سأل محاورُ عبد الرحمن بدوي «الفلاسفة الغربيون _ بعد سارتر_ يقولون بموت الفلسفة ويجيب بدوي: هؤلاء جميعهم ماركسيون، لا يمكن أن يكون الواحد ماركسياً وفيلسوفاً في آن واحد. وماركس أول أعداء الفلسفة . وله كتاب هو وانغلز عنوانه بؤس الفلسفة» (1).
ماركس أول أعداء الفلسفة، حكم يصدر عن شخص نظر إلى نفسه فيلسوفاً وحيداً في عالم العرب. ويتحجج بصحة حكمه بأن لماركس وانغلز كتابًا عنوانه بؤس الفلسفة .. «الفيلسوف الوحيد» في دنيا العرب لا يدري أن «بؤس الفلسفة» كتاب ألفه ماركس وحده دون شراكة مع انغلز، «الفيلسوف الوحيد» لم يدر أن بؤس الفلسفة لماركس هو رد على فلسفة البؤس لبرودون، الاشتراكي الفرنسي، لم يدر صاحبنا أن الكتاب لا علاقة له بنقد الفلسفة، وإن هو إلا كتاب في الاقتصاد السياسي .
لا يتفرد بدوي برأي مفاده أن ماركس شن هجوماً على الفلسفة، بل هو رأي شائع لدى أعداء ماركس من غير الفلاسفة ولدى بعض أنصاره السياسيين.
لاشك أن ماركس لم يمُتلك عربياً بوصفه فيلسوفاً بل داعية شيوعياً ومنظراً ثورياً بامتياز، رغم أن ماركس الفيلسوف حاضرٌ فيما ترجم من كتبه إلى العربية . والأقرب إلى فهم سبب هذا الغياب حضور لينين العاصف في الحركة اليسارية العربية، وانتشار _الماركسية _ اللينينية .
إن يكون ماركس ناقداً للفلسفة فهذا حق، لكنه فيلسوف ناقد لفلسفة عصره وبخاصة هيغل والهيغلية، ولقد أصاب الفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر حين قال : « أنفق ماركس عمره في صراع مستمر مع هيغل ليدك حصونه، ولينتزع منه ما يخصه ويتفرد به، أو إن شئت لينقذ ما يمكن إنقاذه بعد اندحار ذلك المذهب الفلسفي المطلق »(2) .
ترى ما الذي تفرد به ماركس بعد أن دك حصون هيغل ؟ .
قبل الإجابة على سؤال كهذا، علينا أن نشير إلى أن علاقة ماركس بالفلسفة علاقة مبكرة جداً، تبدأ منذ وصوله إلى برلين لمتابعة الدراسة في جامعة بون، وكان ذلك عام 1836، أي أن ماركس آنذاك كان قد بلغ الثامنة عشرة من عمره، وجد ماركس الشاب نفسه في خضم الصراعات الفكرية . وكانت أفكار كانط وفيشته وشلنغ وهيغل بخاصة مسيطرة على عقول الأكثرية من المثقفين الألمان آنذاك .
الشاب دارس الحقوق يعترف بولادة أن المرء لا يستطيع _ بدون الفلسفة الدخول إلى أعماق الأشياء (3).
لقد صار ماركس هيغلياً وعضواً في نادي الدكاترة هذا النادي الذي يضم الهيغليين الشباب، وتوطدت علاقة صداقة مع برنو باور وأدولف روتنبرغ .
وفي عام 1841 يدافع ماركس عن أطروحة الدكتوراه تحت عنوان الفلسفة الطبيعية بين ديمقريطس وأبيقور، مدافعاً عن الحاد أبيقور، وبعد ذلك تبدأ حياة ماركس الفلسفية، متحرراً شيئاً فشيئاً من الهيغلية عبر النقد المتواصل لها .
ماركس ينقد فلسفة بعينها ولا ينقد الفلسفة، إنه الآن وجهاً لوجه أمام هيغل، فليذهب إلى النبع مباشرة .
دراسة ماركس للحقوق جعلت من مشكلة الدولة والحق مشكلة أثيرة لديه، ومن غير الفلسفة بقادرة على أن تقدم الدولة المعقولة .
يكتب ماركس بشكل مبكر مايلي : « إما أن الدولة المسيحية تتطابق مع مفهوم الدولة بوصفها تحققاً للحرية المعقولة، فيكفي الدول، والحال هذه، أن تكون دولة معقولة لكي تطبق تكون دولة مسيحية، ويكفي والحال هذه أيضاً، استخلاص الدولة من معقولية العلاقات البشرية، وهذا أمر تقوم به الفلسفة، وإما أن تكون أن دولة الحرية المعقولة لا يمكن استخلاصها من المسيحية، فإن المسيحية لا ترغب في دولة سيئة، ولكن الدولة بوصفها تحققاً للحرية المعقولة هي دولة سيئة.. بوسعكم أن تحلوا هذه المعضلة كما يطيب لكم، ولكن يجب أن تعترفوا بأنه يجب بناء الدولة لا على أساس الدين بل على أساس عقل الحرية »(4).
ها نحن أمام نصٍ لتلميذٍ نجيب لهيغل، ماركس يدافع عن دولة معقولة والدولة المعقولة هي دولة الحرية، دولة تعين الحرية، الأصل إذاً في قيام الدولة المعقولة يقع خارج المسيحية، ولا تنتج عن المسيحية، إنها ناتجة عن التاريخ الواقعي، الذي هو مسار وعي الحرية لذاتها، فمعيار الدولة المعقولة هو الحرية وليس الدين والدولة السيئة ليست متناقضة مع المسيحية بل متناقضة مع معيار الحرية، إذ ذاك تكون الدولة الجيدة هي الدولة التي تعين الحرية . وإذا كانت المسيحية ترغب بدولة جيدة فالدولة الجيدة لا تكمن في مسيحيتها بل في معقوليتها الدولة تعيناً للحرية هي الدولة المعقولة.
فالحرية التي تعي ذاتها في الدولة هي جزءٌ من وعي الحرية لذاتها في التاريخ، والحرية التي تعي ذاتها في دولة تحقق معقولية الدولة لأن الدولة المعقولة هي دولة الحرية وهذا معنى الدولة انتصار عقل الحرية .
إن الدفاع عن معقولية دولة الحرية هو دفاع، بنفس الوقت، عن الفلسفة وهجوم على اللاهوت، أو الفهم اللاهوتي للتاريخ بعامة وللدولة بشكل خاص، فالفلسفة تنظر إلى الدولة بعيون بشرية لا بعيون إلهية . وهذا ما أكده ماركس حين قال : «لقد فعلت الفلسفة بالسياسة ما فعلته الفيزياء والرياضيات والطب وكل علم في ميدانه، وقد كان ميكيافليي وكمانيلا، وفيما بعد هوبز واسبينوزا وهوغو وغروسيس وحتى روسو و فيشته وهيغل قد شرعوا ينظرون إلى الدولة بعيون بشرية، ويستخلصون قوانينها الطبيعية من العقل والتجربة وليس من اللاهوت».
إن ماركس بها المعنى الوريث لكل انجازات الفلسفة الحديثة، أولاً : والفلسفة الحديثة هي ثورة في حقل السياسية كما كانت العلوم ثورة في حقل الطبيعة، ثانياً : وكما تخضع الطبيعة لقوانين موضوعية، تخضع السياسة هي الأخرى لهذه القوانين، والفلسفة هي الأقدر على كشف هذه القوانين . ثالثاً : وكما كانت العلوم الطبيعية والرياضية قطعاً مع الفهم اللاهوتي لها، قطعت الفلسفة مع اللاهوت في نظرتها إلى السياسة.
ففي الوقت الذي ينطلق اللاهوت من ترسيمات دينية في وعي العالم تنطلق الفلسفة من التجربة والعقل، لقد جعلت الفلسفة من موضوعات الإنسان والدولة موضوعات إنسانية، خاضعة للتأمل العقلي، وهي إذ فعلت ذلك، حررت الإنسان وتاريخه من حمولاتهما الزائفة، من حمولاتهما السماوية، وحررت العقل نفسه إذ راح العقل الحر والمتحرر ينظر إلى ذاته في التجربة البشرية .
يرى ماركس، في هذه اللحظة من دفاعه عن الفلسفة، أن هناك تناقضاً بين العقل الزمني والعقل الروحي .
الفلسفة هي العقل الزمني فيما اللاهوت هو العقل الروحي، العقل الزمني وعي تاريخي، زمني واقعي، اللاهوت وعي لا تاريخي لا واقعي . الزمني ينطوي على كل ثراء العالم المعيش، السياسة، الاقتصاد، الفكر، الزمني هو الواقع نفسه، أنه العقل البشري في تعينه الواقعي. فيما العقل الروحي، هو العقل اللاهوتي المنفصل عن العالم والمغترب عن البشر .
هذا لا يعني أن فاعلية العقل الزمني أكثر حضوراً في العالم من فاعلية العقل الروحي _ اللاهوتي .
وآية ذلك أن وعي البشر عموماً هو وعي روحي، ولكن ذلك لا يعني أبداً أن تتنازل الفلسفة أمام العقل الروحي اللاهوتي الذي يجعل من العالم مغترباً عن طبيعته، لكن الفلسفة كوعي زمني، تجد نفسها في عزلة من حيث انشغال البشر بالحياة اليومية والتي تعكسها صحافة عصره المليئة بضجيج الأحداث الآنية_ يكتب ماركس عن عزلة الفلسفة قائلاً : «فالفلسفة إذا نظر إليها في تطورها المنهجي هي غير شعبية، فنشاطها الملغز المنثني على نفسه يبدو للعين الجاهلة، تشاغل غريب بقدر ما هو محروم من القيمة العلمية … ولهذا فالفلسفة لم تخط البتة الخطوة الأولى لكي تبادل الرداء التقشفي للكاهن بالرداء الخفيف المألوف للصحافة» (5).
إن الفلسفة تجاوز اللاهوت وللوعي العالمي اليومي الذي يميز الصحافة، لأن جهد الفيلسوف _ كما يرى ماركس يشابه جهد الفكر الذي يبني سكة الحديد بأيدي العمال، الفلسفة فكر مبدع، والفيلسوف ثمرة عصره لا يظهر كالفطر، وتلك فلسفة حقيقية هي الخلاصة الفكرية لعصرها، إنها امتلاك حقيقي للعالم الواقعي .
يستخدم ماركس مفهوم « الفلسفة الحقيقية» ولا يعني بها سوى الفلسفة التي تجعل من العالم الواقعي موضوعاً لها .
وعندها تصير الفلسفة فلسفة العالم، ويتحول العالم إلى فلسفة، وهكذا تتحقق وحدة المعرفة والوجود، غير أن الفلسفة تجد نفسها مجبرة على مقارعة أعدائها، وأعداء الفلسفة ليسوا أهل اللاهوت فقط وإنما الصحافة الرجعية التي تهاجم الفلسفة، لأن الفلسفة تهاجم اللاهوت .
وماركس ينبري لمواجهة هجوم الصحافة الرجعية على الفلسفة قائلاً : « الفلسفة تتحدث عن المواضيع الدينية والفلسفية بشكل مغاير عما تتحدثون، انتم تتحدثون من غير أن تدرسوا، وهي تتحدث بعد أن تدرس، أنتم تتوجهون إلى الهوى وهي تتوجه إلى العقل، أنتم تشتمون وهي تعلم، أنتم تعدون بالسماء والأرض وهي لا تعد بشيء سوى الحقيقة أنتم تطلبون أن يؤمن الناس بإيمانكم، وهي لا تطلب إلا أن يؤمنوا بنتائجها، إنها تطلب الفحص بواسطة الشك.أنتم تروعون وهي تُطمئن، الفلسفة، في الحقيقة، تعرف العالم بما يكفي لكي تعرف أن نتائجها لا تتعلق بالبحث عن اللذة والأنانية لا في السماء ولا في الأرض »(6).
ها هو ماركس يقدم التعريف بالفلسفة، أو قل يقدم لنا مهمة الفلسفة وضرورتها، أو الفلسفة كما يجب أن تكون .
فالفلسفة درس ونظر، أنها تناول موضوعها بشكل مغاير عن تلك الأفكار المسبقة التي ينطوي عليها اللاهوت، أو الوعي العامي الساذج، سلاحها العقل الطليق المتحرر من الهوى المنفلت الذي يصدر عن المصالح . فحين يبرز ماركس الاختلاف بين العقل والهوى، وتوحيده بين العقل والفلسفة، فانه يجعل كل ما هو غير عقلي تزييفاً للعالم، فالذي ينطلق من الهوى إنما يخاطب أهواء الناس، فيما الفلسفة تخاطب عبر العقل عقل الإنسان، الهوى المناهض للعقل لا يكتفي بتزييف الوعي وإنما يعتدي على العقل وعلى الحقيقة ولا يضيف وعياً حقيقياً على وعي البشر، فيما الفلسفة وهي حرية العقل في تناول العالم، تُعلّم البشر لا نتائجها الفعلية بل وتعلمهم كيف يستخدمون العقل، هذا العقل الذي يهجس بالحقيقة والحقيقة فقط، وهاجس الحقيقة يجعل من الحقيقة مطلوبة لذاتها بمعزل عن نتائج حضورها في الحياة، ولا تطلب من البشر إلا الإيمان بنتائجها التي يقدمها العقل، وليس الإيمان المسبق الذي يصدر عن اللاهوت بادعاءاته بالخلاص السماوي أو الأرضي .
فالإيمان الصادر عن الفلسفة إيمان بالحقيقة العقلية، والحقيقة العقلية هي ثمرة العقل الذي يبدأ بالشك في المعرفة المسبقة، ليشرع من جديد في الوصول إلى اليقين المنـزه عن الأغراض، عن اللذة، عن الأنانية عن الوعود.
يبدو ماركس هنا سليل الفلسفة العقلية بدءاً من ديكارت واسبينوزا وانتهاءً بهيغل، سليل الفلسفة التي أكدت نفسها بالكوجيتو الديكارتي ونقد اللاهوت فلسفياً عند اسبينوزا وديالكتيك هيغل العقلي .
الفلسفة ببساطة هي العقل الذي يرتاد العالم بكل شجاعة، الفلسفة هي امتلاك العالم عقلياً .
إن الفلسفة بما هي وعي عقلي عصية على الفهم العالم، وإذا كان بعض الناس لا يهضمون الفلسفة الحديثة، ويموتون من عسر الهضم الفلسفي فذلك لا يشكل برهاناً ضد الفلسفة، تماماً كما أن انفجار المرجل البخاري، بين وقت وآخر، وقذفه بعض المسافرين في الهواء ليس برهاناً ضد الميكانيك .
إن مثال ماركس هذا يشير إلى أكثر من معنى . فالمعنى الأول أن الناس بسبب وعيهم اللاهوتي والعامي لا يفهمون الفلسفة، فالفلسفة إذاً نخبوية .
أما المعنى الثاني فيقوم في أن أخطاء بعض أشكال الوعي الفلسفي لا يعني أن الفلسفة لا تقدم الحقيقة للبشر .
لأن القول بأن علم الميكانيك يظل صحيحاً حتى وإن أنفجر المرجل البخاري، يعني أن الفلسفة تظل وعياً بالحقيقة حتى ولو كانت بعض نتائجها شاذة عن طبيعتها .
أما المعنى الثالث : فهو أن الفلسفة يجب أن يتعلمها الناس بوصفها علماً بالحقيقة وإلا ستظل مغتربة .
وفي معرض دفاعه عن الفلسفة في رسالته للدكتوراه يستشهد ماركس بنص مأخوذ من هيوم بالنسبة للفلسفة يجب الاعتراف بمكانتها السامية من كل الجوانب، ومن الاحتقار لها أن نجبرها على الاعتذار عن نتائجها، أن نجبرها على تبرير نفسها أمام كل فن وعلم لا تروق لهما الفلسفة وهنا نتذكر قصة الملك الذي أتهم بخيانة الدولة أمام رعاياه»(7).
الفلسفة لا تعتذر من نتائجها لأن نتائجها _ بالأصل _ قطع على الأذهان التي حشيت بالترسيمات الإيمانية التي يرددها الكاهن أمام رعاياه .
الفلسفة ذات مكانة سامية بسبب مكانة الحقيقة السامية . والحقيقة مطلوبة لذاتها، فلماذا نطلب من الحقيقة أن تبرر ذاتها، أمام فاقديها، لماذا نطلب من العقل الاعتذار والتبرير أمام الهوى الخائف من الحقيقة، والعقل سلطة مكتفية بذاتها، ولا يستمد سلطته إلا من ذاته .
ويتابع ماركس قائلاً:« والفلسفة مادامت تنطوي على كل العالم، والعالم قلبها بالحرية، مادامت قطرة دمٍ تجري فيه _( في القلب ) _ فإنها ستعلن دائماً مع أبيقور في وجه أعدائه: ليس عديم التقوى من ينكر آلهة الرعاع بل ذلك الذي يتوحد مع وجهة نظر الرعاع مع الإلهية »(8).
الفلسفة _ كما قلنا _ امتلاك للعالم دون زيف، امتلاك الحقيقة والسعي لامتلاكها، إنها العقل الطليق والحر والمتحرر، ولهذا فهي ترفض آلهة الرعاع وتنكرها، لأن الفلسفة _كما يقول هيدغر_ هي تقوى الفكر، وعديم التقوى هو ذلك الذي يسير وراء آلهة الرعاع فلماذا نطلب من الفيلسوف _من أبيقور_ الذي أنكر آلهة الرعاع، الاعتذار أمام الرعاع .
الفيلسوف هو برومثيوس الذي اعترف : إني أكره جميع الآلهات، ومأثرة الفلسفة أنها تكره جميع الآلهات الأرضية والسماوية .
هل هو إعلان لالولهية الإنسان ولسيادته؟ الإنسان وقد تحرر من كل الآلهات صار سيّد هذه الأرض، إنه يلغي عبوديته للآلهات .
ماركس الإنساني جداً، يصف أولئك الذين يحتفلون بتدني وضع الفلسفة بأرواح الأرانب، وتعيد الفلسفة ما قاله برومثيوس لخادم الآلهة : « لتعرف جيداً أني لن استبدل أبداً بيتي بخدمة عبودية، من الأفضل أن أكون مكبلاً بصخرة من أن أكون خادماً أميناً لزيوس، برومثيوس هو الشهيد النبيل والمقدس في تقويم الفلسفة »(9).
الفيلسوف هو برومثيوس الذي حمى الإنسان عندما أراد زيوس افناءه بالطوفان، هو الذي سرق قبساً من نور الشمس وخبأه في قصبته وأعطاه للإنسان، هو الذي خدع الإله زيوس عندما ذبح ثوراً ووضع لحمه وفمه وأحشاءه في جانب وغطاؤه بجلده ثم وضع في جانب آخر عظمه وشحمه، وطلب من الإله زيوس أن يختار، فانخدع زيوس باللون الأبيض واختار العظام وأعطى برومثيوس القسم الآخر للإنسان، برومثيوس هو الذي غضب عليه زيوس فقيده بصخرة وأرسل عليه نسراً يأكل من كبده كل يوم فيلتئم الكبد ليعود النسر إلى قضمه وتجديد آلام برومثيوس في اليوم التالي، برمثيوس هو سارق النار الإلهية من أجل خدمة الإنسان.
الفيلسوف هذا المتمرد الحر الذي يأخذ قبساً من الشمس _ الحقيقة_ ويضعها في خدمة الإنسان .
ماركس_ في هذه اللحظة من دفاعه عن الفلسفة هو فيلسوف الإنسان المتمرد، فيلسوف الحرية، لكنه متمرد على الوعي الزائف، على استبداد الوعي هذا بالإنسان، فتحرير الإنسان من الآلهة هو تحريره من العبودية، ومن غير الفيلسوف بمقدوره أن يحرر الإنسان ويقدم له قبساً من نور الشمس .
دفاع ماركس عن الفلسفة، يعني أولاً أن تكنس الفلسفة الدين من طريقها نحو الحقيقة، لأنه _ أي الدين _ الصورة المقدسة للتشوه.
لكن ماركس سيخطو خطوة أخرى نحو الحقيقة، عندما انتقل من نقد السماء إلى نقد الأرض
2- فلسفة ماركس ( نقد هيغل ) :
في صيف 1843 كتب ماركس «حول نقد فلسفة الحق عند هيغل» لم ينشر ماركس هذا النص في حياته، أما ما نشره فهو «مقدمة لنقد فلسفة الحق » هذه المقدمة كتبها عام 1843 ونشرها عام 1844.
في هذه المقدمة يشق ماركس طريقه نحو فلسفته، وقد كتب يقول : « فالفلسفة بعد أن فرغت من نقد الدين، وهو الصورة المقدسة للتشوه، الفلسفة بعد أن فضحت الصورة المقدسة للاغتراب، عليها أن تفضح الاغتراب الذاتي للإنسان في صورة غير المقدسة، وهكذا يتحول نقد السماء إلى نقد الأرض، ونقد الدين إلى نقد الحق، ونقد اللاهوت إلى نقد السياسة » (10).
اغتراب الإنسان في الحق والسياسة هو اغترابه الأرضي، وتحرير الإنسان من اغترابه الديني لحظة من لحظات التحرر يجب أن تتجاوز. ماركس هنا يتجاوز فيورباخ بالانتقال إلى الأرض .
نظرياً الاغتراب الديني في المحصلة النهائية هي اغتراب إنسان أرضي اغترابه في سلطة هي من صنعه، تماماً كاغتراب الإنسان في الحق والسياسة، في كلا الحالين الإنسان مشوه في الاغتراب بنوعيه.
ولكن إذا كان المدخل لتحرير الإنسان من اغترابه الديني يكمن في نقد اللاهوت فإن نقد اغتراب الإنسان الأرضي في الحق والسياسة يكمن في نقد الفلسفة التي تشرعن الاغتراب الأرضي، لماذا ينتقل ماركس لنقد الفلسفة المشرعنة للاغتراب ؟ لسبب بسيط ألا وهو أن الألماني يعيش تاريخه القادم، أو يعيش مستقبله في الفلسفة .
ألمانيا تعيش العصر فلسفيا دون أن تعيشه واقعياً.
والفلسفة الألمانية ليست سوى استمرار الواقع الألماني على مستوى الفكر، فنقد الواقع إذاً هو نقد صورته المجردة أي الفلسفة الألمانية .
ليس نقد الفلسفة الألمانية هو نقد الفلسفة بعامة، بل على العكس هو صياغة فلسفة نقدية للعالم عبر نقد الفلسفة الألمانية التي تعكس الواقع الألماني الذي يرفضه ماركس . يقول ماركس :« إن الفلسفة الألمانية حول الحق والدولة هي التاريخ الألماني الوحيد الراهن والرسمي، ولهذا على الشعب الألماني أن يضم تاريخه المتخيل هذا الفلسفة، إلى الأنظمة القائمة وأن لا يسلط النقد على الأنظمة القائمة فقط وإنما على استطالتها المجردة»(11).
الفلسفة الألمانية _ هيغل بشكل خاص_ هي الصورة المجردة للنظام القائم، للمجتمع الألماني، فنقد فلسفة المجتمع هو نقد المجتمع، أو نقد المجتمع لا يستقيم إلا بنقد صورته المجردة في الفلسفة .
بل إن الألماني يتجاوز واقعه عبر الفلسفة، يتحقق في الفلسفة ما يعجز عن تحقيقه في الواقع، عبر الفلسفة يحقق ما حققه الفرنسيون من خلال ثورتهم البرجوازية، وتحطيم عالمهم القديم، وبدل أن يحطم الألماني واقعه في مستوى العقل الواقعي ينتج فلسفة حول الحق والدولة، الدولة المتصورة تناقض الدولة القائمة غير المكتملة في الواقع، فلسفة الدولة تعبير عن تعفن الدولة القديمة »(12).
من هنا نفهم الجهد الذي بذله ماركس في نقد هيل وفلسفة الحق الهيغلية بخاصة، كتب ماركس يقول : « كان أول عمل قمت به لأبدد الشكوك التي كانت تحاصرني هو مراجعة نقدية لفلسفة الحق عند هيغل، وهو عمل صدرت مقدمته في الكتاب السنوي الألماني _ الفرنسي المنشور في باريس 1844، وأدت أبحاثي إلى نتيجة أن العلاقات الحقوقية، ومثلها في ذلك أشكال الدولة، لا يمكن أن تفهم بذاتها، ولا بالتطور المزعوم للروح الإنسانية، وإنما تغوص جذورها على العكس من ذلك، في شروط الحياة المادية، والتي كان هيغل على غرار الفرنسيين والانكليز في القرن الثامن عشر، يفهم مجملها تحت اسم المجتمع المدني وأنه يجب البحث في تشريح المجتمع المدني بدوره في الاقتصاد السياسي»(13).
الخلاف مع هيغل يبدأ من هنا، من فهم الدولة . ماركس لا يوافق هيغل على فهم الدولة بوصفها ثمرة لتعين الروح في وعيها لذاتها، ولا بوصفها تجاوز للمجتمع المدني، الذي هو الآخر لا يفهم إلا انطلاقاً من الاقتصاد السياسي، أي من تطور العلاقات الرأسمالية نفسها، تجاوز الدولة الألمانية، تجاوز الشروط التي أنتجتها، تجاوز تعفن البرجوازية الألمانية وصورتها في الهيغلية .
يخطو ماركس خطوة أخرى في نقد المجتمع البرجوازي الألماني في المخطوطات عام 1844 .
نصان في المخطوطات يخدمان ما نحن بصدد إبرازه، الأول بعنوان سلطة المال في المجتمع البرجوازي، والثاني بعنوان «نقد هيغل وفلسفته بشكل عام ».
سلطة المال في المجتمع البرجوازي تزييف كامل للحياة، وفي نقده لسلطة المال يستعير ماركس نصين أحدهما لغوته والآخر لشكسبير، النصان يهجوان المال، وماركس يشارك في هذا الهجاء .
المال يشده الإنسان، يجعله ليس هو، المال يقلب الأمور رأساً على عقب .. أنا مالك المال، المال صار قوتي صفاتي الجوهرية . إنه الآن عوضاً عني كما أنا، أنا قبيح ولكن بفضل مالي أستطيع أن أشتري أجمل امرأة، أنا لاشيء، عديم الاستقامة بلا ضمير بلا خفة روح (خفة دم) ولكن المال محترم، إذاً أنا صاحبه محترم .. كل أشكال عجزي يحولها المال إلى عكسها، إنه يؤاخي بين المستحيلات المال ذو قوة إلهية، وما لا استطيعه كانسان استطيعه بفضل المال، المال وسيلة وسلطة كليتان خارجيتان لا تأتيان من الإنسان،
كإنسان من المجتمع كمجتمع، وسيلة وسلطة المال يحولان التصور إلى واقع، والواقع إلى محض تصور، يحولان قوى الإنسان الطبيعية والواقعية والجوهرية إلى تصور محض، مجرد وبالتالي إلى نقائض إلى خيالات مؤلمة .. إنه _ أي المال_ الفساد العام للأفراد.. إنه ضد الفرد، ضد الروابط الاجتماعية، المال يحول الوفاء إلى خيانة، والحب إلى بغض، والبغض إلى حب، والفضيلة إلى رذيلة، والرذيلة إلى فضيلة، والخادم إلى سيد، والسيد إلى خادم، والغباء إلى ذكاء، والذكاء إلى غباء، إنه ببساطة العالم المقلوب .
قلنا أن ماركس يهجو المال وقدرته العجيبة على تزييف البشر، لكن هجاء كهذا أخلاقي أساساً، هجاء لفعل المال اللاأخلاقي . وليس لماركس فضل في تعرية سلطة المال، فبمقدور الإنسان العادي أن يقدم هجاء مثل هجاء ماركس، وقد حفلت كتب الحكماء وقصص الأدباء بمثل هذا الهجاء .
لكن ماركس يجعل من المال اعتداءً على ماهية الإنسان، وما ماهية الإنسان إلا الإنسان كما هو قبل أن تحوله المال إلى ما ليس هو، ماهية الإنسان هو الإنسان في الواقع، قبيح وجميل، مستقيم وحقير، ذكي وغبي، وفي وخائن، محب ومبغض، فاضل ورذيل، سيد وعبد .
في المال لم يعد تتحدد صفات الإنسان كما هو في الواقع، بل في علاقته بالمال الذي يقلب الأمور رأسا على عقب، وبالتالي المال هو التشوه الكلي للإنسان الواقعي، في المال يغترب الإنسان عن ماهيته .
غير أن ماركس في لحظة أخرى يجعل ماهية الإنسان في الحرية، الحرية من كل ما يستعبده : اللاهوت، الدولة، المال، إذ ذاك فإن الفلسفة التي تدافع عن الإنسان هي فلسفة الحرية، وما الحرية سوى أن يتحول الإنسان إلى سيد على هذا العالم، إلى تطابق الإنسان مع ماهيته، تطابق الإنسان مع ماهيته يعني تحرر الإنسان من الأصنام التي تستبد به .
في النص الثاني من المخطوطات وهو المتعلق بنقد هيغل وفلسفته بشكل عام، يستمر ماركس في نقد فلسفة الحق الهيغلية .
يعرج ماركس _ بمناسبة نقده لهيغل _ على بيت فيورباخ الفلسفي ويبرز نظرته للفلسفة بأنها الدين موضوعاً في شكل أفكار، إنها نمط آخر للضياع، العلاقة بين الإنسان والإنسان هي مبدأ الحقيقة الكلية، فيورباخ يبدأ من العياني .
ثم يعود إلى خصمه _ هيغل_ وإلى الفينومينولوجيا بشكل خاص، ويعتبرها المنبع الحقيقي لفلسفة هيغل وسرها . بعد أن يعرض ماركس لرؤوس أقلام الفينومينولوجيا يعلن: أن هيغل قد أخطأ في تناوله للثروة والسلطة والدولة، فهيغل _ كما يرى ماركس_ يتعامل مع الثروة والسلطة والدولة من حيث هي ماهيات مغتربه عن الوجود الإنساني من حيث هي أمور مجردة . أو وقائع مفكرة، فالاغتراب _ والأمر كذلك_ هو اغتراب الفلسفة المحضة، ولهذا فالحركة تنتهي بما هو مطلق، والفيلسوف _ الذي هو شكل مجرد للإنسان المغترب _ يغدو معياراً للعالم المغترب، ولهذا فإن تاريخ الاغتراب _ وتاريخ تجاوزه هو تاريخ الفكر النظري المجرد، تاريخ المطلق . إنه _ أي الاغتراب _ تناقض ماهو في ذاته وما هو لذاته . ما هو مجرد وما هو واقعي، وبالتالي فإن امتلاك قوة الإنسان الجوهرية التي أصبحت مغتربة إنما يجري داخل الوعي، تجري داخل الفكر المحض أي فيما هو مجرد.
ماركس الذي نقد هيغل راح فيما بعد يصفي حسابه مع الهيغليين . هذا ما سيقوم به في الأيديولوجيا الألمانية على وجه الخصوص . رافعاً من شأن مفهوم الممارسة .
الممارسة هي عالم من العلاقات، العلاقة جوهر ديالكتيك ماركس، العلاقة بما هي جملة متشابكة معقدة، العلاقة علاقة بين أشكال الحياة الاجتماعية برمتها .
مفهوم العلاقة يحررنا من الأشكال البسيطة للسببية الخطية، تحررنا مما يسمى الانعكاس الميكانيكي .
فالرأسمالية مثلاً ليس مجرد تراكم رأس مال يعيد إنتاج نفسه عبر فضل القيمة، إنها تشكيلة اجتماعية _ اقتصادية، شبكة من العلاقات بين تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، وبين البنية التحتية والبنية الفوقية، بين السلطة السياسية والطبقة السائدة، بين الطبقة السائدة والطبقات والفئات الأخرى، بين الطبقة والأيديولوجيا، بين الإنتاج والعلم والتقنية، بين العلم والإنتاج، بين الواقع الاجتماعي والوعي الاجتماعي .. إلخ .
لنأخذ مثالاً واحداً على عمل هذه العلاقات من ماركس وهو يناقش سانشو بالمتعة والنسك . إن الفلسفة التي تبشر بالمتعة قديمة في أوربا قدم المدرسة القورينية، وكما أن الإغريق في العصور القديمة كانوا المدافعين عن هذه الفلسفة، وكذلك هم الفرنسيون في العصور الحديثة، وذلك بدافع من المبررات نفسها، إن مزاجهم ومجتمعهم يحولانهم أقدر الجميع على التمتع، ولم تكن فلسفة اللذة _ قط_ شيئاً آخر سوى اللغة البارعة لبعض الدوائر الاجتماعية، التي كانت تملك امتياز المتعة، وإذا تركنا جانباً مسألة أن متعهم ومضمونها كانتا مشروطتين على الدوام كبنية المجتمع بكامله فإن هذه الفلسفة باتت لغواً خالصاً حالما بدأت تطلب بطابع عمومي، للمتعة، وتنظر إلى نفسها على أنها تصور للحياة صالح للمجتمع بأسره، وعندئذ انحطت إلى مستوى التبشير الأخلاقي البناء، الذي يحمل بمغالطاته السفسطائية المجتمع القائم، أوتحولت إلى نقيضها، بإعلانها أن النسك الأخلاقي هو المتعة ( اللذة) .
وفي الأزمات الحديثة نشأت فلسفة المتعة مع انحطاط الإقطاعية، وتحول النبالة العقارية _ الإقطاعية، إلى نبالة البلاط المبذرة والمتعطشة إلى الحياة في ظل الملكية المطلقة . وكان لهذه الفلسفة، إلى درجة كبيرة لدى هذه النبالة مظهر تصور عفوي يتم التعبير عنه في المذكرات والقصائد والروايات … إلخ، ولم تصبح فلسفة حقيقية إلا بين عددٍ قليل من كتاب البرجوازية الثورية، الذين شاطروا من جهة ثقافة نبالة البلاط ونمط حياتها، وشاطروا من جهة أخرى البرجوازية، تذوقها للأفكار العامة الذي يقوم على الطابع الأعم لشروط وجود هذه الطبقة، ولهذا السبب قبلت هذه الفلسفة من قبل كلا الطبقتين، وإن يكن من زاويتي رؤيتين مختلفتين، فبينما كانت هذه اللغة مقصورة حصراً على الفئة العليا من النبالة وفق شروط حياة هذه الفئة في حين أعطيت من قبل البرجوازية طابعاً معمماً، وطبقت على كل فرد دون تمييز، وغضت النظر عن شروط هؤلاء الأفراد، بحيث تحولت نظرية المتعة إلى عقيدة أخلاقية تافهة ومرائية، وحين أدى التطور اللاحق إلى سقوط النبالة، وصارت البرجوازية في نزاع مع خصمها البروليتاريا، فقد تحولت النبالة إلى التدين والتقوى والبرجوازية إلى الأخلاق المتزمنة في نظرياتها أو اتساقاً مع النفاق المذكور أعلاه . وإن تكن النبالة لم تتخل في الممارسة في حالٍ من الأحوال عن المتعة، بينما اتخذت المتعة عند البرجوازية شكلاً اقتصادياً رسمياً ألا وهو الترف .
هذه العلاقة بين الأفراد، في أي زمان خاص، العلاقات الطبقية التي يحيون فيها، وشروط الإنتاج والتعامل التي أدت إلى قيام هذه العلاقات، وضيق أشكال المتعة الموجودة في الوقت الراهن . الأشكال التي كانت غريبة عن المضمون الفعلي لحياة الناس وفي تناقض معهم، وارتباط كل فلسفة للمتعة مع الملذات الفعلية التي تشكل خلفيتها ومراءاة مثل هذه الفلسفة حين تتوجه إلى جميع الأفراد ودونما تمييز .. هذه الأمور جميعها ما كان يمكن أن بالطبع أن تُكشف إلا حين أصبح بالإمكان نقد شروط الإنتاج والتعامل التي عرفها العالم في سياق تاريخه، أي حين أدى التناقض بين البرجوازية والبروليتاريا إلى نشوء النظريات الشيوعية والاشتراكية، لقد حطم هذا النقد أسس كل أخلاق، سواء كانت أخلاق النسك أو أخلاق المتعة (14).
من خلال فهم ماركس لفلسفة المتعة والنسك نكشف عن منهج جديد منهج الكشف عن الأفكار التي يتجرد مع الأيام لتأخذ طابعاً مستقلاً بوصفها نمطاً أخلاقياً، لكنها في الأصل لم تكن إلا ثمرة عالم الممارسة الفعلي، ثمرة العلاقات التي تقوم بين البشر .
فلسفة المتعة في كل العصور هي ثمرة الذين هم أقدر على التمتع، ثمرة أولئك الذين كانوا يملكون امتياز المتعة .
إن الأخلاق التي تبشر بها الطبقة السائدة، تحولها إلى أخلاق كلية، أخلاق أولئك الذين لا يستطيعون التمتع، والذين لا يملكون امتياز المتعة .
المفهوم الذي يحكم فهم فلسفة المتعة هو مفهوم العلاقة حيث يفضي مفهوم العلاقة عند ماركس إلى مفهوم البنية، البنية بوصفها جملة من العلاقات، اذ ان شكل ومضمون المجتمع مشروطان ببنية المتع بأكمله، ممارسة المتع والتعبير عنها أخلاقياً وأيديولوجياً مشروطة بالطبقة، الطبقة المشروطة بمستوى تطور عملية الإنتاج وتاريخيته، هذا الذي جعل النبالة والبرجوازية تشيعان فلسفة المتعة ولكن من رؤيتين مختلفتين، ومصير فلسفة المتعة لا يفهم إلا في التناقضات والتناقضات لا تقوم إلا في حقل العلاقة، مصير النبالة أدى بها إلى النسك وانتصار البرجوازية أدى بها إلى الترف، وتناقض البرجوازية مع البروليتاريا حطم الأساس الأخلاقي للنسك وللمتعة معاً. في إطار العلاقة نفهم إمكانية الجديد في أحشاء القديم نفهم لماذا البشر الذين هم صناع التاريخ لا يصنعونه على هداهم .
ديالكتيك ماركس فلسفة ماركس إذاً هو ديالكتيك العلاقة فلسفة العلاقة .
وقائل يقول : أنك حتى الآن لم تتجاوز الأيديولوجيا الألمانية ولكن ماذا بعد هذا السفر، ظل مفهوم العلاقة هو المفهوم المركزي لدى ماركس في الكتابات المتأخرة .
الجواب نعم، ففي الفردوندريه 1857_1858 يكتب ماركس:« فهيغل على سبيل المثال محق إذ يبدأ فلسفة الحق بالتملك، باعتباره أبسط العلاقات القانونية للذات، ولكن ليس هناك تملك يسبق علاقات العائلة أو علاقة السيد بالعبد، وهي علاقات أكثر تعيناً بكثير، ومن الصحيح القول أن هناك علاقات أو مجموعات عشائرية تحوز التملك، ولكن لا ملكية لديها تبدو المقولة البسيطة إذن، بالنسبة إلى علاقتها بالملكية في صورة علاقة بين عوائل، أو مجموعات عشائرية بسيطة، في المجتمع الأرقى تبدو بصفتها العلاقة الأبسط في تنظيم متطور، لكن الأساس المعين الذي تمثله الحيازة إحدى علاقاته مفترض على الدوام، ويمكن للمرء أن يتخيل فرداً متوحشاً يحوز شيئاً، ولكن الحيازة هنا ليست علاقة قانونية، ومن الخطأ القول أن الحيازة تقود تاريخياً إلى تكون العائلة، فالحيازة تشترط على الدوام وجود هذه المقولة القانونية الأكثر تعيناً ويبقى القول صحيحاً على الدوام أن المقولات البسيطة تعبيرات عن علاقات يمكن للتعين الأكثر تطوراً أن يتحقق ضمنها مثل أن نتثبت كل الصلات أو العلاقات ذات الجوانب الأكثر تعيناً، في حين يحافظ التعين الأكثر تطوراً على المقولة ذاتها كعلاقة خاضعة»(15).
ما كان لي أن أبرز أهمية مفهوم العلاقة في فلسفة ماركس لولا نزوعي لتأكيد أمرٍ على غاية كبيرة من الأهمية ألا وهو: إن الديالكتيك ليس مجرد علاقات تناقض : أطروحة ونقيضها ثم تركيبهما، وليس مجرد قوانين ثلاثة، الديالكتيك فلسفة العلاقة، العلاقة بكل صورها وأشكالها ماكان داخلياً منها أو خارجياً .
ولعمري تظل فلسفة ماركس من حيث هي فلسفة ديالكتيك العلاقات المتعينة موضوعاً للتأمل والتجاوز أيضاً .
ولكن يظل دفاع ماركس عن الفلسفة الدفاع الأكثر قوة، والأكثر قرباً من العقل الطليق الذي يجهد الآن للدفاع عن حريته، حرية الإنسان على هذه الأرض.
الهوامش
1 _ في مجلة الكرمل .
2 _ هنري لوفيفر ، ماركس وعلم الاجتماع، دمشق 1971، ص29، ترجمة بدر الدين قاسم الرفاعي.
3 _أنظر ، كارل ماركسي سيرة حياة، بيروت، 1978، ص23
4 _ ماركس ، انغلز، بصدد الدولة، موسكو ، 1986، ص27.
5 _ ماركس وانغلز، حول الدين، ص24 .
6 _ ماركس وانغلز، حول الدين، ص27 .
7 _ ماركس، انغلز، المؤلفات موسكو، المجلد 4، ص153 .
8 _المرجع السابق ، ص153 .
9 _ ماركس، المرجع السابق، ص154 .
10 _ ماركس، انغلز، ج1، ص415 .
11 _ ماركس، انغلز، المؤلفات مجلد 4، ص 420 .
12 _ ماركس، انغلز، مصدر سابق، ص42 .
13 _ ماركس، انغلز، مصدر سابق، ص42
14 _ الأيديولوجيا الألمانية ، ص452
15 _ ماركس ، الفروندرية ، بيروت ، 1984، ص127 ، ترجمة عصام الخفاجي .
————————
أحمد برقاوي