من تحولك الكامل، وأنا لست شاعرا بالمعنى السياسي أو أيديولوجي ولكن الأيديولوجيا هي تربطني بزمان معين يمكن أن تم اختزاله أو تجاوزه، فعلى سبيل المثال هناك من كتب عن الاشتراكية اللينينية والماركسية انتهت قصائدهم مع المرحلة، كذلك هناك من كتب عن المقاومة الفلسطينية بطريقة يومية خطابية ذهبت خطاباتهم مع ذهاب الحدث الذي كتبوا عنه، وهذا ما تحدثت عنه سابقا بالنسبة لمحمود درويش أنه تجاوز الحدث إلى الداخل وأصبح المنفى بالداخل، وليس فقط في المكان، وفي الكائن وليس في السياسة فقط، وفي الغربة وليس في الظلم أيضا، وأصبحت المقاومة داخلية وليست خارجية فقط،. وهذا لا يعني أن الداخلي مفصول عن الخارجي، ولكن الكتابة يجب أن تنطلق عبر معرفته ليتحقق هدفه، وما أريد الوصول إليه بأن التحول لا يحدث فقط من الحدث الخارجي ولكن أيضا من الحدث الثقافي، ولذلك كل ما قرأت كتابا معينا يضيف إلى حياتي حياتا أخرى وأصبح جزءا من لغته، وقد سمعت مرة من يحكي أنه خرج من العدم وليس متأثرا بأحد. حتى أيضا جماعة مجلة شعر كانوا يتحدثون بنفس الفكرة، ويرفضون الحديث عن تأثرهم بشاعر, وأنا عندما سألت عن التأثر أجبت بأنه كلما كثر آبائي كثرة ولاداتي، وأنا حاليا أترجم كتابا عن الشاعر بابلو نيرودا كما ترجمت لمئات الشعراء حيث أنني ترجمت حوالي عشرة آلاف قصيدة, وهؤلاء صاروا جزءا من كتاباتي، وهي من تساعدني في كيفية التعامل مع الحدث السياسي أو العاطفي أو الجنسي، وكلها تسخّر إلى أدوات، ولذلك قراءاتي للفلسفة والمسرح والروايات العالمية والعربية وكذلك قراءتي المتفحصة للقرآن الكريم وليس للحفظ مرات كثيرة بالإضافة إلى ترجماتي تصبح أدواتي لكتابة النص أيا كان جنسه، كذلك تعمقي في معرفة التراث العربي، ومحاولاتي منذ خمسة عشر عاما لسد الفراغ الفلسفي ولم أتمكن لأنني لم أهتم بالفلسفة كثيرا بل كان المسرح والشعر والسياسة هي جل اهتمامي ولكن أستطيع أن أتلمس ما يجري في الفكر العالمي اليوم، وأنا ممن لا يطبقون مقولة فوات الأوان، فمثلا الروائية إميلي برونتي كان عمرها أربعة وثمانين عاما عندما ذهبت إلى إحدى الدول كي تتعلم لغتهم وتكتب بها، وهنا تجد أن الكاتب الغربي شاعر وروائي بالرغم من عمره التسعيني على سبيل المثال ولكنه كما لو أنه يكتب وهو في العشرين، وأيضا نجد أن رينيه شار مات وعمره ثلاثة وثمانين عاما ولكنهم اكتشفوا أن لديه ثلاثة دواوين شعر ومن أعظم ما كتب بعد أن توفى، وكذلك وفي وقتنا المعاصر هناك شاعر فرنسي اسمه كلونسييه يبلغ من العمر مائة عام ولم يكتب حتى الآن سوى ثلاثة دواوين ولكن شعراءنا العرب تجد أن شاعرا بعمر أربعين عاما ينصب نفسه زعيما للشعراء الأصغر منه ويقيمّهم ويصبح إقطاعيا يطلب منهم الكتابة عنه وتكريمه لدرجة القداسة، ولكن الشعر ضد فكرة التقديس وضد الصنمية, وأسوأ ما تناوله الشاعر العربي هو فكرة الرواد فعظمة الشعر اليوم بالعالم بأنه لم يعد هناك رواد في العالم، وقد ترجمت أنطولوجيات شعرية عن الألمانية واليابانية وغيرها وما وجدته أنه لم يكن هناك رواد. واصلا لا يوجد مصطلح الريادة لأنه وراء كل من يدعي الريادة هناك رائد قبله استقى منه، وهناك أمثلة في شعرائنا العرب الرواد كما يدعون رواد غرب، فأدونيس وراؤه سان جون بيرس والنفري ونيتشه, وأنسي الحاج وراؤه السورياليين وأنطونان أرتو والسياب وراءه ت . س أليوت والياس شبكه وراؤه بودلير، والشعر العربي الحديث عمره فقط مائة عام فقط، فنحن بدأنا الانفتاح على الغرب في القرن التاسع عشر، وهي تمثل نهضتنا وكل نهضة لا يمكن أن تنهل إلا بانفتاحها على الآخر، ولو تحدثنا عن المسرح الفرنسي فقد كان في القرن السابع عشر مسرحا يونانيا أرسطويا ثم قام فيكتور هوجو بعمل نقلة فأصبح مسرحا متأثرا بشكسبير وكذلك أيضا تأثر الرومان باليونانيين، والأمريكان تأثروا بأوروبا، حتى دستورهم من صنع الفرنسي لافاييت, وثورة النهضة العربية من نتاج أوروبا وخصوصا فرنسا ولولاها لكنّا ما زلنا نكتب بصيغة المتنبي، ولذلك كل نهضة عندما تنتج نفسها تستنقع وهذا ما يسمى الأصولية، أي نتاج فكر يقف عند مرحلة معينة ويريد أن ينتجها إلى الأبد، فتستنقع وتموت مثل بحيرة تنقطع عنها المجاري، وهذا ما أدى في مرحلتنا التي اتجهت للأصولية والسلفية. ولذلك لم نكن نصنع شعرا عظيما لولا تأثرنا بالآخر وفي مرحلتنا الحالية لولا تأثرنا بالفكر وبالرواية لما وصلنا إلى القصيدة الحالية حتى في دساتيرنا السياسية نتاج الغرب, وكذلك عند المدارس الفنية فهي عبر جسر المدارس الأجنبية، وهذا إضافة بالطبع على أن لا نتخذه ككتل مغلقة وتعيد انتاجه ولكن يجب تفكيك النصوص الغربية حتى تتحول إلى مفردات تعيد صياغتها لتمر عبر ثقافتنا وتراثنا العربي وتفاصيل حياتنا اليومية لتصبح جزءا منّا, وهذا موجود عند الآخرين فمثلا لو رجعنا إلى ثقافة بودلير نجد أنها متأثرة بادغار آلان بو .
ولو عدنا إلى العصور العباسية الأول والثاني والثالث والرابع كان في الأول أبو نواس وأبو تمام وبالرابع كان فيه أبو العلاء والمتنبي وأبو فراس وغيرهم), وهذا كله نتاج مزيج من الحضارة الفارسية واليونانية والبيزنطية ترجموا الفارابي واوجدوا ابن رشد بالمغرب وابن خلدون ايضا، وهذا ساعد في رفد المعارف واستمراريته، ولذلك عندما نتحدث عن تراث الجاهلية وكيف تم مسحه والتعتيم عليه فيما بعد، أثر على ثقافتنا لأنها كانت سلسلة سابقة لتراثنا ما بعد الإسلام لها تأثيرها، فتماثيل الجاهلية تم هدمها وهي ليست ظاهرة مستحدثة بل هي على الطريقة السلفية لرفض الموسيقى وتكفيرها. ولكن كانت هناك ممالك وحضارات بديانات مختلفة كالإنجيل والتوراة, جاء الإسلام بعدها ليس لينفيها بل ليدخلها في صلب الدين، وفي صلب طقوسه وأركانه ولذلك هناك نماذج عدة لتشريعات اسلامية أخذت أصولها عن اليهودية كالرجم والختان ومنع التصوير والموسيقى النظرة الدونية للمرأة وفصلها عن الرجل, حتى الطواف كان منذ الجاهلية فالكعبة لم تكن منذ عهد النبي محمد بل هي سابقة منذ آلاف السنين، ولكن الإسلام جاء لتقييمها وفق متطلبات المرحلة ولذلك أول ما نزل القرآن كان بدعوة للقراءة عندما بدأ بكلمة «إقرأ» وكذلك التوراة كانت نصوصها مستقاة من كتب بلاد الرافدين كنشيد الأناشيد وجلجامش، وإذن فالقرآن هو الكتاب الوحيد الذي دعا إلى المعرفة بالكتب السابقة عبر دعوته للنبي بكلمة «إقرأ»، وهذا ما يؤكد أن القرآن ليس شفويا . وكذلك لو رجعنا لوصايا النبي موسى يشك في نسبها إليه حيث يقال بأن اللغة المكتوبة بها هي حديثة ما يقارب ستمائة عام عن اللغة التي كانت في عصره، بمعنى أن الوصايا كتبت بعده وهذا ما قاله المؤرخون الجدد عند اليهود، ولذا فكل هذا التاريخ يشكّل إطارنا ومن الجاهلية التي يفترض أنها تشكل جسدا واحدا، مع العصور اللاحقة كما تشكّلت هي من الأزمنة السابقة.
ولذلك من الضرورة على كل كاتب بمختلف الأجناس أن يرجع إلى أمهات الكتب كألف ليلة وليلة مثلا، فقد ذكر الروائي الكولومبي جابرييل ماركيز انه قرأها إحدى وعشرين مرة، وبورخيس ذكر أنه قرأها ست عشرة مرة ونحن غالبية كتابنا لم يهتم بها باعتقادهم أنها لا تستحق القراءة لعدم اهميتها، وقد هوجمت في ثمانينات القرن الماضي عندما قلت بأنه إذا كنّا نرغب في البحث عن الشعر الذي يعبر عن التحولات الفكرية والسياسية والاجتماعية والهامشية والطبقات السفلى فسنجده في ألف ليلة وليلة وليس عند المتنبي ولا عند ابو فراس وربما قليلا عند أبي نواس لأنهم شعراء بلاط وكانوا يكتبون بحسب ذوقه فالتحولات اللغوية لم تتم في الشعر وهو لم يتغير كثيرا من الجاهلية إلى العصر العباسي إلا بالتفصيل، بينما النثر الذي تضمن شعرا فهو الذي عكس كل هذه التحولات وانفتحت اللغة على اللغات الأخرى وصارت هناك اللغات العامية لأنها تداخلت مع اللغات الأخرى.
كانت قوى الأحزاب مزدهرة وقوية في السبعينات والثمانينات بالوطن العربي .. ماذا تبقى منها الآن؟
– بالطبع لم يتبق منها شيء, فقد كانت القوى الحزبية في مصر ولبنان تمثل الحركات الثورية، وكانت منبعها الأول في الجامعة الأمريكية، ولذلك الكثير من رؤساء الجمهوريات خرجوا من الجامعة الأمريكية وحتى القومية العربية كان رافدها الأول من هناك ومن روادها بلبنان جورج حبش وقسطنطين رزيق، فكانت هناك حركة حزبية ضخمة جدا ولذلك تعتبر بيروت في تلك المرحلة مختبرا للفكر العالمي حيث تضم الماركسية والماوية والتروتسكية والقومية العربية والقومية اللبنانية والليبرالية ومنظمات اسلامية، وكانت كل هذه التعددية هي خلاصة حركة سياسية فكرية بأضلع متعددة, وهذه التعددية الفكرية هي منبع الحركة السياسية، وما حدث مع تلاشي الحركات والأحزاب السياسية ظهر عصر الطغاة العرب، لأنهم حولوا أفكار واتجاهات الأحزاب إلي جزيء صغير من الفكرة تخدم مصالحهم الشخصية وبالتالي ماتت الحياة الثقافية بمفهومها الحقيقي فلم تكن هناك حياة ثقافية في عهدهم، التي هي أساس الحياة السياسية وتداول السلطة وخلق المعارضة والموالاة وتصارعت الأفكار اليمينية واليسارية والماركسية والقومية العربية وغيرها، وبالتالي سعى الرؤساء العرب إلى إلغاء كلّ هذه الأحزاب لتموت الفكرة عند شعوبهم وتتحول سياستهم إلى آلة قمعية تقتل الفكر المتعدد والمستنير عند الشعوب، أو تستخدم كذريعة قمعية ولذلك سعى رؤساء الدول العربية إلى إلغاء النقابات والأحزاب، فأصبحت مجتمعاتهم مفرغة مصحوبة بالفقر والجهل والقمع وتوسعت دائرة القتل والسجون والظلم مما أدى إلى ظهور الأحزاب الإسلامية المتشددة لأن هذه الشعوب تبحث عن ملجأ فكري تعود إليه ولم يكن امامهم سوى الأحزاب الإسلامية ولأنهم لم يجدوا ما يلوذون به من نقابات وأحزاب، فشكّلت تلك العزلة منعطفا خطيرا في تاريخ الشعوب العربية، وتوسعت حوزة الحركات الأصولية الاسلامية والمسيحية في العالم العربي، التي جاءت من الأصولية الحداثية، فالحداثة كما عرفناها بالشعر هي حداثة أصولية، وقع فيها الكثيرون من بينهم أدونيس وأنسي الحاج وهو ما يعرف بالمطب الأيديولوجي، ولذلك فالأصولية الإسلامية نبع منها الأصولية الدينية والطائفية وهذه ايضا لها علاقة بسبب الأصولية الحداثية العلمانية، وهناك علاقة جدلية بينهما لأنه في آخر عشرين عاما تحول الفلاسفة العقلانيون إلى فقهاء، وأصبح حديثهم فقط يعتمد على الحوار المسيحي الإسلامي وأيضا حول بعض الأفكار التي أصبحت بعيدة عن ما يمور به المجتمع من تحولات، وهذا ينطبق أيضا على الشعراء والكتّاب، بينما الشارع يعيش أقسى حالات القمع والفقر والتجهيل دون أن يلتفت إليه هؤلاء، فبات الفقيه سياسيا ومفكرا، وهذا أوصلنا إلى هذه المرحلة من الانحطاط، وكثيرا ما كتبت حول هذه المواضيع وأهمها ما كتبته عن تحول المفكرين إلى فقهاء والعكس، وهذا مما ضرب الفكرة العلمانية وعمّق الفكرة الأصولية، فمعظم المفكرين لا يزال حديثهم عن الذات الإلهية، ومواضيع تداولت بجدل كثيرا، في حين أن قضايا الشارع العربي الحقيقية مهملة، فساهم ذلك في طمس كل الحركات السياسية وساعدوا الأنظمة على تقوية القبضة في الفكر الأحادي، فتحولت الحركات الفكرية والفلسفية والنقدية في مجتمعاتنا العربية إلى سفسطائية، واصبحت الكتابة النقدية سواء البنيوية أو التفكيكية وما قبل الألسنية وغيرها أقنعة للهروب من الواقع، ولهذا لم يستشعر المثقفون بما حدث في الشارع أثناء الربيع العربي، لأنهم كانوا بمكان آخر لا يعلمون بما يحدث في الرصيف الهامشي لمجتمعاتهم، وكانوا مثل المنظمات الماسونية يحاورون الكتب، وانفصلوا عن المجتمع حتى باغتهم بدروس لن ينسوها وأولها حين نبههم بعدم وجودهم وغيبهم.
وما سبب انزوائهم عن الشارع وهم من يدعون أنهم حملة همومه؟
– ببساطة لأنهم كانوا عبيد الأنظمة، والغالبية منهم كانوا مخابرات وعملاء لها، ومنهم من تلقى أموالا طائلة على حساب قضاياهم، وأصبحوا يدافعون عنها، وعندما جاء الربيع العربي وثورة الشباب انقلبوا على الأنظمة وبعضهم من ادعى بأنه تنبأ بالثورات العربية.
وهل سيبدأون في استغلالها الان بعد الثورات عبر نتاجاتهم؟
– أعتقد أن الحديث عن ذلك مبكرا جدا، لأن الدكتاتورية تصنع مرة واحدة بينما الثورات تتجدد يوميا، فعلى سبيل المثال بدأت الثورة الفرنسية عام 1779 م وسقط الباستيل حتى استقرت 1840, لأن الدكتاتورية لا تحتاج إلى نقد ذاتها، بينما الثورة مدرسة تجديدية وهذا ما نشاهده في مصر وتونس وليبيا ولذلك فهي ستستقر يوما ما ولكن ليس بالسرعة التي يتصورها الآخر، ولا يجب الحكم عليها الآن، وبالتالي فإن الكتب الحالية التي تخرج عن هذه الثورات لا تمثّل واقعها، فالكتابة حولها لا تزال مبكرة.
وأنا شاركت مع متظاهري ميدان التحرير مرتين تقريبا، وعندما وصل الإخوان إلى السلطة منعوا كتابي «دفتر سيجارة» التي أعادت طباعته هيئة قصور الثقافة، وتحدثت في مقابلة تلفزيونية علنا بأنني سوف أوقّع كتابي بميدان التحرير، لأني مؤمن بفكرة أهمية ودور المتظاهرين، وهذا جزء من الدور الذي يقوم به الكاتب.
وبالعودة إلى الكتب التي تنشر الآن عن الثورات العربية غالبيتها سطحية تجارية، ربما بدأت ملامح الثورات في تحرر الشارع قليلا، فأصبح الحكم الفردي غائبا قليلا، وحزب الحكم الواحد انتفى من الوجود، والدليل على ذلك هو أن الشارع هو الذي أسقط الإخوان المسلمين، وحاليا هو من يضغط من أجل تأليف حكومة جديدة وتم قبوله، ولذلك فبمجرد تحرر الشارع انكسر الخوف، وهو بداية التغيير وعندما نتحدث عن عامين يعني أننا في أول طريق التغيير للثورات، فلا ننسى افتقار وعى الشعوب العربية للسياسة قبل الثورات، ونسبة 40% منهم أميون، الفقر هو شبح وجودي في حياتهم، وفوق كل ذلك غياب أفق الإعلام الحر والنقابات، وتابو الحديث عن السياسة طبعا، فالخطوة الأولى عظيمة جدا، ولا نطالب بأكثر من ذلك، لأن ما ظهر على السطح هو رواسب أنظمة استبدادية، ولذلك يجب الانتظار لأن الديمقراطية قائمة على التجارب الخطأ وتصويبها.
ما رأيك بمن وقف في وجه ثورات بلدانهم بمقالات هجوميه وتصريحات صادمة وهم من أهم مبدعيها كأدونيس مثلا ؟
– أنا عاهدت نفسي سابقا بأن لا أتعرض لأدونيس بعد أن اشتد عليه المرض، ولكن عندما نراجع مواقف أدونيس السابقة نجد أنه قد أيّد ثورة الخميني، وكتب فيه قصيدة «الغرب مات» التي تقول في مطلعها:
أفقٌ ثورةٌ والطغاة شتات
كيف أروي لإيران حبّي
والذي في زفيري
والذي في شهيقي تعجز عن قوله الكلمات؟
ولذلك فموقف أدونيس طائفي بحت في حين هو يفترض من يحارب الطائفية، وعندما رفض في مقالاته خروج الثورات من الجوامع، وكأنما هناك أماكن أخرى بديلة يستطيع أن يخرج منها الناس فكل الشوارع تحت عيون الأمن، وهذا ما يرجع الأسباب التي تحدثت عنها سابقا حول قمع الأحزاب والنقابات واللجوء إلى المساجد كملاذ أخير، ولو تطرقنا إلى مصر في مقاومتها للاستعمار الانجليزي عام 1920 م كانت من الجوامع والكنائس، ولذلك فليس مهما من أين تخرج الثورة، بل المهم فيها ما يمثله المكان من رمزية لهذه الثورة، وأن يحول المكان الديني إلى مكان مدني، ولو عدنا إلى النظام السوري حاليا فقد ايد الثورة المضادة للإخوان المسلمين، كونه يطرح نفسه انه علماني في حين الواقع هو طائفي، ولكن يحدث ذلك من أجل حمل الغرب على السنة، ولكن العالم على دراية بما يحدث وخصوصا الغرب فهو من يصنع التناحر الطائفي التي يعززها البعض وذلك من أجل اضعاف دور الثورات، ولذلك لو عدنا لمن وراء حركة حماس ومؤسسها نجد أنها إسرائيل وذلك من أجل محاربة ياسر عرفات والقضاء على المقاومة الفلسطينية الحقيقية، وايضا أزاحت الثورة السورية عن ستار نوايا هذه الحركة، ودعنا نتحدث أيضا عن تأسيس القاعدة ودور المخابرات الأمريكي في دعمها بأفغانستان إبان الحرب الباردة بينهما، ولذلك فكل ظواهر التطرف الديني سببه اسرائيل والمخابرات الأمريكية والغرب. ولذلك عند العودة إلى أدونيس نلاحظ أنه مع ظهور الثورات السورية أصبح ضد كل الثورات العربية، من أجل خدمة الثورة السورية، لأنه ابن النظام السوري، وهو لديه وضعه الخاص.
ما هو عملك الحالي الذي تشتغل عليه الآن؟
– حاليا أفكر بعمل مسرحي، حول مرحلة الثورة العربية ولذلك فهي أخذت تركيزي بعيدا عن الشعر والمرأة فالثورة العربية هي المرأة الوحيدة التي تشغلني حاليا، وقد سحبت ثلاثة كتب عن النشر حاليا، لأنني أشعر أنني لم أوف حق هذه الثورات التي تخرج بمئات الآلاف وتضحي بأرواحها جماعات، ولذلك كل شاعر عربي مهما شعر بأنه كبيرا بشعره يظل احساس القزم في داخله أمام هذه الثورات، ورغم ذلك أن لا أدعو الآخر بعدم الكتابة المغايرة، بل هو رأيي في بول شاوول أما ما يحدث ولم أستطع أن أجمع بين كتابة الحب وبين الثورة العربية.
والقصيدة ؟
– ليس دورها في الوقت الحالي لأن الشعر غالبا ما يخسر لأنه حالم، وأسوأ شيء عند الشاعر عندما يشعر أنه ربح، لأن الشاعر على قدر إحساسه بالانتصار يشعر بأن حلمه لم يكتمل بعد ولذلك فهو يلاحق مراحل عميقه جدا وسوداوية، وهو مسؤول عن العالم كله بظلمه وفقره، وأنا رهاني الآن منصب لهذه الثورات، وقد كتبت أربع قصائد واحدة عن أطفال غزة، والأخرى عن أطفال الثورات العربية، وثالثة عن أطفال الثورة السورية والأخيرة عن أطفال الكيماوي، وكتابتي كانت كمن يبصق دما حول هؤلاء، فهي لا تحتوي جماليات بقدر ما كانت معبأة بجنون اللغة التي توازي عنف الاخر.
فمن يصدق أن هؤلاء الزعماء يسقطون بعضهم في أيام وبعضهم في أشهر، فهؤلاء زرعوا في نفوس شعوبهم الخوف والرهبة حتى في مسألة التفكير بأنهم يموتون وينتهون مستبعدة من مخيلة الشارع العربي، ومن يصدق أنه بثورة 14 آذار اللبنانية ينسحب الجيش السوري من لبنان، ولذلك أرى أن بيروت هي أولى من وقفت ضد الظلم في المرحلة العربية المتأخرة، حيث ان 40% من الشعب خرج متظاهرا لرفع الظلم الذي كان يسببه الجيش السوري، ولذلك فإن الثورات العربية بسلميتها أرعبت الأنظمة الباطشة، وأدخلتها في حالة هستيريا حرب بالمدرعات والطائرات والأسلحة الثقيلة، وهذا ما نجده في النظام السوري حيث أنه الآن في حالة موت سريري لأنه سقط منذ أول مظاهرة في سوريا.
ولذلك فالكتابة لا تكتمل عندما تكون مشاعرك مشتتة بمكان آخر فتشعر كأنما تكرر ذاتك كما لو أنك تتحدث عن إحساس بعيد جدا عن واقعك، فالكتاب في هكذا مناسبات يموت قبل ولادته، ويحترق قبل ان يتنفس.
أنت ممن لا يهتمون بشكل القصيدة وهذا حاله كثيرا متداولة في الكتابات الحديثة فهل هذا سببه غياب النقد ؟
– بالنسبة للنقد لا اعتقد أنه غائب بل هو موجود وحاضر وإن كان بنسب، وهناك كتب نقدية كثيرة، ولكن هناك من يعتبر أن قصيدة النثر ليست شعرا وخصوصا في مصر، ومن بينهم الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، في الوقت الذي يكتب فيه قصيدة النثر بنسبة 90% من الشعراء، منذ التسعينات وحتى الآن، وقد أخطأت أنا منذ ثلاثين عاما عندما قلت إن قصيدة النثر هي آخر المطاف، وانها التعبير الوحيد عن الحاضر، ولذلك وقعت فيما وقع به آخرون عندما رفضوا سلفا قصيدة النثر وامكاناتها، وأنا أهنئ الشاعر الذي يكتب بطريقة كلاسيكية ولكن برصانة الشعر وجمالياتها، وحتى أيضا بالتفعيلة. ولكن أن يأتي شاعر دون احمد شوقي أو سعيد عقل فنعتذر عنه، ولذلك دائما ما يعود إلى الشاعر في قصيدته، وبالمقابل ليس كل شعراء قصيدة النثر كبار، تماما كالشعراء العموديين، فعشرات الألوف منهم لم يبق سوى العشرات فقط، ممن خلدوا بقصائدهم وهذا ما ينطبق لقصيدة النثر، فهذه معركة تفصيلية غير مهمة، فما يعني الشاعر الان وفي هذه المرحلة أكثر حرية مما كنّا عليه في فترة الخمسينات والستينات والسبعينات لأنه جاء بعد عصر زوال المدارس والأيديولوجيات، وزوال البيانات الجاهزة للشعر «المينوفيستو»، وصارت كلمة الشعر لم تعد موجودة إلا بعد النص، وغياب المواصفات والأشكال في هوية النص، وأصبح من يحددها هو القارئ وليس الشاعر.
لذلك اختلطت الأجناس الأدبية ؟
– اختلطت ولم تختلط، هناك من يكتب نص يحتوي شكليا بين القصيدة والسرد، وبالتالي من يحدد جمالياته هو القارئ في المرتبة الأولى وهذا لا يعني أن الشاعر لا يعي شكل كتابته، بل هي محاولته لكتابة نص قوي، وأنا حاليا أعمل على انطولوجيا للشعراء الفرنسيين الشباب واكتشفت أن الشعر وصل لديهم في مناطق جديدة لا نعلم عنها في الشعر العربي، وكذلك أيضا في النص المسرحي فقد انتهت مرحلة بريخت ولويجي بيراندلو وغروتوفسكي وغيرهم، وأصبح هناك نص جديد وعقلية مختلفة، وأصبحت مناطق الكتابة متعددة وحلّت التجريبية محل النظرية، فكان على سبيل المثال بالمسرح عمل غروتوفسكي حول صناعة مسرح الفقير، ولكن صناعته جاءت بعد وضع القواعد والنظريات، كذلك ستانسلافسكي ومايرهولد وبريتون في الشعر والكثير من التجارب، فقد أصبحت التجريبية تؤدي إلى جمالية مفتوحة، والتجريب هو الذي يخلق النظرية العابرة وليست الثابتة وكل كتاب يتجاوز بكتاب آخر، وهنا يأتي عمل الناقد بتحليل النظرية التي وضعها المؤلف في كتابه وهناك يتم التمييز بين النص السردي والشعر بحسب رؤية القارئ او الناقد، وأجد أن التجريبية هي مستقبل الكتابة وهي المجهول والسؤال بينما النظرية هي المعلوم والجواب وأصبحت من الماضي، وعلى الشاعر أن يجد نفسه وهو لا يعلم ماذا يكتب من حيث الشكل، وبتجربتي الخاصة بقيت سبعة أعوام لم أكتب شيئا، أما من يستند على نظرية معينة فهو يعمل إلى تطبيقها ولن يساعده ذلك في تطوير كتابته.
لذلك نجد أحيانا عند الكتابة بأن هناك من يبتدئ بمشروع أدبي معين وخلاله يتحول إلى جنس آخر؟
– نعم يحدث ذلك وبتجربتي الشخصية ككاتب وناقد مسرحي، كتبت عن ثمانمائة مسرحية حتى الآن وترجمت حوالي عشرين عملا مسرحيا، وهذا أفادني كثيرا في كتابة بنية النص المسرحي مكتمل بحيث لا يكون نافرا أو تجميعيا، وهذا ينطبق أيضا على السينما فلها دورها أيضا تحت ما يسمى بالثقافة الشاملة وغيرها من الأجناس الأدبية.
ما أثر غياب الطبقة الوسطى والمعنية بالقيم والثقافة عند الشعوب العربية؟
– طبعا أثّرت. ولكن هناك أمثلة عكست نظرية الطبقة الوسطى ففي روسيا بالقرن التاسع عشر، كان الفقر يغطي رقعة كبيرة عند الشعب، ولكن عندما نقرأ قصص الكاتب أنطوان تشيخوف نجد أنه من قعر ذلك الفقر أوجد أدبا رصينا وقويا، وكذلك تولستوي الذي كان يوزع من أمواله للفقراء وغيرهم، وهذا يعني أن الأعمال القوية تخرج من وسط المجتمعات الفقيرة..
وحتى أيضا في القرن العشرين كان ديستوفسكي فقيرا ولكنه أهدى العالم أعظم وأروع الأعمال الروائية، الأخوة كرامازوف والأبله والمقامر وغيرها، لذلك من الفقر صنع الاحتجاج، فرواية «الحرب والسلم» لتولستوي هي احتجاج على الحرب، ولكي نتوسع أكثر نجد ان فرويد ظهر من نص ديستوفسكي ووصل إلى الظلمات الداخلية في تحليل أعماق شخصيته نفسيا والتي كانت تنعكس على شخصيات أبطاله، مصورا كافة التناقضات عن الانسان بين الشر والخير والموت والحياة والكثير من مترادفات البؤس، على سبيل المثال تحليل تمزق العائلة في رواية «الأخوة كرامازوف»، وكذلك رواية «الجريمة والعقاب» والصراع بين الحرية والدين. إذن كانت الأجواء الروسية فقيرة، وفي المقابل هناك النبلاء بإقطاعياتهم. وأيضا فرنسا لم تكن افضل ولكن خرج منها فولتير وفلوبير وغيرهم، ولذلك هناك عنصر ثابت هو الفقر، ومن مادة الفقر طلعت الثورات، وظهرت الأجناس الأدبية من رواية وشعر ومسرح، ففيكتور هوجو طلع برائعته العظيمة «البؤساء» من باطن المسحوقين، وروبن هود من الفولكلور الإنجليزي الذي كان يعمل على مناصرة الفقراء ومساعدتهم بعد أن كان يسرق الأغنياء مساندا للفقراء من الشعب، وهذه الأمثلة هي دليل على عدم المساواة في المجتمعات بالعالم، فالوجود ظالم دوما، وبالتالي فالشعر والكتابة هي ضمير العالم، وهناك كتّاب كثر ماتوا من أجل الحرية.
ولكن ماذا عن غياب الوعي ؟
– غياب الوعي هو إرث، ولكن لا أرغب أن نكون سوداويين في تحليلنا فمثلا لو قارنّا بين وضع المرأة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين ووضعها الآن متشابه، وكذلك بالنسبة للثقافة، وهذا يجعلنا نشهد التطور في المجتمعات العربية، وقلّت نسبة الأمية، ويجب أن نعي بأن العلم ليس معناه الحرية عند الشعوب، بينما على المثقف أن يكون في خدمة الجهل، وعودة مرة اخرى إلى القرن العشرين نجده أنه كان يمثل نقلة كبيرة في الانفتاح على العالم الغربي ثقافة ووعيا، لولا نصفه الاخر الذي أفسده وجود الطغاة، ولذلك نجد أن هناك مدنا عربية تعتبر من أحدث مدن العالم وخصوصا في الخليج العربي، وعليه يجب أن تكون نظرتنا شمولية، وما وجد من أمية في بعض الدول العربية كان مصدره سياسة الأنظمة، ومركزيتها في المدن فقط وتهميش الأرياف، فإذا تحدثنا عن غياب الوعي فهو مرحلي فقط سببته الأنظمة، والفقر والجوع هما من جعل النظرة الأولى نحو العمل قبل التعليم، وخرجت فئات صغار السن للبحث عن لقمة العيش، وهنا دور المثقف يجب أن يكون فاعلا في مجتمع النقصان، ومنع القمع، وأن يقاتل من اجل الحرية ومناصرة الفقراء ضد الظلم، كما يجب عليه أن لا يبيع موقفه وقضيته والتمسك برأيه، ومعرفته أيضا لأنه إذا باع معرفته أصبح أميا، وقد يصبح المثقف خطيرا عندما يوظف خبراته الفكرية من أجل قمع الآخر، وللأسف هذا ما قام به بعض المثقفين.
هناك من يدّعي أن التكنولوجيا ساعدت على ظهور الثورات العربية؟
– فعلا ساعدت التكنولوجيا ولكن كأداة تواصل اجتماعي وليست كأدوات فكرية، ويجب أن ننتبه أن التكنولوجيا لم تصنع الثورات، فمساعدتها تكمن في كسر رقابة سلطة الأنظمة التي كانت تستخدمها في الهواتف الأرضية والفاكس والرسائل البريدية الكلاسيكية، وبالتالي أدوات التواصل الجديدة تجاوزت مرحلة الممنوعات والمحرمات لدى الأنظمة وكشفت عن الجمرة المخبأة تحت الرماد، وبالرغم من ذلك يجب أن نؤكد أنها أدوات تواصل اجتماعي وليس ثقافي وهنا خطورة فمنها على مستوى اللغة العربية والفكر والذاكرة، ويجب أن تقام بحوث طويلة حول ذلك، لأنه لابد أن نظهر الجوانب السلبية في هذه الآلية.
وماذا بعد الثورة في مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟
– ما زالت لم تظهر ملامحها إلّا بجزئيات صغير فالأنظمة السابقة لم تترك أي أداة لشعوبها حتى تتحرك لاستعمالها، فمثلا الأحزاب كانت تطبق نظام الحزب الواحد، والنقابات ملغية وكذلك التجمعات، وراقبوا الثقافة وصادروا الكتب وكل ما هو يمكن أن يستخدم كأداة معرفية لمواجهتهم، ولذلك لا تزال الشعوب العربية طازجة، ولكن ما ساعدهم هو ذكاؤهم الفطري، الذي استشعر الثورة قبل المثقفين المترفين، وهي تشبه الثورة الفرنسية التي تكن قائمة على الفلاسفة والمثقفين، بل الفقراء هم كسروا الباستيل، ولأول مرة تخرج الثقافة من الثورة وليس العكس، ومنها خرجت الكتب التي تعبر عن قهر الشعوب وجوعها وجنونها ومأساتها، ولم تعد تتحمل فولّد الانفجار بين سيئات وايجابيات وبدأ يتبلور خصوصا في مصر وتونس، وأظن سيتحسن باليمن وليبيا مستقبلا، أما سوريا فالنصر للثورة، وستمر بفترات كما مرت في الثورتين الفرنسية والبلشفية.
أيام الثورة البلشفية استغلوا فيها الإعلام لصالحهم، وهذا ما حدث في مصر عند الإخوان المسلمين ؟
– كانت هناك حرب في الثورة البلشفية ذهب فيها مئات القتلى وحتى استقرت بالقمع أخذت سنوات، وكان لينين الذي يحيدونه عن القمع هو كان من يقمع الثوار وكذلك قائد حملته تروتسكي، ولكن ما حدث عند الإخوان المسلمين فهو حزب تنظيمي على خلاف عفوية الأولى، فقد سرقوا الثورة ولذلك أنا كنت من مؤيدي ترك الإخوان في الحكم سواء في مصر أو تونس، لأني متأكد من أنهم سيسقطون بسبب غياب المشروع، فالدولة ليست قضايا حجاب المرأة ومواضيع لا تمت لحياة الناس الرئيسية بصلة، بل هو تعليم ومعيش وتنظيم مسكن، وبالتالي نحن نمر حاليا بمرحلة تعزيز الثورة وانتظارها في تعزيز المكاسب الجديدة وتحرير الشارع وكسر الخوف والبحث عن دساتير جديدة والحكم الجماعي ضد الفردي وهذه الإنتظارات مدعومة بالتجارب، ستصل عبر سنوات وتضحيات إلى آفاق أفضل بينما الظواهر الأصولية سواء المسيحية في أوروبا اليوم كما هو في السويد وسويسرا وألمانيا وفرنسا وأسبانيا التي وصلت إليها مراحل التطرف، وكذلك الأصولية الإسلامية في العالم العربي، فإنها عبارة عن مراحل انتقالية لن تبقى، لأن الشعوب اليوم صارت أكثر وعيا، وبالتالي فهي ظواهر عابرة وليست أصلية، فبالرغم من هيمنة الإخوان على الإعلام سقطوا، فالجمهور وعيا تجاوز مرحلة الإخوان وأصبح ضد افكارهم الرجعية.
ما هي أهم العوامل التي تهدد نجاح الثورات العربية وخصوصا أنها شعبية وغير منظمة؟
– ما يهدد نجاح هذه الثورات هي أمريكا والغرب واسرائيل وهناك حلف ايراني أمريكي اسرائيلي روسي، يمثل عقبة كبيرة في وجه الثورات العربية، وليس من الداخل لأن العالم العربي أصبح قادرا على غربلة آرائه وعلى صقل الوعي التاريخي واليومي، فالغرب من مصلحته بقاء التخلف والقمع والأصولية والطائفية بين العرب ليبرر أصولية إسرائيل ونظامها الديني، وكل الاتجاهات الأصولية مثل حزب الله والنصرة وغيرها هي تعزيز لأصولية النظام الإسرائيلي وعنصريته.
إذن هل هذه الثورات ستغير من المخطط الأمريكي والغربي في المنطقة؟
– نعم فالمخطط الأمريكي فشل في مصر وهو كان مع الإخوان المسلمين، وبحسب علمي أن الإخوان كان بينهم اتصال مع الأمريكان قبل أشهر من الثورة، وتم الاتفاق على كل المعاهدات السابقة ومن بينها كامب ديفيد، ولذلك 0
أمريكا والغرب، ولكنهم فشلوا، كذلك حال تونس فتلك الثورة المدنية أفشلت المخطط الإسرائيلي الذي يشجع تولي الأنظمة الدينية بها ليبرر نظامه الديني، وهذا ما حدث سابقا حين تحالف الأمريكان مع ايران وأسقطوا فيه العراق وسلموها لحزب ديني.
ولكن ألا يؤثر ذلك على اقتصاداتهم؟
– لا لن يؤثر فهم ليسوا على وقوف ومساندة مع الاتجاهات العلمانية، وقد جربوها من قبل والآن رأوا أن يتوجهوا إلى الجانب الديني في تولي الحكومات العربية وهناك حسابات خفية، بينما اقتصادهم مؤمن طبعا ومصالحهم مضمونة وربما للأفضل فيما يرجع إليهم من ضمانات.
ولكن بعض دول الغرب تعاني من انهيار اقتصادي؟
– الانهيار الاقتصادي مسؤولة عنه الأنظمة لأنهم أضعفوا الدولة لحساب الشركات عابرة القارات، وحلّت محل الدولة وكذلك البنوك حلّت محل المشروعات الإنمائية، ولذلك من يحكم العالم صندوق النقد الدولي، أدى إلى ضعف الدول وضرب انتاجها وجاء اليورو على عكس ما كانوا يتوقعونه وأدى إلى انهيار اقتصاد بعض الدول كاليونان وبلجيكا واسبانيا وفرنسا، لأن الرأسمالية والعولمة ألغت سيادة الدول وألغت صفاتها المميزة وأهمها الديمقراطية، وحلت البنوك محل الاقتصاد فأنهار.
هناك مقولة «بعد المأساة تأتي الملهاة» أين ملهاة الشعوب العربية بعد الثورات وضحاياها؟
– نحن ما زلنا. فالشعوب العربية اليوم تمشي في خطين مزدوجين بين التراجيديا وبين الخلاص، ولذلك فالملهاة غير موجودة أبدا، فلا نزال نرى الضحايا في بلدان الثورات، والمعارك مستمرة، ولكن ذلك لا ينفي أن الربيع العربي شيء عظيم، كسر الهلال الصهيوني من ايران ثم العراق ثم سوريا ولبنان واسرائيل وهذا يشكل هلال استخدم فيه مذهب الشيعة في عمل الفرقة والطائفية وهم يعتبرون جزءا منّا ونحن جزء منهم, مثلما استخدم العثمانيين السنة، واستخدمت فرنسا الموارنة لتدخل المنطقة، واستخدمت روسيا الأورثذكس، فغالبا ما يدخل الاستعمار من نقاط الضعف، يتبنى طائفة معينة ويدعمها كي يستخدمها في استعمار البلد، ولذلك هناك مواقف غير مبررة فمثلا دخول حزب الله سوريا لتحرير مقام السيدة زينب غير منطقي بالرغم من احتمالات وجود هذا المقام بالعراق و مصر، ولذلك ليس مبررا هذه الدماء التي تراق بالشعب السوري ولكن هي تحايلات فقط وقصص اخترعت لتمزيق الأمة العربية.
ولذلك استيقظت التعصبات الدينية والطائفية بعد الثورات؟
– هي مرحلة فقط وهذا من استخدام الغرب والروس من أجل محاربة الثورات العربية، خوفا من الشيشان والقوقاز حيث يوجد اسلام سنة هناك، كذلك اسرائيل تحاول كسر قوة العلمانيين والديمقراطيين، وهذا السبب جعلها على حرب دائم مع لبنان بسبب ديمقراطيته، حتى صنعت بينهم الطائفية، ولذلك كما ذكرت هي ترغب في وجود أنظمة تشبهها لتبرر وجودها، وأنا برأيي سيتغير موقف العالم الغربي مع تطور الثورات وسيحاول احتضانها ودعمها.
يقول الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك : «وراء كل تطرف ثورة فاشلة» ؟
– هذا كلام غير صحيح، الأنظمة المتطرفة أنبتت المتطرفين وهذا ما حدث فمثلا تطرف النظام السوري أوجد المتطرفين، ولذلك كانت المظاهرات في الثمانية أشهر الأولى سلمية وهو حولها إلى إجرام وقتل، وعندما أصبحت مسلحة دخلت عليها عناصر خارجية كالنصرة وغيرها، ولذلك فكل المتطرفين في الثورات العربية هم من صناعة الخارج والأنظمة فهيأت الجو لها حتى يبرروا قتلهم للعزل وتنجح خططهم في قمع الثورات, بينما الداخل معظمهم أبناء الشعب يطالبون بالحرية والديموقراطية، ولذلك هل نعتبر ميشيل كيلو وجورج حبش وبرهان غليون من النصرة مثلا؟
هل نصنف الكتابة الأدبية الآن بأدب ما بعد الثورة؟
– أعتقد أن هذا الكلام مبكرا جدا، الأدب يحتاج إلى نضج فمثلا متى كتب تولستوي «الحرب والسلم» بعد فترة طويلة، طبعا حاليا هناك ملامح لأدب الشارع، وهذا من الممكن يكون ذريعة لأعمال أخرى، ويرجع إلى تهيئة المثقفين للكتابة نفسيا وثقافيا وفكريا، لاستيعاب الشارع وما يحدث فيه ويحوله إلى بنى إبداعية وبالتالي يحتاج إلى وقت .
معروفا عنك بكثافة لغتك الشعرية و أحيانا تعتمد الفراغ في القصيدة ؟
– الفراغ جزء من اللغة والإيقاع، وليس من الجماليات, فهي لغة مخفية ذات دلالة، والفراغ ليس تزويقيا بل عضويا بالقصيدة مثل الفراغ باللوحة، والصمت بالمسرح عند بيكيت، فهو لا يعني الخرس بل لغة .
لماذا تراجع المسرح العربي؟
– إذا بقي على هذه الحال فهو في طريقه إلى الانقراض، فاليوم لا توجد حركة مسرحية عربية، والسبب يتوزع ما بين الأنظمة والجمهور والكتّاب وحلول التلفزيون والأهم منه التمويل، فالمسرح العربي نشأ بتمويل السلطة وأعطى أعمالا مهمة من بينها يوسف إدريس وميخائيل رومان وسعد أردش و سميحة أيوب وعملوا مسرحا قويا بتمويل المسرح القومي، ولبنان هو البلد الوحيد الذي لم يكن لديه وزارة للثقافة ولا قطاع ممول فكان المثقفون هم من يحاولون تنشيطه، ولكن مع تأزم الوضع الاقتصادي قل الإنتاج من المثقف والمسرح، وخصوصا أن المسرح التجريبي ليس لديه جمهور أصلا, بينما المسرح التجاري أو الشعبي ومن أمثلته مسرح عادل إمام وسمير غانم وقبلهم شوشو, هو ليس بحاجة إلى تمويل لأنه شعبي، أما النخبوي لا بد أن يكون مدعوما، ولذلك كل المسرح في الغرب مدعوما لأنه مكلف، أما من يلجأ إلى حلول أخرى كالميلودراما الذي لا يكلف كثيرا فهو ليس بحل.
لماذا غابت المؤسسات الداعمة هل لأنه لا يحقق مصالحها؟
– لأن المسرح استنفد ولم يعد يعطي كالسابق، حتى المسرح التجاري أصبح قليلا، فأكبر مسرحية يأتي أصحاب الدعوات في أول ليلة ومن ثم تفضى القاعة من الحضور، ما عدا في المهرجانات، فمثلا بالقاهرة نجد أن بها حوالي 23 مسرحا كلها ممتلئة والسبب المناسبة المهرجانية، فهي مثل أي مناسبة اخرى كالأعياد وغيرها، وبالتالي أصبح المسرح مرتبطا بالمناسبات، كما الاهتمام بالمسلسلات العربية برمضان، وأصبحت دوراتها مناسباتية، وبعدت عن نقل مشكلات المجتمع، وهنا يكمن خطورة تأخر مستواها، وأصبحت المسلسلات في معظمها عن التاريخ ولا تمتّ بالواقع، وهنا نجد أن التلفزيون يصنع موته وكذلك السينما حيث اصبح اعتمادها على التكنولوجيا، بعد اختفاء عمالقة السينما، والإنتاج أصبح غير مرتبط بالقضايا الكبيرة للمجتمع، وربما تحتوي على جماليات التكنولوجيا ولكنها خاوية وحلّت محل النص والكاتب والمخرج، ولذلك نلاحظ أن المسرح والسينما هم من يصنعوا الإنسان وأصبح الجمهور نتاج الفن.
ماذا عن الإصدارات الورقية واهميتها؟
– أهم شاعر عربي يبيع 100 نسخة من عمله واكبر رواية تبيع ألف نسخة، وكذلك بفرنسا فهناك اكبر شاعر ممكن تصل مبيعاته إلى 40 نسخة والمجلات الثقافية تراجعت في مبيعاتها، وهذا يعود إلى عظمة الشعر الذي أنقذ نفسه من الاستهلاك، فالمجتمع ليس في حاجة إليه، إنه كنبتة تنبت في الظل بين صخر وتربة، وهذا هو الشعر طوال تاريخه نخبوي، فمحمود درويش ونزار قباني كانت مبيعات دواوينهما أكثر عندما كانوا أحياء ولكنها تراجعت بعد موتهم بنسبة 90% وكأنما المبيعات مرتبطة بهم شخصيا، فالشعر يحرك أسئلة صعبة لا يرغب القاريء العادي أن يدخل متاهاتها.
لماذا منع الإخوان «دفتر سيجارة» في مصر؟
– ذهبت إلى هناك ووقعت كتابي في ميدان التحرير ولم يكن لدي أدنى خشية من الإخوان، وكما ذكرت سابقا أنا ازدهر مع الخطر حدّ الموت، ومنعهم جاء ليكمل تكبيل الحرية على الثقافة, وهم في طريقهم لمنع السينما، كما كبلوا الإعلام والقنوات من أجل ترويج أفكارهم ولذلك أول ما قاموا به إهدار دم عادل إمام وغيرهم من مشاهير السينما المصرية .
ما جديد بول شاؤول ؟
– حاليا أترجم الشاعر الايرلندي سيمون هيني الحائز على جائزة نوبل والذي توفي مؤخرا، كما أنني اهيئ حالي بقراءة اللغات القديمة ومراجعة القواميس، ولكن لست على تركيز فقط بها، فأنا أوزع الوقت بين السينما وقراءة فكر اللغة، لأهيئ نفسي حتى تأتي اللحظة وتكون لدي الأدوات الكاملة في الترجمة, كما يقول ت . س . إليوت : «أضحك من الذين يقولون أنهم يكتبون الشعر يوميا»، فبول فاليري لم يكتب خلال 21 عاما، وسان جون بيرس 20 عاما لم يكتب، وشكسبير 7 أعوام وغيرهم، ولذلك على الشاعر أن يهيئ حالة ليكون جاهزا لإطلاق الشعلة.
هل تشعر إنك خسرت شيئا؟
– خسرت عائلتي في وفاتهم ولكن أختي تيريز هي من أثر علي موتها كثيرا، حيث إنها كانت اكرم من النبع والهواء وبالرغم من أنها لم تكن متعلمة إلا أنها كانت ضد الطائفية.