هِيَ أقرَبُ مِمّا هَجَسَ البحّارةُ ، أقرَبُ ممّا زعَمَ الرحّالةُ ، أقرَبُ ممّا ظنَّ
رَبَابنة الفلكِ
انْظرْ :
هذا عُشْبُ منازلِهَا يتلامَحُ في الأفْقِ ، وهذا طيرُ قواربِها يتخافَقُ والمَاءَ .
تمهَّلْ إذنْ ، فالأرْضُ على مَرْمَى نظرٍ وطريقكَ قدْ أوْشكَ..
لا تتعجّلْ
هيَ أدْنَى ممَّا زَعَمَ البحّارةُ ، أدْنَى ممَّا ظنّ قراصنة الماءِ
تَلفّتْ ..لمْ تبْقَ سوَى أمْيالٍ كيْ تبْلغَها
فعلامَ تَحثّ الخطْوَ إذنْ ؟
أرْهفْ سمْعَكَ للعُشْبةِ تذْرُوهَا الرّيحُ
وللمَاءِ يَصلُّ ، وللغرْبَانِ تحوّمُ في شرُفاتِ الحِصْنِ .
تأنَّ لتبْصرَ ماءَ الليلِ ، تنفّسَ ضَوْءِ الفجْرِ ،هبوبَ الرّيحِ على جَبَلِ الشّمْسِ
امْضِ على مَهَلٍ
فالأرْضُ على مرْمَى نظرٍ
لا تتعجّلْ
هي أقرَبُ ممَّا نحْنُ هجَسْنا ، أقرَبُ ممّا نحْنُ توهَمّنا…فتأنَّ إذنْ..
امْضِ على مَهَلٍ
حَاولْ ألاّ تبْلغَها أبدًا ..
في وادي الحُوقينْ
حيْثُ الجبلُ الأسْودُ يَحملُ نارَ الخلْقِ الأولَى
كنّا نتهجّى بأصابعِنا شجرًا لا نعرفُهُ
وطيورًا نجْهلُها
ونفكّ حروفَا رسمتْها الريحُ على مخطوطِ الصّحْراءْ
أرضٌ لكأنّ اللهَ على مهلٍ يدْحُوها الآنْ.
رعْدٌ يأتِي من أرْضٍ لا نبْصرُها
برْقٌ يومِضُ في صحْراء لا نعْرفُها
شجرٌ لا اسْمَ لهُ..
أودية منْ حجَرٍ ورفاتِ طيورٍ داثرةٍ
بلٌ يتسامقُ والغيْمَ
عزيفُ رياحٍ
وعواءُ أوابدَ
سوف يسيرُ إلى أرْض الرّستاق
فلنْ تخذلَهُ بعد الآن بصيرتُهُ
لنْ تخذلهُ عيناهُ
سيطوِي كالقرصانِ خرائطَهُ
ويسيرُ إليها.
أيّها البحْرُ يا صَوْتَ أسلافِنا هلْ تتذكّرُ سرْبَ مراكبِنَا ، و حُصونَ ممالكِنا ،
هل تتذكّرُ: كانتْ مدائنُ «ممباسا» كمثل النوارسِ تجْري على الماءِ ،
والأرضُ كانتْ بنفسجةً في يدِ الغيم
هلْ تتذكّرُ قرْعَ الطبولِ ، هدير البراكينِ ، عدْوَ الجواميس ، هلْ تتذكّرُ
منزلَنا في حدائقِ «لامو» ، ونسْوتَنا في الأوَاوين مُسْتجْمراتٍ بطيب القرَنفلِ
هل تتذكَرُنا
من درُوعِ السّلاحفِ كانت أسرّةُ أطفالِنا ، والقواقعُ كانت تمائمَنا ،
– ما أرْحبَ البحرَ،يا سيّدي الطير ،ما أضيقَ الأرْضَ
لم يكنِ الماءُ سورَ الجزيرة ، كان أخًا وأبًا ، كان سلّمَنَا للسّمَاءِ
لنا منْهُ كلُّ هذا البياضِ
لنا منْهُ كلُّ هذي السّنابلِ
كانتْ ممالكُنا منْ نُحَاسٍ وأشرعَة ٍ..وزوارقَ حتى «الجواذر»..
نحن أولاءِ أبناءَ تلك السواحلِ ، أدْرَى بما خبّأتْهُ الشواطىءُ ، أدْرَى بما كنزَتْهُ القواقعُ ،
أدْرَى بما حفظتْهُ الضفافْ
فيا بحْرَ الأوابدِ ياسليلَ الخيلِ والغزواتِ والجُزرِ البعيدة مُرْ ريَاحَكَ تجْرِ،، مُرْهَا تدفع الفُلكَ ، الظلامُ يَحُلُّ ، والأهْلُونَ ينْتشِرُونَ….. أشْرعة المَراكِبِ قد رفعْنَاها ، مَسكْناَ البحرَ من قرْنيْهِ ، يمّمْنا الجنوبْ .
أيّها البحرُ ..يا صَوتَ أسْلافِنَا ..هل تتذكّرُ كيفَ خرجْنا كَمَا العشبُ من ثبَجِ المَوْجِ ، كيْفَ حفظنا الشرائعَ ، كيف أقمْنا الموازينَ قلْ : منْ سيكتبُ للبحْر تاريخَهُ ؟ من سيكتبُ سيرتَه ؟ من يتواطأ والماءَ ؟ تاريخُنا كتبتهُ المجاديفُ ، والفلكُ ، والطيرُ سابحةً ، كتبتْهُ الكواكبُ تهْدي رجالَ صُحار إلى آخر البحر ، فازجُرْ طيورَك يا سيّدي الماء ، أطلقْ أعنّة موجِك ،نحْنُ جمعنا الشتيتيْنِ ، خِطنا الضفافْ .
* أسْمَعُ حمْحمةَ الخيل وأبْصرُ ألويةً في الأفق
الصّحْراء دعتْك
فلا تسألْ رجليكَ الدامِيتيْنِ
ولا صدْرَكَ أثخنتْهُ الطعناتُ ،
ارفَعْ رايتكَ …ارْفعْهَا عاليةً
.ستؤول إلى أرْض الرستاقِ الجزرُ السّبْعُ
وهذا الغابُ
ونسْوتُهُ المرْتدياتُ قناعَ الطيْرِ ..
ارْفعْ رايتكَ ارفعْهَا عالية
سنةٌ أخرى كبيسة يا سرْجُونْ
هلْ أخطأنا التقويمْ ؟
كيفَ أقطعُ هذا الطريقَ الطويلْ
والمَدى مُدْلهمّ
وضوءُ سراجِي ضئيلْ
كيف أقْطعُ هذا الطريقَ الطويلْ
و البساتينُ قد أمْحلتْ منْ سنينَ
فلم نَقتطفْ من تينِها غيرَ هذا القليلْ ..
كيف أقطعُ هذا الطريقَ الطويلْ
ولا شيءَ غير سقيط النَّدَى
غير نارِ الرّعاةِ
غير أضْغاثِ عشبٍ متربٍ
ونخيلْ
كيفَ أقطعُ هذا الطريقَ الطويلْ
والثعالبُ قد ضبحتْ حولَها
والذئابُ تعاوَتْ
وأقفرَ من سَالكيهِ السبيلْ..
طويلٌ طريقُ البراري طويلْ
فكيفَ إذا سوفَ أبلغُها
وجميعُ الدّروب معتّمةٌ
وضوءُ سراجي ضئيلْ…؟؟
دُرْ يا مِغْزلُ في كفّ النّسْوةِ ..
دُرْ يا خيطا من ضَوءٍ
دُرْ يا ماءَ الأفلاج
دُوري ياغربانَ الغوفْ
غربتُنا
لنْ تمْحوَها أعيادُ البحْرِ ..
ولا أعْراسُ الماءِ
سنبْقَى ايّامَ العيدِ نوارِي حذرَ الريح حنينًا كنا أضْرمنَا
ونضمّدُ جُرْحا كنّا خبّأنا
لا عيدَ لنا نحنُ الغرباءَ
فَدُرْ يا مغزلُ في كفِّ النسوةِ ..
دُوري يا أفلاكُ ويا عقبانُ
فقد خبّأنا تحْتَ الثوبِ مصابيحَ الليل
وسرنا نتهجي بأصابعنا أشجارًا نجْهلهَا
وطيورًا لا نعْرفُهَا …
كنتُ كما الشعراءُ أرُوضُ الكلماتْ
لأسَمّي ما كنتُ أراهْ
فإذا ما خذلَتْنِي
أجْريْتُ الاسْمَ على غيْرِ مُسَمّاهْ
دُرْ يا ماءَ الأفلاجْ
دُوري ياغربانَ الغوفْ
النّجْمة ليستْ مصباحًا كيْ تأخذَها بيْنَ يديْكَ
و لا الغيمة ثوبًا…كيْ تلْبسَها..
أبدًا لنْ يلقي الليلُ عليك عباءتهُ
أبدًا لنْ يحْضنكَ العشبُ
ستبْقَى ، أنت ،غريبًا في أعياد قبائلهم ..
تستكْتمُ ماكانَ أذاعُوا
وتمنّي النّفْس بشمس أخرى ..
لن تنامَ ، إذا نمْتَ ، ملءَ جفونكَ : غابتْ وراءَ الضبابِ المدائنُ ،غابتْ كرومُ البساتينِ …لكنْ ستبقى تشمُّ ، على البعد ، عطر الرّغيف إذا أقبل الفجر ، تبقى
تشمّ ، على البعد ،رائحة المطر المتهاطل في الليل …تبْقى تتلفّتُ خلفك تبْحثُ عن منزلٍ ولداتٍ أضَعْتَ..
وها أنْتَ تُطبِقُ تلك البلادَ كما صَفحاتُ كتابٍ
وترحلُ أعزلَ إلا منْ سنابلِ أهلكَ في الضّفتَيْنِ
و قفرانِ نحْلِ الجزيرهْ ..
فسلامًا يا جبلَ الشّمْسِ
سلامًا أيتُها الغرْبانْ
تتخافقُ كالرّاياتِ على الحصْنِ ،
سلامًا أيّتها السّمُرات بأغْوار الوادي
ها نحن نقلّبُ أعْيننَا في أرْضٍ لا نعرِفُها
ونخوّضُ في بحْرٍ لا نبْصرُ سَاحلَهُ
ونرى أهْلينا بينَ شتيتٍ وجميعٍ…
سأسْكنُ الملغَزَ والغريبْ
منْتقلا منْ غامضٍ لمبْهمٍ
أنْقُضُ ما أبرمَهُ الناسُ ،
وأبرِمُ الذي قد نقضُوا
مستدركا على المواثيق التي قد دوّنُوا
مُسْتأنفًا ما أوّلوا…
بين يدي أبي مسلم البهلاني
سَـيـخْـلعُ نعْــلـيْــهِ إذا جَـاءَ بابَـهـَا
فــإثـمٌ عــظــيمٌ أنْ يـَدُوسَ تُـرابَهَا
هيَ الأرْضُ سَجّادٌ و نحْنُ نُزُولها
نوَقّرُ أنْ تـَغْشـَى الـنِّعالُ رحـَابَها
سنُبـْصِرُ قبْلَ العـيْنِ بهْجَة وجْهِهَا
و نَسْمعُ منْ قبْلِ الخِطابِ خِطابَها
فـيَا أيُّها السَـقـَّاءُ هَاتِ مِــياهَها
و أفْرِغ بـِظـلمَاءِ القـُلوبِ قِرابَها
و خَضـِّبْ بقِطرَانِ المدينةِ دوْرقِي
لأجْلو على بُعْدِ المــزارِ غِـيابَــهَا
و لا تسْـألـنـِّي إنـَّنِي من سلالةٍ
بها العينُ و الحدْسُ المكينُ تشابَهَا
فمِنـِّي قـُلــوبُ العاشِقِـيـنَ تحدَّرَتْ
و مِنـِّي أنا العشـقُ الذي قد أذابَها
إذا آضْطربَتْ مِنهُمْ قـُلوبٌ فقلْ أنا
«أعرْتُ قلوبَ العاشقينَ اضْطِرابَها»
سلامٌ على أرْضٍ نَحِنّ لضَوْئِهَا
ســلامٌ ليالـيهَا سلامٌ صحابَـــــها
سلامٌ على ذاتِ الحجابِ التي نَأتْ
فكان تجلّيها الجميلُ احتجابَهَا
أجَابتْ إذِ اسْتنْسَبْتُهَا جَبليّةٌ
و إنّ إلى أرْضِ الجنوبِ انتسابَها
تسَاءَلتُ إذْ أبْصَرْتُ جمْرَ عُيـــونِها
تُرى كيْفَ لمْ يحْرقْ لظاهُ حِجَابَها
بَلَى..ذاكَ عهــدٌ لا أؤمِّلُ عَــوْدَهُ
و تلــك َ ليالٍ لا أرَجِّي إيابَها
كأنَّ شبَابَ العـُمْر كَانَ جــنايةً
ووثبةَ هذا الشيْبِ كانَ عِقابَها.
محمد الغزي