يتكون عنوان هذه القراءة من شقين، لكل منهما بُعد يحكم ويحدد مسارها؛ فالشق الأول: التعدد يعنى بجانب الممارسة النصية القرائية، الهادفة إلى النظر في مكوناته وتمظهراته، الماثلة في عناصر السرد، ابتداءً من الرؤية/ الراوي وانتهاء باللغة، وهذا البعد يمثل مسار القراءة وخط توجهها بوضوح.
أما الشق الثاني: جماليات التفكيك، فيعنى بالجانب النظري أو المنهج المتبع في هذه القراءة – المنهج التفكيكي – بوصفه وسيلة نستطيع بواسطة آلياته اكتشاف أبعاد المفارقات التعددية، وتوضيح العلاقات القائمة بينها، وإضفاء سمة الموضوعية والدقة – أو الاقتراب منها – على القراءة في بُعديها النصي والمنهجي، بعيدا عن التبجيل المطلق والآراء العابرة، إذ لا يخدم أي منهما النص الإبداعي في شيء.
بقيت جزئية من العنوان لا بد من النظر فيها، وهي المفارقة، التي تعني في أبسط وأقرب معانيها إلى الذهن، «توتر الأضداد»، أو «تباين بين الحقيقة والمظهر»، مع التأكيد أن العلاقة بينهما ليست علاقة تشابه أو لا تشابه، أو تساوي/ تماثل، بل هي علاقة «تضاد أو تعارض أو تناقض أو تنافر أو عدم اتساق»، مما يعني أن للمفارقة صورة مزدوجة مركبة، وهي من ناحية أسلوبية نوع من التأنق، تهدف إلى «إحداث الأثر بأقل الوسائل تبذيرا»، خاضعة لمبدأي الاقتصاد والتكثيف، ومبدأ ثالث هو عدم التوقع وإثارة الدهشة والتأمل، وهذا الجانب أكثر ارتباطا بطبيعة القراءة، أما المفارقة من الناحية الفلسفية، فهي «تجاور المتنافرات الذي يُعد جزءاً من بنية الوجود»، إذ لا توجد حياة بشرية حقيقية ممكنة، دون أن تكون المفارقة عماد بُناها.
وبهذا تتضح الرؤية في طبيعة العلاقة بين مفردات العنوان (المفارقة والتعدد والتفكيك)، ومستوى الربط بينهما، القائم على رفض الواحدية مطلقا، وانتهاج التعدد والاختلاف، وتفكيك البُنى ذات المكونات المزدوجة المركبة، ومهما استمرت عملية تفكيكها، فلن تقضي على مفارقاتها المتعددة، فهاتان السمتان متلازمتان للوجود وكامنتان فيه.
رواية الأصوات:-
يميز النقاد بين ثلاث مراحل أو محطات تاريخية مرت بها التجربة الروائية العربية، نتج عنها ثلاثة أنواع للرواية هي: التقليدية والحديثة والجديدة، وبعد ذكر سمات ومرتكزات التي قامت عليها كل منها، تبيَّن أن رواية (بلاد بلا سماء) تدخل في إطار الرواية الجديدة/ رواية الأصوات، التي تهدف إلى التمرد على المألوف والنظم السائدة، والاختلاف والجنوح إلى المغايرة، وتفتيت البُنى المنتظمة، وتعرية الاختلالات في كافة مناحي الحياة المعيشة، وهذه الرؤية تتداخل وتمتزج كثيرا مع فلسفة التفكيك.
هناك تسميات كثيرة أُطلقت على هذا اللون من الفن الروائي، الذي جاء مغايراً للرواية الحديثة معنى ومبنى، ومن تلك التسميات: رواية اللارواية، والرواية الطليعية، والشيئية، والجديدة، والتجريبية، ورواية الأصوات، وغيرها. وذلك ناتج عن «طبيعتها البنائية وفلسفتها وهدفها في [التمرد] ضد التحديد أو التصنيف [….. وهي] ضد التعقيد والتقنين أولاً، ولاختلاف النزعات باختلاف كل أديب وباختلاف كل عمل أدبي»( ).
وقد نشأت في ظل اهتزاز الثوابت وتفتت القيم، «وتمزق المبادئ والمقولات، وتشتت الذات الجماعية، وحيرة الذات الفردية، وغموض الزمن الراهن والآتي، وتشظي المنطق المألوف والمعتاد»، ويمكن تلخيص الأسس والمرتكزات الفلسفية والحضارية والسياسية، التي قامت عليها رواية الأصوات، في النقاط الآتية:-
1-المؤثرات الأجنبية والانفتاح على التراث القصصي القديم.
2-هزيمة حزيران 1967م، التي كانت – ولا تزال – حجر زاوية في كل ما جرى ويجري حتى الآن.
3-اهتزاز الثوابت الوطنية والتاريخية بعد انكفاء تجربة الكفاح المسلح.
4-تفسخ الأحزاب وترهل العمل الجماعي المنظم.
5-تفتت الأيديولوجيات وتراجعها وتخبطها، واستفحال أزمة الديمقراطية، وغياب المثل وفقدان النموذج القيادي.
6-اتساع هوة التفاوت الاقتصادي وما يولده من حرمان وألم.
وقد قام بناء الرواية الجديدة على مبدأ الرفض لقانون العلية أو السببية المتحكمة في بناء الأحداث، وعدم الربط بين الظواهر، والتمرد عل جماليات وحدة المعنى والتماسك الدلالي والنمو العضوي، تجسيداً لفوضى العالم وغموضه وارتباكه، «لأن ظواهره المتجاورة والمتباعدة والمتنافرة والمتوازية، عصيَّة على الفهم أو التعليل» ، إذن فالرواية الجديدة صورة من التمرد الدائم، الذي يصل إلى تمرد الذات على نفسها، وبؤرتها المتمثلة في التعدد والتنوع، وتهدف إلى إثارة الأسئلة الفنية والشكوك، التي تصدم المتلقي أكثر مما تجذبه، وتهزه وتوّلد في نفسه الاضطراب والشك، وتزعزع يقينه، وتملأ عينيه بصورة الفوضى وتفكك هذا العالم، مما يعكس تشظي الأبنية المجتمعية، وفقدان الإنسان وحدته مع ذاته، وعند ذلك الحال يستند الفرد «إلى جماليات التفكك، بدلاً من جماليات الوحدة والتناغم»، لأن حِدَّة الأزمات المصيرية التي يواجهها الإنسان، إضافة إلى الغموض الذي يعتري حركة الواقع ومجرى الحياة، يولّدان في الذات الإنسانية شعوراً بالضياع الحاد، والذوبان والتلاشي في مجاهيل العالم، لتصبح الرواية الجديدة – في صورتها الأخيرة – «بنية فنية دالة على الاحتجاج العنيف والرفض لكل ما هو متداول ومألوف، وهي تجسيد لرؤية لا يقينية للعالم»، وهي بطبيعتها تهدف إلى بلبلة القارئ، ودفعه عن الاندماج بعالم الرواية، إلى التفكير في كل ما يقرأ، «والتأمل في مغزى التجاور والتنافر والتوازي والانحرافات»، من خلال تقنيات وانزياحات سردية، تظهر بشكل متكرر في بنية الرواية، وهي عماد بنائها، كالانتقال من حدث إلى حدث أو من مكان إلى آخر أومن شخصية لأخرى، وغاية هذه الانزياحات كسر وخلخلة التسلسل الزمني، فتتداخل الأزمنة ويُموَّه المكان أو يتعدد.
إن هذا البناء الروائي الذي يتجلى في الرواية الجديدة عامة – ورواية (بلاد بلا سماء) موضوع هذه القراءة على وجه الخصوص – قائم على الاضطراب والشك والتمرد، والانفتاح الدائم على الأسئلة اللانهائية، وهذا هو ذات المنهل الذي تنهل منه فلسفة التفكيك، التي ثارت على الواقع، وأطلقت العبثية والفوضى، وتمردت على كل القيم والمبادئ السائدة، نظراً لاختلال المنظومة المجتمعية والقيمية والأيديولوجية والسياسية وغيرها، وحاولت أن تخلق من الفوضى، حالة مستمرة من الهدم والبناء المتكرر، وتجدر الإشارة إلى أن المنهج التفكيكي – المُتبع – ليس منهجاً صارماً، كالإحصائي الأسلوبي أو غيره، وإنما يتمتع بمرونة عالية إذ تتسع آلياته وإجراءاته وتتقلص حسب ما يقتضيه النص وتفرضه طبيعته.
التفكيك واللغة:-
يحاول التفكيك التمرد على مجموعة القواعد والقوانين والنظم المجتمعية والمعرفية، وإثبات فاعلية سلطته من خلال تحطيم اللغة، ولذلك يضع تيري إيغلتون «التفكيك في عداد التعابير الناتجة من مزيج الابتهاج وخيبة الأمل والتحرر والتبدد والكرنفال والكارثة، في إثر حركة الطلاب الفرنسية (مايو 1968م)»، وهو يرى أن تحطيم بنيات اللغة، إنما مثَّل تعويضاً رمزياً عن العجز، الذي حال دون تحطيم بنيات سلطة الدولة، لأن «الكتابة، أو القراءة – بوصفها كتابة – هي آخر ملاذ غير مستعمر، يمكن للمثقف أن يلعب فيه، متذوقاً ترف الدال، ومُغفِلاً تماماً ما قد يجري في قصر الإليزيه، أو مصانع شركة رينو». إذن التفكيك ليس اغتصاباً أو انتهاكاً للنص، إنما هو إقامة علاقات حوارية مفتوحة معه على كافة المستويات، الأيديولوجية والثقافية والاجتماعية والسياسية وغيرها، ضمن سياقاته المتعددة.
الرؤية العامة في رواية «بلاد بلا سماء».
يقوم العمل الروائي في (بلاد بلا سماء) بهدم الأنساق الاجتماعية والفكرية والثقافية والمعرفية، ويقوم أيضاً بهدم المركز القائم في عالم النص الروائي، لكنه لا يقدم تمركزاً أو تمركزات وأنساق بديلة، إذ يلجأ إلى توسيع مدار الفانتازيا النصية، وخلخلة الاتزان الدلالي، تاركاً فضاءات النص تعج بالهدم والهدم الآخر (هدم الهدم)، وبالتعدد الدلالي اللانهائي.
هذا يقود إلى حقيقة أن هذا النص الروائي قام أساساً على فكر ما بعد الحداثة، متبنياً مشروعاً فلسفياً غاية في الخطورة، نظراً لتعقيده وإشكاليات مفاهيمه وغموض وتشتت مصطلحاته ودلالاته، والملاحظ من خلال ما سبق أن مجتمعاتنا بكل مكوناتها، تتصارع فيما بينها على أساس من ذلك الفكر، بوصفها تجسيداً منطقياً لجدلية تلك الفلسفة – أو جزءا منها – القائمة على العبثية والصراع الثنائي المستمر، ومحاولات الإقصاء والتهميش المتبادل بالتناوب بين الثنائيات الضدية، التي تحيلنا بقوة إلى الصراع الدائم والعنف والعنف المضاد، وصولاً إلى نهاية التاريخ والعودة إلى نقطة البداية، ورغم قيام الفلسفة والفكر المابعد حداثي، على نسف المركز وتغييبه، مقابل مَركزة أو التمركز حول الهامش، والإعلاء من شأنه، إلاَّ أن ذلك لم يؤتِ ثماره، كما هو مأمول على الصعيد الحياتي المعيش، فمحاولات نسف المركز (الرجل) المتمثل في التسلط الذكوري اجتماعياً، وهيمنة القطب الواحد سياسيا، لم تترك سوى العديد من الاختلالات والفجوات والفراغات، التي تنتظر البديل المفقود، إضافة إلى ضعف الهامش، وعجزه عن القيام بدور المركز أو التمركز، وإذا سلمنا بقيام تمركزات عدة على أنقاض مركز ما، وقد نجحت – إلى حد ما – لكنها ما لبثت أن تحولت إلى مراكز صغرى متعددة، قابلة للتفتيت والهدم، لتنشأ على أنقاضها مثيلاتها تكويناً ومصيراً، ومن ذلك تستمد عملية الهدم اللانهائية استمراريتها، وتبقى جدلية صراع الثنائيات المتناقضة في تناسلها المستمر وحركتها الدائمة، وكل ما قيل سابقاً ينعكس بحذافيره على النص الروائي موضوع البحث، الذي يتمثل تناسل الهدم والتعدد الدلالي والتلاعب المتبادل بين ضدي المعنى في حقل الاختلاف وغير ذلك، بطريقة فنية تتميز بمغايرتها للواقع، وابتعادها عن الخيال، مُشَكِّلَة عالماً خاصاً، تكتسب مكوناته النصية ديمومتها وحيويتها، من خلال الصراع اللامتناهي بين ثنائيتها وجزئياتها المتعددة، وصولاً إلى جزئيات الحذف الدلالي والكتابي، واستنطاق الغائب النصي، وتهميش الحاضر فيه، وتفعيل سلطة القارئ، وإلغاء سلطة النص ومرجعياته.
مفارقات العنوان:-
تساؤلات العنوان.
من التساؤلات التي يلقيها هذا العنوان: لماذا وقع الاختيار على كلمة (بلاد)، دون غيرها من مثيلاتها كوطن أو أرض أو مكان أو ما شابه؟ وما دلالة كلمة «بلاد» التي توحي بالجمع العام المبهم؟، ولماذا لم تكن «بلدان» مثلاً؟ ما دلالة التناظر/ التجانس الكتابي والصوتي في «بلاد، بلا»؟، هل توحي دلالة القطع الصوتي والكتابي في «بلا» بثبوت النفي وقطعيته؟ وما دلالة اجتماع/ اقتران حرفين (باء الجر، ولا النفي) في مركب نطقي واحد؟ ماذا لو كانت «سماء بلا بلاد»، وأيهما أشد افتقاراً للأخرى؟ وإذا كانت (سماء) – بوصفها حيزاً فضائياً – متعينة ومعرَّفة، لدلالة معناها العام وتداولها عليها، فكيف يتسنى لنا معرفة (بلاد)؟ ألا يعد الجمع بين النكرة والمعرفة – في هذا التركيب – اختراقاً إضافياً لقواعد اللغة؟
يمكن القول إن التركيب/ جملة العنوان قائم على ثنائيتين تربط كل منها علاقة خاصة، يمكن توضيحها في الترسيمة الآتية:
1-ثنائية التضاد/ التقابل بين (بلاد، سماء)
يرتبط طرفي هذه الثنائية بعلاقة التوازي المتنافر، المتمثلة في محاولة كسر مألوف وخرق القاعدة اللغوية، وانتهاك التركيب، على محور الرغبة في توليف قاعدة جديدة، وإعادة إنتاج الاستعمال اللغوي مرة أخرى أو أكثر.
2-ثنائية الاستبدال بين حرفي الـ (ب) والـ (لا)
عامل في التركيب
على محور التواصلعامل في المعنى
زائد في المعنىأصلي في التركيب والمعنى
وتربط علاقة التزامن التخالفي/ المتخالف بين طرفي هذه الثنائية، إذ تَزَامنَ (بمعنى ترافق) تصنيفهما الحرفي مع محاولة استبدال معنى وعمل أحدهما بالآخر، أو دمجهما للحصول على معنى واحد – وهذا ما تم تبعاً للاستعمال التداولي – وعمل واحد، وهذا فيه نظر لأن كليهما عاملان أو يجب أن يعملا، وقد قامت تلك العلاقة على محور التواصل، بهدف خلق أنساق لغوية وتركيبية جديدة، وفتح آفاق الاستعمال اللغوي.
العنوان: عبثية التركيب ومراوغة الدلالة.
يقوم العنوان على أساس تفكيكي متمثل في وجهين:
الوجه الأول: التمرد على الدلالة واستحالة القبض على معنى معين، وتحقيق ذلك عبر الانتقال الدلالي، إذ ينتقل الدال إلى دالٍ آخر، باستمرار دون الوقوف على صورة واحدة لدال معين يحيلنا إلى مدلوله الأخير، ويتمثل هذا التمرد الدلالي على محورين:
1-محور الرغبة بين مراوغة المعنى ولعب الدلالات، عبر علاقة التوازي، التي تجمع بينهما ويسير كل منهما في خط مواز للآخر، دون أن يلتقيا أو يصلا إلى نقطة نهائية، نتيجة للاستبدال المستمر للدوال.
2- محور الصراع بين سلطة الحضور (الدال) وثورة الغياب (الدال المضاد)، نظراً لعلاقة التجاور النقيض/ المتعارض، إذ أن وجود الدال أ يقتضي بالضرورة وجود الدال أَ وذلك ما توضحه الترسيمتان التاليتان:
1-حسب المعطى التصوري
يقوم المعطى التصوري الذهني بالربط بين كلمة بلاد/ أرض وما يناسبها في الوجود أو المعنى كلمة سماء، إذا أن وجود أحدهما يستدعي وجود الآخر ذهنياً – بصورة رئيسية – على محور الرغبة الكامنة في محاولات الوعي الإنساني استكمال ملامح الصورة، من خلال استكناه الجانب الغائب منها، وفقاً للجانب الحاضر تناسباً معه، بوصف ذلك الغائب جزءاً من الحاضر أو لازمة من لوازمه كالغيم والمطر، ولذلك يستحيل على الذهن تصور شيئ ما دون ما يلازمه أو الجزء المفقود منه، وإن تصور بلاد بلا سماء، يؤدي إلى اختلال تصوري ذهني، وعجز عن رسم تلك الصورة أو الكشف عن ماهيتها.
2-حسب المعطى الدلالي:
أ
أَ
بلاد
بلاسماء
مهاد
ينتج عن النفي غطاء
مراجع بشرية
علاقة تجاور تعارض على محور مرجعية إلهية
استقبال
الصراع إرسال
صورة الحياة
مصدر الحياة
الإنسان
الهامش/ التسلط الله تعالى
المركز/ السلطة
يقوم المعطى الدلالي بعرض حركة الدوال المتعارضة طردياً، وانتقالاتها المتقابلة، والربط بين ثنائياتها بعلاقة التجاور المتعارض، على محور الصراع، الناتج عن الإحساس بالعجز والنقص، واللجوء إلى التمرد الذي يعد نوعا من الهروب الفاشل، لأنه – وإن كان فيه مواراة للضعف والهوان –يؤدي إلى تدمير الذات أولاً، وكل ما حولها ثانياً، وهذا يضعنا أمام تساؤلات منها:- هل يهدف الدال أ الانفصال والاستقلال عن الدال أَ ؟ أم يريد بتمرده احتلال مركز أ ؟ وهل يستقيم وجوده دون وجود الآخر؟
الوجه الثاني: يتمثل في الانتهاك الصارخ لقواعد اللغة وما جرى عليه العرف اللغوي المتبع، الذي لا يجيز الجمع بين حرفين في صياغة لغوية واحدة، والجمع بين حرفي الجر (ب) والنفي (لا) في (بلا)، يمثل هدماً للنسق اللغوي الفصيح، غير أن الاستعمال الدارج للغة في صورتها التداولية، يجيزه بوصفه استعمالاً شائعاً، وما دام هذا التركيب اللغوي الدارج قد أدى نفس المعنى الذي يؤديه التركيب الفصيح الغائب، كأن يكون (بلاد لا سماء لها)، فإن ذلك يجعلنا نقف على حقيقة محور الصراع اللغوي، وعلاقة التجاور المتعارض بين قطبي الاستعمال اللغوي (الفصيح والدارج/ المتداول)، فوجود اللغة الفصيحة يقتضي بحكم المجاورة وجود اللهجة الدارجة، ويقف أيضاً على محور التواصل، الناتج عن علاقة التزامن بينهما، فكلما ضعفت اللغة بدأت اللهجة في الظهور، وكذلك العكس، وتسمى هذه العلاقة تزامناً تخالفياً.
خلاصة:
تقوم بنية السرد في رواية (بلاد بلا سماء) كما هي في الرواية الجديدة عامة – على الانحرافات السردية المتكررة، والاسترسال والقفز والاستطراد، والمزج بين اللقطات الوصفية، والومضات السردية المصقولة والمُختارة بعناية، التي تعكس ألوانا متعددة وأطيافا مُشعَّة موحية لا نهاية لها، وهي بمثابة التعويض عن تماهي الأزمنة، وغياب الأمكنة، وفقدان الحركة، إضافة إلى أنها تضفي حيوية على السرد وبهجة، بسبب قدرتها على الإيحاء وطاقاتها الرمزية المتنوعة الهائلة، وأمام كل ذلك، يقف القارئ/ المتلقي مندهشا مأخوذا بحيوية السرد، ومتفاعلا مع الأسئلة الكثيرة والمتنوعة، التي تثيرها هذه الرواية بدءا من العنوان، وتحقيقا للرؤية العامة – الفلسفية – التي تقوم عليها الرواية، نلاحظ المزج الواضح بين الأساليب السردية الحديثة، والأدوات السردية التراثية؛ فالأساليب السردية الحديثة، تتمثل في التصميم/ الشكل الهندسي العام، والانحرافات المتعمدة، والتجاور والتزامن والتوازي على مستوى عناصر السرد بشكل عام، وتتمثل أيضا في تعدد الصوت الراوي، وتنوع الرموز والحوار، والاستبطان للشخصيات واللغة التصويرية إضافة إلى تعدد المستويات اللغوية، بتعدد المستويات الثقافية والأيديولوجية بين الأصوات/ الرواة، أما الأدوات السردية التراثية، فتتمثل في تحولات الذات وتماهيها، والأجواء الغرائبية والتكرار والارتجال، والراوي العليم بكل شيئ، السارد بضمير الغائب/ الـ هو، نيابة عن الشخصيات في أغلب الأحيان، وتتمثل أيضا في اختزال الأمكنة والأزمنة…. وغير ذلك.
وهذا المزج قد ظهر واضحا في بنية الرواية (بلاد بلا سماء)، دالا على تعدد بنيات السرد وتنوع أشكال القص، ويفضي هذا التعدد إلى تنوع وتدفق الصور والأحداث والمواقف المتوازية والمتزامنة والمتجاورة، وبذلك تعمل على إبراز التفكيك بصورة واضحة، كما أن الانحرافات السردية قد أدت وظائف تجسيدية للقطات السردية المتعددة، وقدمت عدداً من الشخصيات عبر الانتقال بينها بشتى مستوياتها الفكرية والثقافية والاجتماعية، وبمختلف صورها الغامضة المتأزمة والمتذبذبة التائهة، كما تبين في صور معظم الشخصيات، ونقلت تلك الانحرافات – أيضا – مستويات الصراع والتضارب بين الشخصيات على المحور الخارجي/ الاجتماعي والداخلي/ الذاتي، عاكسة بذلك مستوى أعلى من الصراع الكوني العام، وقد توصل البحث/ القراءة إلى العديد من النتائج العامة للبنية السردية في الرواية، تمثلت في المحاور الآتية :
1- محور الرؤية/ المستوى الرؤيوي:
تهدف رواية (بلاد بلا سماء)إلى بث الشك والغموض وإثارة التساؤلات اللانهائية في وجدان المتلقي، مجسدة بذلك رؤية لا يقينية للواقع، وهذه الرؤية اللايقينية ليست بمعنى إنكار وجحود ونسف كل شيئ، وإنما بمعنى ضرورة إعادة الفكر في الواقع ومراجعته المسلمات والثوابت، ومساءلتها وإعادة إنتاجها، وقراءتها وفق رؤية متناسبة والواقع المعيش، وعدم التسليم بها مطلقا، نحو قول النحاة أيٌّ هكذا جاءت، ومن هنا يمكن القول إن هذه الرواية تهدف إلى إيجاد قدر كبير من الشك والاضطراب لدى المتلقي، إذ عملت على خلخلة كل الثوابت والمسلمات المطلقة في المجتمع، جاعلة المتلقي يتفاعل معها ويشارك في إعادة إنتاج وتكوين صورة الواقع.
2- محور العلاقة مع الواقع:
تميزت هذه الرواية بكونها لا تحاكي الواقع محاكاة أفلاطونية، أو تعكسه مرآويا كما في نظرية الانعكاس، أو توازيه كما في النقد التاريخي، أو تقيم واقعا بديلا نصيا كما هو الأمر عند البنيويين، بل تجاوزت كل ذلك وتعاملت مع الواقع من منظور وفهم جديدين، وبكيفية مغايرة، وهي مع ذلك لم تنفصل عن الواقع والمحيط الذي تنتمي إليه وتصدر عنه، ولم تتقيد بحرفية معينة أو تتأطر في قالب ضيق، فنمت دلالاتها وتطورت بنيتها بمرونة ومراوغة عجيبتين، انعكستا في تعاملها الذكي مع الواقع الذي يعد مركز اهتمامها بوصفه قضية إنسانية عامة، تنأى عن التأطير والقولبة والمحدودية.
3- محور جماليات التلقي:
استطاعت رواية (بلاد بلا سماء) تحقيق هدفها بنجاح كبير، ظهرت آثاره في تأسيس وعي جديد لجماليات التلقي، وتجسيد مفهوم جديد للرواية الجديدة في رقعتها الجغرافية المحلية، التي من المتوقع أن تحدث نقلة نوعية في واقع الرواية اليمنية، إذ تجاوزت وظيفة التشويق وجذب القارئ/ المتلقي وإثارته، وإيصاله إلى عمق عالمها الفني، تجاوزت كل ذلك بسعيها الدائب إلى دفع القارئ/ المتلقي في رحاب التأمل، والإيقاع به في آفاق وفضاءات التساؤلات، وألقت به في غمار التفكير والبحث ليس في كل ما يقرأ فقط، بل في من وما حوله وما يتصل بواقعه وحياته عامة، من مواقف وآراء ومسلمات وثوابت وغيرها، حتى يبدو كأنه يراقب ذاته من الخارج، ويرصد مواقفها وأبعادها، بوصفه شخصا أو ذاتا أخرى، وبدلا من أن تنقل الواقع أو تحاول الإيهام به، نراها تعتمد على مبدأ اللاتوقع، الذي يصدم الوعي التقليدي والمتلقي العادي، المتعود على روايات الحبكة المتسلسلة في تفكيك عقدها، مخالفة النمط المألوف، تاركة الألغاز دون حل، والعقدة في ذروتها، والنهايات مفتوحة على كافة الاحتمالات، التي يصعب معها الترجيح أو الإقرار بإحداها، غير عابئة بسيل التساؤلات المُلقى بعد قراءتها.
ومن هنا ندرك أهمية هذا العمل الروائي القائم على الفوضى الخلاقة، وقدرته على تحريض الوعي الجمعي العام، واستثارته ودفعه إلى تجديد أدواته وأساليبه، واستغلالها الاستغلال الأمثل، يستطيع بواسطتها تحقيق المجاوزة وتأسيس وعي جمالي جديد، قائم على الأصالة والمعاصرة، وفقا لمبدأ المغايرة والابتكار والتطور، وعدم الوقوف عند حد معين.