فادي معلوف
لم يحـظَ كتاب المواقف لمحمّـد بن عبد الجبّار النفّري (ت 354 هـ/965م) باهتمامٍ كافٍ على مستوى البحث الأكاديميّ، أو حتى على مستوى القراءة والدراسة في الأوساط الثقافيّة عمومًا. بيْـدَ أنَّ حضوره في الأدب العربيّ بدأ يتزايد مع ثورة الشعر العربيّ ومغامراته التجريبيّة؛ حيث عكَف الشعراء والأدباء على استلهام الموروث الثقافيّ العربيّ، والإفادة منه في التعبير عن القضايا الإنسانيّة التي يعايشها الإنسان الحديث، وعن الحالات الوجدانيّة التي يمرّ بها تحت وطأة التغيّرات الحضاريّة المتسارعة. بذلك، نجد أنّ «استثمار» كتاب المواقف في الكتابة العربيّة الحديثة جاء متّسقًا مع الحالة الحضاريّة والثقافيّة التي يعيشها الأديب العربيّ، بتناقضاتها ومشكلاتها الفكريّة والاجتماعيّة المختلفة.1
يتميّز كتاب المواقف في نواحٍ أدبيّة وفنّيّة عديدة تندرج، بشكلٍ عامّ، في إطار النصّ النثريّ الصوفيّ، لكنّها تشكّل تنويعًا وتطويرًا لأساليب هذا النصّ ونسقه الخطابيّ.
نلقي الضوء، في هذه المقالة، على آلـيّات الخطاب في هذا الكتاب، وذلك في محاولة لتسليط الضوء على بعض الدواعي النصّيّة التي اتّكأ عليها شعراء ومنظّرو الحداثة في جذب كتاب المواقف وشخصيّة كاتبه الأدبيّة من الهامش الحضاريّ إلى المركز، منذ ستّينيات القرن المنصرم.2
شعريّة لغة الخطاب في «كتاب المواقف»
الخطاب، في أبسط تعريفاته، هو «قول يفترض متكلّمًا ومخاطبًا، ويتضمّن رغبة الأوّل بالتأثير في الثاني بشكل من الأشكال… وهو يعبّر في المفهوم اللسانيّ المعاصر عن القول الذي يتجاوز الجملة، والذي تدرسه اللسانيّة انطلاقًا من قواعد تسلسل الجمل»3.
ثمّة علاقة وثيقة، يضيئها المنهج البنيويّ، بين المضمون المعبّر عنه في النصّ، وبين اللغة وآليّات التعبير نفسها. فـ»ارتباط القول (الحكي) بطريقة القول (أو الحكي) قضية تلازميّة، ضروريّ توافرها في عملية تحليل النصّ نقدياً، لا سيما أننا سنجد أنّ هذه القضية التلازميّة سيكون لها الأثر الفاعل في توجيه (وجهات نظر) السارد في السرد حين تدرس طرائق السرد وآلياته؛ إذن كل مفصل من مفاصل البناء الهيكليّ للنصّ يوفّر قيمة بنائية مهمة لإجماليّ قيمة العمل الأدبي، واستقراء دور وأهمية كل مفصل تؤتي أكلها في فهم العمل الأدبي بأكمله»4.
نتناول نصوص المواقف، في هذه المعالجة، من حيث هي نصوص أدبيّة تحمل ميزات خطابيّة خاصّة تلتقي في بعض وجوهها مع الخطابيّة الصوفيّة، وتتفرّد عبر صفات خاصّة لا نجدها، عامّةً، في أيّ نصّ صوفيّ أو غير صوفيّ كُتِب بالعربيّة.
في إطار بحث الخطاب نتناول الآليّات التالية ودلالاتها: توظيف الضمائر، وسلطة ضمير الغائب؛ أنواع الجمل المستعملة، طريقة بنائها، ودلاليّتها؛ ظاهرة التكرار وتنوّع استعمالاتها.
1) توظيف الضمائر، وسلطة ضمير الغائب في النصوص
تبنى التجربة الصوفيّة على فكرة الانفصال والاتّصال: الانفصال عن السوى، والاتّصال بالله. ولقد تجلّت هذه التجربة، أكثر ما تجلّت، في أساليب التعبير الخِطابيّة التي انتهجها الصوفيّون في نصوصهم. «والنفّري، كما يبدو، لم تكن تَـهمّه الأفكار التي يعطيها عن التجربة الصوفيّة، بقدر ما كان يهمّه كيف تنشأ هذه الأفكار أثناء التجربة، والصيغ التي تولّدها أو تتولّد عنها، ومن ذلك نراه يحرص ومنذ البداية على نقل تجربة الاتّصال بالله، التي تنشأ في إطارها الأفكار والمعاني وتتشكّل، مراعيًا في ذلك العلاقة بينه كمستقبلٍ وبين الله كمرسِل، لذلك يجعله مصدر السلطة الخطابيّة»5. فممّا هو «جدير بالملاحظة في النصوص النفّريّة أنّ الربّ يتكلّم أكثر ممّا يتكلّم العبد بكثير، بل إنّ العبد في معظم المواقف والمخاطبات لا ينطق بأيّة كلمة قطّ»6.
يحرص النفّري في المواقف على أن يقلب الأدوار؛ إذ يتوقّع القارئ، عمومًا، أن يكون الكاتب مخاطِبًا/مرسِلًا، ولكنّه ما يلبث أن يكتشف وجود الكاتب معه على ذات المستوى، كمتلقٍّ للخطاب، بينما المرسِل أو المخاطِب هو آخر مستتر أو مجهول، يقوم بإبلاغ رسالته إلى الأنا المتكلم في النصّ، ومن خلاله يصل أيضًا إلى قارئ الكتاب7.
هذا الآخر هو الله بحكم أنّ التجربة هي تجربةٌ صوفيّة كما تعلن الإشارات الخارجنصّيّة8، وما يمكن أن يومئ إليه الخطاب نفسه أيضًا. ولكنّ تناول النصّ دونما تقيّد بالدلالة الصوفيّة لا ينفي التأويل غير الصوفيّ. ذلك أن لا تحديد للمرسِل في النصّ، ولعلّ هذا أحد العناصر التي تغذّي الفاعليّة الأدبيّة لهذا النصّ.
نرى إلى الجملة الافتتاحيّة المتكرّرة مع بداية كلّ موقف: «أوقفني وقال لي» – باعتبارها مفتاحًا للمبنى الخطابي الذي يعتمده صاحب المواقف. فعبر هذه الجملة «يتجرّد المتكلّم من سلطة الكلام، ليحيلها إلى متكلّم آخر. ويصبح هو مخاطَبًا بحكم مضامين الأقوال الموجّهة إليه»9.
يمكن اعتبار جملة الافتتاحيّة هذه، مع تكرار جملة «وقال لي»، حجر الأساس الذي حوّل النصّ من مجرّد تعبير عن أفكار صوفيّة، إلى عمل فنّيّ يحكي تجربة ذاتيّة في التواصل مع الله. إذ يشكّل الكاتب من خلالها إطارًا فنّيًّا، نستطيع أن نفسّر استعماله، بأنّه يوائم النموذج الفكريّ الصوفيّ الذي يؤمن به الكاتب، ويحاول التعبير عنه عبر هذه النصوص10.
النفّري يُلغي نفسه تمامًا أمام قدرة الله، وهو في «الوقفة» يعيش حالة من الفناء، بحيث لا يعود له وجود مغاير للوجود الإلهيّ، يذهب بعيدًا في رحلته الروحيّة كي يمحو كلّ ثنائيّة، وليكون الكلّ واحدًا في الله. لذلك فالصوت المسيطر في المواقف هو صوت الضمير الغائب، الحاضر في الواقف/العبد.
يشير النفّري في أكثر من موضع، في النصوص، إلى أهميّة الارتفاع عن المثنويّة في العلاقة بين الواقف وبين الله، فيقول: «يا عبد، إن بدت الرؤيا تُبقي فتذَر، فما رأيتَني، وإن بدت لا تبقي ولا تذَر فقد رأيتني»؛11 أي إنّ رؤية الله يجب أن تمحو كلّ آخر سواه. ويقول: «وقال لي: إن لقيتني وبيني وبينك شيء ممّا بدا، فلستَ منّي ولا أنا منك»12.
الكلام في جملة القول يختلف من حيث استعمال الضمائر، فبعد أن يضعنا الكاتب أمام ضمير المتكلّم وعلاقته مع ضمير الغائب، يبدأ الخطاب بالتحوّل إلى ثنائيّة جديدة بين ضمير المتكلّم وضمير المخاطَب؛ حيث يتحوّل ضمير الغائب (والمستتر) في «أوقفني» إلى ضمير المتكلّم، ويتحوّل ضمير المتكلّم إلى ضمير المخاطَب؛ كما نرى في الرسم التوضيحيّ الآتي:
رسم (1): توضيح تحولات الضمائر في أسلوب كتاب المواقف.
(1) (2)
«أوقفني وقال لي: أنا ثابت ومثبت، فلا تنظر إلى ثبتك فمن نظرك إليكَ أتيت»13
(1) ضمير الغائب ضمير المتكلّم.
(2) ضمير المتكلّم ضمير المخاطَب.
هذا التحوّل له أثر واضح في تأكيد سلطة الصوت «المجهول» (الله) في النصّ، ممّا يضفي على النصّ الغموض المحرّض والمثير للقارئ. هذه الآليّة ترافقها آليّات أخرى تتجلّى في الجمل المستعملة وأسلوب التوجّه، لتؤكّد على الامّحاق التامّ للعبد أمام الله، أو – إن تجاهلنا الدلالة الصوفيّة – امّحاق الذات أمام الضمير المستتر الغائب المجهول.
في جملة القول لا يتوجّه القائل إلى المقول له دائمًا بشكل مباشر، فضمير المخاطَب لا يستعمَل دائمًا، بينما لا غياب لضمير المتكلّم إطلاقًا، فهو في أكثر الأحيان يقول كلامه بصورة عامّة ليكون المخاطَب فردًا ممّن يتوجّه إليهم. مثال على هذا، قوله: «وقال لي: أين من أعدّ معارفه للقائي، لو أبديت له لسان الجبروت لأنكر ما عرف، ولمار مور السماء يوم تمور مورًا»،14 فهنا يسيطر صوت المتكلّم، بحيث يتكلّم بشكل عامّ، وبصورة غير مباشرة مع المخاطَب. وهذه الآليّة تدلّل أيضًا، بالتأكيد، على «طغيان الصوت الإلهيّ/ المجهول»، واتّضاع الصوت المتلقّي؛ أمّا على مستوى الفاعليّة التواصليّة مع القارئ، فالأمر سيدفع إلى إشراك القارئ أكثر، كما لو أنّ القارئ هو متلقٍّ آخر لكلام هذا الصوت.
2) الجمل المستعملة: بناؤها، أنواعها وإسهامها في بناء الدلالة
ذهب أحد الصوفيّين إلى تعريف التصوّف بأنّه «النظر إلى الكون بعين النقص»15. والنفّري هو صوفيّ أصيل صادق، رأى الخواء الذي يبطش بالكون، فبحث عن بديل له عبر سفره إلى الله، وارتحاله عن كلّ ما هو سواه.
هذا التوجّه الناقد الباحث عن منظور أكثر قيمة وامتلاءً، افترض أمرَين: القطيعة مع البنية المعرفيّة للذات، والبحث عن البديل لهذه البنية16. والبديل سيتجلّى بالتأكيد في السير باتّجاه الانسجام بل الفناء بالله، بحيث تمّحي الثنائيّة التي بني عليها العالم، ويكون البقاء في الله وحده17.
هذا التوجّه كان له حضور واضح في المبنى الخطابيّ لنصوص المواقف، وذلك عبر أنواع الجُمل المستعملة، وطريقة ترتيبها وصياغتها؛ ذلك أنّ كلّ مبنى خطابيّ، يستهدف التأثيرَ في متلقّيه وإقناعه بأهمّيّة هذا الخطاب.
لذلك نجد عند النفّري في تعبيره عن الصوت الإلهي الذي يلقي كلامه في أذن المتلقّي توظيفًا لجمل استدلاليّة إقناعيّة تجهد كي ترسّخ الأفكار في نفس المتلقّي، كما تمكن ملاحظة القدرة والثقة الكاملة في هذه القدرة عند القائل.
يبني النفّري الجمل عبر قوالب معيّنة تشتمل، في الغالب، أنواع الجمل الآتية:
الجملة الإخباريّة التقريريّة.
الجملة الإنشائيّة الطلبيّة، وتضمّ: الأمر، النهي، والاستفهام.
الجملة الشرطيّة.
يتشكّل الخطاب النفّريّ على الثنائيّة، التي من خلالها يتولّد الخطاب، مؤكّدًا على القطيعة مع العالم، وصانعًا البدائل التي تحقّق له فضاءً جديدًا؛ إنّه يهدم عالـمـًا ويبني آخر. تتجلّى هذه الثنائيّة من خلال: التقرير والطلب، الشرط وجوابه، والإثبات والنفي. يقول النفّري:
وقال لي: الخارجون عن الحرف هم أهل الحضرة.
وقال لي: الخارجون عن أنفسهم هم الخارجون عن الحرف.
وقال لي: اخرج من العلم تخرج من الجهل، واخرج من العمل تخرج من المحاسبة، واخرج من الإخلاص تخرج من الشرك، واخرج من الاتّحاد إلى الواحد، واخرج من الوحدة تخرج من الوحشة، واخرج من الذكر تخرج من الغفلة، واخرج من الشكر تخرج من الكفر.18
كما نلاحظ، يدمج الكاتب هنا أسلوبَي التقرير والطلب، حيث يعرض في البداية فكرة الخروج من السوى من خلال جملتَين تقريريّتين، ثمّ ما يلبث أن يبدأ بالطلب عارضًا، في آن، ثنائيّة الوجود، ومحرّضًا على الخروج منها، فالخروج يكون من العلم والجهل، من الشكر والكفر…، وهو لا يفضّل شيئًا على نقيضه؛ بل يرى أنّ النقيضَين يستدعي أحدهما الآخر؛ لذلك يحثّ على الخروج من كليهما.
في كثير من المواضع يكون الطلب/ الأمر مجتمعًا مع النهي، فهو ينهى عن فعل شيء ويطلب فعل عكسه، وهذه، كما نرى، من خصائص اللغة السلطويّة والإرشاديّة التي نجدها في كلام الحاكم، كما نجدها في الكلام الإلهي. ومن ذلك قوله: «وقال لي: ابنِ أمرك على الخوف، أثبته بالهمّ؛ ولا تبن أمرك على الرجاء، اهدمه إذا تكامل العمل»19.
استعمال الكاتب لأسلوب الشرط يكاد يكون الأكثر شيوعًا، وهو من خلاله لا يتركنا بعيدًا عن ثنائيّة الإخبار والطلب، إذ إنّ الجملة الشرطيّة المبنيّة من جملة فعل الشرط وجملة جواب الشرط، تتّخذ من جواب الشرط أداة للاستمرار في بثّ القول الخبريّ تارة، والقول الطلبيّ تارة أخرى. ومن ذلك قوله:
وقال لي: إذا رأيتني استوى الكشف والحجاب.
وقال لي: إذا لم ترني، فاعتضد بالثمرة ولا تعضدك ولكنّها محلّ فقرك.20
هنا نرى كيف يدمج النفّري بين التقرير والطلب، من خلال استخدامه أسلوب الشرط. ورغم أنّا نجده لم يبرح المبنى الأساس في التشكيل الخطابيّ الذي يعرض من خلاله أفكاره، فإنّ استخدامه أسلوب الشرط يشكّل تنويعًا مهمًّا على النصّ، سواء من حيث فنّيّة الكتابة وخلقها علاقات متنوّعة مع القارئ، أو من حيث توسيع الأفق الدلاليّ للغة، فممّا نلاحظه، أنّ إضافة حروف الشرط على الجملة، سيؤثّر في دلاليّتها؛ رغم أنّ المعنى الذي يعطيه جواب الطلب موازٍ نحويًّا لجواب الشرط.
موقف «هو ذا تنصرف» هو أحد المواقف القصيرة، الذي يختصر أغلب الأساليب الخطابيّة التي نجدها متفرّقة في الكتاب؛ يقول:
أوقفني بين يديه وقال لي: هل ترى غيري؟
قلت: لا.
قال: فانظر إليّ. فنظرت إليه يخفض القسط ويرفعه ويتولّى كلّ شيء وحده.
وقال لي: لا تراني إلا بين يديّ، وهو ذا تنصرف وترى غيري ولا تراني، فإذا رأيته فلا تجحده، واحفظ وصيّتي فإنّك إن ضيّعتها كفرتَ، وإذا قال لك أنا فصدّقه، فقد صدّقتُه؛ وإذا قال لك هو فكذّبه، فإنّي قد كذّبته.21
هنا تتجلّى حيويّة النصّ خطابيًّا؛ فالكاتب يقدّم أفكاره في توليفة زاخرة بالأساليب: أسلوب الاستفهام، أسلوب الطلب، أسلوب الحوار، أسلوب الوصف، أسلوب الحصر والقصر، الإثبات والنفي، الشرط الذي جوابه طلبيّ، الشرط الذي جوابه غير طلبيّ، التوكيد بإنّ، والتفسير والتعليل.
الكاتب يؤسّس نصّه هنا من خلال كلّ هذه الأساليب؛ ويؤكّد من خلالها على سلطة الصوت الغائب؛ فهو عندما يستخدم أسلوب الاستفهام، لا يعبّر من خلاله عن نقص في معرفة القائل – ذلك أنّ القائل كما يظهر في النصّ هو صاحب المعرفة المطلقة – بل لعلّ الاستفهام في هذا المقام هو نوع من التشديد والتأكيد، فالقائل يريد لمخاطَبه أن يجيب على هذا النحو، وفي إجابة المخاطَب تظهر السلبيّة واللاندّيّة، فكلامه مختصَر غير معبّر عن أيّ شيء، إنّه متلقٍّ فقط. أمّا أسلوب الطلب الذي يأتي في خضمّ الحوار فيجيء من قائل أعلى مقامًا من المقول له، لذلك يظهر كصيغة أمر. بينما يوظّف النفّري أسلوب الحصر والقصر واستعمال «إنّ» في التشديد على الفكرة، وهذه من أدوات الإقناع التي يلجأ إليها المتحدّث. كما أنّ أسلوب الشرط هو أسلوب سلطويّ في هذه التوليفة من حيث إنّه يقرّ أمورًا حينًا ويأمر حينًا آخر، وهو يعمل كأسلوب الحصر والقصر في فرض الحقائق والأوامر.
3) ظاهرة التكرار، واستعمالاتها المتنوّعة
تعود جذور ظاهرة التكرار في اللغة إلى استعمالها كعنصر مركزيّ في بناء الأغاني والطقوس الدينيّة في الحضارات القديمة22. وذلك لما فيه من قدرة على الحفاظ على تماسك النصّ، والتأثير في نفس المستمع، عبر إعادة الجمل أو الكلمات الهامّة، سيّما وأنّه يغلّف النصّ يإيقاعيّة، ومبنى صوتي يترك أثره بقوّة في أعماق المتلقّي.
ولقد وقف قدماء النقاد العرب على أهمّيّة هذه الظاهرة في الأدب، وعلى الأشكال المناسبة لـتوظيفها، فهي قد تكون مستحسنة حينًا، وقد تستقبح حينًا آخر. لقد نسب الجاحظ (ت 255هـ/868م) جودة التكرار إلى تواؤمه والمعنى، إذ «ليس التكرار عيًّا ما دام لحكمة كتقرير المعنى؛ كما أنّ ترداد الألفاظ ليس بعيّ ما لم يتجاوز مقدار الحاجة، ويخرج إلى العبث»23. أمّا ابن قتيبة (ت 275هـ/889م)، فيرى في التكرار أحد طرق التعبير التي جازها العرب، والتي بها نزل القرآن: «وللعرب مجازات في الكلام، ومعناها: طرق القول ومآخذه. ففيها الاستعارة، والتمثيل، والقلب، والتقديم، والتأخير، والحذف، والتكرار… وبكلّ هذه الأساليب نزل القرآن»24.
تُعتبَر ظاهرة التكرار إحدى الظواهر المهمّة في اللغة القرآنيّة 25. ولـمّا كان القرآن نصًّا مقدّسًا غايته التأثير في المتلقّي، صار التكرار «وسيلة لتثبيت المعنى في نفوس قارئيه، وإقراره في أفئدتهم، حتّى يصبح عقيدة من عقائدهم»26.
والتكرار لا يعبّر عن دلالة ثابتة في كلّ مواضع استعماله، حيث نجد تنوّعًا في الأهداف التي وظّف التكرار لأجلها في النصّ القرآنيّ27. وللتكرار في الأدب العربيّ، منذ القديم، توظيفات تعبّر عن معانٍ مختلفة متباينة: المبالغة، الإغراء، التحذير، القسم، التعليل، البيان والتصويب، التحسّر والتحزّن، التهكّم، التحدّي، المفارقة..28؛ وقد عرف الشعراء والمتأدّبون أهميّتها على المستوى الخطابيّ.
مع النفّري لم تقف ظاهرة التكرار عند وظيفة دلاليّة محدّدة كما نجد عمومًا في الأدب العربيّ، بل إنّه إلى جانب اهتمامه بالوظيفة الصوتيّة، والوظيفة الخطابيّة للتكرار، أسّس نصّ الكتاب كلّه معتمدًا على هذه الآليّة، حيث وظّفها في خدمة الترابط النصّي بين المواقف المتجاورة، غير المتسلسلة منطقيًّا أو من حيث الموضوع.
نلاحظ أنّ كلّ المواقف المنشورة في كتاب المواقف الذي حقّقه آربري، والمواقف التي نشرها الأب نويا في كتابه نصوص صوفيّة غير منشورة تبتدئ بجملة واحدة متكرّرة: «أوقفني». وهذه الجملة تشكّل صلة الوصل الأساسيّة التي تجعل هذه النصوص أجزاء من نصّ كبير واحد، يحمل رؤيا فكريّة – صوفيّة واحدة.
تكرار كلمة «أوقفني» في بداية كلّ موقف يسهم أيضًا في خلق الطبيعة الدراميّة للكتاب، إذ إنّها تعلن دائمًا عن انتقال من زمكانيّة إلى أخرى، وتشير إلى الشخصيّتَين اللتَين تتفاعلان في النصّ، وإلى نمط العلاقة بينهما؛ فهما مترافقتان دومًا، لكن أحدهما قائد والآخر مقود، القائد مستتر والمقود هو الراوي. عندما تتكرّر الجملة في بداية كلّ موقف يؤكَّد على العلاقة بنفس القدر الذي يستفيد الكاتب منه في استمرار الفعل الكتابيّ، وفي تحقيق التماسك البنيويّ للكتاب.
لا يقتصر التوظيف البنيويّ للتكرار على ربط المواقف المتجاورة فحسب، بل إنّ الكاتب ينقل الآليّة نفسها إلى داخل النصوص/ المواقف. فكما أن لا رابط منطقيًّا يربط بين المواقف، فإنّ الجمل في داخل الموقف نفسه لا تتواصل دائمًا منطقيًّا أو موضوعًا. وبذلك، يحتاج النفّري إلى صيغة لغويّة بديلة تقوم بمهمّة بناء النصّ، فكان التكرار هو الوسيلة التي اختار، إذ نجده يكرّر في كلّ موقف جملة: «وقال لي»، التي تجزّئ النصّ، من ناحية، وتبني فسيفساء المعنى الشامل للنصّ من ناحية أخرى، وذلك من خلال الأفكار التي تطرحها جمل القول المتجاورة. فالتكرار، في هذا الموضع، أساسيّ في تشكيل النصّ كصورة للفكر.
تمثيلاً لهذه الفكرة، نورد الموقف الآتي:
(1)أوقفني وقال لي:أظهرت كلّ شيء، وأدرأت عنه، وأدرأت به عنّي.
(2)وقال لي: إذا نظرتَ إليّ أثبت كلّ شيء، فقد آذنتك بمواصلتي.
(3)وقال لي: كلّ له علامة ينقسم بها وتنقسم به.
(4)وقال لي: إذا كان إليّ المنتهى سقط المعترض.
(5)وقال لي: لا يكون إليّ المنتهى حين تراني من وراء كلّ شيء.
(6)وقال لي: إثباتي لا يمتحى به ولا بي، إنّي أنا الحكيم المتقن على علم ما وضعت.
(7)وقال لي: انظر إليّ ولا تطرف، يكن ذلك أوّل اجتهادك فيّ.
(8)وقال لي: ابنِ أمرك على الخوف، أثبته بالهمّ؛ ولا تبنِ أمرك على الرجاء، اهدمه إذا تكامل العمل.
(9)وقال لي: إذا أذهبتك عن الأسماء آذنتك بحكومتي.29
نلاحظ تكرار جملة «وقال لي»، في بداية كلّ جملة، فإذا نظرنا إلى الجمل، لا نجد دائمًا علاقة لغويّة منطقيّة بين جملتَين متتاليتَين، إذ إنّ ما يربط بينهما هو مبدأ التجاور لا مبدأ التسلسل (انظر العلاقة بين الجمل: 1و2؛ 2و3؛ 3و4؛ 5و6؛ 6و7؛ 7و8؛ 8و9). إذًا، في التكرار تعويض عن ميزة هامّة هي الربط السببيّ، فقد أدّت الجملة «وقال لي» مهمّة الفصل والوصل بين الجمل.
على المستوى الخطابيّ، تساهم جملة «وقال لي» في كلّ تكرار جديد لها بالتأكيد على العلاقة التخاطبيّة بين القائل والمقول له، وتؤكّد على سلطة الصوت الإلهي – وفق الدلالة الصوفيّة. فهو الذي يقول دائمًا، وهذا غير مُغفَل خطابيًّا، بل إنّ المخاطَب دائم التشديد عليه.
على المستوى الصوتي، تثير الجملة في نفس المستمع الذي لا يعرف القائل – أي أنّه مجهول بالنسبة له – شيئًا من الرهبة، حيث يأتي الصوت بكلّ هذا الكلام المثير معرفيًّا وفكريًّا دون أن يظهر صاحبه؛ وفي هذا خدمة للفكرة الصوفيّة المعبّر عنها.
استخدام «وقال لي» في كلّ من المواقف جاء متفاوتًا من حيث العدد، وذلك حسب طول وقصر الجمل من جهة، وطول وقصر نصوص المواقف من جهة أخرى. في القائمة التالية سنرى كيف يتوزّع تكرار الجملة بناءً على شريحة من المواقف المختارة، وهي المواقف التي يتراوح طولها بين خمسة أسطر وخمسة عشر سطرًا.
تكرار جملة «وقال لي» في شريحة مختارة من المواقف
(1)
رقم الموقف (2)
اسم الموقف (3)
عدد الأسطر (4) عدد تكرّر “وقال لي”
في بدايات الأسطر (5)النسبة المئويّة:
(4)/(3)* 100
6 البحر 15 10 66.6 %
16 الموت 12 5 41.6 %
19 الرفق 11 7 63.6 %
22 لا تطرف 11 10 90.9 %
30 ادعني ولا تسألني 8 8 100 %
31 استوى الكشف والحجاب 11 11 100 %
38 حقّه 14 5 35.7 %
39 بحر 5 1 20 %
40 هو ذا تنصرف 5 2 40 %
41 الفقه وعين القلب 8 3 37.5 %
42 نور 8 2 25 %
43 بين يديه 9 2 22.2 %
44 من أنت ومن أنا 10 3 30 %
59 حقّ المعرفـة 13 4 30.7 %
نرى أنّ نسبة تكرار الجملة «وقال لي» في أسطر كلّ من المواقف في القائمة (1)، تتفاوت بين 100% وبين 20 %. وهذا التفاوت يتأثّر، بالدرجة الأولى، بطول جمل القول أو قصرها. فكما أسلفنا، لا يبدأ النفّري أيّة فكرة جديدة دون أن يباشر بـ»وقال لي»، ولكن كلّما طالت جملة القول احتاجت إلى امتداد أوسع، فكثرت السطور.
هذه الميزة منحت النصّ، على المستوى الإيقاعيّ، تنوّعًا وتدفّـقًا يغنيه ويجذب القارئ. فإنّ استخدام الجملة ليس روتينيًّا ثابتًا في كلّ المواقف بل هو متغيّر من موقف إلى آخر، وهذا يتلاقى مع قصر الجمل وطولها – في خلق التجدّد الدائم لدى المتلقّي في رحلته عبر النصّ.
استعمل النفّري التكرار في الكتاب ككلّ من خلال جملة «أوقفني»، وفي كلّ من المواقف من خلال جملة «وقال لي»، فوجدنا أنّ التكرار هو قيمة بنائيّة، بل حجر الأساس الذي بني عليه النصّ. لكنّ النفّري لم يغفل، في استخدامه التكرار، جمل القول نفسها؛ فهو يُكثر في مواقفه من الاستعانة بالتكرار لخدمة المعنى. ولا نستغرب أن يكون استخدام التكرار في جمل القول قد تولّد من الروح الخطابيّة للنصّ عامّة، إذ يقوم الصوت المتكلّم (الذات الإلهيّة – صوفيًّا) بترسيخ فكرته وتأكيدها عبر التكرار، وهو أسلوب «إلهيّ» نجده في القرآن الكريم، كما سبق وأشرنا في بداية حديثنا عن التكرار.
مثالًا على ذلك، نرى في نهاية الموقف الثاني «موقف القرب» كيف يخاطب الصوت الإلهيّ الأنا المتكلّم:
وقال لي: تعرّفت إليكَ وما عرفتني ذلك هو البعد، رآني قلبك وما رآني ذلك هو البعد.
وقال لي: تجدني ولا تجدني ذلك هو البعد، تصفني ولا تدركني ذلك هو البعد، تسمع خطابي لك من قلبك وهو منّي ذلك هو البعد، تراكَ وأنا أقرب إليك من رؤيتك ذلك هو البعد.30
تكرار جملة «ذلك هو البعد» فيه تأكيد على فحوى الكلام من ناحية، وهو يخدم الجانب الصوتي والإيقاعيّ في النصّ، وذلك على ذات النسق الذي يمكن أن نجده في القرآن الكريم31، ولكن مع خصوصيّة ما في أسلوب النفّري.
نموذج آخر لهذا النوع من التكرار نجده في المقطع التالي من الموقف 67، «موقف المحضر والحرف»، عندما يقول:
وقال لي: الحرف فجّ إبليس.
وقال لي: بقي علم بقي خطر، بقي قلب بقي خطر، بقي همّ بقي خطر.
وقال لي: معناكَ أقوى من السماء والأرض.
وقال لي: معناك يبصر بلا طرف ويسمع بلا سمع.
وقال لي: معناك لا يسكن الديار ولا يأكل من الثمار.
وقال لي: معناك لا يجنّه ليل ولا يسرح بالنهار.
وقال لي: معناك لا تحيط به الألباب ولا يتعلّق بالأسباب.
وقال لي: هذا معناك أنا خلقته، وهذه أوصافه أنا جعلته، وهذه حليته أنا أثبتّه، وهذا مبلغه أنا جوّزته.32
تتّضح من هذا النموذج، سيرورة نموّ نصّ النفّري؛ فالتكرار يشكّل الحيّز الأكبر في ما يقول، وهو يعتمد عليه اعتمادًا كلّيًّا: 1- تكرار جملة «وقال لي». 2 – تكرار الفعل «بقي». 3 – تكرار الجملة «بقي خطر». 4 – تكرار «معناك» في بدايات خمس جمل متتابعة. 5 – تكرار الضمير «أنا» في جملة القول الأخيرة. والتكرار لم يكن وحده هو العامل الإيقاعيّ والفنّيّ في هذا المقطع، بل إنّه يدعّمه من خلال ما سأسمّيه لاحقًا تكرار القالب (وهو ما قد يشبه، في بعض نماذجه، السجع أو الفواصل في النثر العربيّ القديم إنّما على هيئة لها خصوصيّتها عند النفّري). كما أنّه لا بدّ من الانتباه إلى «التقفية» بين كلمتَي «الثمار» و»النهار» في الأسطر 6 و- 7؛ ونهايات الجمل في الأسطر 9 و- 10.
للتكرار في كتاب المواقف حضور واسع وواضح، وذلك لا ينحصر في ما أشرنا إليه، بل إنّ هنالك استخدامات مغايرة وجديدة للتكرار، كتكرار الصوت/ الحرف، وتكرار قوالب نحويّة محدّدة، في الكتاب ككلّ أو في داخل المواقف.
التجانس الحرفي (Assonance) هو من الظواهر التي يمكننا شملها في حديثنا عن التكرار؛ حيث يتكرّر الصوت لأهداف إيقاعيّة موسيقيّة في الكلام.33 والنفّري لم يوفّر هذا الأسلوب، كذلك، في صياغة خطابه في المواقف، ومن ذلك نعرض النموذج التالي:
أوقفني في وصف القوّة وقال لي: هي وصف من أوصاف القيوميّة.
وقال لي: القيوميّة قامت بكلّ شيء.
وقال لي: بين ما قام بالقوّة وما قام بالقيوميّة فرق.
وقال لي: سرى وصف القوّة في كلّ شيء فيه قام على مختلف القيام. ولو سرى في وصف القيوميّة لرفع المختلف وقام به على كلّ حال.
وقال لي: القيوميّة محيطة لا تخرق.
وقال لي: القوّة ماسكة والقيوميّة مقلّبة، والتقليب مثبت ماحٍ.
وقال لي: قوّة القويّ وضعف الضعيف من أحكام وصف
القوّة.34
كما نرى، فالكلمات التي احتوت على الحرف «ق» في المقطع السابق من «موقف القوّة» هي 30 كلمة من مجموع 77 كلمة أي بنسبة 39 %. هذا التكرار الصوتي يهيمن على القارئ موسيقيًّا، ويوصله إلى الحالة الشعوريّة التي يحاول الكاتب التعبير عنها في هذا النصّ، فحرف القاف هو أحد الحروف الحلقيّة التي تتميّز بالقوّة والانفجاريّة35. من هنا، يمكننا اعتبار الظاهرة تنتمي إلى ما يسمّى الأونوموتوبيا 36(Onomatopoeia)، إذ إنّ القوّة التي يحملها حرف القاف توظّف هنا للتعبير عن المعنى، فالموقف موقف القوّة والصوت هنا يعبّر عن هذه القوّة أيضًا.
لم يقف استخدام التكرار عند الكلمات أو الحروف، بل تعدّى ذلك من خلال تكرار القوالب اللغويّة، وإن كنّا قد أشرنا فيما سبق إلى التنوّع في الجمل المستعملة وطريقة تركيبها، ممّا ينشئ دلالات منسجمة مع مشروع النفّري، فإنّنا لا بدّ أن نشير هنا إلى كيفيّة بناء الجملة نفسها، سواء كانت طلبيّة أو تقريريّة أو شرطيّة أو غير ذلك. فقد وظّف الكاتب آليّة التكرار في مبنى الجملة بتنوّع كبير.
ننظر إلى المقطع الآتي لنتبيّن القصد:
وقال لي: قف في معرفة المعارف، وأقم في معرفة المعارف تشهد ما أعلمته؛ فإذا شهدته أبصرته، وإذا أبصرته فرّقت بين الحجّة الواجبة وبين المعترضات الخاطرة، فإذا فرّقت ثبتّ، وما لم تفرّق لم تثبت.
…
وقال لي: كلّ مشار إليه ذو جهة، وكلّ ذي جهة مكتنف، وكلّ مكتنفٍ مفطون، وكلّ مفطون متخيّل، وكلّ متخيّل متجزّئ، وكلّ هاوٍ ماسّ، وكلّ ماسّ محسوس، وكلّ فضاء مصادف.37
في الفقرة الأولى، نلاحظ كيف يبني النفّري جملة القول من خلال الجمل الشرطيّة المتعاقبة، تربط بينها حروف العطف، حيث يكرّر هذا القالب اللغويّ (الشرط) ثلاث مرّات، وقبلها كان قد كرّر قالبًا آخر هو الجملة الطلبيّة المبدوءة بفعل أمر، كرّرها مرّتَين. أمّا في الفقرة الثانية، فهو يعرض جملاً تقريريّة، لا يربط بينها أي رابط لغويّ، وإنّما تتسلسل منطقيًّا، من خلال تكرار القالب: «كلّ س ص» (س = موقع كلمة، ص = موقع كلمة أخرى)، وأحيانًا، كما نلاحظ، قد تحلّ الكلمة في الموقع «ص»، في الموقع «س» في الجملة التالية. هذا الأسلوب نجد له حضورًا على امتداد المواقف، بشكل واضح.
القالب المتكرّر، قد يشتمل على سجع وقد لا يشتمل، هذا مرتهن للنصّ، ولرؤية الكاتب. فوجود السجع الرصين غير المتكلّف يغذّي النصّ إيقاعيًّا وصوتيًّا في آن؛ كما في قول الكاتب:
وقال لي: تب إليّ بمجامع علمك، واجتمع عليّ بأقاصي همّك.
وقال لي: اجعل موعظتي بين جلدك وعظمك، وبين نومك ويقظتك.
وقال لي: أعلن توبتك بالنهار بالصيام، وأعلن توبتك بالليل بالقيام.38
نلاحظ أنّ القالب الواحد يتكرّر في جمل القول الثلاث أعلاه، ولكن ما يميّز هذه الجمل عن سابقاتها، أنّ تكرار القالب، في كلّ جملة قول يختلف عن الأخرى في أنّ الحرف الأخير الذي تنتهي به الجمل الداخليّة يكون هو نفسه، كما أنّ عدد الكلمات يكون متوازيًا بين الجمل المشكّلة جملة القول.
خلاصة القول، إنّ النفّري وظّف عديدًا من الأساليب ليحقّق هدفه الخطابيّ والمعرفيّ في هذا النصّ. فهو يكتب نصًّا يجتهد كي يقرّب عالمَين متناقضَين: عالم القدرة الإلهيّة، وعالم البشر، ويحاول في تجربته تفكيكَ الثنائيّة التي وجد عليها العالم، عبر الفناء بالذات العليا والتوحّد معها. الخطاب هنا يسعى لوصف لحظة فناء ذات العبد/المريد في النور الإلهي؛ فإنّه بالرغم من تشديد لغته على الثنائيّات، فهي تسعى إلى تجاوز هذه الثنائيّات نحو الوحدة. وهذه اللغة التي ما كانت تصرّح بل تومئ، هي موضوع مهمّ للبحث نتناوله في مقال آخر.
خلاصة
يستخدم الكاتب تنوّع الضمائر بطريقة تعكس المعنى المطروح، وقد كشف هذا الاستخدام عن مركز السلطة الخطابيّة وتأثيراتها، ممّا يتوافق مع الدلالة الصوفيّة للنصّ. إذ يظهر الضمير الغائب والمستتر معبّرًا نصّيًّا عن فكرة الألوهة، أمّا موقع المخاطَب – الذي يشترك فيه الراوي مع القارئ – فنجده يتميّز بالخضوع المتناهي للضمير الغائب المستتر، وهو تعبير عن الفناء الكامل في الذات الإلهيّة وكسر لكلّ ثنائيّة.
تتنوّع الجمل المستعملة في نصوص المواقف، بين الإخبار والإنشاء. ولقد أسهم هذا التنوّع في الكشف عن حاجة الأنا المتكلّم في النصّ إلى الانقطاع عن البنية المعرفيّة التي تعتمد الجدل والثنائيّة، وإنشاء بنية معرفيّة جديدة تشكّلها الرغبة بخلق كينونة وجوديّة جديدة محورها توحّد الله مع السوى؛ فلا أنا ولا آخر. الإخبار يبني القطيعة مع العالم، أمّا الإنشاء فيعمل على اختراع البدائل.
يشكّل التكرار أداة لغويّة أساسيّة في صياغة النصّ وبنائه دلاليًّا. إذ نقل الحالة المعماريّة للنصّ من النموذج المنطقيّ الزمنيّ إلى النموذج المشهديّ التجاوريّ الفسيفسائيّ. وبذلك، صار النصّ أكثر إعمالاً للحواس، وأكثر استدرارًا للخيال. فالربط بين المواقف لا يستوجب تدخّل العقل المنطقيّ، بل يحتاج إلى تصوّر للفسيفساء التي تشتمل كافّة الأجزاء. كما أنّ التكرار، بوصفه بنية لغويّة إقناعيّة، خدم حاجة الكاتب في التعبير عن كلام الضمير الغائب المستتر في النصّ، باعتباره سلطة تمارس تأثيرًا. بالإضافة إلى أنّ الحروف والألفاظ المكرّرة تساهم في التأثير على المتلقّي على المستوى الصوتيّ والإيقاعيّ.