وفي كتاب " بلاغات النساء" لاحمد بن طيفور مادة غزيرة للباحث الادبي فهو يتناول جملة من طرائف كلام النساء وملح ذوات الرأى منهن، ونوادرهن واشعارهن في الجاهلية وصدر الاسلام، مادته متنوعة تجمع بين الشعر والنثر وتمثل اسلوب كل اديبة وسمات ادب المرأة بصورة عامة؟
كان للمرأة فى تراثنا العربي والاسلامي مشاركة بارزة فى الانتاج الادبي عبر العصور مما يخالف النظرة السائدة التي ترى أنها لم تتحرر إلا في عصرنا، ذلك أن مشاركة المرأة للرجل فى الحياة الادبية ثمرة وعى حضاري لا يتوافر إلا فى شروط معينة .
فالأدب النسائي المتحدر الينا من الجاهلية يدل على دور المرأة السياسي والاجتماعي في الحياة، وقيادتها مسيرة الفكر والثقافة ، وجرأتها على قول الحق ، وعدم استكانتها للظلم ، ووعيها البالغ فى كل موقف من مواقف الحياة ، ولا يستقيم هذا الوعى إلا فى جو الحرية الذي كانت تعيش فيه المرأة العربية فى الاسلام وقبل الاسلام .
وللادب النسائي طوابعه المميزة وسماته المخصومة وان كانت هذه الطوابع لم تنل حظا كبيرا من عناية الكتاب إلا بعض الاهتمام .
وفى كتاب "بلاغات النساء" لاحمد بن طيفور مادة غزيرة للباحث الادبي فهو يتناول جملة من طرائف كلام النساء وملح ذوات الرأى منهن ، ونوادرهن واشعارهن فى الجاهلية وصدر الاسلام ، وعادته متنوعة تجمع بين الشعر والنثر وتمثل اسلوب كل اديبة وسمات ادب المرأة بصورة عامة .
ولد مؤلف الكتاب الامام ابو الفضل احمد بن أبي طاهر طيفور فى خراسان سنة 204هـ وتوفى سنة 280هـ فى عصر ازدهر فيه الادب وشاع فيه التسري وكان للجواري دور فى الغناء الذي يقوم على مختارات من الشعر من مختلف العصور، وقد ساعد الغناء على نشر الادب وحفظه ، وبرز من المغنيات اديبات صقل الادب السنتهن ، غير ان مكانة المرأة الحرة، انحدرت عموما فى العصر العباسي عما كانت عليه فى الجاهلية وصدر الاسلام وعهد بني امية فأحب المؤلف ان يعيد الى الاذهان تلك الصفحة الناصعة لبلاغة المرأة العربية فى العصور السالفة فى الشعر والنثر فألف كتابه "بلاغات النساء" ليطبع فى نفوس الاجيال ملكة البيان وتكون مختاراته قدوة لنساء عصره .
وقد قام بنشر كتاب "بلاغات النساء" وعلق عليه السيـد احمد الالفـي وطبعـه عـام 1908م (1326هـ) فى مطبعة مدرسة والده عباس الاول بالقاهرة معتمدا على مخطوط دار الكتب المصرية المستنسخة وعلى اصل آخر استنسخ للشيخ العلامة الشنقيطي.
ولم تبرأ نشرة الاستاذ الالفي من الاخطاء والتصحيفات فى طبعته هذه .
يقع كتاب "بلاغات النساء" فى 203 صفحات من القطع الصغير غير الفهرس والتصويبات وقد ضبطا المحقق بالشكل وشرح مفرداته وزوده بحواش غنية ، واعترضته صعوبات فى التحقيق لان بعض النصوص الواردة فيه غير واردة فى المصادر الاخري، وقد اتبع المؤلف منهجا ادبيا فى عرض مادة الكتاب ، فبدأ بكلام بليغات النساء فى صدر الاسلام ومنهن عائشة ام المؤمنين رضى الله عنها. وزينب بنت علي، وحفصة بنت عمر بن الخطاب ، ومودة بنت عمارة ، والزرقاء بنت عدي، وبكارة الهلالية ، والجمانة بنت مهاجر، وامرأة ابى الاسود، وآمنة بنت الشريد (من ص 1: 64)
ثم ذكر جملة من كلام بليغات النساء زمن معاوية ومنهن الدارمية الحجونية وجردة بنت مرة وام البراء.
واغلب الاقوال التي ذكرها خطب او كلمات جامعة فى المناسبات السياسية والاجتماعية (من ص 64: 120) وتحول المؤلف الى تصنيف كلام النساء فى مناسبات معينة ، فأورد بلاغاتهن فى المنازعات بين الازواج وفى مدح الزوج او ذمه ، وصفات الزوجية ، ووصايات النساء لبناتهن عند الزواج ، ومشاوراتهن ، وعقد فصلا عن بلاغات النساء ومقاماتهن وبعض اشعارهن (هن ص 120: 138)، وآخر عن اخبار مواجن النساء ونوادرهن واجوبتهن (من ص 138: 197)، وآخر في اشعار النساء (من ص 167: 172) أورد فيه مختارات من شعر الخنساء وليلى الاخيلية ثم متفرقات من الشعر النسائي فى مختلف اغراضه (من ص 172: 203).
وسنعرض لبعض خصائص الادب النسائي فى الكتاب بعد ان نلخص مجمل ما اورده المؤلف لبليغات النساء.
1- الخطابة:
كلام عائشة ام المؤمنين رضى الله عنها: يتجلى فى ادب السيدة عائشة قوة شخصيتها وعلو مكانتها فهي ذات عقل راجح لاتتكلم إلا فى جلاء الامور الجليلة والمناسبات الخطيرة .
ذكر المؤلف نبذة من كلامها فى الدفاع عن ابيها، ومحاورتها طلحة والزهير حين حجت فى السنة التي قتل فيها الخليفة عثمان رضى الله عنه ، وبعض اقوالها فى وقعة الجمل ، قال معاوية "ما رأيت احدا بعد رسول الله ابلغ من عائشة رضى الله عنها".
فمن اقوالها حين سمعت ان قوما نالوا من ابيها:
(… ذاك والله حصن منيف ، وظل مديد. انجح إذ أكديتم وسبق اذ ونيتم سبق الجواد اذا استولى على الامد، فتى تريش ناشئا، وكهفها كهلا، يريش مملقها، ويفك عانيها ويرأب صدعها، ويلم شعثها، حتى حلته قلوبها، واستشرى فى دينه ، فما برحت شكيمته فى ذات الله عز وجل حتى اتخذ بفنائه مسجدا يحيى فيه ما امات المبطلون وكان رحمة الله عليه غزير الدمعة ، وقيذ الجوانح ، شجي النشيج ..)
والسيدة عائشة تختار فى كلامها الجمل القصيرة وتكثر من الترادف والتوازن وترفد بيانها بالصور الحسية ، وفى كلامها سجع وايقاع جميل ، وهى تحسن اختيار عباراتها وتمد قريحتها المتدفقة وعقلها الراجح عاطفة رقيقة تميز كلامها عن كلام الرجال ، وهى فى ارتجالها الاقوال القصيرة البليغة تصدر عن ذكاء وروعة بيان .
رأت رجلا متماوتا، فسألت : ما هذا؟؟
فقالوا: زاهد
قالت : "كان عمر بن الخطاب رحمه الله زاهدا، وكان اذا قال اسمع واذا مشى اسرع ، واذا ضربهم فى ذات الله أوجع ..".
ففهمها للزهد ينسجم وتعاليم الدين ، وتعبيرها عنه جاء فى قمة البلاغة ولها فى البلاغة اقوال جامعة مانعة كقولها فى التقوى:
" لله در التقوى، ما تركت لذي غيظ شفاء".
وقولها "لاتطلبوا ما عند الله من غير الله بما يسخط الله ".
ولم يكن كلامها يخلو من غريب اذا قيس بلغة عصرنا كقولها حين دخلت على ابيها فى مرضه "يا أبت، اعهد الى حامتك، وانفذ رأيك فى سامتك ، وانقل دار جهازك الى دار مقامك انك محضور –اى حضرته المنية – متصل بقلبي لوعتك ، وارى تخاذل اطرافك، وامتقاع لونك، والى الله تعزيتي عنك ، ولديه ثواب حزني عليك ، ارقأ فلا ارقي – اي اسكن فلا اسكن – وأبل فلا أنقى -اي ارتشف الماء فلا أروى".
وفى حزنها عى مرض ابيها تتجلى رقة عاطفتها بالرغم من قوة شخصيتها وشجاعتها الادبية.
** فاطمة بنت رسول الله (ص) :
وأما بلاغة فاطمة بنت رسول (ص) فتتجلى فى تدفق عاطفتها وحرارة تعبيرها، فكلماتها مختارة شديدة الموقع فى القلوب وعباراتها مسجوعة قصيرة تعمد الى التصوير المحسوس ، وتسكب الفكرة فى ثوب من البيان الملموس ، ولغتها مقدودة من عالم البادية الخشن القاسى، إلا انها تجيد التأثير فى القلوب ، دخل النساء عليها فى مرضها الاخير، فسألنها: كيف اصبحت من علتك يابنت رسول الله ، فقالت من كلام طويل "اصبحت والله عائفة لدنياكم ، قالية لرجالكم ، لفظتهم بعد ان عجمتهم ، وشنأتهم ، بعد ان سبرتهم ، فقبحا لفلول الحد، وجور القنا، وخطل الرأى، وبئسما قدمت لهم انفسهم ان سخط الله عليهم وفى العذاب هم خالدون ، لاجرم لقد قلدتهم ربقتها وشلت عليهم عارها، فجدعا وعقرا وبعدا للقوم الظالمين ، ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة ، ومهبط الروح الامين ، الطبن بأمور الدنيا والدين الا ذلك هو الخسران المبين ..).
ان عاطفتها القوية تطفى على تعبيرها، وهى تحسن نقل مشاعرها الى القارىء من خلال الكلمات والصور فترقى به الى افق من الخيال ، وتستولى على حسه ومشاعره فلا يسعه إلا المشاركة الوجدانية .
** زينب بنت علي ، وام كلثوم .
هاتان السيدتان الكريمتان نشأتا فى حجر البلاغة ، وكلامهما يشبه الى حد بعيد كلام السيدة فاطمة من حيث جزالته وقوة اسره وشدة وقعه ، من ذلك خطبة زينب امام يزيد بن معاوية بعد مصرع اخيها الحسين "اظننت يا يزيد انه حين أخذ علينا بأطراف الارض واكناف السماء، فأصبحنا فساق كما يساق الاساري ان بنا هوانا على الله ، وبك عليه كرامة ، وان هذا العظيم خطرك فشمخت بأنفك ، ونظرت فى عطفيك ، جذلان فرحا حين رأيت الدنيا مستوسقة لك ، والامور متسقة عليك ، وقد امهلت ونفست .. امن العدل تحذيرك نساءك واماءك وسوقك بنات رسول الله (ص) قد هتكت ستورهن واصحلت اصواتهن ، مكتئبات تحذى بهن الاباعي، ويحدو بهن الاباعد من بلد الى بلد، لايراقبن ولا يؤوين ، يتشرفهن القريب والبعيد، ليس معهن ولي من رجالهن …"
وفى هذا الخطاب ما فيه من القسوة والعنف والجرأة فى مخاطبة الخليفة مما لايجسر على قوله الرجال ، وفيه من التقريع واللوم وقوة الحجة وروعة البلاغة ما يشعر بأن كلامها قطعة من كلام ابيها فصاحة وبلاغة .
ولا تقل خطبة ام كلثوم فى اهل الكوخة عن خطبة زينب بلاغة فقد وقفت بين اهل الكوفة ونسوتها يبكين الحسين ، فكأنما كانت تنطق بلسان ابيها على حد تعبير جعفر بن محمد، راوي الخطبة ، فأومأت إلى الناس الى ان اسكتوا، فلما سكنت الانفاس قالت : "ابدأ بحمد الله والصلاة والسلام على نبيه ، اما بعد: يا اهل الكوخة ، يا اهل الخر "الغدر" والخذل ، لا فلا رقأت العبرة، ولا هدأت الرنة ، انما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا، تتخذون ايمانكم دخلا "الغدر" بينكم الا وهل فيكم إلا الصلف والشنف "البغض" وملق الاماء وغمز الاعداء، وهل انتم إلا كمرعى على دمنة ، وكفضة على ملحودة "مدفونة " الاساء ما قدمت انفسكم ان سخط الله عليكم وفى العذاب ، انتم خالدون ، اتبكون ..؟؟ اي والله فابكوا، وانكم والله احرياء بالبكاء، فابكوا كثيرا، واضحكوا قليلا، فلقد فزتم بعارها وشنارها..".
والسيدة زينب تنوع فى العبارة بين الخبر والانشاء، وتتلاعب فى قلوب سامعيها، واسلوبها يشبه الى حد بعيد اسلوب والدها علي بن ابي طالب رضى الله عنه فى خطبه ، وكأن البلاغة ارث تحدر اليها مع الدم .
** سودة بنت عمارة :
كانت سودة بنت عمارة مع علي رضى الله عنا يوم صفين فلما ولي معاوية الخلافة ارسل فى طلبها وذكرها بمواقفها.. فأجابته : نشدتك الله يا امير المؤمنين واعادة ما مضى، وتذكار ما قد نسي ، قال : هيهات لله ما مثل مقام : اخيك ينسى، وما لقيت من احد ما لقيت من قومك واخيك، قالت : صدق فوك … لم يكن اخي ذميم المقام ولا خفى المكان .. مات الرأس وبتر الذنب ، وبالله اسأل امير المؤمنين اعفائى مما استعفيت منه ، قال قد فعلت .. فما حاجتك ؟
قالت : انك اصبحت للنباس سيدا، ولامرهم متقلدا… والله سائلك فى امرنا، وما افترض عليك فى حقنا.. وما يزال يقدم علينا من ينوى بعزك ، ويبطش بلسانك فيحصدنا حصد السنبل ، ويدوسنا دوس البقر، ويسومنا الخسيسة ويسلبنا الجليلة ، ولولا الطاعة لكان فيناي ومنعة " الى اخر حديثها الطويل الذي اقنعت فيه الخليفة بعزل (يسر بن ارطأة ) واليه بعد ان شكت اعماله وظلمه قومها فكتب بعزله ، وحملت كتاب العزل بيدها الى يسر بن ارطأة ولم يكن من السهل عليها اقناع معاوية وكانت وقومها من معارضيه لولا ما اوتيت من قوة الحجة وبراعة الاقناع.
** الزرقاء بنت عدي وبكارة الهلالية :
والزرقاء بنت عدي يشبه موقفها موقف سودة ، كانت مع علي هي وقومها يوم صفين ، وانشأت كلاما بليغا تحرض الناس فيه على قتال معاوية … جاء فيه :
"ألا ان خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدهاء، والصبر خير فى الامور عواقب ، ايها الى الحرب ناكسين فهذا يوم له ما بعده ".
فاستدعاها معاوية بعد خلافته وجاء لها فى موقفها، فلم تكن اقل جرأة من سودة ، قال لها معاوية فى حوار طويل ، يا زرقاء لقد شركت عليا فى كل دم سفكه .
فقالت : احسن الله بشارتك وادام سلامتك ، مثلك من بشر بخير وسر جليسا..
قال معاوية : وقد سرك ذلك ..
قالت : نعم والله … لقد سرني قولك ، فأنى بتصديق الفعل .
قال معاوية : والله لوفاؤكم بعد موته احب لى من حبكم له فى حياته ، اذكري حاجتك .
قالت : يا امير المؤمنين … أنى أليت على نفسي الا اسأل اميرا اعنت عليه شيئا ابدا.. ومثلك اعطى من غير مسألة وجاد من غير طلب .
قال : صدقت .. فاقطعها ضيعة أغلتها..
ولم تكن بكارة الهلالية اقل جرأة امام معاوية من الزرقاء، والمرء يعجب من موقف تلك النسوة، وان كان يداخله الشك فى ان قسما من هذه الاخبار، انما وضع لاغراض سياسية لقد دافعت بكارة الهلالية عن موقفها فى صفين امام معاوية فانبرى لها سعيد بن العاص ، وذكرها بشعرها في صفين …
فقالت لمعاوية .. نبحتني كلابك يا امير المؤمنين ، واعتورتني، فقصر محجني "العصية " وكثر عجبي وغشي بصري، وانا والله قائلة ما قالوا لا ادفع ذلك بتكذيب ، فامض لشأنك فلا خير فى العيش بعد امير المؤمنين "تريد عليا".
2- كلام الاعرابيا ت :
ان بلاغة المرأة العربية تتجاوز سيدات المجتمع البارزات الى الاعرابيات فى الصحراء وقد رضعن البلاغة مع حليب الامهات ، هذه اعرابية من "هوازن " تقف امام عبدالرحمن بن ابي بكر في سنة جدب فتخاطبه قائلة :
"اصلحك الله ، اقبلت من ارض شاسعة ترفعني رافعة ، وتخفضني خافضة بملحات من البلاد، وملمات من الدهور، برين عظمي واذهبن لحمى، وتركنني والها، وانزلنني الى الحضيض وقد ضاق بي البلد العريض ، لا عشيرة تحميني ولا حميم يكنفني فسألت فى احياء العرب المرجو سيبه المأمون غيبه ، المكفن سائله ، الكريمة شمائله فأرشدت اليك وانا امرأة
من "هوازن " مات الوافد وغاب الرافد، ومثلك فى سد الخلة ، وفك الغلة ، فاصنع إحدى ثلاث: اما أن تقيم من اودى، او تحسن عطائى، او تردني الى بلدى، قال : بل اجمعهن لك وحبا".
وبلاغة الاعرابيات اقرب الى الطبع والتدفق العفوى وسجعهن بعيد عن التكلف يصدر عن السليقة والطبع ، ولا عجب فهن ينهلن اللغة من نبعها الصافى وليس فى كلامهن ما يبتعد عن حياة المرأة البدوية العادية فلا سياسة او ثقافة تجهد الفكر او تقيد اللسان انهن يعكسن اللغة الشعبية وجوانب الحياة الخصيبة .
-اجوبة النساء ومنطقهن :
وفى اجوبة بعض النساء ومنطقهن يبرز الى جانب بلاغة القول حدة الذكاء وقوة الحجة وسرعة البديهة ويدخل فى هذا الباب الذي عقد له المؤلف فصلا خاصا فى مواقف النساء من ازواجهن من مدح وذم واورد ملحا من نواد رهن ومزاحهن ، والمرأة فى هذه المواقف تبدو قوية المنطق ، بارعة النكتة ، تقهر الرجال وتفحمهم ، ومن تلك المواقف اجوبة امرأة أبى الاسود الدؤلى فقد طلقها فشكته الى معاوية فمثلا امامه ، فسأل معاوية ابا الأسود عن سبب طلاقها:
فقال : ما طلقتها عن ريبة ، ولا لأي هفوة حضرت ولكني كرهت شمائلها، فقطعت عني حبائلها.
قال معاوية : وأى الشمائل كرهت يا أبا الأسود..؟
قال : يا امير المؤمنين … انك تهيجها علي بجواب عنيد ولسان شديد.
فقال له معاوية : لابد لك من محاورتها فاردد عليها قولها عند مراجعتها.
فقال ابو الاسود: يا امير المؤمنين .. انها كثيرة الصخب دائمة الزرب "اى بذاءة اللسان " مهينة للأهل .. مؤذية للبعل ، سيئة الى الجار، مظهرة للعار، ان رأت خيرا كتمته ، وان رأت شرا اذاعته .
فقال : والله لو لا مكان امير المؤمنين ، وحضور من حضره من المسلمين لترددت عليك بوادر كلامك بنوافذ اقرع كل سهامك ، وان كان لايجمل بالمرأة الحرة ان تشتم بعلا، ولا ان تظهر لاحد جهلا.
فقال معاوية : عزمت عليك لما اجبته .
قالت : يا امير المؤمنين ما علمته إلا سؤولا جهولا، ملحا بخيلا، ان قال فشر قائل ، وان سكت فذو دغائل ، ليث حين يامن ، وثعلب حين يخاف ، شحيح حين يضاف ، ان ذكر الجود انقمن لما يعرف من قصر رشاشه ولؤم آبائه ، ضيفه جائع وجاره ضائع ، لايحفظ جارا، ولا يحمى زمارا ولا يدرك ثأرا.
اكرم الناس عليه من اهانه واهونهم عليا من اكرمه .
فقال معاوية : سبحان الله لما تأتى به هذه المرأة من السجع .
فقال ابو الاسود: انها مطلقة ، ومن اكثر كلاما من مطلقة ؟؟
ثم فازت من معاوية بالحكم لها علي ابي الاسود بفضل بلاغتها وغلبت ابا الاسود وهو عالم واديب .
على ان للمرأة العربية مواقف موضوعية من الزوج؛ فهي لاتنكر فضل زوجها ان كان جديرا بالفضل ولا تمدح رجلها إلا بما فيا، من ذلك ما رواه مؤلف الكتاب عن امرأة عروة بن الورد بعد ان طلقها فقالت فيه فى فادق القوم : اما انك والله الضحوك مقبلا، السكوت مدبرا، خفيف على ظهر الفرس ، ثقيل على متن العدو، رفيع العماد كثير الرماد، ترضى الاهل والاجانب .
فتزوجها من بعده رجل فقال لها: أثنى علي كما اثنيت على عروة .
فقالت : لاتحوجني الى ذلك . فإني ان قلت قلت حقا.. فأبى..
فقالت : إن شملتك الالتفاف .. وان شربك الاشتفاف ، وانك لتنام ليلة تخاف ، وتشبع ليلة تضاف .
من خلال هذه الاجوبة يتضح أن المرأة كانت تكره من زوجها بخله او جبنه ، واحيانا كانت تعيب عليه قلة نظافته او رائحته او لجاجته ومخاصمته اياها، وقد تنكر عليه قلة غيرته او كثرة عتابه وظنونه ، وقد تعيب عليه لؤم خلقه او إدمانه الشراب او كبر سنه وضعف وجولته او قبح منظره .
4. وصايا النساء:
ويدخل فى هذا الباب ما تقدمه النساء البليغات من وصايا لبناتهن عند الزواج وهى وضديا موجزة العبارات بعيدة الدلالات ، من ذلك ما اوصت به السلمية ابنتها عند زواجها: اذ قالت لها: " لاتجلسى بالفناء ولاتكثرى من المراء، واعلمي ان اطيب الطيب الماء".
وما أوصت به النمرية إذ قالت " لاتطاوعى زوجك فتمليه ولا تعاميه فتشكيه ، واصدقيه الصفاء، واجعلي أخر طيبك الماء".
وما اوهمت به الاسدية اذا قالت لابنتها " ادنى سترك وأكرس زوجك ، واجتنبي الاباء، واستنظفى بالماء".
وهى وصايا ترسم اخلاق فتيات كل قبيلة وعاداتهن وصفاتهن فى معاملة الازواج
ه. نوادرالنساء:
يورد المؤلف جملة من نوادع النساء وملحهن ، وفيها صراحة ومجون ، تتجل من خلالها المرأة على حقيقتها دون تحفظ ، ومن المرجح ان الرواة زادوا فى هذه الاخبار بهدف التسلية واغلب المتند رات الماجنات نساء طاعنات فى السن او معروفات بمزاجهن فى المجتمع ومنهن: حميدة بنت النعمان التي تزوجت "روح بن زبناع " وهجته فطلقها، وتزوجها من بعده الفيض بن حكم ، وكان جميلا يصيب الشراب … فكان اذا سكر يلطمها ويقىء فى حجرها فقالت فيه :
الا يافيض كنت اراك فيضا***فلا فيضا وجدت ولا فراتا
ومنهن حمزة امرأة عمران بن خطان .. وكانت جميلة وكان دميما فقالت له يوما: إنا لعلي خير ان شاء الله ، اعطيت مثلي فشكرت وابتليت بك فصبرت .
فقال عمران : مثلي ومثلك .. ما قال الاحوص :
ان الحسام وان رثت مساربه***إذا ضربت به مكروهه فصلا
ومنهن تلك الاعرابية التي مر بها ابان بن تغلب وزوجها يضربها وكان دميما وكانت حسنة الوجه …
فقال : اتضرب مثل هذا الوجه الحسن ..؟
فقالت : أصلحك الله إن له عذرا خدعه .
قال : فما هو …؟؟
قالت : قدمت ال الله سيئتين ، فعاقبني عليهما به .. وقدم اليه حسنة فجزاه بي…!!
ومن اولئك اخت رقية بن مصقله التي ذكرها الجاحظ :
فقد مات اخوها وترك لها امانة عند رجل ، فجاء ليسلمها الامانة وطلب احضار شاهدين يشهدان انها اخت رقية ، فأرسلت الى الامام والمؤذن ليشهدا، واستندت الى الحائط …
فقالت : الحمد لله الذي ابرز وجهي وانطق عيي وشهد بالفاقة اسمي.
فقال الرجل : شهدت انك اخته حقا ودفع الدنانير لها دون شاهد.
ومع ان الباحثين النفسيين يذهبون الى ان المرأة اقل من الرجل براعة فى النادرة فإن ما ورد فى الكتاب من نوادع النساء يكشف عن ذكاء المرأة العربية وبرا عتها فى النوادع وحبها المزاح ، فهي لا تفترق عن الرجل ولا تقل عنه جدارة فى مواقف الجد والمزاح .
6- لباقة النساء ودهاؤهن:
وفى الفصل الذي عقده المؤلف عن أخبار ذوات الرأى والظرف منهن ، تتجلى لباقة المرأة العربية فى الخطاب ومراعاتها مقتضى الحال فى كلامها فمن تلك اللباقة وحسن التهذيب ما روى عن نائلة بنت القرافصة حين زفت الى عثمان بن عفان وحملت اليه من الشام ، فلما دخلت عليه … قال لها: الا تكرهين ما رأيت من شيبي…؟؟
قالت : أنى من نسوة احب ازواجهن اليهن الكهل السيد…
قال : أنى جاوزت التكهيل فأنا شيخ .
قالت : ابليت عمرك فى الاسلام ونصرة الرسول (ص) فى خير ما افنيت فيه الاعمار.
قال : اتقومين لي ام اقوم اليك .
قالت : ما قطعت اليك عرض السماوة اكثر من عرض البيت … بل اقوم اليك .
ومن ذلك ما روى عن عاتكة بنت عبدا لملك بن الحارث المخزومية زوج عبدالله بن الحسن بن علي بن ابي طالب التي اعترضت المنصور فى الحج وكان قد امر بمصادرة ضياع زوجها.. فصاحت :
– يا امير المؤمنين ، احمل عني كلك دداى عيالك ويتاماك " او اعني على حملة لك ، معى ابناء عبدالله بن الحسن صبية صغار لامال لهم ، وانا امرأة لست بذات مال فأناشدك الله ان تفارق احتمال ما يلزمك احتماله منهم عونا لهم فى اطراحهم فإني خائفة عليهم ان فعلت ان يضيعوا..
قال : من هذه يا ربيع ؟ فنسبها الربيع اليه.
قال المنصور: هكذا ينبغى ان تكون نساؤهم ..!!
وامر برد ضياع ابيهم ووهبها الف دينار.
ومن اجوبة النساء المفحمة التي تدل على دهاء… ما قالته بثينة جميل لعبد الملك بن مروان حين سألها لما دخلت عليه :
-ما رجا فيك جميل حين قال فيك ما قال :
قالت : الذي رجت منك الامة حين ولتك امورها!!
فما رد عليها عبدا لملك بكلمة .
على ان مؤلف الكتاب ذكر من دهاء النساء وحيلهن اخبارا صريحة لايجمل ذكرها.
7- اشعار النساء:
ومما اختاره المؤلف من اشعار النساء مقطوعات للخنساء ولا سعيا فى رثاء اخويها صخر ومعاوية ، وهى قصائد تحفل بالعاطفة الرقيقة والانفعال الوجداني وتصور أحلى تصوير سمو عاطفة المرأة القوية ، وتميزها فى الوفاء للاحبة ، والالم للفجيعة … من ذلك قول الخنساء فى معاوية :
ابعد بن عمرو من آل الشر***يد حلت لمت به الارض اثقالها
سأحمل نفسي على آلة***فأمـــا عليهــا وأمالهــا
وخيل تكدس بالدارعيــن***فازلــت بالسيـف ابطالهــا
يهيـن النفـوس وهـون***النفوس يوم الكريهة أبقـى لهـا
فان تك مرة اودت بــه***فقد كــان يكثــر تقتالهــا
فزال الكواكب من فقــده***وجللــت الشمـس إجلالهــا
وداهية جــرها جــارم***ثقيـل الحواضــن احبالهــا
كفاها ابن عمرو ولم يستعن***ولو كان غيـرك أدنـى لهــا
ومما ذكره من اشعار النساء، مختارات لليلى الاخيلية فى هجاء النابغة الجعدي ورثائها لتوبة بن الحمير، وكانت تحبه وكان صاحب غارات فقتله جيران لبنى عوف بن عقيل وقد اغار عليهم فمن رثائها الرقيق فيه :
اقسمت أبكى بعد توبـة هالكـا***واحفل من دارت عليه الدوائـر
لعمرك ما بالقتل عار على الفتى***اذا لم تصبه فى الحياة المعـاور
وما ألحى مما احدث الدهر معتبا***ولا الميت ان لم يصبر الحى ناشر
واورد المؤلف مختارات أخرى لمارة بنت الديان وجنوب اخت عمرو الكلبى وهند بنت حذيفة وكلها فى الرثاء.
والرثاء ابرز ابواب الشعر طروقا من الشاعرات يليه الهجاء، ومما ذكره فى هذا الباب هجاء الفارعة بنت معاوية القشيرية لبنى كلاب ، وسلمى بنت المحلق .
ومن الفخر ما قالته جمل الضبابية من بنى كلاب وهو رثاء مؤثر لايخلو من تصوير للمعارك
اميمة لو رأيت غداة جئنا***بحزم كراء ضاحية نسوق
مشينا شطرهم ومشوا الينا***كمشى معاجل فيه زهوق
كأن النبل وسطهم جراد***تكفنه ضحى ريح طريق
فألقينا القسى وكان قتلا***وضرب الهام كلاها يذوق
واما المشرفى فكان حتفا***واما المازني فلا يليق
كل قرارة غادرن خرقا***من الفتيان مختلق رقيق
وقد كلح المشافر فاستقلت***فريق لشاتهم فالقوم فوق
فأشبعنا الطباع واشبعونا***فأضحت كلها بشم تفوق
وابكينا نساءهم وابكوا نسانا***ما يسوغ لهن روق
يعادين الكلاب بكل فجر***وقد محلت من النوج الحلوق
والابيات من اروع ما نظم فى وصف الحرب تصويرا ودقة وصف فهي تعكس اهتمامات المرأة بجوانب من الحرب وهم يصلون نارها والنساء يصفنها وصف المراقب المشاهد
وفى غزل النساء اورد المؤلف مقطوعات تراوح بين العفة والمجون ، وبعضها لايقل روعة عن شعر الرجال الغزليين من ذلك قول خولة بنت ثابت فى الوليد بن المغيرة :
ياخليلى نابني سهدى***لم أنم ليلي ولم اكد
غير أنى لا اتوب ولا***اشتكى ما بي الى احد
كيف تلحاني على رجل***فت من تذكاره كبدي
مثل ضوء الشمس صورته***ليس بالزميلة النكد
ومن ذلك قول خيرة بنت أبى ضيغم وكانت من اظرف النساء، وفى قولها عفة وترفع :
وبتنا خلاف ألحى لانحن منهم***ولا نحن بالاعداء مختلطان
نذود بذكر الله عنه من الصبا***وان كان قلبانا يردان
ونصدر عن ري العفاف وربما***نقعنا غليلا لنفس بالرشفان
وقول خلية الحضرية فى هوى لها:
لهجرك لما ان هجرتك اصبحت***بنا شمتا تلك العيون الكواشح
فلا يفرح الراشون بالهجر ربما***أطال المحب الهجر والحبيب ناصح
وتعدو النوى بين المحبين والهوى***مع القلب مطوى عليه الجوانح
ومن اروع ما عبرت به المرأة عن اصرارها على حبها قول بنت حباب فى يحيى بن حمزة وقد ضربت بالسوط بسببه :
أأضرب في يحيى وبيني وبينه***تنايف لو تسرى بها الريح كلت
الا ليت يحيى يوم عبهل زارنا***وان نهلت منا السياط وعلت
وقولها:
اقول لعمر والسياط تلفني***لهن على متني شر دليل
فأشهد يا غيران أنى احبه***بسوطك لا اقلع وانت ذليل
وقولها
خليل ان اصعدتما او هبطتما***بلادا هوى نفسي بها فاذكرانيا
ولا تدعا ان لامني ثم لائم***على سخط الراشين ان تعذرانيا
فقد شف قلبي بعد طول تجلد***احاديث من يحيى تشيب النواصيا
سأرعى ليحيى الود ما هبت الصبا***وإن قطعوا عمدا بذاك لسانيا
والثبات على الحب والاخلاص له ، مثلما يبرز فى الابيات السابقة سمة من سمات المرأة فهي اصدق مشاعر من الرجل واكثر ثباتا فى مواقفها الوجدانية والمرأة اكثر اندفاعأ فى حبها من الرجل : واقدر على تصعيد احاسيسها عفة وسموا.
ومن يقرأ قول ام الضحاك المحاربية يلمس هذه الحقيقة وكانت تهوى رجلا يدعى عطية ، فاستخونته ، تقول فى الحب :
أرى الحب لايفنى ولا يفنه الالى***احبوا وقد كانوا على سالف الدهر
وكلهم قد خاله فى فؤاده***باجمعه يحكون ذلك فى الشعر
وما الحب إلا سجع اذن ونظرة***وجنة قلب عن حديث وعن ذكر
ولو كان شىء غيره ففي الهوى***وبلاه من يهوى ولو كان من صخر
* * *
هذه لمحة عابرة عن كتاب "بلاغات النساء" فهو حديقة فى ادب المرأة ووثيقة غنيا فى تحليل نفسيتها، ومنبع ثري
لدراسة المرأة العربية من النواحي الاجتماعية والسيكلولوجية والادبية ، ومادة غزيرة تساعد الناقد فى تبين خصائص الادب النسائي وهو ادب يتميز عن ادب الرجال بالانفعال الوجداني ودقة الملاحظة والعناية بالصياغة والصدق فى التعبير، لا نجد فيه مدحا او تزلفا ، بل تصوير صادق للذات النسائية فى مواجهة الحياة ، والمرأة اكثر من الرجال تأثرا بالاحداث ، تهزها المصيبة ، وتستثير بمشاعرها العميقة وهى ان احبت احبت بصدق وان كرهت لاتكتم كرهها، ففي ادبها فواحة حرص المجتمع ان يكبتها فوجدت فى الكلمة متنفسا لها.
وان كان الرواة زادوا ما طاب لهم ان يزيدوا من اخبار ادبية عن النساء لاغراض سياسية واجتماعية شتى، منها اتخاذ مادة الادب النسائي سبيلا للمسامرة والترويح وهو ادب يغري الناس بمتابعته ومنها ابراز بعض النساء الشهيرات لاغراض فرضها الصراع السياسي والاجتماعي، حتى لتجد فى الادب النسائي ما نجده فى ادب الرجال من شعوبية وخارجية وزبيرية وتشيع ، فلم يسلم ادب المرأة من مجاراة تيارات كل عصر، كما لم يسلم من الاضافة والنحل .
عبداللطيف الأرناؤوط : باحث من سوريا