نبيل ماتي
محمد أركون، مؤرخ وناقد للعقل الإسلامي يعدُّ من الشخصيات البارزة المعاصرة، وهو من مواليد 1928 ببلدية بن يني بمنطقة القبائل ولاية تيزي وزو، انتقل في صغره مع والده للعمل في الميدان التِّجاري إلى مدينة عين تيموشنت التي كانت تعدّ واحدة من المناطق السِّياحية الاستراتيجية التي تزخر بها الجزائر حيث كانت تستقطب عددا كبيرا من المستعمرين الفرنسين.
تأثر منذ صغره بالثقافة الغربية الفرنسية حيث تلقى تعليمه الإعدادي بين 1941-1945 بمعهد يشرف عليه الآباء البيض بمدينة وهران في الغرب الجزائري، ثم التحق بكلية الآداب بالجزائر العاصمة. وفي سنة 1951 شغل منصب أستاذ في اللغة العربية لمدة أربعة سنوات بثانوية الحراش بالجزائر العاصمة. وللإشارة، فقد كان أركون حريصًا على أن يكون تكوينُه في بداية مشواره الثَّقافي باللغة العربية في تلك الفترة في حينٍ كان فيه أقرانه يهتمُّون بدراسة اللغة الفرنسية.
شغفه المتواصل والدؤوب على المطالعة والمعرفة أدَّى به إلى التوجه نحو باريس حيث اِلتحق بجامعة السوربون العريقة التي كانت تستقطب الكثير من المثقَّفين من العالم العربي. وبمساعدة المستشرق لويس ماسينيون، قام بإعداد شهادة تبريز في اللغة العربية، ثم حاز بعدها على درجة الدكتوراه في الفلسفة سنة 1969، ثم أصبح مدرِّسا في العديد من الجامعات الفرنسية، جامعة ستراسبورغ، جامعة ليون وجامعة سان دوني-فانسان ثم أصبح أستاذا بجامعة السُّوربون بين 1972 و1992.
نال أركون عدَّة أوسمة من قبلِ أعلى إطارات الدولة الفرنسية وكذلك من مختلف الهيئات الثقافية تكريما لجميع إسهاماته في مجال الدراسات الإسلامية، ففي سنة 1996 تقلد وسام ضابط جوقة الشرف، ثم ضابط النخيل الأكاديمي وفي عام 2002 حصل على جائزة جورجيو ليفي ديلا فيدا السابعة عشرة من مركز دراسات الشرق الأدنى وفي عام 2003 حصل على جائزة ابن رشد.
توفي عن عمر يناهز 82 سنة في باريس ودفن محمد أركون الجزائري بالمغرب وفقا لما (يُقال إنَّه قد) جاء في وصيته.
ألَّف العديد من الكتب والدراسات والمقالات بالفرنسية، حيث ترجمت جلُّ أعماله إلى عدة لغات أخرى. ومن أشهر مؤلفاته التي ترجمت إلى العربية: “الفكر الإسلامي قراءة علمية”، “الإسلام، الأخلاق والسياسة”، “الفكر الإسلامي نقد واجتهاد”، و”الفكر الأصولي واستحالة التأصيل”.
يُعدُّ أركون من المثقَّفين الذين تحلّوا بروح مستقلة وبحبِّ الاكتشاف والتَّحري، إذ قدَّم أركون قراءة جريئة بنقده للأسس المنهجية التي يقوم عليها الفكر الإسلامي، فقد قام بمقاربات منهجية مستلهمة في جملتها من المدرسة الغربية وذلك بتوظيفه العلوم الإنسانية الحديثة لاستقراء الواقع التَّاريخي للعالم العربي الإسلامي. كان هدفه من ذلك عودة العقل العربي الإسلامي للمسار التاريخي وتحريره من شتى القيود. فكان تفكيره يتركز أساسا عن البحث عن إمكانية وضع شروط للخروج من القراءات التقليدية للنصوص الدينية مع عدم إعادة إنتاج ما كان متَّفقا عليه سلفًا وذلك ببلورة نظام جديد للعمل التاريخي للظاهرة الإسلامية وحركتها منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، فنظرة العالم العربي الإسلامي إلى مستقبله مرهونة حتما بحقيقة فهمه العميق لماضيه، حيث يقول إنَّه لا توجد مشكلة إلا ولها جذور عميقة في الماضي البعيد، ويذكر على سبيل المثال التَّوترات الطائفية قائمة بين الشِّيعة والسُّنة، ومن جهة أخرى مرهونة كذلك بقدرته على توفير الأجوبة الكافية والوافية تجاه الإشكالات التي تطرحها المجتمعات الإسلامية والغربية المعاصرة.
اِعتمد في استنتاجاته العلمية على ما يسميه بالدراسات الإسلامية التَّطبيقية التي درَّسها في شتَّى الجامعات التي كان مرتبطا بها في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث قام بعملية تفكيك النص القرآني وتحريره من كلِّ القيود التي وضعها رجال الدين، وحاول أن يزحزح مسألة الوحي من الأرضية التي يقول عنها بأنها تقليدية إلى أرضية يستعمل فيها أدوات علمية حديثة كالأنثروبولوجيا التاريخيةوالسياسية والتحليل الألسني والسِّيميائي الدلالي متجاوزًا التَّفاسير المتداولة مما يسمح لهذا العقل الإسلامي بإعادة اكتشاف إمكانياته.
لقد لاحظ أركون أنَّ المجتمعات الإسلامية ابتداءً من القرن الثَّالث عشر ميلادي قد فرضت تدريجيا ممارسة أرثوذكسية للفكر الديني مستبعدا العلوم الدنيوية، كما ساهمت في اختفاء تامٍّ للبعد الفلسفي، في حين كانت فيه مكتبات ما تزال تسمح بظهور مثقفين كابن خلدون. هذه المساحة تقلصت بشكل رهيب تدريجيا وأنتجت حسب قوله مفهوما دينيًّا دون ابتكار أو تجديد عقلي وهو الذي سماه أركون بـ”السِّياج الدُّوغمائي المغلق”، مما أدَّى بهذه بالمجتمعات العربية الإسلامية عند تناول الظواهر إلى عدم التعرُّض إلى حقيقتها والاكتفاء فقط بالتعرَّف عليها، بل ذهب في تحليلاته إلى أبعد من ذلك، وهو تسليط الضوء على مسؤولية الأنظمة السياسية الاستبدادية العربية الإسلامية التي يقول عنها إنها تشرف منذ قرون على تسويق الفكر الديني المحافظ لتزكيَّة شرعيتها السياسية.
يضع محمد أركون قواعد جديدة للوقوف أمام التحديات المعاصرة، التي تنتظر المجتمع العربي الإسلامي مستقبلا، ويجمعها في أولوية التَّجنيد الكامل للمثقَّف وإدماجه في وظيفته الأساسية التي تكمن في إنتاج بديل من الأفكار الفعَّالة هدفها بعث حيوية جديدة للفكر الإسلامي والتي فقدها منذ قرون، على الرَّغم من كون عدد المثقَّفين لا يزال ناقصا قياسا بالمهمة التاريخية العظيمة التي تنتظرهم. إلى جانب ذلك، يدقُّ أركون ناقوس الخطر بخصوص النُّقص الرَّهيب في التَّكوين للشّعوب العربية الإسلامية، مما ساهم في عدم قدرتها على استيعاب النَّظريات الفكرية والعلمية الحديثة، وانحصارها في ردها الانفعالي المحض المتسبِّب في زيادة حدَّة القطيعة.
تكمن عملية الصَّحوة والتَّجديد المساير للحداثة لدى أركون في وجوب إعادة النظر في المعايير السَّارية حاليا بالعالم العربي الإسلامي، ويسمِّيه بنقد الثُّلاثية الدُّوغماتية المغلقة التي أنتجتها الدَّولة ورجال الدِّين في العالم العربي الإسلامي طيلة عقود من الزَّمن وبشكل مكرَّر، وهو المشابه تماما للسِّياج الدوغماتي الذي كان حاضرا في أوروبا والغرب الذي أخذ ينهار بدءا من القرن السادس عشر بواسطة العلمنة التدريجية والصعود المتواصل للحداثة الثقافية والعقلانيَّة رغم مقاومة الكنيسة.
لقي أركون- في الواقع- انتقادات لاذعة من قبل بعض المفكرين العرب وكذا رجال الدين المتشددين والمعتدلين، حيث اُعْتُبر خطرا على الإسلام. اِتَّهمه الدكتور رمضان البوطي على سبيل المثال “بأنَّه بطل من أبطال مؤامرة منظَّمة تُدارُ في مخابر غربية موجَّهة ضد الإسلام والمسلمين”، وذهب البعض الآخر إلى اتِّهامه حتَّى بالإلحاد.
ومن جهة أخرى، قامت نخبة من الفرنسيِّين والأوربيِّين بشنِّ حملة إعلامية شرسة ضدَّه بسبب نقده للمفهوم العلماني الغربي النِّضالي المتطرِّف وكذا نقده لمنهجية بعض المستشرقين العلمية. واتُّهم أركون إثرَها “بالأصولي المتطرِّف” لاسيما بخصوص موقفه من قضية كتاب سلمان رشدي الذي نُشِرَ تحت عنوان “آيات شيطانية”، وهو الكتاب الذي أثار ضجة إعلامية كبيرة في الغرب وفي العالم الإسلامي معا أواخر الثَّمانينيات، حيث كتب أركون في جريدة “لوموند” الفرنسية مقالا تحت عنوان “المفهوم الغربي لحقوق الإنسان يعزِّز سوء التَّفاهم مع الإسلام” حين انتقد سلمان رشدي قائلا «أنا أرفض هذه السُّهولة في القول إنَّ الكاتب له الحق في قول كلِّ شيء وكتابة كلِّ شيء، سلمان رشدي فعل أكثر من هذا بشكل مسرف. إنَّ شخص الرسول مقدَّسٌ لدى المسلمين ويجب احترامه…»
ما تزال نظريات محمد أركون محل نقاش وجدال ونقد بالأوساط العلميَّة الجامعية الغربية والإسلامية، فهي لا تزال رهينة حداثتها وحداثة الأدوات الاستنباطية والتأويلية التي استعملها محمد أركون بحيث تجاوزت كل الفضاءات الجغرافية والزمنية. ولعلَّ هذا النقاش الذي أثراه محمَّد أركون لا يكون مفيدا إلا إذا كان قائما خارج كل الأطر الإيديولوجية السياسية والدينية بعيدا عن اليقينيات الدوغمائية التي تحاول حرمان العقل العربي الإسلامي من قفزة نوعية استكشافية قد تعيد ربما من جديد دوران عقارب الساعة.