توماس بيلي ألدريتش Thomas Bailey Aldrich ، 1836-1907، شاعر وروائي وصحفي أمريكي مشهور.
نستكمل في هذا العدد ملحمة الشاعر الأمريكي توماس بيلي ألدريتش «فصل الحب الحقيقي لم يمر بهدوء». تتكون الملحمة من ثمانية أجزاء، وقد سرد فيها الشاعر قصة متخيلة لزواج العباسة أخت هارون الرشيد من جعفر بن يحيى البرمكي، و مع أن بعض المؤرخين مثل الطبري و ابن خلدون ينكر قصة هذا الزواج، فإن القصة و ما فيها من رومانسية مفرطة و أحداث درامية وردت في بعض كتب التاريخ العربي المتأخرة التي تناولت «نكبة البرامكة». نشرنا سابقا في نزوى الفصول الأولى من الملحمة وهي «الخليفة يتأمّل»، و «كيف تلقّى العاشقان النبأ»، و«حفل الزواج»، و«نحيب العذراء الصغيرة».
اليوم نكمل بقية فصول الملحمة:
«كيف قضى جعفر الليلة»
انظروا إليه! إنه لم يكحلْ عينيه بالنّوْم؛
لأنه رأى عينينِ جفاهما النعاسُ،
ووجهًا حُلْوًا مضيئًا كنجمة،
وشَعْرًا كثيفا كالغيوم يُرهق قلبَ العاشق.
لقد أدْرَك مدى روعتِها،
وأن حُوريّة، ساعةَ ميلادِها،
طبعتْ على جبينِها البهاءَ والجمالَ،
وعلّمتْها كلَّ مفاتن الأرض!
قال جعفر:
«شَعْرُها ليلٌ حريري،
وعيناها غارقتانِ في سَديمٍ حنون،
وثَغْرُها ياقوتيٌّ صغير
ينتظم سِلْكًا من اللآلئ التي يَحلمُ بها السلاطين!»
وبحديثٍ شرقيٍّ كهذا،
صيّر جعفرُ الوقتَ قصيرا،
ولكنه، مُرْهَقًا بفرحةٍ مغتَصبة،
اغتمّ، وفار الدمُّ بين شفتيه، ونزع عِمامتَه،
وقال:
«قسما بالله!
إنها ستكون مِشكاةً في عالَم الجَمال»!
وانظروا إلى غُرْفة العبّاسة،
إنها في الجِهةِ الأخرى،
ومن نافذتِها امتدّ ضوءٌ يخترقُ ظلمةَ الحديقة،
وبدا كجِسْرٍ من النار، حيث
الوزيرُ ربما انسلّ إليها خُفية:
وهناك ظلّ واقفا، ولم يتحرّكْ
حتى مطلعِ الشمس.
قلوب وتيجان
لثلاثِ ليالٍ ظلّ جعفرُ يرقبُ الضوءَ
حتى أزهر الصباحُ في السماء:
ولثلاثِ ليالٍ ظلت العبّاسة تَحلُمُ وتنتحب،
وهل عجبٌ نحيبها!
وفي اليوم الرابع، حيث هارون السقيم
خرج يتجوّل في الحديقة ويتنفّسُ الطّيِبَ،
كبح الوزيرُ تفكيرَه،
وركع أمام الخليفة ثلاثا:
«لقد لزمتُ تلك الغرفة القصيّة، أيها الخليفة،
ثلاثَ ليالٍ كلها وحيدا»!
وثلاثَ مراتٍ تغاضى عنه الخليفة أيضا.
«يا قَلْبًا من الثلج، ويا أذنًا من الصخر،
أنتَ مَنْ أسقيتَ خادمَك كأسَا مُرّة،
كما لو كنتَ مصيرَه المحتوم!»
استشاط الخليفة غضبا، وصرخ في جعفر:
«فلْيُغلِقْ رضوانُ بابَ الجنّة
في وجهي إذا متُّ الآن،
ولكني سأذبحك بيدي
إذا نسيتَ ما هو مكتوبٌ عليك:
على العبيد أن يخضعوا لأمْرِ ملوكِهم!»
وبهذا، أخذ يذرع الحديقة جيئة وذهابا،
عابسا متغطرسا.
«لسنا سواء، مَنْ يلبس العمامة، ومَنْ يلبس التاج!»
هكذا قال جعفر متأملا، «فلُيُعلنْ إذن
أنّ الفرقَ بين العبد والملِك
هو تاجٌ على الرأس!
والمرء لا يحتاج قلبُه إلى زخرفةٍ أنيقة،
فلِمَ يضعُ طوْقًا مُزيَّنًا على جهته!
اعلمْ يا هارون!
أن زينتك هي العبد، وأني أنا الملِك.
القلب الرحيمُ يبقى إلى الأبد،
والتاج لا بد يوما أن يُوضعَ بجانب القبر قائلا:
يا الله، يا أعظمَ مِنْ كل ملِكٍ جبّار،
هذا عبدك عاريا من التيجان!»
بهذا القول، أراح جعفرُ رأسَه،
و مشى متّئِدا، مُفكّرا في سبيلٍ للحُبّ،
وسط حديقةٍ قمراءَ تتضوّع بالطِّيِب.
العفاريت تُلمِّح لجعفر
والآن حين تنطفئ أنوارُ القصر،
ولا يُسمع هَمْسٌ ولا لَمْسٌ للحياة
داخل الأسوار العالية،
ومناراتُ بغداد ومساجدُها،
وحدائقُها وأكشاكُها،
تحولت إلى مَرْمَرٍ بضوء القمر المكتمل،
كلُّ ذلك صادف وقوفَ جعفر مستغرقا في الحلم،
في غُيَيْبة من أشجارِ التوت والأترنج،
حيث نافورة خفيضة صنعتْ له موسيقى خرافية،
وكل نسمة جاءت محمّلة بأريجٍ هادئٍ مخدِّرٍ
من أشجار النَّيْلَوْفَر.
هذا الموضعُ مسكونٌ بقُوى الاسترخاء،
التي تأتيه في منتصف الليل البهيم لتندبَ أعمالَ الكون،
أو بالأرواحِ الوهميةِ التي تأتيه في حياءٍ لتنام!
لَمْ يَكَدْ الوزيرُ يشرد هنا
حتى هامت العفاريتُ، من كل الأحجام،
حول وجهه وقذفتْ بذرّات السبات في عينيه!
وحين نام على العشب، يدغدغه رذاذ النافورة،
تفتّح كالزهرةِ في عقلِه
حلمٌ بسعادةٍ خفيّة،
رأى نفسه والعبّاسةَ جالسين معا في مأدُبة مهيبة
لم يُبسط مثلُها أبدا لخليفةٍ في الشرق
ولا لملكٍ من الأحياء أو الأموات!
أصنافٌ من الأجاص والعنب بلون الكهرمان،
والخزامى الحلو الأنيق،
وأطباقٌ منضودة بأغنى الأطعمة،
ونادلةٌ هيفاءُ تسعى بنبيذٍ معتّق،
آه، إنها مأدبة لا تراها إلا في المخيلة،
ولا تكلّفُك سوى أن تتنعّمَ بها!
وهكذا ظل غارقا في حلمِه
حتى سقسق الفجرُ،
وتُوِّجتْ المتعة بالرقص والضحك،
ونفثت الموسيقى بأصواتها المعسولة
أسرارَ النوم في عيونهم!
هكذا سرى الحُلم. وحين صحا جعفر
عند بزوغ الفجر،
كان الهواءُ الندي حافلا
بأزهار السنط المنعشة.
سمع نداءَ صلاة الفجر،
حينها صحا، وغسل وجهه، وابتسم.
وكانت ابتسامته تقول:
«ستكون لنا الليلة مأدبةٌ كتلك التي كانت في الحلم،
ستكون، بعون الله، في خيمة الخليفة.
ذلك الفسطاط الحريري شيده لنا خاصة.
سينام!»
قطعة صغيرة من البنج
ستُضفي نكهة جيدة على شرابه المسائي!
داخل الفسطاط
مسرورُ عليَّ بكأسيَ الذهبية
حتى أشربَ كأسَ المساء!
و كما شاء هارونُ الرشيد،
جُلـِب الكأسُ، ورديـًّا ذهبيـًّا
فخمًا مُوشّى بالزُّمرّد.
رَشفَ ورَشفَ، حتى دبّ إليه النعاس.
أوقفْ الموسيقى، أيُّها العبدُ!
الملكُ يريد أن يَنَامُ. انظروا! لقد نَامَ.
الآن، قُرْب بوَّابةِ القصرِ الشماليةِ،
القصرُ أهدأُ ما يكون،
هارونُ، مثل كوبلا خان ، أمر مرةً ببناءِ
« قـُبّةٍ مهيبةٍ للمُتعةِ »
سُرادقٌ فخمٌ، تعوّد تحته
أن يجلسَ جلستَه الملكيّة
يُدخّنُ التبغَ اللاذقاني، ويَضحكُ مِن دُعابات جعفرَ اللطيفة؛
وها هي جواريه الجورجياتُ رقصنَ و غنينَ له،
(و تَعشّقَ القدَمَ الرقيقةَ و اليدا؛)
وها هو قد شَرِبَ عصيرَه المُثلـّجَ،
حتى أن سُموّه لم يَقوَ على الوقوف.
و ها هو الوزيرُ قد نشر المأدُبةَ،
وها همُ الأخلاء السعداءُ قد أتْخِموا
أيها الخليفة! يُمكنك أنْ تُشاهدَ و تشاهد،
و تسخرَ من القفّالين، عاجِلا أو آجِلا!
لكن كان هناك عاشقان تهرّبا عن الأنظار،
و رَغْمَ الخليفةِ و تحريمِه القاسي:
استرقا النظراتِ،
ورَشفَا النبيذَ الأستراخاني؛
لقد هزئا بالزمن، وسَخِرا مِنْ القدر،
واحتقرا الخليفةَ كلما أَكلا التينَ الناضجَ،
و الليمونَ اللاذع،
و الخوخَ العُمانيَّ،
و الدُّرّاقَ الورديَّ، بلونِ الصيفِ و مَذاقِه؛
و خُلسةً على أطرافِ قدميهما
اختطفا بعضًا مِن القـُبـَل.
نشرت النافورةُ العطِرة في الهواء
شبكةً متواشجة من خيوط البلّور،
وحول الفسطاط الحريري،
تلألأتْ الفوانيسُ بألوان زاهية حمراء وبيضاء،
والأصابعُ السحرية كانت تنقل الفواكه بين الضيوف،
وأصابع سحرية أخرى كانت تعزِف على العود،
وضحكاتٌ بيضاءُ كاللّجين جابت الفضاء:
آه، لقد عبر الوقتُ رُخاءً بسعادةٍ بالغة!
الآن، انطفأت المصابيحُ داخل الفسطاط،
والقمرُ انحدرَ بلطفٍ وراءَ الأفق!
(1)
أيتها الموسيقى العذبة اهدئي! دعينا نخلد إلى السكون:
الفجر يزحف، هكذا غنى جعفر، فجر بغيض!
بعد الآن فليكن النهارُ ليلا، والليلُ نهارا!
(2)
أيتها الموسيقى العذبة اهدئي! دعينا نخلد إلى السكون:
روحٌ باكيةٌ واهنةٌ
(مثل الشذى الباهت في أزهار البنفسج)
تكمنُ في جَمالِ عينينِ وديعتين.
(3)
ثَمّة حزنٌ في صوتٍ عذبٍ
يُذْكي الدموع!
أيتها الموسيقى؛
لئلا ننتحب من أسى غريب،
اهدئي!
توقفي، دعينا نخلد للسكون.
انظروا! حين غنّى جعفر،
أزيحت الستارة المطرّزة التي كانت تحجب الباب،
وهناك كان هارون الرشيد يذرع المكان مزمجرا
أمام العروس والعريس!
«ما هذا يا كلب الوزراء؟!
خلطتَ المخّدرَ بنبيذي لتنيمني؟!”
وبهذا ضرب الوزيرَ ثلاثَ مراتِ على صدره،
ومن حيث ضربه انفجر الدم القرمزي،
آه، وتدفق بسرعة.
ثم شحب لونُ جعفر وصار باهتا كالقمر،
وسقط على وجهه، فقبّل قدمَ العبّاسة ومات!
وزعق هارون الرشيد العظيم:
«مُتْ يا من يبغضه الخليفة»
ثم جاء ثلاثة مماليك، يُطلُّ الموتُ عابسا من وجوهم،
وسحبوا العبّاسةَ من شَعْرها،
ودفعوها من بوابات القصر!
ترجمة: هلال الحجري