يعتبر بول إيلوار من المتمردين على النمط الكلاسيكي للقصيدة، والثائرين على السائد، وإن كل من يتمعن في المراحل التي مر بها الشاعر الفرنسي بول إيلوار في حياته يجدها تتوزع على عدة محطات عرف خلالها الشاعر تحولات نفسية بسبب الأزمات الصحية التي عاشها في بداية حياته وأثناء الحرب، وأحداث تاريخية تجلت في مشاركته في الحربين العالميتين، وما حملتاه من مآس وآلام ومعاناة نفسية وجسدية. في مقابل كل هذه المعاناة تذوق الحب الذي كان له بلسما ومتنفسا طهر صدره من روائح الدخان والبارود، فالحب بالنسبة إليه كان ملازما للوجود، لأنه يستفز ويثير شهوة كتابة الشعر. كما عاش تجربة تيارين حداثيين تجسدا في الحركتين الدادائية والسريالية، وانضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، وشارك في عدة مؤتمرات عالمية، وصار داعيا للسلام..
كل هذه المؤثرات جعلت شعره يتصف بالتعقيد وشدة التركيز «لقد تنحى إيلوار بشعره عن مفهوم المزاوجة بين الأحداث، فجعل لكل فكرة خصوصيتها على صعيد الحدث المؤثر في لحظة الخلق الشعري، أي أنه أقام من دون أن يعلم نظاما رقابيا على مخيلته ووعيه. يكون فيه اللاوعي هو الجهة المنفذة لذلك النظام الرقابي الذي أعطى فيه للوقائع المرئية استحقاقاتها، وللذاتي غير المقترن إلا بحدس الخيال هو الآخر استحقاقاتها التي تتوجب ضمن دائرة مخيفة من متطلبات الحاجة للحب والحياة»(1)
تتميز قصائد بول إيلوار بلغتها الغنائية التي يسهل تحويلها إلى عمل موسيقي، وفي نفس الوقت يمكن أن تُلهم الرسام أو المسرحي.. وتستمد القصيدة نبضها من الواقع، وتعتبر المرأة رئتها والطبيعة فضاءها الخصب، والحلم هواءها والحرية أمطارها التي تروي عطش البسطاء بالأمل. لم تشغله الكتابة الشعرية من نشاطاته المتنوعة، ومناداته بالحرية، وتحرير الشعوب المحتلة، والمقاومة والمشاركة في الحروب. حيث يقول: “لن نحقق أهدافنا واحداً واحداً بل اثنين اثنين، كما سيحبّ بعضنا الآخر، بل سيضحك أولادنا من خرافة سوداء حيث يبكي شخص وحيد”.
يعتبر إيلوار صديق الرسامين التكعيبيين والدادائيين والسرياليين وهو « إنساني النزعة، عاشق، مناضل سياسي. بول إيلوار هو قبل كل شيء شاعر الحب والسلام، وبلا شك أحد أبرز وجوه القرن العشرين »(2)
ولد بول إيلوار في (سانت دينيس) بفرنسا في ديسمبر 1895،
في 18 من نوفمبر من 1952 وعلى الساعة التاسعة صباحا توفي بول إيلوار إثر نوبة قلبية في منزله في جرافيل بفرنسا، تكفل الحزب الشيوعي بمراسيم الدفن، وحضر جنازته بيكاسو وعدد قليل من أصدقائه القدامى. وقال الكاتب الفرنسي روبرت ساباتييه (Robert Sabatier) عن يوم موته: “في ذلك اليوم، كان العالم كله في حالة حداد”. وكتب جان كوكتو غداة وفاة إيلوار عام 1953 في مجلة (Europe) ما يلي: « أصبحت صديقا لإيلوار بعد سبعة عشر عاما من الخصومة، وأصبحت هذه الخصومة فيما بعد أمتن قاعدة تفاهمنا عليها »(3)
العنقاء
أنا الأخير في الطريق
آخر ربيع..آخر ثلج
آخر معركة كي لا أموت
وها نحن أسفل وأعلى أكثـر من ذي قبل
***
في محطبتنا من كل شيء
تفاحات صنوبر وأغصان طرية
وأيضا زهور أقوى من الماء.
من الطين ومن الندى
***
اللهـب تحت أقدامنا..اللهب يكللنا
عند أقدامنا حشرات وطيور ورجال..جميعا سيحلقون
الذين يحلقون سيستقرون
***
السماء صافية والأرض مكفهرة
لكن الـدخان يـرحل نحو الـسماء
السماء فقـدت كـل نيرانها
ظل اللهب على الأرض
اللهـب هــو سحاب الـقلب
وكل أغـصان الدم
تغني لحننا
تُبَددُ ضباب شتائنا.
***
لوحة ليلية في رعـب ألهبـت الحزن
أزهـرت الأرمدة في بهجة وجمال.
نُدير دائما ظهـرنا للنائم
كل شيء بلون الفجر.
بورتريه في ثلاث لوحات
(I)
تستطيع يداك أن تحجبا جسدك
لأن يديك هما لك قبل كل شيء
كي تغطين جسدك تغلقين عينيك
وإن فتحتهما لن يظهر فيهما شيء
وعلى جسدك ترسم يداك طريقا قصيرا
لحلمك هما عشيقتان
ولكفيك مرآة عميقة
تعرف ما تنشئه الأصابع وما تفككه
(II)
إن كانت يداك لك فالنهدان للآخرين
مثل ثغرك حيث كل شيء يأخذ طعما
ينفتح شراع نهديك مع موجة
ثغرك الذي ينفتح ويضم كل الضفاف
طيبوبة أن تكوني سكرانة من التعب حين يحمر
وجهك الصارم حين تفرغ يداك
إيه رشيقتي الأبطأ والأنشط
ساقاك ويداك تلبسان اللحم الكثيف
متزنة ومضطربة تقسمين قواك
للكل تمنحين من بهجتك كالفجر
الذي يفيض من أعماق قلب نهار صيفي
تنسين ميلادك و تحترقين من الوجود
(III)
تنفلقين كفاكهة ناضجة…آه أيتها الشهية
حركة جد مرئية، مشهد ندي وناعم
هاوية معبورة منخفضة و أنا أطير بتثاقل
أنا في كل مكان فيك، في كل مكان حيث ينبض دمك
نهاية لكل الأسفار ترتجفين
كسفر بلا سحاب ترتعشين
كحجر عار لنيران الماء المجنون
وعطشك للتعري يطفئ كل الليالي.
نحن الاثنان
معًا نتماسك بالأيدي
في بيتنا نخال أننا في كل مكان
تحت الشجرة اللطيفة.. تحت السماء المعتمة
تحت جميع السقوف عند موقد النار
في الشارع الفارغ تحت عز الشمس
في النظرات المتسعة للحشد
قرب الحكماء والمجانين
بين الصغار والكبار
لا أسرار للحب
نحن البداية نفسها
يحسب العشاق أنفسهم عندنا.
نظام و فوضى الحب
سأورد كي أبدأ بالعناصر
صوتك عيناك يداك شفتاك
أنا فوق الأرض، هل سأكون فوقها
إن لم تكوني أنت أيضا
في هذا الحمام الذي يواجه
البحر والماء الفاتر
في هذا الحمام الذي أنشأته
النار في أعيننا
حمام الدموع السعيدة
الذي دخلته
بفضل يديك
بجود شفتيك
هذه الحالة الإنسانية الأولى
مثل ضيعة ناشئة
صمتنا.. كلامنا
الضوء الذي غادرنا
الضوء الذي عاد
الفجر و المساء يثيرا ضحكنا
في قلب جسدينا
كل شيء يزهر و ينضج.
فوق تبن حياتك
حيث أودع عظامي الهرمة
حيث أنتهي
حكمة الحـب
– -1
سيخرس صمتنا العاصفة
ويعقل الأوراق العميقة
في يدي يدان مهجورتان
– -2
هذا المركب غاص أبدا في الضباب
بعيدا بعيدا يردد الحقد
قريبا قريبا يردد الحب
– -3
عينا الهواء الحي السيدة البريئة
خفيفة النهدين تسخر من كل شيء
و البحر بعثر رمال عرشها.
ابتسامة واحدة
ابتسامة واحدة كانت تتنازع
على كل نجمة في الليل المتصاعد
ابتسامة واحدة لكلينا
والسماء في عينيك المفتونتين
كانت تجد شعلتها في عيني
رغم كتلة الليل
رأيت عبر حاجتي إلى المعرفة
الليل المتقدم يخلق النهار
دون أن نغير مظهرنا.
انتصار غرنيكا
1
عالم الأكواخ الجميل
والليل والحقول
2
وجوه صالحة للنار وجوه صالحة للأقصى
رفضا لليل للإهانة للطلقات
3
وجوه صالحة لكل شيء
ها هو الفراغ يثبتكم
موتكم سيظل مثلا أعلى للجميع
4
الموت قَلبٌ مَقْلُوبٌ
5
جعلوكم تدفعون ثمن الخبز
والسماء والأرض والماء والنوم
وبؤس
حياتكم
6
قالوا أنهم يرغبون في التفاهم السليم
يقسطون للأقوياء ويحاكمون المجانين
يتصدقون ويقسمون السو (1) إلى اثنين
يُحَيون الجثت
يفحمون بعضهم بالمجاملة
7
تمادوا وبالغوا إنهم ليسوا من عالمنا
8
للنساء وللأطفال نفس الكنز
والأوراق الخضراء والربيع والحليب الصافي
والأمد
في عيونهم الصافية
9
للنساء وللأطفال نفس الكنز
في العيون
الرجال يدافعون عنه قدر استطاعتهم
10
للنساء وللأطفال نفس الورود الحمراء
في العيون
كل واحد يبرز دمه
11
الخوف وشجاعة العيش والموت
الموت جد صعب وجد سهل
12
الرجال الذين تغنى لهم هذا الكنز
الرجال الذين من أجلهم بدد هذا الكنز
13
الرجال الذين من أجلهم غذى اليأس
النار النهمة للأمل
أيها الرجال الحقيقيون يا من يغذي اليأس
نيرانَ الأمَل في صُدورهم
لنفتح سوية آخر برعم المستقبل
14
منبوذو الموت والأرض والبشاعة
لأعدائنا لون
ليلنا الرتيب
لدينا سببا لذلك.
– (1) السو(Sou) عملة فرنسية قديمة.
نقد الشعر
اتفقنا! أنا أكره نفوذ البورجوازيين
نفوذ الشرطة والكهنة
لكني أكره أكثر الإنسان الذي لا يكرهه
مثلي
بكل قواه.
أبصق في وجه الإنسان الأصغر من الحجم الطبيعي
الذي لا يفضل نقد الشعر
على كل قصائدي
حرية
على دفاتري المدرسية
على قمطري وعلى الأشجار
على الرمال على الثلج
أكتب اسمك
على كل الصفحات المقروءة
على كل الصفحات البيضاء
حجر دم ورقة أو رماد
أكتب اسمك
على الصور المذهبة
على أسلحة المحاربين
على تاج الملوك
أكتب اسمك
في الغابة والصحراء
على الأعشاش على شجر الوزّال
في صدى طفولتي
أكتب اسمك
في عجائب الليالي
على خبز النهارات الأبيض
على الفصول المخطوبة
أكتب اسمك
على كل خِرَقي اللازوردية
على المستنقع على الشمس العفنة
على البحيرة على القمر الحي
أكتب اسمك
على الحقول في الأفق
على أجنحة العصافير
على طواحين الظلال
أكتب اسمك
على كل نفحة فجر
على البحر على المراكب
على الجبل المعتوه
أكتب اسمك
على رغوة السحب
على رشح العاصفة
على المطر الكثيف لا طعم له
أكتب اسمك
على الأشكال اللامعة
على أجراس الألوان
على الحقيقة المادية
أكتب اسمك
على الممرات اليقظة
على الطرقات المنبسطة
على الأماكن التي تطفح
أكتب اسمك
على اللمبة التي تضيء
على اللمبة التي تنطفئ
على حكمي مجتمعة
أكتب اسمك
على الفاكهة المقطوعة إلى اثنين
وعلى مرآة غرفتي
على فراشي على محارة فارغة
أكتب اسمك
على كلبي الشره والحنون
على أذنيه المنتصبتين
على قدمه المتعثرة
أكتب اسمك
على لوح بابي
على الأشياء الأليفة
على موجة النار المباركة
أكتب اسمك
على كل لحم ممنوح
على جبهات أصدقائي
على كل يد ممدودة
أكتب اسمك
على زجاج المفاجآت
على الشفاه المنتبهة
فوق الصمت بكثير
أكتب اسمك
على مرافئي المهدمة
على مناراتي المنهارة
على جدران سأمي
أكتب اسمك
على الغياب من دون رغبة
على الوحدة العارية
على خطوات الموت
أكتب اسمك
على الصحة المستعادة
على الخطر الزائل
على الأمل بلا ذكريات
أكتب اسمك
وبقدرة الكلمة
أبدأ حياتي
ولدت لأعرفك
لأسميك
حريـــة.
إحدى عشرة قصيدة للإصرار
1 – لاشيء سوى الهواء الطلق
في مقبرة الألوان
التي يضعفها الزجاج
يتلاشى الدخان
2 – دور العجــــــــــز
الدموع غسلت هذا الوجه الضاحك
الذي يتملق طفلا قاسيا متعالي العينين
3 – أيام بلا ظلال
ثدياها عيناها يداها معا
يجمعون أجمل الأيـــــــــام
4 – ألــــــوان متنافرة
لمسة ضوء تحت الرماد
زهرة بنفسج تحت ورود بيضاء
5 – أول لحظة
بين سريري القاتم والزبد الملتهب
النهار الكاشف
يسجل قانون مثير الحركة
6 – الآلـــــــــــــهة
عملاق أحمر عملاق أبيض
النبيذ الخبز
يثقفان الرجال
7 – العاصــــــــــــفة
يْقَلُق كلبي للمرآة
يتجعد جبينه لأقل صوت
تأكل الريح الأجنحة
8 – حجم
لو اتسعت السماء الخالية
لاختفت
هذه الشجرة الوحيدة
9 – أول وآخر فصول المأساة
ومقابل جنوني امنحيني حبك
ومقابل دمي المسكوب قلبك
سنمثل هذا المساء من دون جمهور
10 – تنازل
وامتد النهر
كيلا يضيع
11 – مالا يمكن تجاوزه
ما من هدف يشتت
السفر الذي اخترقته السهام
السفر غير المتعب
أحبك
لأجل كل النساء اللواتي لم أعرفهن..أحبك
لأجل كل الأزمنة التي لم أعش أحبك
لأجل رائحة الفضاء الواسع
ورائحة الخبز الساخن
لأجل الثلج الذي يذوب.. لأجل الزهور الأولى
لأجل الحيوانات البريئة التي لا يرغبها الإنسان
أحبــك لأجـل الحـب
أحبك لأجل كل النساء
اللواتي لم أحبهن قط
من يعكسني.. إن لم تكوني
أنت لا أراني إلا قليلا
بدونك لا أرى شيئا في امتداد الفلاة
مابين الأمس واليوم
حيث كان كل الموتى الذين تخطيتهم
فوق التبن
لم أقو على ثقب جدار مرآتي
كلمة كلمة كان يلزمني حفظ الحياة
مثلما ننسى
لأجل حكمتك التي ليست لي.. أحبك
لأجل الصحة
ضد كل ما هو وهم.. أحبك
لأجل هذا القلب الخالد الذي لا أملكه
تخالين أنك الشك وأنت اليقين
أنت الشمس الكبيرة التي تصعدني إلى الرأس
حين أكون واثقا مني.
حق وواجب الحياة
لا يوجد شيء
لا حشرة طنانة
لا ورقة مرتعشة
لا حيوان يلعق أو يعى
لا شيء حار لاشيء مزهر
لا شيء مجمد بالبريق لا شيء عطر
لا ظل لعقته زهرة الصيف
لا شجرة ترتدي فراء الجليد
لا وجنة خضبتها قبلة الجليد
لا جناح حذر أو جريء في الريح
لا ركن لحم رقيق لا ذراع يغني
لاشيء حر في أن يربح أو يفسد
يتبعثر أو يتجمع
على الخير على الشر
لا ليلة مسلحة بالحب أو بالراحة
لا صوت عمودي لا ثغر منفعل
لا صدر مكشوف لا يد مفتوحة
لا بؤس لا شبع
لاشيء معتم لاشيء مرئي
لاشيء ثقيل لاشيء خفيف
لاشيء فان لاشيء خالد
هناك إنسان، أي إنسان
أنا أو آخر
وإلا لاشيء
الهوامش
1 – شعر إيلوار المقرون بقوة العاطفة والتركيز-قيس مجيد المولى- ملحق منارات- جريدة المدى عدد2666 -5 كانون الأول/ دسمبر 2012.
2 – بول إيلوار بأسراره الشخصية- أنطوان جوكي- الحياة- 10/04/2013.
3 – (بول إيلوار- مختارات شعرية- ترجمة د. سامية أحمد أسعد- دار الشؤون الثقافية والإعلام- العراق- ط 2 -1986)/
إعداد وترجمة رضوان السائحي