عبد الرَّحمن بسيسو
ما من كلمة اصطلاحية جديرة بأنْ تُسْهِمَ، بِعُمق ودِقَّةٍ، في استجلاءِ مُكوٍّناتِ الصَّراع الفلسطيني-الإسرائيليِّ الدَّائرِ منذُ ما يربو على قرن من الزَّمانِ، فوق أرض فلسطين وعليها، وفي تحديد ماهيَّة هذا الصِّراعِ، وبيانِ طبيعتّه، وتسميتِه، وفي الكشفِ عنْ ممكناتِ استمرار مَوَرَانِهِ، وتصاعد درجات احتدامه، وتنوُّع مساراتِ صيرورتِه وتَعدُّدِ مجالاتِه وحُقُوله، واستكشافِ آفاقِ تَمَدُّدهِ، وأمْدَاءِ استمرارهِ، واحتمالات اتِّساع أحيازِ نطاقاته الجيوسياسية، وتَكاثُرِ أبعادهِ الاستراتيجيَّة وتنوُّعها لتشملَ الشَّرقَ الأوسطَ بأسره، وأحيازًا أُخرى من العالم، وتَوقُّعِ مراحلِهِ المُستقبليَّة المُحتَملَة، وكيفيَّاتِ صيرورتِه في كل مرحَلةٍ، ووضْعِ تَصَوُّراتٍ لسيناريوهاتٍ يُحتَملُ أنْ تُجَسِّدَ تطوراتِهِ المُرَجَّحة، وأنْ تُنْبئَ بِمُمكناتِ مآلاتِهِ الإستراتيجيَّة الكفيلة بإزالة مُسبِّباتِه الجذريَّة لإِنْهائِهِ على نحوٍ قَطْعيٍّ حاسِمٍ، إلا الكلمة «حَضَارِيٌّ».
صِراعٌ حَضَاريٌّ وُجُودِيٌّ
للكلِمَة: «حضَاريٌّ»، بمفردها، أو بصحبَةِ الكلمة: «وُجوديٌّ» إذْ تردُ في سياقاتٍ تحليليَّة بعينها، أنْ تكونَ قادرةً على التقاط جوهر الصِّراعِ المائر فوق أرض فلسطين، والكشف عن مُكوِّناتِ ماهيَّته، وذلك لما تكتنزهُ من مفاهيمَ ومدلولاتٍ وأبعادٍ معرفيَّةٍ تُؤَهِّلها لأنْ تُتيحَ إمكانيَّة توظيف أوسَع المعارفِ والخلاصات التَّاريخية، وأدق الخطوات المنهجية، لاستنباط كوامن هذا الصِّراع، وإدراك مسبباته الفعلية، وتعرُّف دوافعه الحقيقية المُعلنة والخفية، وبيان بدايات انبثاقه وتفجُّره، وشروعه في الاحتدام، والامتداد، وفي التجسُّد الفعلي الشاملِ شَتىَّ مدارات الوجود البشري في فلسطين، وفي محيطها العربي الإسلامي، والشرق أوسطي، وربما في أرجاء العالم بأسره، وذلك على نحوٍ ستتبدى معه قابلية هذا الصراع الحضاري الوجُوديِّ الشامل والمُتشَعب للتَّوسُّع والامتداد، والتَّجَسُّد الفعلي في جميع مجالات الأنشطة الحياتية البشرية على تعدد أصعدتها، ومستوياتها، وأبعادها، وعلى تنوع حقولها، وعلى تباين مُحَفِّزاتها ودوافعها وغاياتها، وعلى تغاير درجات احتدام تناقض هذه المُحفِّزات والدَّوافعِ، وعلى التَّعارضِ الجذريِّ ما بينَ الغاياتِ والمقاصِدِ المنشودة من قبل الحضارة الفلسطينيَّة الشَّرقيَّة، الإنسانية الجوهر، والمُنيرة الوجه، والمُتَفَتِّحة الرُّؤى، واليَقِظَةِ الضَّمير، وتلك التي ينشدها التَّوحُّش البشري الذي يُقَنِّعُ مُمَارسُوهُ العُنصريون بشاعةَ وجوههم القبيحة، وقُبْحَ وجْهِهِ البَشِعِ، بترويجٍ إعلاميٍّ أيديُولُوجيٍّ مَحْمُومٍ لرسالةٍ تنويرٍ حَضَاريٍّ إنسانيٍّ مزعومةٍ، فيما لا يحمل صُلبُهَا إلا نقيضَهَا التَّوَحُّشيَّ الهَمَجِيَّ، المَنْزُوعَ الإنْسَانيَّةِ بإطلاقٍ، والبالغَ الإعتامِ، والضَّراوةِ، والسَّواد!
والحق أنَّه ما من مُؤَسِّسٍ فعليٍّ لماهية هذا الصراع، بوصفه صراعًا حضاريًا وجوديًا، إلا مُسَبِّبَاتِ اندلاعِه الفعلية، والدَّوافع الرأسماليَّة الاستعمارية العنصرية التَّوَحُّشية الجشعة التي حفَّزت قوى الغرب الأوروبي الاستعماريِّ الأنجلوسكسوني بقيادة المملكة المتحدة (الإمبراطورية البريطانية العُظْمَى التي كانت في حينه آيلةً إلى نِهاياتِ أُفول) والولايات المتحدة الأمريكية (الإمبراطورية الاستعمارية الوارثَةِ والطامحةِ، آنذاكَ، إلى إدراك هيمنةٍ أُحَادِيَّةٍ كُلِّيّةٍ ومُطْلَقَةٍ على مقادير العالم بأسره، والتي يبدو أنَّ تباشير أُفُولِهَا قد شرعتْ في التَّبَدِّي مع انبثاق مطالع القرن الحادي والعشرين) على الأخذ بفكرة إنشاء وطن قومي ليهود أوروبا أساسًا، ومن ثم لغيرهم من يهود العالم، ودائمًا حسب مقتضيات الهيمنة الاستعمارية، في فلسطين، وذلك بفتح أبواب فلسطين أمام اليهودِ، المُصَهْيَنينَ وغير المُصَهيَنينِ، ولا سيَّما اليهود المُراد اقتلاعهم من أوطانهم الأوروبية وتجميعهم خارجها، وتقديم ما يلزم من دعمٍ وتمويلٍ لتسريع عملياتِ إنشاءِ عِصاباتٍ إرهابيَةٍ صُهيونيَّةٍ استعماريَّة استيطانيِّةٍ مُسلَّحَةٍ، كـعصابات «شتيرن» و«أرغون»، و«هاجاناه» و«بيتار» و«بلماح»، وتوفير الظُّروف والإمكانيات الجيوسياسية واللوجستيَّة التي تُمَكِّنُ هذه العصابات من الشُّروع في غزو فلسطين، واحتلال أقصى ما تستطيع احتلاله من أراضيها، وتخريب معالمها الحضارية الفلسطينية الراسخة منذ آلاف السنين في جميع أرجائها، وتدمير مدنها وبلداتها وقراها وحقولها العامرة، واقتلاع شعبها الفلسطيني منها، وتشريده في مخيمات اللُّجوء القسري، وفي منافي الشَّتَات.
وجليٌّ أنَّ جُلَّ هذا الذي كان يَحدُثُ في التَّوِّ، أو يُرادُ إحداثَهُ عن قريبٍ، في فِلَسْطِين، إنَّما كان يُدَبَّرُ في الخَفَاءِ، فلا يَظْهَرُ منه في العَلنِ لِعِلْمِ الملأِ أو عامَّة النَّاس، إلَّا أقَّلُهُ، ودائمًا وفق حاجةِ صانعيه من الاستعماريين الغربيين والصَّهاينة، إذْ كانَ يُغَطَّى، دائمًا وأبدًا، بدعاوى مظلوميَّة يهود أوروبا النَّاجمة عن استهدافهم من قبل النازية الألمانية، خلال الحرب العالمية الثَّانية وما قبلها، بفظائع مراكز الاعتقال النَّازية، وأفران الغاز، والمحارق (الهولوكست) المُفْضِيَةِ إلى الفتك بهم، أو اقتلاعهم من أوروبا، وذلك على نحو كشفَ، في زعم الغرب الأوروبي الأمريكي دَعِيِّ الإنسانيَّة، عن حاجة يهود العالم، وليس يهود أوروبا فحسب، إلى الشَّفَقَةِ، والعَطفِ، والإسنادِ الإنسانيِّ والسياسي، وذلك بإيجاد «وطن قومي» لهم، فيما كانَ يُمَهَّدُ لحُدوثِ ما خطط الاستعمارُ الرَّأسماليُّ الغربي والحركة الصُّهيونية لإحداثِهِ على نحو يُحقِّقُ مصالحهما المُتشابِكة وغير المُتطابقة، في أعمِّها الأغلب، مع مصالح اليهود كبشرٍ وأبناء بلاد، بقراراتٍ تُصدرها الحكومة البريطانيَّة، أو تُدْعَى «عصبة الأمم» ومجلسها الدَّوليِّ المُهَيْمَنِ عليه من قبل بريطانيا وأمريكا وحلفائهما، إلى إصدارها.
وعدٌ وَغْدٌ واحْتِلالٌ بَغِيضٌ
ففي الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) 1917 صدر بيان (أو وعد) وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور، القاضي بتعهد الحكومة البريطانية بدعم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين؛ وفي العام نفسه شرعت بريطانيا في احتلالِ أجزاءٍ من فلسطين؛ وفي الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 1922، وفي ضوء اتفاق دول الحلفاء على تسريع خطوات تنفيذ وعد بلفور، المشؤوم بالنسبة لفلسطين وأهلها، قرَّرت عصبة الأمم فرضَ الانتداب (الاحتلال) البريطاني على فلسطين، بقصد تنفيذ ذلك الوعدِ؛ ففتحت بريطانيا -التي كانت تحتلُ، منذ العام 1917، وفي إثر اتفاقية سايكس–بيكو، أجزاءً من جنوب فلسطين- أبوابَ فلسطين بأسرها أمام تدفُّق الهجرة اليهودية من أوروبا الغربيَّة والشرقيَّة إليها، لترتفع نسبة اليهود الموجودين، لسببٍ أو لآخر في حينه في فلسطين، مما هو أدنى من 7 % من إجمالي عدد قاطنيها الذين هُم أصحابها الأصليون الفلسطينيون، إلى نحو 31 %، عشية مُغَادرة قوات الاحتلال البريطاني لها، وإعلان قيام «دولة إسرائيل» فوق ترابها في الرابع عشر من أيار (مايو) 1948، وكانَ أغلب هؤلاء اليهود صهاينةً مُستَعْمِرينَ مُسْتوطنين منحتهم حكومة الانتداب البريطاني الجنسية الفلسطينيَّة، وجوازاتِ سفرٍ فلسطينيَّة!!!
وقد كشفت جميع الوقائع والأحداث الصَّراعية التي جرت، مُنْذُ مطالع القرنِ العشرين فوق أرض فلسطين، عن حقيقة أنَّها وقائع تندرجُ في سياق الصِّراع الحضاري الوجوديِ الفلسطينيِّ– الصُّهيوني الاستعماريِّ الغربيِّ، إذْ هي وقائعُ وأحداثٌ تَوالى احتدامها، في تصاعُدٍ مُستمرٍّ، بين المُقاومين الفلسطينيين أصحاب أرض فلسطين وسكانها الأصليين، وبناة تاريخها، وصُنَّاع حضارتها، وبين غُزاتها المُعتدينَ من اليهود الصهاينة وعصاباتهم الاستعمارية الاستيطانية الإرهابية المُسلَّحة، المُعزَّزة بقوات الاحتلال البريطاني والمدعومة من قِبل الحكومة البريطانيَّة.
وفي السياق نفسه، كشفت تجليات السُّلوك الفلسطيني السابقة لانفجار الفعل الفلسطيني الشَّعبي المُقاوم للإرهاب البريطاني الصُهيوني، والمتوالي في هيئة انتفاضات وإضراباتٍ وثورات، عن حقيقة أنَّ أبناء الشَّعبَ الفلسطيني الذي لمْ يحْمِلْ أيٌّ منهم، في أيِّ لحظَةٍ، حِقْدًا، أو بُغضًا عُنصريًا إزاء كائنٍ يهوديٍّ لأنَّه يَهوديٌّ، والذين يُسَجَّل لهم، لا عليهم، أنهم أشفقوا على اليهود القادمين من أوروبا، وتعاطفوا معهم، وفتحوا بيوتهم لاستقبالهم مُحَاولين تخفيف مُعاناتهم، والإسهام، قدرَ وسعهم، في رفع بعضٍ من وطآت المظلومية التاريخيَّة التي حلَّت بهم عن كواهلهم، قد شرعوا يُدركون، مُذْ لحظة اطلاعهم على وثيقة وعد بلفور المشؤوم الذي أعطى به من لا يملك حقًا لمن لا يستحقّ، أنّهُم قد خُدِعُوا، وأنْ ليس لسلوكهم الإنساني الأخلاقي الطَّيب النبيل إزاء اليهود الوافدين من أوروبا أنْ يستمر بلا انقطاعٍ، وبلا مُراجعة وتدقيق. وقد كان لفرض الانتداب البريطاني على فلسطين، ولتصاعد هجرة اليهود إليها بتسهيل بريطاني ملموسٍ، أنْ يتضافرا في إظهار حقيقة أَنَّ الشعب الفلسطيني ووطنهُ مُستهدفان بالاحتلال الصهيونيّ الاستعماري الاستيطاني الإحلالي، وبالإبادة الجماعية، والاستبدالِ الهُوِيَّاتي- الاسْمِيِّ، والاستلاب الحضاريِّ، والمحو الوجوديِّ.
ثَالُوثُ مشروعيَّةٍ زائفةٍ ونَكَبَاتٍ
وقد بات جليًَّا، في وعي النُّخب الفلسطينيَّة من أُدباء وشُعراء ومفكرين وصحافيين ومعلمين ومثقفين وساسة، أَنَّه لم يكنْ ثَمَّة من غايةٍ أساسيَّة توخَّاها كُلٌّ من الوعد البريطاني الملكيِّ الظَّالم، وصَكِّ عِصْبَة الأُمم المحكومة من قِبلِ الحُلفاء الاستعماريين، بفرض الانتدابِ (الاحتلال) البريطاني على فلسطين بهدف تسهيل عمليات تنفيذِ هذا الوعد الوغْدِ، ومتابعة العمل على تجسيده واقعًا قائمًا فوق أرض فلسطين، إلاَّ غايةُ إكساب المخطط الغربي الصهيوني الرأسمالي الاستعماري الاستيطاني الإحلاليِّ الذي استهدف «فلسطين» وشعبها، بإقامة «إسرائيل» في رحابها، قدرًا من المشروعيَّة السياسية المزعوم، خداعًا وتضليلًا، أنَّها شرعيَّة دولية، وكذا بقدرٍ كافٍ من التَّغطية القانونية المُكيَّفة سياسيًّا وبراغماتيًا، وربما أيضًا بقدرٍ غير يسيرٍ من المشروعية التاريخيَّة والحضاريَّة التي أُسْهبَ في تزوير أسسها، وتزييف أدلَّتها وبراهينها، وترويجها في العالم بغيةَ تضليله ونيل موافقته ودعمه، أو إسكات صوت رفضه ومُعَارضته.
وقد أُريد لثالوث المشروعيّةِ الخداعيِّ المُضَلِّلِ هذا أنْ يُغطِّي، وأنْ يُسَوِّغَ ويُبرِّر، في تضافُرٍ تشابُكيٍّ، كُلَّ ما سيتطلَّبه تنفيذ «وعد بلفور»، وتجسيده واقعًا قائمًا في الواقع الفعلي القائم في فلسطينّ، من خداعٍ وتضليلٍ، وإرهاب وقهرٍ، ومن اقترافٍ لانتهاكاتٍ جسيمةٍ لحقوق الإنسان الفلسطينيِّ، ولجرائمَ حربٍ، وجرائمَ ضدَّ الإنسانيَّة، ليس أقلها جرائم التَّطهيرٍ العرقيِّ، والاقتلاعِ من الأرض، والطَّردِ خارج الوطن، والتَّهجير القسريِّ، والإبادة الجماعيَّة التي تستهدفُ الشَّعب الفلسطيني بأسره، والتَدمير الكُلِّي الشَّامِل الذي يستهدف فلسطين بأسرها: بشرًا، وحجرًا، وشجرًا!
ولعلَّه يكون من الصَّائب تمامًا، بل ومن الضَّروري لتأصيل الاستنتاجات، والخلاصات التَّحليلية، ولبلورة المواقف السَّوية، والرُّؤى الاستراتيجية المُستقبليَّة القابلة للتَّحقق الفعلي فوق أرض فلسطين على نحوٍ يُنْهي هذا الصَّراع الدَّامي بإعادة الأمور إلى نصابها العادل، أنْ نُبْصِرَ وقائعَ الحَربِ العدوانية الإرهابيَّة الإسرائيلية المُسْتَهْدِفَةِ الآنَ فلسطين وشعبها، والجارية أحداثها ووقائعها التَّوحشيَّة في قطاعِ غزة، وفي الضِّفة الغربيَّة، وفي القُدس الشَّرقيَّة، منذُ اليوم التالي لإتمام عملية «طوفان الأقصى» بنجاح باهر، أي منذ الثامن من تشرين الأول (أُكتوبر) 2023 حتَّى هذه اللَّحظة، في مرايا وقائع الحرب العدوانية الإرهابيَّة الصُّهيونيَّة التي جرت أحداثها في تصاعدٍ مُستَمرٍّ على مدى يربو على العقدين من الزَّمن، وهي الحرب التي انتهت بتزامنِ لحظة تحقُّق النَّكبَة الفلسطينية الكُبري مع تَحَقُّق قيام «دولة إسرائيل» فوق أرض فلسطين، إذْ تتطابق غايات حروب دولة إسرائيل وحربها الرَّاهنة ضدَّ فلسطين كُلِّها في قطاع غزَّة، تطابقًا تامََّا، مع غايَات حُروب العصابات الإرهابيَّة الصُّهيونيَّة الّتي أَسَّسَ إرهابُها الغاشِمُ «دولة إسرائيل» ككيانٍ إرهابيٍّ وظيفيٍّ هو في حقيقتهِ، وبطبيعة وظائفه ودوافع إنشائهِ قاعدة عسكريَّة استعمارية، أو دولةُ جيشِ غزو وعدوانٍ، فقد كانَ أنْ جُمِّعَتْ هذه العصاباتُ الإرهابيَّة بعد نحو شهرٍ من تاريخ الإعلان عن إنشاء «دولة إسرائيل»، لِتُجْعلَ، في مجموعها، جيشًا لخوض الحروب العدوانية الإسرائيلية التي يُنتظَرُ من هذه الدَّولةِ المُسَلَّحةِ خوضها في مُقْبلِ السِّنين.
غَاياتُ حُروبِ الإرهاب الصُّهيوني
إنَّنا، إذنْ، إزاء تطابُقٍ تَام، ومُطْلقٍ، بين غايات حروب العصابات الصهيونية العنصريَّة الإرهابيَّة والوسائل والأدوات والأعمال الوحشية المُوَظَّفة لتحقيقها، وغايات حروب «دولة إسرائيل» الصهيونية العنصريَّة الإرهابيَّة، القائمة الآن في فلسطين: حكومة يمينيَّة فاشيَّة، وجيش إرهابي ودولة وظيفيَّة ارتزاقِيَّة، وبُنىى اقتصادية، وهيئاتٍ مالية، ومؤسسات علمية، وشعب مُخْتَرع ومجتمع مُفْبرك مُشَكَّل من شذرات لا يجمعها جامعٌ إلَّا الجشع، والتَّوحش الأعمى، والوعي الزَّائف، وهي الحرب التي تستهدف فلسطين وشعبها بنكبة جديدةٍ كُبرى، أو لِنَقُل بحلقة جديدة كُبرى من حلقاتِ نكبةٍ قديمةٍ كُبرى لم تتوقف فصول حلقاتها منذُ الرَّابع عشر من أيار (مايو) 1948 الذي هو يوم إيجاد «إسرائيل»، إيجادًا تعسُّفِيًَّا قسريًَّا في «فلسطين»، حتَّى هذا اللحظة التاريخية الفارقة، وربَّما الحاسِمَة أيضًا، من تاريخ الصَّراع الحضاريِّ الوجوديِّ الفلسطينيِّ– الصُّهيوني الرَّأسمالي الاستعماريِّ التَّوسُّعي، ومن تاريخ فلسطين، وشعب فلسطين، وتواريخ بلاد العرب، والشَّرق الأوسط وشمال أفريقيا، والعالم بأسره.
فما هي، بحقِّ السَّماءِ، غايةُ استهدافِ دولةِ الجيش العدواني الإرهابي التَّوحُّشي المُسمَّاة «إسرائيل»، أَهلَ غزة عن بكرة أبيهم، بقصفٍ جويٍّ وبحريٍّ وبَرِّيٍّ عشوائيٍّ أفضى، ولم يزل يُفضي، إلى اقترافِ مجازرَ يوميَّةٍ متلاحِقَةٍ استعْصَت، ولم تزل تستعصي، على العَدِّ والحصرِ؟ وما معنى أنْ تفضي هذه المجازرُ الإباديَّةُ الجَمعِيَّة، ضمن ما قد أفضت إليه من محنٍ ومآسٍ، ومن عقابيلَ فادحةٍ، وكوابيسَ سوداء، إلى استئصال أسماء مئات العائلاتِ الفلسطينيَّة من السِّجلِ المدنيٍّ الفلسطينيِّ؟ وهل ثمّة لهذا الاستهداف المُتواصل، على نحو عشوائي وبلا أدنى قدرٍ من التَّمييز بين مدنيٍّ ومُسَلَّح، أو بين مُقَاومٍ فَتيٍّ ذي مقاصد نبيلة، وبين جنينٍ في بطنِ أُمِّه، ووليدٍ، وطفلٍ، وامرأةٍ، وشابٍ، وكهلٍ، وشيخٍ، وعجوز هرمٍ، منْ غايَةٍ يُمكنُ رصدُها إلَّا إبادة الشَّعب الفلسطيني عن بكرة أبيه، واستئصالِ وجوده؟!
ثُمَّ ألا ينطوي هذا الاستهداف الذي شهدناهُ على مدى يربو على خمسة وسبعين يومًا، والذي لم نزل نشهده حتَّى اللحظة، على حقيقة أنَّ جيش إسرائيل ودولته بكل مُكوِّناتها، قد عجزا عن القضاءِ على الشَّعب الفلسطيني أو فرض الهيمنة المطلقة عليه، ناهيك عن عجزهما عن فرض التَّهويد الكُلَّيِّ على أرض فلسطين لكونها ترفض، رفضًا جذريًَّا وبعنادٍ باسلٍ، أدنى وجودٍ للصهيونية وليهودها المُصَهينينَ المُحَوْسَلِينَ المُؤَسْرلينَ، فوق تُرابها، فتلفظهم مُفْصٍحَةً عن إطلاقية رفضها وجذريَّته، عبر استمراريَّة المُقَاومة الشَّعبية الباسلة على مدى يربو على قرنٍ من الزَّمان من سعي الصهيونيَّة الاستعماريَّة المحموم لإدراك هذا الهدفِ المزدوج؟
ولعلَّنا نُدرك الآن، وبلا أدنى ريبٍ، حقيقة أنَّ الغاية المنشودة، من قبل دولة الجيش الإرهابيِّ الصهيونيِّ المُسَمَّاة «إسرائيل»، فيما يَخُصُّ فلسطينَ، وبناة تاريخها، وصُنَّاع حضارتها، ومانحيها اسمها «فلسطين»، وسكانها الأصليين الذين هم الفلسطينيون، هي الإبادةُ الجماعِيَّةُ الكُلَّيَّةُ والمُطلَقَة والتي تشمل القضاءَ النِّهائي على البشر والحجر والشَّجر، والتي في إطارها وحدها، ودونَ أيِّ جريمة كُلِّيَّةٍ ومطلقةِ تقترفها إسرائيلُ سواها، يندرجُ التَّدمير الإسرائيليَّ الشاملِ للمستشفيات والمراكز الصحية، وأماكن الإيواء والبيوت والمباني، ولأسس الحياة الإنسانيَّة ومقوماتها بشتَّى تجلياتها ومظاهر وجودها، وللمعالم الحضاريَّة، والآثار الخالدة، ولكل مَعْلمٍ، أو بنيانٍ، أو مظهرٍ تاريخيٍّ، يدلُّ على رسوخ فلسطينية الأرضِ الفلسطينيَّة في حضارة فلسطين وتاريخها الإنسانيينِ، أو يُعزِّزُ إدراكَ الآخرينَ من النَّاسِ أصالةَ انتماءِ الثقافة الوطنيَّة الفلسطينيَّة إلى هُوِيَّةِ فلسطين، الإنسانيَّةِ الجوهرِ والتَّجليات والآفاق، باعتبارها أصالةً راسِخةً مكَّنَتْها من أنْ تَكونَ، بإرادةِ صانعيها من الأسلاف الفلسطينيين الأُصلاءِ، وبإصرار الأجيال الفلسطينيَّة الآتية من المُستقبل على الوفاء لهؤلاء الأسلاف، ثقافةً حُرَّةً مُتَجذِّرةً ومًتَجدّدةً في آنٍ، وتَعْجَزُ عنْ مُفَارقة جوهرها الإنساني المسكونِ بفلسطينيَّتها السَّاطِعة، ولا تستطيعُ الانتماءَ إلى ذاتٍ غير ذاتها، وتعوزها القُدرة على الدَّلالة على هُويَّةٍ تُغايِرُ هُوِيَّتها الفلسطينيَّة الرَّاسخة في جميع مُكوناتها، وهو ما جعلها ثقافَةً وطنيةً فلسطينيَّةً إنسانيَّةً؛ استعصت، ولم تزل تستعصي، على جميع المُحَاولاتِ الصُّهيونيَّةِ، ومن ثمَّ الإسرائيليَّة، التي تواصلت على نحوٍ كابوسيٍّ مَحْمُومٍ، والتي لم تَكفَّ عن استهدافها استهدافًا كُلَّيًَّا طال جميع مُكوناتها، ومرتكزاتها الحضاريَّة، بالسَّرقة، والاستلاب، والتَّزويرِ الرَّخيصِ، وبادِّعاء الملكيَّةِ بالإقدامِ الدَّنيء على نسبتها، زورًا وبُهتانًا، إلى يهود غابرينَ يُزْعَمُ أنَّ أقدام بعضهم قد وطأت ذات يومٍ بعيدٍ أرضَ فلسطين، وأنَّ بعضهم أقاموا فيها بعض وقتٍ بعد أنْ وُعِدُوا بها من قبل إلهٍ مأفونٍ، أو سِمْسَارٍ جَشِعٍ، صنعوهُ بأنفسهم لأنفسهم ليعدهم بمنحها هبةً لهم في مُقابل قرابين وعمولات، وأنَّهُم، إلى ذلك، أسلافٌ أقدمونَ، مُوغِلون في القِدمِ، ليهود أوروبا الحاليين الذين هُم أحفادهم ووارثوهم، فيما أغلبُ هؤلاء المزعومين أحفاداً وارثين يَعْلَمُون في دخيلة أنفسهم، علْمَ اليقين، أنَّ أيَّاً من أجدادهم، وآبائهم، وجداتهم، وأمهاتهم، لم يطؤوا أبدًا أرض فلسطين، ولَمْ يكُونوا من أهلها يومًا!!!
خِيَارٌ شَمْشُونيٌّ وقَلقٌ وُجُوديٌّ
إزاءَ استعصاءِ الحضارة الفلسطينيَّة، والتَّاريخ الفلسطينيِّ، والثَّقافة الفلسطينية، على جميع المحاولات التي بذلتها الحركة الصهيونيَّة، ومن ثم إسرائيل، لسرقتها، واستلابها وادِّعاء ملكيَّتها، وتهويدها وأسرلتها، لم يكنْ لكليهما أنْ تختارا أمرًا يَعكسُ عجزهما، إلَّا الانخراط المحموم في عمليات تدميرها تدميرًا كُلَّيًَّا شاملًا، ليفضي هذا التَّدمير إلى طمسها، ومحو وجودها، وإنكارِ انتمائها إلى فلسطين، وأهل فلسطين. وهذا، وفق ما نُشَاهِدُ بأمَّهات أعيننا، هو الخيار التَّوحُّشيِّ الإِبَاديِّ التَّدميريِّ الكُلِّيِّ الذي لجأتْ إليه إسرائيل وحماتها من دول الغرب الرأسماليِّ الاستعماريَّ المُتَوحِّشِ، إزاء ما أصابتهم به عملية «طوفان الأقصى» من «صَدْمةٍ فاجِعَةٍ» حال الغرور العُنصريُّ دونهم وتوقُّعِ وُقوعها.
غير أنَّ إسرائيلَ، مهما تعاظم الدعم المالي والعسكري والسياسي والدبلوماسي والإعلامي الذي تتلقاهُ من أمريكا ومن غيرها من حماتها الأوروبيين رافدي شرايينها بالدَّمِ المسلوبِ من شرايين مواطنيها من دافعي الضَّرائبِ في بلدانهم، لن تَنجُو من عقابيل اللُّجوءِ المُستَمرِّ دائمًا وأبدًا، إلى هذا الخيار التَّوحُّشي الفتَّاك، فقد أثبت التَّاريخ أنَّ تجاربَ التَّعالي العُنصريِّ، والاغترار بالقُوَّة الغاشمة، وإعْمَال التَّوحُّشِ العسكريِّ الأقصى، من قبل الغُزاةِ المُعْتَدين لكسب حروبهم الإجراميَّة في مواجهة المقاومة الباسلة التي تستهدفهم بها الشُّعوبُ المُعْتَدى عليها، قد انتهت، في أعمِّها الأغلب، بهزيمة المعتدين؛ ذلكَ أنَّ التَّوحُّشَ يفتكُّ بمُقْتَرفِيهِ من الوحوش البشريَّة، بقدر ما يفتك بالمُسْتَهدفِيَن من قبلهم به من الإنسانيين الأحرار.
ولعلَّ ما أصابَ الولايات المتحدة الأمريكية، راعية إسرائيل وحاميتها، من هزائم نكراء في فيتنام، ولبنان، وأفغانستان، والعراق، وفي أماكن أخرى من العالم كانت جيوشُها المُدجَّجة بالتَّوحُّش الأقصى قد غزتها، لتنتهي بالهزيمة والاندحار، أنْ يكون مثالًا بارزًا على الخُلاصَة التي تقول إنَّ التَّوحُّشَ سلاحٌ فتَّاكٌ ذو حدِّين فهو يجتزُّ رقابَ مُشهريهِ فيما هو يفتكُ بالمستهدفين به من قبلِهم. إنَّ التَّوحُّش خيارٌ انتحاريٌّ شَمْشُونِيٌّ تَوراتيٌّ بامتياز، وهذا الخيار لم يكنْ لإسرائيل، بموجب ماهيَّتها، وطبيعة وظائفها، وزائفِ وعيها، أنْ تذهب إلى سواهُ إزاءَ غزَّة وأهل غزَّة، وإزاء فلسطين كُلِّها وأهل فلسطين بأسرهم، ذلك لأنَّها مُنِيَتْ بهزيمةٍ فَجَّرت كوامن غيظها، وحسدها، وسعائر حقدها، وأسقطتْ أقنعتها، وكشفت هوانها العميق وهشاشتها، وأشعلتْ جَذْواتِ القلق الوجودي المُهْلك الذي لم يُفَارق كينونتها المُصْطنَعَة، ولم يكفَّ عن مواكبةِ وجُودها مُذْ نشأتها حتَّى هذه اللحظة من عُمرها الافتراضي الآيلِ، بلا ريبٍ، إلى انتهاء!
وهكذا كان لأنياب إسرائيل العنصريَّة المتعالية المغرورة، ولمخالبِ تَوحُّشِهَا، ولأظلافِ جَشَعِهَا، ولِسَعَائرِ قلقها الوجوديِّ اللَّاهب، أنْ تُشعِل نيرانِ حربها العدوانية التَّوحُّشيَّة ضدَّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وأنْ تَرسُمَ، على امتداد رقعة هذا القطاع، صورتها الحقيقية بوصفها كياناً وظيفيَّاً استعماريَّاً عُنْصُريَّا تَوَحُّشِيَّاً، منزوعَ الإنسانيَّة، وعديمَ الأخلاق، وذلك عبرَ الاستمرار، على مدى زمنِ هذه الحرب، في إسالة دماء الأطفال والنِّساءِ، وفي تمزيقِ أشلائهم، وإطفاء بريق عيونهم وعيون جميع أفراد أُسرهم، وفي تكثيرِ ضحايا هذه الحربِ من المدنيين الأبرياء، على نحو غير مسبوق في تاريخ الحُروبِ الشَّعواء، قديمًا وحديثًا، حيثُ تجاوزت أعداد هؤلاء الضَّحايا مع مطلع يوم الأحد الموافق الخامس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) 2023، وهو اليوم الثَّمانين لاندلاع الحرب، العشرينَ ألفًا وأربعمائة وأربعة وعشرينَ شهيدًا جُلُّهم من الأطفال والنِّساء (نحو70 %)، وأربعةً وخمسين ألفًا وستة وثلاثين جريحًا ومصابًا، بينهم عدد غير قليل من الإصابات البالغة والمُرشَّحين لإعاقات دائمة، وذلك إضافةً إلى ما يربو على عشرة آلاف مفقود تحت الرُّكامِ سيكونُ أعمهم الأغلبِ، في ظل العجز شبه الكلِّي عن إنقاذهم تحت وطأة القصف المستمر، من الشُّهداء، وذلك بحسب إحصاء وزارة الصِّحة الفلسطينيَّة.
وليس لصورة إسرائيلِ كصورةٍ كاشِفةٍ عن حقيقتها التي لم تكفَّ عن السَّعي لإخفائها، أنْ تكتملَ إلَّا بوجود شتَّى تجلياتِ الحُطَام شبه الكُلِّيّ الذي آلَ قطاع غزة إليه، حيثُ كان لاستهداف قَصْفِ الطائرات الحربية الإسرائيلية العشوائيِّ الهمجيِّ جميعَ مخيمات اللُّجوء الإرغامي القسري في هذا القطاع السَّاحلي الضَّيق من أرض فلسطين، كما جميع مدنه، وبلداته، وقراه، أنْ يُحيلها جميعًا، وبلا أدنى استثناءٍ، إلى تجسُّداتٍ عيانيَّةٍ منظورةٍ لهذا الحُطامِ الكُلِّي، وكأننا، في واقعِ الحال، إزاء حرب إبادة إسرائيليَّة تطولُ الحجرَ والشَّجرِ، وتتلاقى، على نحو فظائعيٍّ مرعبٍ، مع حرب الإبادة الجماعية التي تطولُ الأحياءَ والبشر!
وكأني بإسرائيلَ المأخوذة بالحرصِ على تجميل وجهها، ومتابعة تزييف صُورتها الإجرامية الحقيقية على نحو لا يظهر معه، في هذه الصُّورة الزَّائفة، إلا نقيضها الإنسانيِّ النبيل، قد تخلت، أو هي قد أُرْغِمت على أن تتخلى، عن كل ما كانت الحركة الصهيونية، وقوى الاستعمار الرأسمالي الأوروبي الأمريكي الغربي، قد اعتمدته في رسم صورتها ذات الملامح الإنسانية المُدَّعاة التي جرى ترويجها وتسويقها، والتي التهب السَّعي التهابًا محمومًا لتضليل الرأي العام العالمي بها على مدى يقارب الثلاثة أرباع قرنٍ من الزمان.
هل تُبْصِرُ إسرائيلُ بشاعتها؟
ويبدو أنَّه لم يَكُنْ للصُّورة التي شرعت إسرائيلُ، منذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، في رسمها لنفسها على نحو يُظْهِرُ، بغير إرادتها الواعية، حقيقتها، إلا أنْ تُرِيْها بشاعة وجهها المُتَوحِّش القبيح في مرايا جرائمها التي لن تُبصِرَ عيونها، بابتهاجٍ، سواها، وإلا أنْ تبثَّ هذا الوجه بكل قسماته وملامحه، عبر أثائرِ الفضائيات وعلى شاشات التلفزة العالمية، ووكالات الأنباء، ومواقع ومنصات الاتصال والتواصل الإعلامي المتوافرة ضمن شبكة المعلومات الدولية، لإبصار قاطني العالم من بشر وإنسانيين، وذلك بلا مكياجٍ تجميليٍّ، أو رُتُوشٍ تزيينيَّة، أو أقنعة تظهرُ نقائِضَ ما تُخفيه من وجوه عديدةٍ يتضافرُ قبحُهَا مع بشاعتها، ليقولا دلالة وجهٍ واحدٍ هو وجه التَّوحُّشِ الصُّهيونيِّ الجَشَعِ وقد انحدر توحُّشُهُ حتى بلغ آخر قيعان الحضيض العنصري، وتصاعد جَشَعُهُ حتَّى بلغَ ذروة الجشع الرأسماليِّ الاستعماريِّ التَّوسُّعي الاستحواذي التَّمَلُّكي المنفلت من كل عقال! عبر ما فرضته إسرائيل على قطاع غزة من حصارٍ خانقٍ ظلَّ قائمًا، ومُتصاعدَ الوتائر، منذ العام 2006 حتّى اللحظة، وعبر كلِّ ما اقترفهُ جيشها الإرهابي من تدمير وتخريب ومجازر وجرائم حربٍ، وإبادةٍ، وجرائم تطهير عرقي، وجرائم ضد الإنسانية، تواصلت على مدى سبعة حروبٍ شنَّتها إسرائيلُ ضدَّه على مدى هذه الأعوام، وبلغت ذروة توحُّشها في الحرب السَّابعة التي لم نزل نشهدُ حلقات فصولها المُتتابعة، تكونُ هذه الإسرائيل قد أعادت رسم صورتها الوحشيَّة الملتقطة لها في العام 1948، كاشِفةً بهذه الإعادة حقيقةَ حقيقتها، ومُظْهِرهً، بجلاءٍ ساطِعٍ، جميع مكونات هويتها ككيانٍ استعماريٍّ وظيفيٍّ إرهابيٍّ، همجي وتَوحُّشي، وذلك على نحوٍ يؤكَّدُ حقيقيةً أخرى ظلَّت، بسبب كثافة الترويج الإعلامي الصهيوني والأوروبي الأمريكي الغربي، لصورةٍ خادعةٍ لإسرائيل تناقضُ حقيقتها، ظلَّتْ خفيَّةً على الإدراكِ.
وما مُؤدَّى هذه الحقيقة التي كشفتها حربُ إسرائيل الإباديَّة التَّدميريَّة الجارية حتَّى اللحظة ضدَّ فلسطين عبر استهدافها قطاع غزة وأهله، إلَّا أنَّ «دولة إسرائيل» لم تجنح يوماً إلى السلام، لأنها لم تُوْجَد، ككيان استعماري عدواني في فلسطين من أجل إقامة السَّلام وإشاعته، بل من أجل نشر وتكريس وجود كل ما يُناقضهُ، ذلك أن «وصفها الوظيفي» الصادر عن منظومة الاستعمار الغربي الأوروبي الأمريكيِّ، لم يتضمن أي مهمةِ عملٍ، أو وظيفةٍ مؤقَّتةٍ أو دائمةٍ، ترتبط من قريبٍ، أو من بعيدِ، بالسلام، سواء كمبدأ يُجَلُّ من يعتنقه ويُرَوِّجُ لهُ، أو كَمُوجِّهٍ سُلُوكيٍّ يسمو في الإنسانية من يأخُذ بهِ من الإنسانيين من النَّاس؛ فَهل لإسرائيل أنْ تتنكَّرَ لكلِّ ما وَسَم هويَّتها من خصائص وتجلياتِ سلوكٍ أكَّدت عنصريتها، وبشريَّتها المُتَوحِّشة، وانعدام أخلاقها، فأخرجتها، تأسيسًا على ذلك، من دائرة الإنسانيَّة الحقَّة؟ وهل لإسرائيل أنْ تفعل ذلك، أو أنْ تسعى لفعله، لتكونَ جديرةً بالوجود في عالم لم يكُفَّ أغلبُ قاطنيه من الإنسانيين من النَّاس عن السَّعي لأنْ يكونَ إنسانيَّا!
الحقُّ أَنيِّ لا أحسبُ أنَّها ستفعلُ شيئًا سوى متابعة الانتماء إلى نفسها، والاستمرار في توحُّشَها الطَّاغي، حتَّى يطغى عليها، فيُهلِكُهَا!