من البديهي أن تحدد الجغرافيا مصائر الناس وتؤثر فيهم سلبا أو إيجابا، وسيناء بقعة من أرض الله مرمية على الحافة دائما؛ حظيت بالقداسة منذ أعماق التاريخ؛ فالإله تحوت معبود السينائيين أنقذ الطفل حورس عندما لدغته العقرب في مستنقعات الدلتا، الديانات السماوية كان مسرحها أرض سيناء بشكل أو بآخر؛ كما أنها ابتكرت آلهة عالمية لعصور طويلة، أشهرها إله القمر سين الذي انتشرت عبادته في الشرق القديم حتى وصل إلى الهلال الخصيب شمالا وجنوب شبه الجزيرة العربية.
في مواجهة قوى الطبيعة: الجبل، الوادي، والصحراء؛ الصرامة، الشاعرية والتبدل المستمر، ولمحاولة السيطرة عليها كانت الكلمة هي التعويذة التي بها توازن الصحراوي وجعلها أيقونة حياته المقدسة.
برزت سيناء بقوة على مسرح السياسة العالمي بسبب الصراع العربي الصهيوني؛ فالتفتت الدولة المصرية إليها بعد إهمالها طويلا، أنشأت المدارس والبنى التحتية الأخرى بها؛ فتشكلت مع الوقت الإنتليجنسيا وانتشرت بينها أشكال الفنون المتعددة: شعر، رواية، غناء، الفنون التشكيلية: رسم، تصوير؛ ولكن الشعر تصدر المشهد وغلب على غيره، وقد تنوعت الكتابة الشعرية ما بين القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، وصدرت أعمال لشعراء في هذين الشكلين، كانت نظرتهم للكتابة والحياة تخرج من عباءة التراث؛ ولكنها كانت خطوة مهمة على الدرب.
في تسعينيات القرن الماضي برزت أسماء شعراء متميزين على الساحة الأدبية بسيناء؛ قدمتْ منجزا شعريا يتوسل بسمات حداثة مالوا إليها بحكم قراءاتهم العميقة، واطلاعهم على تجارب مهمة عربيا وعالميا. اغتنت تجاربهم وزاوية رؤيتهم للعالم والوجود، أعادوا إنتاجه في أنساق لغوية وبنى فكرية، تنطلق من: العادي والمادي وتنتهي بالعدمي وسبر أغوار الوجود في لهاث محموم (أحمد سواركة)، قراءة كتاب الصحراء والغوص فيها؛ وتمييز الأصيل والحقيقي من الزائف والعرضي، والتوسل بصور سريالية متفردة في بناء محكم (أشرف العناني)، التقشف في اللغة والتخلص من المجاز للابتعاد قدر الإمكان عن الترهل (حسونة فتحي)، اقتناص الدهشة واعتماد المفارقة ومحاولة التقاط جوهر الذات الإنسانية والحدب عليها (سامي سعد)، تحسس والوجود وتاريخ الجماعة الموغل في الوادي والبحر، الإطلالة على الذات من خلال اللغة التي تتحول لهاجس وحبل أنشوطة (سالم الشبانة)، قنص للعادي واليومي ومحاولة قراءة الوجود وانكسار الذات في عالم يتشظى (صلاح فاروق)، الهذيان وتشريح الذات بصور حداثية تنهل من المعرفة الواسعة وخاصة العلم الطبيعي (محمد المغربيّ).
إنها حساسية شعرية جديدة ومختلفة في سياق الكتابة المصرية، بذائقة تتفاعل مع البيئة الصحراوية وعوالمها معيدة صياغتها في أبنية لغوية شديدة الخصوصية، تستفيد من مكتسبات قصيدة النثر: العادي واليومي، المفارقة، اللغة المتخلصة من المجاز والقريبة من لغة الشارع، التكثيف، الصور السريالية، وغيرها. أخيرا بقي أن أقول: لقد اعتمدت الترتيب الألفبائي لأسماء الشعراء في الملف.
وبعد، لا أزعم أنني أحطت بكل المشهد الشعري في هذه البقعة المميزة من أرض مصر والعالم، خاصة أن هناك كتابة شعرية باللغة المحكية (الشعر النبطي)، ربما أستطيع أن أضم نماذج منها في ملف شعري آخر.
حاولت قدر المستطاع ضم الأصوات الشعرية الأصيلة في سيناء في حزمة واحدة في هذا الملف؛ لتسليط الضوء ناحيتها والتعرف عليها ودرسها درسا يحيط بمنجزها وحساسيتها الجديدة.
النصوصُ..
g الذبيحةُ
أحمد سواركة
(يقيم في العريش، ويعمل طبيبا، صدر له:/ أهوال صغيرة، هواء سري، قاطع طريق)
عليكَ أنْ تَتَذّكّر،
تتذكر الذبيحةَ وهي
تُوَضِّح ُمَنسُوب الحياة.
أنتَ بابٌ وقارب
شارعٌ فَقير
صَيفٌ تَوَّقَف عند المَمْر
وكأيّ شيءٍ موجودِ
لكَ كوكبٌ
وقطعةٌ مِن الليلِ
أنتَ جدارٌ
ومسافةٌ
فكرة ٌلمْ تحدُثْ
وكذلك، رائحةٌ لأخشابٍ في الليلِ
وهي تَدورُ مع السفنِ.
أنتَ حمّالٌ في ميناءِ القواربِ، تشربُ صهريجًا مِن النبيذِ لتضعَ يدكَ الخاليةَ على بوابةِ الذاتِ وهي ترسُفُ في محيطِ الأربعاءِ والسبتِ.
ففكرةُ الوحدةِ كمشروعٍ فلسفيٍّ لا تكفي. أنتَ بحاجةٍ لموجةٍ طويلةٍ تصِلُ حياتكَ مَع حياةٍ أخرى.
تَدورُ مع شخصٍ لا اسمَ لهُ، تقاسمُهُ خوفًا مجهزًا للغرفِ الصغيرةِ.
ثم يفتحون كتابًا في الماضي، ينظرون من النوافذِ بأحلامٍ سوداءَ ويتخيلون سباقاتٍ للغيومِ والأمواتِ.
أنتَ فقيرٌ في عصرين، تَتكلمُ عَن أسرابِ الطيورِ ومواسمَ القتلِ وحركةِ السنين المُقيمةِ على الأبوابِ جميعًا
توّقفْ مع الفجرِ
مَع الشجرةِ
مع رُكنكِ المزعُومِ
السلالِمُ التي تَذوبُ
في البيتِ المَهجورِ
رياحُ النافذةِ القديمةِ
أركانُ الشاي والشُعورُ بالبردِ
هنا أقلامٌ نُحاسيةٌ
وورقٌ مَرزومٌ
هُنا: أنا مَع الحوائطِ والأقفالِ
موجودٌ بهيئاتٍ كثيرةٍ
أتَحدّثُ مَع الأشياءِ التي ظلّتْ
مِن السَاكنِ القديمِ
وأضمُها لِحياتي.
j h j
g اقترحوا اسمًا لهذا
أشرف العناني
(يقيم في الشيخ زويد،/ صدر له: عزف منفرد، صحراء احتياطية)
يركبُ البحرُ يأسَهُ
ويدنو من المرافئِ الوحيدةِ
أنا هنا أيها البحرُ،
أيها الفشلُ الفاره:
أقرفصُ تحت الشمسِ مثلِ الأراملِ
وأفكرُ في شجرةٍ عنيدةٍ
كان الجميعُ قد فقدوا الأملَ
في أن ترفعَ هامتَها من
جديدٍ،
أمشطُ ذاكرتي،
ربما أعرضُ عينيّ لخطرِ البكاءِ
على أمواتٍ
من الدرجةِ الثالثةِ..،
كلُّ هذا وغيرهِ لأنجو ولو قليلاً
من الرطوبةِ التي تعششُ رأسيًا فوق قلبي..
أنا هنا أيها البحرُ
أيها البائسُ السعيدُ:
أغنّي دونَ سببٍ
واضح- سوى العادةِ- للصباحِ
الذي يشبهُ صندوقَ بريدٍ مهجورٍ
وأرتبُ- كمحاولةٍ طائشةٍ- لحبيبتي
البعيدةِ
هدايا خيالي المتوعكِ..
لا تبغَ..،
لا قهوةَ..،
ولا حتى بقايا..
فقط يستأنفُ الماضي
إن كان ما أنفقته
من سنينَ وأنا أحدّقُ
في يديّ الخاليتين
وانهياراتِ مفاصلي
يمكن أن يُسمّى ماضٍياً
أو يحزنون..
j h j
g بقعةٌ هاربةٌ من الضوءِ
بركات معبد
(مقيم برفح المصرية/ صدر له: للزيتونة أيضا مخاض/ المسافة الواقية من الرجم.)
خذْ بيدي اعبرْني وجودًا جديدًا
ودعني حين يموتُ الزحامُ
على حافّةِ الترقبِ
أتحسّسُ الطريقَ لباطنِ الأحلامِ لحروفٍ تلهثُ
خذْ بيدي
إلى بقعةِ الضوءِ الهاربةِ من المصباحِ
واتركني ( إذا وقعتْ الواقعةُ)
محمومًا عند واحةِ الأشقياءِ
وهم يتوضّئون بالعطشِ
ويصلون لمنابعِ النهرِ
يتناولون خبزَ الظهيرةِ بأصابعَ ترجفُ
ويقتسمون التمرَ المعلّبِ
برائحةِ الدخانِ وأزيزِ المقاليعِ
لم يعدْ ظلِّي
يرافقُ جسدي تحت الأسقفِ المطفأةِ
ولم نعدْ نأنسُ
للهاثِ الشيوخِ علي طاولاتِ الحوارِ
فكيف تحتمي الأجيالُ
باقتسامِ الرأي على مقابرِ الشهداءِ؟
أو في مجالسِ العاجزين
وكيف يأنسُ الصغارُ
لثدي الأراملِ في مغاسلِ الموتى؟
عذرًا أيُّها الأغبياءُ
الشمسُ الني نامتْ على صدرِ الميادينِ
تضجُّ بأشواقِ الصباحاتِ
وأحلامِ الطيورِ.
j h j
g كأنّه الصباحُ
حسونة فتحي
(يقيم في العريش،/ شاعر وباحث في الفلكلور السينائي./ صدر له: سنين من سينين، رسالة إلي)
شاشةُ السادسةِ صباحًا
أمرُّ بوجهِكِ
كلُّ صباحٍ..
هذا ما يتوسلُ قلبي أن أفعلَ
فإذا نظرتُ ابتسامتَكِ المقدسةَ
ضحكَ..
وقهقه فاغراً فاهُ
ومبديًا أسنانَهُ المتناثرةَ الصفراءَ
هكذا يراودُني بضحكةٍ أحِبُ
لأكونَ رسولَهُ إليكِ
يُقسمُ لي
أن لا خوفَ منه على امرأةٍ
فهو مثلي تمامًا
تُذكِّرنا الأشياءُ بالأشياءْ
الكلماتُ، الصورُ، المشاهدُ، المدنُ، الوجوه.
هكذا تمّرُ الحياةُ رتيبةً وموحشة
إلا ابتسامتَكِ
كلّما طالعتُها
.. تعالتْ دهشتي
ضحى
اللواتي مررْنَ
قبلكِ
كُنَّ رحيماتٍ
اكتفتْ كلُّ واحدةٍ منهن بقطعةٍ صغيرةٍ
ورطبةٍ
من قلبي الجافِّ
وكنتِ رحيمةً جدًا
إذ أخذتِ ما تبقى
أنا الآن بلا قلبٍ
لا أحبُّ.. لا أكرهُ
لا يفزعني حزنٌ..
لا يُحزنني فزعٌ
لا يضنيني شوقٌ
ولا يجتاحُني حنينٌ
أنا الآن .. في انتظارِها
تلك التي ستكونُ أكثرَكن رحمةً
وتأخذُ ذاكرتي.
j h j
g وقتٌ عاطلٌ
سالم الشبانة
(يقيم في العريش،/ صدر له: رتق ندوب عميقة، / للموت سمعة سيئة، ثقوب سوداء)
قاطعُ طريقٍ ضجرٌ.
رائحةُ الموتِ قويةٌ، رائحةُ البهاراتِ الخافتةُ.
الموتُ قاطعُ طريقٍ يجلسُ باردَ الأعصابِ في محطةِ القطارِ، يشيرُ بيدِهِ أو يرسمُ دوائرَ على ورقةٍ سوداءَ. الموتُ يفكّرُ في الدَّمِ، يرمي أسطورةَ الوجهِ البَشعِ والأظافرِ المعدنيّةِ. الموتُ قاطعُ طريقٍ ضَجرٌ يؤدي عملَهُ بمللٍ وغضبٍ من الذين يحولون فتنةَ الحياةٍ إلى رائحةٍ خانقةٍ وبارودَ.
الموتُ رائحةٌ قويةٌ في المحطاتِ، القطاراتِ، الشوارعِ، السياراتِ، البيوتِ، الأنهارِ، الصحاريِ، المباني العامةِ، ملاعبِ الكرةِ، الأحياءِ المكتظّةِ، الطرقِ السريعةِ، الشاحناتِ، السفنِ..
الموتُ قاطعُ طريقٍ يريدُ أن يتقاعدَ.
هواجسُ ليلٍ.
صخبٌ وعراءٌ، ظلالُنا شاهقةٌ، رائحةُ البحرِ فاغمةٌ في الليلِ، كبَشْنا الرملَ والصدفَ، عَدَوْنا عراةً وحفاةً بلا هواجسَ، غيرَ أنّ الصخبَ يزلزلُ أقدامَنا حين وقفْنا على الصخرةِ أمام الفراغِ الهائلِ، مددْتُ يدي، صغيرًا وأرى العالمَ مرخيًّا وثقيلاً كذراعِ النائمِ.
الحصى باردٌ وحادٌ، الهواءُ يعبقُ بندى الميرميّةِ، أسمعُ الهلاوسَ تميعُ على الترابِ وفي الهواءِ العالقِ بشَعري، الخطواتُ الخافتةُ السريعةُ، عواءُ الذئابِ، غطيطُ الذبائحِ على حافّةِ البحرِ، احتدامُ الأجسادِ.. كنتُ حاضرًا هناك.
حافلةُ جنودٍ.
مساءٌ يشهقُ ما تبقى من الأرقِ، الروحُ الكبيرةُ بعيدةُ..
طللت عليَّ في حافلةِ الجنودِ، حزينًا وأرجو أن أنامَ قليلاً، سمعتُ الأغنيةَ سهوًا فبكيتُ، قرأتُ شيئًا ما؛ فاحترقتْ أصابعي. لم أنمْ حين نزلتُ من الحافلةِ، قلتُ: ربَّما غادرتْني دهشتي. كان حلقي مُرًا، خفتُ، قعدتُ تحت الشجرةِ على الرصيفِ بلا كلماتٍ. بالقربِ من بيتكِ؛ وقفتُ تحت شجرةِ الأكاسيا؛ صببتُ الماءَ من الزجاجةِ على رأسي وقلبِ الشجرةِ. وجلستُ وشجرةِ الأكاسيا، أنحِتُ الدمعةَ؛ ليعبرَ المشاةُ بهدوءٍ.
الصغارُ بلا ندمٍ ولا جريرةٍ.
سقطْنا، الخريفُ على البابِ؛
نجمعُ الحصى والورقَ الذابلَ.
بلا نصيرٍ ولا يدٍ كبيرةٍ، غنّينا بلسانٍ عربيٍّ، تسلينا بالكلماتِ السوداءِ والحمراءِ. لم نبصرْ العقاربَ في فراشِنا، ولا الفحمَ الذي نما على الحوائطِ وصارَ أيقونةٌ.
نخشُّ في الناسِ، ونخرجُ بلا صدى، أجسادُنا الهشّةُ، الغضبُ والجوعُ والهوسُ، مررْنا مساءًا، الأشجارُ الطويلةُ تحت الشمسِ والهواجسِ.
طارتْ عيونُنا وراءَ الطيرِ والرصاصةِ! ابتهلْنا للعالمِ: أن أخرجْ من باحةِ الدارِ؛ لنظلَّ صغارًا، بلا ندمٍ ولا جريرةٍ.
j h j
g لا شيءَ يصدقُني العزاءَ
سامي سعد
(يقيم في العريش،/ صدر له: اعترافات العابر،/ كملك يتأهب للفرار، في الرواية: تلة الذئب، السراديب)
في حروبِ الحياةِ
لا حربَ لي،
في ساحاتِ الرعبِ
تبيضُ حمامتي
***
لستُ سيئًا
إلى هذا الحدِّ،
إنّما لا أحد
يستظلُ بشجرةٍ عاريةٍ.
الخجولُ سيحظى بالندمِ
اقطفْ الوردةَ باكرًا،
للجريمةِ لذتُها
والحقلُ سيباركُ خطوتَك.
***
أشتهي حربًا كونيةً
لا تتركْ إلا اثنين،
منتصرًا وحيدًا
أو ميتًا لا يقاسي
***
ما شاهدَني أحدٌ
في حقلِ العدمِ
عريانًا أجلجلُ
بالقصائدِ، والحنينِ.
j h j
g أيامُ العطلِ
صلاح فاروق
(يقيم في العريش، يعمل أستاذا للنقد الأدبي/ صدر له: الحياة السرية للآباء/ فنجان قهوة لطاولة المقعد الفارغ)
ماذا يمكنُ أن نفعلَ في أيامٍ كهذي
نشربُ القهوةَ مدّعين أنّه المكانُ نفسُهُ حيثُ
نلتقي
أو نقرأُ أخبارًا معّدةً منذُ الأمسِ ومعروفةً
للجميعِ،
لكنّها معطلةٌ عن الهدفِ حتى يقرؤها أمثالُنا،
أو ربّما نتسلّى بروايةِ رجلٍ يبحثُ عن شيءٍ
يفعلُهُ في أيامٍ كهذي
فيشربُ قهوةً مدّعيًا أنّه المكانُ نفسُهُ حيثُ
نلتقي، أو يقرُأ أخبارًا معدّةً منذُ الأمسِ
ومعروفةً للجميعِ، لكنّها معطلةٌ حتى يقرؤها في
الوقت عينهِ رجلٌ يشربُ قهوةً؛ حيثُ نبحثُ عن
شيءٍ نفعلُهُ في أوقاتٍ كهذي.
ياللهُ..!!
هذي الكلماتُ المكرورةُ تشبهُ أيّامي،
لكنّها بقدرِ المللِ الذي تسبّبهُ، وبقدرِ الغموضِ
الذي تحملُهُ
تميلُ إلى دفعي حتى أكتبَها كاملةً؛
كأنّني سأعرفُ أين ينتهي الموقفُ، أو سأعرفُ
ماذا يمكنُ أن نفعلَ في أيّامٍ كهذي.
ربّما كان هذا تأثيرَ روايةٍ تبحثُ عن نفسِها في
حياةٍ واحدٍ مثلي؛ يكرّرُ الكلماتِ كما يكرّرُ الأيامَ،
ويكتبُ:
هذي حكايةُ رجلٍ يكرّرُ نفسَهُ، ويكرّرُ نفسَهُ..
حتى ينتهي كلُّ شيءٍ إلى أطيافٍ غامضةٍ لحكايةٍ،
تشبهُ ما يمكنُ أنْ نفعلَهُ في أيّامٍ كهذي
……………………………….
أيُّها الأصدقاءُ وداعًا
لم يعدْ عندي ما أكتبُهُ من أجلكم
ولا أعتقدُ أنّ لديكم ما تفعلونه من أجلي.
j h j
g الحكايةُ العاطفيةُ
كريم سامي
(يقيم في العريش/ صدرت له رواية: غرفة السيد بحر)
1
يقولُ ثمّ يستدركُ وهكذا يمورُ حتى يسقطَ في ثناياها: روحٌ خفيفٌ
كأنّها عدمٌ نهضَ بين أصابعهِ فيضانُ ورودٍ.
والتفاصيلُ التفاصيلُ/ كوكبُ حلوى/ أمشاطٌ بألوانٍ/ عددٌ غريبةٌ للحياةِ/ لطائفُ تكسرُ الوقتَ والأسنانَ وتطبخُ الضحكاتِ في مرجلِ القلبِ السعيدِ.
بيتٌ صغيرٌ فيه تشعرُ بالضياعِ، براحُ الحبِّ، غيرَ أنّي لا أقولُ، أستعملُ خفيفَ اللغاتِ، وأمررُ المعنى عبرَ التصاويرِ إلى العقلِ الوليدِ، إلى الجسدِ الذي يحفظُ ويتشكّلُ وأيضًا يضيعُ في تفاصيلِ جسدكِ الصغيرِ.
الفضاءُ النظيفُ/ وهذا أكثرُ ما يفهمُ ذاك، وأنا ألعبُ، وأنتظرُ الرمزَ البسيطَ، الدوارَ أي كن قريبًا، الموسيقى حنانُ عيونِها لضياعك.
والقهوةُ شبقُ للحكايةِ، عشقٌ في قطارٍ، موقفٌ في الفراغِ، وردةٌ في عاصمةٍ، بوذا في المهرجانِ، كتابٌ في بحرٍ، رقصةٌ في الزمانِ، وها أنتَ تعرفُ للوعي لطائفَ، توزعُ أشلاءَها على سنواتكَ، ثم تشكلُها موجةً تسكبُها في الطريقِ، مازلتَ إنسانًا، غيرَ أنّكَ لا تقولُ.
2
تفتحُ بابَ بيتكَ، تجدُ العالمَ مستلقيًا على أريكتكَ الصغيرةِ، يدخنُ أخرَ سجائرِكَ، يحتسي خمركَ، يقلّبُ أوراقـَــكَ، و يضخُ أفكارًا في اللحظةِ العاطفيةِ، هي لا تفهمُ صمتكَ، تنسحبُ بذرائعها التي تبكيكَ، وهي التي لم تشاهدْ المعركةَ، تشاهدُ آثارَ اللطماتِ على روحكَ، تراجعُ ساعاتِ اليومِ، ثم تنفي علانيةً أنّها قد أشاحتْ عنكَ، أو لم تخبرْكَ أحبُّكَ ثلاثَ مراتٍ على الأقلِ، وأنتَ ضائعٌ، هل تخبرُها عن الحربِ الكونيةِ أم تدعُها فريسةً لقلبها؟
مرةً أخرى تضحكُ من وهمِ أنكَ تختارُ، الطريقُ يمشي، ونحن الماجنون نخترعُ حكايةَ الخطواتِ، ها هي تنظّفُ الأواني، وأنتَ تستعينُ بأقراصٍ، موسيقى، أقلامٍ، كلِّ ما يشغلُ المكانَ، علَّهُ ينفعُ، علّها تفهمُ، علَّ العالمَ يغادرُ لحظتَكَ، يأخذُ فلسفاتِهِ إلى الجحيمِ، يخلو البيتُ إلا من ثناياها، تستعيدُ يداك من القصيدةِ لتتورطَ في الحكايةِ العاطفيةِ.
3
يتضافرُ الجازُ ولونُ الأرائكِ ومما لا تعرفُ لتتضحَ الأمورُ: الكيفيةُ هي المحكُ، تستعيدُ ما أنساكَ إياه ما لستَ تدري، كأنّكَ حديثُ العهدِ بصوتِكَ، تجرّبُ أبسطَ الكلامِ، وفي خضمِّ اللعبِ تعثرُ على نبرتِكَ، والحديـثُ عن الكـفاءةِ يبـدو تـرفًا في اللحظةِ الراهنةِ، كما أن بهجةَ الانتصارِ تطغى على الناقصِ من التفاصيلِ، والمدهشِ أن تجدَ في الضميرِ الصارمِ نوافذَ للصبرِ، لحظةَ سلامٍ،
السياقُ مزدحمٌ، موجاتٌ من الأحراشِ، ملمسٌ فرنسيٌّ، أحمرُ شديدُ الضراوةِ، طلاسمُ وتعاويذُ، كلُّ ما تراه يصنعُ الإيقاعَ، وما تسمعُهُ يرسمُ القصيدةَ العاطفيةَ، ها أنتَ تتورطُ في عشقٍ جديدٍ للروحِ التي تنضحُ روائحَها في الأشياءِ، للأشياءِ التي تعيدُ تشكيلَ الروحِ ببطءٍ جميلٍ، جشعُ اللحظةِ الجديدةِ ليبدأَ من عندها التاريخُ، المعادلةُ التي تحاولُ صناعتَها تعطلُ البدايةَ، لديّ أكثرُ مما أحتاجُ.
4
قبلَ الطريقِ قالَ، قبلَ الهبوطِ، قبلَ الزمانِ، وقبلَ المكانِ، وهذا ما جعلَ التجريبَ مسودةً ومعيارًا، كنتُ أضيفُ الشيءَ لمَا قالَهُ وبعدَ زمنٍ أحذفُ الشيءَ، فترجحُ كفتُهُ في المعيارِ، آمنـــتُ بحبيبي.
حبيبي ضيقٌ ومتسعٌ، حبيبي نظيفٌ ومتسخٌ، حبيبي أحمقُ ورشيدٌ، حبيبي كهلٌ وليدٌ، حبيبي شاعرٌ وقاطعُ طريقٍ، حبيبي أزرقُ ودونَ لونٍ، حبيبي رجلٌ وامرأةٌ وخنثوي، حبيبي طريقٌ وبيتٌ وسماء.
j h j
g عن أرضِ السّوادِ المخدَّدةِ بالعلاماتِ
ماجد الرقيبة
(يقيم في رفح، يعمل طبيبا)
هل سَمِعْتَها في البيتِ، وهي تعوي؟ كانَتْ قرابينُ اللهِ ترتجفُ، وأنتَ تمزِّقُ غفلتَكَ، وتقولُ: لعلَّها سنةٌ قادمةٌ، ولم تستمعْ لكَ، أو أيُّ أحدٍ، في الفناءِ الضيِّقِ المُتْرَعِ بالفراشاتِ الربيعيةِ، وقُلْتَ حينها: أجرِّبُ ربيعًا كهذا، لعلّي أصلُ إلى مكمنِ الرغبةِ، ولم تلتفتْ إلى الأعلى..
تلك الأوراقُ الملطَّخةُ بالدهشةِ، والطيورِ النائمةِ، وكم كانتْ مشذَّبةً، ومفصلةً على التوجعِ، والوقوفِ أمام المرآةِ المعلّقةِ على البابِ!..
لا أثرَ، ولا عصافيرَ، ولا شمسَ متوسطيةً، منظَّفة من المِلْحِ على الجدرانِ، وثرثرةِ الونَّاساتِ، في الطابقِ الثاني، حيث تُشْرِفُ برأسِكَ على غروبٍ أرجوانيّ، يتقطَّرُ في عينِ امرأةٍ في الثمانين، تُراقبُ تراجيديا المساءِ، المتكرّرةَ على مرأى كائناتٍ هشّةٍ، هنا، وهناك..
كم دَعَتْكَ الغريزةُ لأنْ تضعَ رأسكَ برفقٍ، على صدرها، وتطاردُ هيكلَ الورقِ المتهاوي آخرَ العامِ، معها، بصحبةِ الأوهامِ القديمة وماذا لو رأيْتَ البَحْرَ من هذه الشرفةِ؟ هذا السورُ المخوَّلُ بالماضي دائمًا، وتلمَّسْتَ دربًا إلى التفّاحِ الذي يَهْطِلُ على الأرضِ، إلى شمسٍ حريريَّةٍ تحفرُ لعابَها على الجدرانِ، وإلى نَدَىً، يرفُّ على الشاطئِ، هناك، حيثُ يستعدُّ العَرَقُ لكتابةِ حياةِ موزارت، في المدرسةِ، والأناملُ للاحتفاءِ بفنجانِ قهوةٍ، على السُلَّمِ، حينها، تدركُ قيمةَ الوقتِ، كلَّ الحنانِ، النُذُرَ الغريبةَ، المذكّراتِ التي تُفهمُ فقط، ولا تُكْتَبُ. كلُّ شيءٍ، كلُّ شيءٍ حينها يبدو بعيدًا، كفكرةٍ بعيدةٍ، حينها تعودُ نحوها بصدرٍ متشنِّجٍ، ووجهٍ مكتظٍّ بالعلاماتِ المزيَّفةِ، وتُريها المدنَ الحافيةَ على النَّهْرِ، صوتَ الطِّفْلِ المعلَّقَ بالنافذةِ، حسناتِ المتفرِّجين، وقيمةَ الربيعِ في لَغَطٍ كاملٍ كهذا…
j h j
g ليل
محمد المغربي
(يقيم في العريش، / شاعر ومترجم)
نومٌ
ثم تندلعُ المشاعرُ المحمومةُ في صدري
عادات شريرة تنسخُ نفسَها
فلا أتباطأ
لأن السعادةَ هناك
تقضي سهرةً صاخبةً
تجرّبُ أنواعًا كثيرةً من الرقصِ
لا أذكرُ ـ الآن ـ أيَّ نوعٍ من الأمنياتِ كانَ
أيُّ دافعٍ مروّعٍ
رافقَ أن أتجهَ بيولوجيًا
إلى نومٍ عميقٍ.
سنونُ
كنتُ وحدي
وبلا يقينٍ إكلينيكيٍّ
أعبرُ سهوبَ العمرِ القاحلةَ
حين وجدتُ أنني بلا طائلٍ
أغذُ … في فلواتٍ شاسعةٍ
مفعمًا بالسلِّ
وبعضَ المشاعرِ الحميدةِ
حمىّ / حنينٌ
إضاءةٌ سائلةٌ
تنتشلُ ليلاً غارقًا في سريري
فأبدأُ في الهذيانِ بأسماءَ كثيرةٍ
وأكلمُ نفسي بصوتٍ دافئٍ
كما لو أنني أعرفُني منذُ وقتٍ طويلٍ.
—————————————————
المقدمة واختيار النصوص: سالم الشبانة