(1)
إذا أراد محمد خضير أن يبقى (مواطناً أبدياً), فإن كتابه (بصرياثا) لم يشأ أن يبقى حكراً على القراء الناطقين بالعربية. فها هو ذا وليم م. هوجنز يترجمه إلى لغةٍ ثانيةٍ, ويصبح في متناول القراء الناطقين بالانجليزية وربما يُترجم منها إلى لغات أخرى.. لقد عبر (بصرياثا) من ضفةٍ إلى ضفة, وأصبح ملكاً للقارئ الأوربي أو الغربي عموماً.. إنه يعيد إلى أذهاننا كتاب (داغستان بلدي) لرسول حمزاتوف و(مدن لا مرئية) لإيتالو كالفينو و(الطريق إلى غريكو) لنيكوس كازنتزاكي و(حصيلة الأيام) و(بلدي المخترَع) لإيزابيل أليندي و(اسطنبول: المدينة والذكريات) لأورهان باموق. تنتمي هذه الكتب إلى جنس أدبي صار يكتب فيه كتاب معاصرون من الشرق والغرب يسردون من خلاله سيرهم الأدبية وسير مدنهم ومواطنيهم وأحباءهم ومجايليهم وما واجهوه من ويلات ومصاعب في تحولات التاريخ القاسي.
يتمتع (بصرياثا) بخصوصية فريدة, فليس هو وثيقةً ولا سيرة ولا دليلاً سياحياً يرشد الأجانب إلى الأنهار والبساتين والأمكنة التي دمرتها الحروب, فحتى الصور الفوتوغرافية التي حواها الكتاب تخفي أكثر مما تظهر من معالم البصرة وشواهدها من أنهر وسفن وقوارب راسية وبساتين نخل وسواها. إنه بحسب تعبير رولان بارت (نص مكتوب) يختلف جوهرياً عن النص الكلاسيكي, وهو يقتضي تأويلاً مستمراً ومتغيراً عند كل قراءة. ولهذا يتحول دور القارئ إلى دور ايجابي نشط, حيث يشارك (إن لم يتجاوز) الكاتب في إنتاج النص. ومن صفات هذا النص إنه يتجاوز الهرمية العرفية للنوع الأدبي ويتألف من مقتطفات ومرجعيات وإحالات وصدى أصوات مختلفة ومن لغات متباينة, وهو لا يسعى إلى إبراز الحقيقة وتمثيلها وإنما يسعى إلى نشر المعنى وتفجيره.(1)
إذا كان محمد خضير قد فضّل أن يبقى «في مدينةٍ فعلية, تخفي حقيقتها تحت ركام من أنقاض التاريخ المتقلب والمآسي الجماعية» ص 20 فإن كتابه هذا يُعد واحداً من أفضل الكتب الأدبية التي تنتمي لهذا النوع والتي كُتبت عن البصرة. إذ كتب أدباء بصريون آخرون نصوصاً تُعنى بالبصرة خاصةً من مثل كتاب مهدي محمد علي (البصرة جنة البستان), وكتاب طالب عبد العزيز (قبل خراب البصرة) أو تُعنى بالعراق عامةً من مثل كتاب لؤي حمزة عباس (المكان العراقي / جدل الكتابة والتجربة) الذي قام بتحريره وقدم له.
لا ريب أن محمد خضير وهو القارئ النهم والكاتب الدؤوب فكّر مراراً في مسألة تجنيس كتابه (بصرياثا), ولعه فكر في عناوين جانبية أو فرعية له قبل أن يستقر رأيه على عنوان (صورة مدينة).. هذا العنوان الفرعي, في رأيي, ناتج عن قصدية مدروسة وتمحيص ودراية وتفكير طويل أخذ من القصاص البصري شهوراً عدة لا بل سنوات, حيث شاء المؤلف أن يسمي نفسه (المواطن الأبدي) مستعيداً في ذهنه حكاية سقراط الذي آثر تجرع السم على مغادرة أثينا. آثر محمد خضير ألا يغادر مدينته طوال سنوات حياته إلا اضطراراً كي يعيد اكتشافها, يهدمها ويشيدها من جديد, كي يؤسطرها ويحولها إلى مدينة فاضلة, أثيرية, متخيَّلة, بحيث يتبادر إلى أذهاننا كتاب (مدن لا مرئية) لإيتالو كالفينو.
شاء رسول حمزاتوف أن يتحدث عن بلاده وتجاربه الأدبية والحياتية وكذلك تجارب وطقوس وأفكار وأشعار مواطنيه وهو الذي يعيش في وطنٍ صغير تتلاقح فيه الثقافات العربية والإسلامية والروسية والتركية ويحمل شواهد من العصور التي كانت فيها بلاده تحت ظل الحكم الإسلامي والعثماني قبل أن تصبح جزءاً من (الاتحاد السوفييتي السابق). حين يقرأ المرء (داغستان بلدي) يدور بخلده أن العالم, بالنسبة لرسول حمزاتوف, يبدأ وينتهي بداغستان ؛ وكذلك هو الأمر بالنسبة لمحمد خضير, فالعالم يبدأ وينتهي بالبصرة.. إنه يؤمن بما ورد في قصيدة كفافي في مفتتح الكتاب.. فكل الطرق ستؤدي بك إلى البصرة.. «وكما خُرّبتْ حياتكَ هنا, في هذه الزاوية الصغيرة, فهي خراب أنّى ذهبتَ». ص 7
الواقع, يوم أن نشر محمد خضير (بصرياثا – صورة مدينة) سنة 1993 في دار (الأمد) ببغداد, احتار قراؤه العراقيون والعرب في مسألة تجنيس كتابه اللافت هذا, إذ لم يُذكر على غلافه أنه (سيرة) أو (سجل) أو (وثيقة) أو (مذكرات) بل هو (صورة مدينة) عاش فيها المؤلف ولم يغادرها إلا لماماً.
وهذه المرة حيّر المترجم هوجنز الذي آثر (وعلى الأرجح آثرت دار النشر) أن يعده (رواية), ففي الزاوية اليمنى أسفل صفحة الغلاف وردت كلمات ثلاث هي: «رواية عربية حديثة A Modern Arabic Novel «وفي الأعلى «بصرياثا – بورتريه مدينة Basrayatha – Portrait of a City «, وفي طبعة أخرى للكتاب قامت بتنفيذها دار نشر أخرى ورد في صفحة الغلاف الأول: «بصرياثا – قصة مدينة Basrayatha – the Story of a City». كما نلاحظ أن هنالك صورتين فوتوغرافيتين مختلفتين للبصرة بالأبيض والأسود تعودان على الأرجح إلى قرنٍ مضى.
الحقيقة, دأب محمد خضير ومنذ بداية مسيرته الأدبية في منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي على إثارة الجدل في ما يكتب ويبدع من قصص ومقالات وتجارب أدبية تحدث فيها عن رؤيته إلى العالم وعن فنه القصصي الذي ظل مخلصاً له شأنه شأن زميله السوري زكريا تامر (على الرغم من الاختلاف الكبير بينهما, إبداعاً, وسلوكاً, وفكراً), وهذا هو شأن كل عمل خلاّق. لم يشأ خضير أن يجنس كتابه هذا وترك لـ (القارئ النموذجي) أن يفعل ذلك. لقد شاء الكاتب البصري هذه المرة أيضاً أن يصدم أفق انتظار القارئ فقدم نصاً ساحراً هو مزيج من السيرة والذكريات والتجارب الإنسانية ليست الخاصة به وحده بل تلك التي خبرها أبناء جيله, هو المولود في يومٍ من أيام 1942, خلال الحرب العالمية الثانية, فضلاً عن فيضٍ من المعلومات التاريخية والجغرافية والطبوغرافية عن مدينته البصرة وكذلك عصارة قراءاته الأدبية وخبراته العميقة في حقل الكتابة الإبداعية.
خلاصة القول, يمكننا أن ندرج (بصرياثا) ضمن ما يُسمى بـ (أدب المكان) أو (سرد المكان). ومع أن (دار المدى) قد صنفتْ كتاب (اسطنبول: المدينة والذكريات) باعتباره (مذكرات), إلا ان داراً لبنانية عريقة مثل (الفارابي) التي نشرت (داغستان بلدي) عدته (رواية), فربما يكون هذا التجنيس عنصر جذب تلجأ إليه دور النشر كي تزيد من مبيعاتها.. والشيء نفسه قامت به (دار المدى) عندما أطلقت تسمية (رواية) على كتاب (دلتا فينوس) لأناييس نن, في حين أن النص الانجليزي الأصلي يُشير إلى كونه (إيروتيكا) لا غير.
إنني أقول هذا مع أنني مقتنع أن مصطلح (رواية) أصبح فضفاضاً وإن هذا الجنس الأدبي يتسع الآن لشتى فنون الكتابة من شعر ومسرح وتاريخ وجغرافية وعلوم طبيعية وفلسفة وميثولوجيا ومذكرات وعلم نفس إلخ من الدراسات الإنسانية ناهيك عن الريبورتاج الصحفي واليوميات والرسائل والرسائل الإلكترونية (الإيميلات) ورسائل الهاتف الخلوي التي تُدعى الرسائل النصية أو الـ SMS. لم تعد ثمة قواعد قارة نهائية في نطاق هذا الفن الإبداعي المفتوح على تأويلات لانهائية وقراءات لا حد لها, ولكن لابد من توفر شرط واحد وهو أن يتحلى كاتبها بالموهبة الحقيقية فضلاً عن توفر الرؤية العميقة والخيال الخصب بحيث يكون النص الروائي مقنعاً للقارئ وإضافةً نوعية في جنسه الأدبي.
(2)
الترجمة نشاط إنساني لا غنى عنه, ففي عالمنا الواسع تعددية لغوية وثقافية ومعرفية هائلة ؛ وفي كل لغة من اللغات ثروات وكنوز أدبية وفكرية ومعرفية من مصلحتنا كجنس بشري أن نطلع عليها, ونستفيد منها ؛ وهذا يحتم ظهور نشاطات ترجمية بين اللغات المختلفة, لأن الترجمة هي القناة الرئيسة للتواصل والتبادل الثقافي بين الشعوب والأمم. كما أن الترجمة مهمة عسيرة, وغالباً مستحيلة, خاصةً إذا كان المترجم يضمر قدراً كبيراً من الاحترام والحب للمؤلف الذي يريد أن ينقل عمله الأدبي إلى لغةٍ أخرى. كما أنها مهمة خلاقة تتطلب في كثيرٍ من الأحيان «قفزات على الأمانة»: الإحساس بالنبرة, وفهم قصد المؤلف, ونيل الحرية من أجل التفسير, وغالباً, التصحيح أو التصويب.
أن تترجم يعني أشياءً كثيرةً ؛ أولاً: أن تروِّج, أي أن تجعل الكلام أو النص ينتقل من شخصٍ إلى آخر, أو من مكانٍ إلى آخر, أي تجعله متداولاً بين الناس. ثانياً: أن تنقله من لغةٍ إلى أخرى. وثالثاً: أن تفسره. ورابعاً: أن تجعله أسهل منالاً.
الواقع, إننا خلال ممارستنا للترجمة الأدبية نختار نسبةً مئويةً قليلةً من الكتب المنشورة التي تستحق القراءة فعلاً, أو بالأحرى تستحق إعادة القراءة بلغةٍ أخرى أو بلغات أخرى إذ غالباً ما يجري النقل من لغةٍ وسيطة وهي حتماً ليست اللغة التي دوّن بها المؤلف كتابه أي أنها ليست لغة الكاتب الأصلية التي يُصطلح عليها عادةً بـ (لغة المصدر).
إن هدف الترجمة هو توسيع مقروئية كتابٍ يُعتقد بأنه على درجة عالية من الأهمية بحيث يستحق القراءة بـ (اللغة الهدف).
تقول سوزان سونتاج: «تنظر الآداب العالمية إلى الترجمة بوصفها جهاز الدوران الخاص بها الذي تمكنت بواسطته شعوب الأرض أن يتعرّف كل واحد فيها على الآخر, وأن يفهم كل شعب الشعوب الأخرى».(3)
كما يقول سهيل نجم: «إن الترجمة تتعدى حدود إثراء لغة وثقافة البلد الذي تسهم فيه, وتتعدى تجديد حياة النص الأصلي وإنضاجه, بل وحدود التعبير عن العلاقات الداخلية بين اللغات ببعضها البعض وتحليلها وتصبح مدخلاً إلى لغة عالمية. وهذا معناه أنها توفر حاضنة حضارية متقدمة للتفاهم البشري على أساس استيعاب فكر الآخر من دون تجاهله».(3)
يدور بخلدنا, أحياناً, سؤال مفاده: كيف سيكون حالنا لو أننا لم نقرأ دويستويفسكي أو جان بول سارتر أو شكسبير أو بابلو نيرودا أو بورخيس بلغتنا ؟
تقول سوزان سونتاج: «إن الترجمة الأدبية فرع من فروع الأدب, وهو بالتأكيد فرع رئيس وجوهري؛ والترجمة أبعد ما تكون عن المهمة الميكانيكية. إلا أن ما يجعل الترجمة مشروعاً معقداً جداً هو أنها تلبي أهدافاً متنوعة. ثمة متطلبات تنهض من طبيعة الأدب بوصفه شكلاً من أشكال التواصل بين الشعوب. هنالك التفويض بالقيام بعملٍ يُعد ضرورياً, كي نجعله معروفاً لأوسع جمهور ممكن. كما أن هنالك الصعوبة العامة للعبور من لغةٍ إلى أخرى, والتصلب الخاص الذي تمتاز به نصوص معينة, والذي يشير إلى شيء موروث في العمل خارج نوايا مؤلفه أو وعيه, الأمر الذي يظهر حالما تبدأ دورة الترجمة – وهي صفة, وكي نستخدم كلمةً أفضل نسميها: إمكانية ترجمته إلى لغة أخرى».(4)
في حقيقة الأمر, إن أي مترجم قبل شروعه بترجمة أي عمل أدبي: قصة, شعر, مسرح, رواية, نقد أدبي, يوميات, مذكرات, لابد أن يضع في باله المسألة الآتية: إن إعادة إنتاج كلمات المؤلف وصوره بنحوٍ أمين ومخلص تفضي بنا إلى النتيجة الحتمية ألا وهي التضحية بالمعنى والجمال. هل المطلوب من المترجم أن ينقل المعاني فقط الأمر الذي يؤدي إلى إفقار العمل الأدبي, أم أن عليه أن ينقل النبرة والإيقاع وظلال المعاني والإيحاءات والاستعارات ؟
يحتاج المترجم إلى ثقافة موسوعية وعقلية متفتحة ومخيلة خصبة ولغة عالية كي يكون بمستطاعه استيعاب ما يبوح به النص أو ما لا يبوح به أو كما يُسمى بـ (المسكوت عنه).
إن الترجمة الأدبية, وبصورةٍ مبجلة, مهمة أخلاقية تعكس وتضاعف دور الأدب نفسه, وتهدف إلى توسيع مشاركاتنا الوجدانية, وتربية القلب والعقل, وتجعل المرء مستغرقاً في حياته العقلية والروحية, ناهيك عن اكتساب الوعي وتعميقه بأن هنالك أناساً آخرين موجودين على سطح كوكبنا, إنهم مختلفون عنا حتماً, إلا أن بوسعنا أن نتعرف إليهم ونفهمهم, لأن العدو هو الذي لا تعرفه ولا تفهمه, كما تقول ناتالي حنظل.
ولابد لنا ونحن نقوم بعملية الترجمة أن نأخذ بالحسبان الأشياء الداخلة والخارجة, أي بمعنى ما الذي كسبناه من الترجمة وما الذي فقدناه من النص الأصلي. لا ريب أن ثمة اختلافات جوهرية بين اللغات وبين التراكيب اللفظية والرموز والإيحاءات والمعاني وظلال المعاني والاستعارات ناهيك عن الأساليب والأدوات الإبداعية في كل لغةٍ من اللغات بالإضافة إلى الاختلافات الحضارية بين مجتمع وبلد المؤلف الأصلي ومجتمع وبلد المترجم. هذه الأمور كلها تضع المترجم أمام مسؤولية أخلاقية وإنسانية وحضارية لا يستطيع أن يتجاوزها إلا بالعمل الجاد والمثابرة واستشارة المعاجم والموسوعات والبحث عن المعلومة في شبكة (الانترنت).
قرأت, يوم أن كنتُ أترجم (طبل من صفيح) لغونتر غراس, أن الأخير كان يلتقي مترجمي أعماله الروائية إلى اللغات الأخرى: الانجليزية, الفرنسية, الإيطالية, الإسبانية, الروسية, البرتغالية إلخ كي يجيب على استفساراتهم لأن بعض الجمل ربما تكون غامضة أو ملتبسة أو عصية على الترجمة. لاشك أن هذه الممارسة ضرورية جداً ومهمة كي نقلل من خسائرنا إلى أدنى حد وكي لا نصاب بسوء الفهم ونبتعد كثيراً عن النص الأصلي. فضلاً عن ذلك, من خلال إطلاعنا وجدنا أن مترجماً واحداً قام بنقل أعمال غونتر غراس من الألمانية إلى الإنجليزية, هو رالف مانهايم, وفعلت هيلين تريسي لوي – بورتر الشيء نفسه فيما يتعلق بروايات توماس مان.
وليت هذه الممارسة تتكرر مع كل عمل أدبي يجري ترجمته إلى لغة ثانية كي نقلل من أخطاء الترجمة وكي ينال العمل المترجَم استحسان القراء ويواظبون على مطالعته بشغف كما لو أن العمل الأدبي المترجم مكتوب بلغتهم الأصلية. أقول هذا ونحن نعيش ثورةً في عالم الاتصالات ومن الممكن أن يتواصل المترجم مع المؤلف عبر وسائل الاتصال الحديثة المعروفة للجميع.
«تطرح ترجمة الأعمال الأدبية التي تتكئ على خلفية ثقافية, واجتماعية, ودينية, وإيديولوجية إشكاليات تزداد حدةً عند الانتقال بين لغتين تفصل بينهما مسافة شاسعة من حيث الأصول وطريقة التفكير وتحليل الخبرة الإنسانية».(5)
(3)
من خلال اطلاعنا على ترجمة وليم م. هوجنز لـكتاب (بصرياثا) يمكننا أن نستشف أن المترجم تمكن من تذوّق كتاب المؤلف العراقي وتفاعل معه ووقع أسيراً له, وهو أمر طبيعي لأن الكتاب غني ومكتنز بالمعارف والخبرات الإنسانية مزج فيه الكاتب الواقع بالخيال, والأسطورة بالتاريخ, والجغرافية بالأنثروبولوجيا, والمذكرات بالفلسفة, وعلم الاجتماع بالأشعار, فجاء كتابه هذا عملاً فريداً ورائداً في سياق الأدب العراقي الحديث.
وإننا نكاد نجزم أن المترجم هوجنز بذل مجهوداً كبيراً كي يستوعب تفاصيل النص وأغواره وإيحاءاته ودلالاته واستخدم دوال وإشارات ومصطلحات ومفاهيم مكافئة ومعادلة لتلك التي أوردها محمد خضير في كتابه. إلا أن هنالك بعض المفردات والإشارات المبهمة في الكتاب التي يصعب علينا حتى نحن العراقيين الذين ننتمي لخلفية المؤلف الثقافية والاجتماعية والوطنية فهمها فهماً كاملاً, فما بالكم بمترجم تفصله عنا مسافة شاسعة من حيث اللغة والتاريخ والإرث الثقافي وطريقة التفكير والمستوى الحضاري. وأقصد بذلك تلك الاشارات المبهمة التي من المحتمل أن يُساء فهمها بسبب القصور الفكري والمعرفي واللغوي.. بطبيعة الحال, لم يكن محمد خضير متعالياً حينما تطرق إليها, كما لم يكن يقصد إيهامنا أو تضليلنا, إنما جاءت تلك المعلومات والإشارات كمحصلة لقراءاته العميقة وثقافته الموسوعية وتنقيبه في بطون الكتب التراثية والتاريخية والجغرافية والفلسفية واقتباساته من دواويين الشعراء البصريين من مثل محمود البريكان وكاظم الحجاج وحسين عبد اللطيف والأجانب كاليوناني قسطنطين كفافي والفرنسي بول إيلوار وكذلك بعض الدراسات الفكرية والفلسفية ككتاب (حكمة الغرب) ج 1 لبرتراند رسل وكتاب (محاورات أفلاطون) الذي ترجمه زكي نجيب محمود وسواها من الدراسات والنصوص, ناهيك عن خبراته الأدبية وحياته الغنية الممتلئة بحيث كان يشعر وهو مقيم في البصرة / بصرياثا أن العالم يدور من حوله, أي بمعنى أنه فهم ما يجري في العالم, واكتنز بالفكر والثقافة العالمية. كل هذا صبه محمد خضير في قالب سردي جميل.
وكأمثلة على ذلك: (الزط) التي ترجمها وليم هوجنز إلى: South African Jats , والزنج التي ترجمها إلى East Africans. غير أنه على ما يبدو لم يستوعب عبارة (لولا المكدون ما وجد قصاصون) ص 12، وهي في الأصل جملة تنطوي على الغموض حتى بالنسبة لنا نحن القراء العراقيين والعرب. ولدى بحثنا عن معنى كلمة (مكدون) توصلنا إلى فهم هذه الكلمة. فـ(الكدية) (بضم الكاف): شدة الدهر والسؤال. وأصحاب الكدية قوم يتجولون في البلاد المختلفة والأمصار المتباعدة يتكسبون بالأدب تارةً ويحتالون تارةً أخرى على الناس بحيل ملفقة وأخرى مخترعة. كما أن العراقيين يستخدمون كلمة (مكدي) بلهجتهم الدارجة بمعنى (المستجدي) أو(المتسول) أو (طالب الحاجة).
لقد ترجم هوجنز جملة محمد خضير المذكورة أعلاه كما يلي:
Had there been no misers to discuss , there would have been no authors , أي: لولا هنالك بخلاء كي ندرسهم لما وجد مؤلفون, وهي, في اعتقادنا عبارة ملتبسة لا تعني شيئاً وبخاصةٍ حينما كتب: misers to discuss أي (بخلاء كي ندرسهم). لقد فات المترجم أن يعرف أن (المكدين) الذين أسماهم (البخلاء misers) كانوا يتكسبون بالأدب, وإليهم ينتمي (القصاصون narrators أو storytellers) وليس (المؤلفين أو الكتاب authors), كما ذهب إليه المترجم.
كما وقع المترجم في خطأ آخر, حينما ظن أن المقصود بـ (العين) هو حرف (العين) وليس كتاب (العين) للخليل بن أحمد الفراهيدي.
يقول محمد خضير في (بصرياثا): «ولولا لحون الخلطاء ما وُجد لسان عربي. ولولا ذلك اللسان ما وُجد (العين) وصاحبه. «ص 12.
يترجم هوجنز هاتين الجملتين كما يلي:
If this language had not come into existence , there would have been no letter ayn or its mate.
ولأن المترجم لم يدرك المقصود بـ (العين) وحسبه (حرفاً) من حروف الأبجدية العربية وليس كتاباً شهيراً للفراهيدي (وهو من مواطني البصرة / بصرياثا أيضاً) ترجم (صاحبه) ترجمة حرفية فقال: its mate (أي رفيقه أو زميله).. في حين أن المقصود (مؤلفه أو كاتبه – أي مؤلف الكتاب – its author).
وبما أن المترجم كان يعي جيداً أن من مهماته أن يوضح ويفسر وينقح بعض الجمل والعبارات, فقد صحح هوجنز بعض جمل محمد خضير, وأعاد صياغتها بما ينسجم مع لغته الانجليزية وإليكم بعض الأمثلة: يقول محمد خضير فيما يتعلق بكتاب (بصرياثا) في الصفحة 13: «لأن ولادته تكررت مرات ومرات. غليظ كالصخرة, رقيق كالرطبة, مالح كالبئر, عذب كالينبوع «
صحح هوجنز كلمتي (مالح كالبئر) بـ (مالح كماء البئر as briny as well water), كما صحح كلمتي (عذب كالينبوع) بـ (عذب كماء الينبوع as sweet as spring water). لقد أحسن هوجنز صنعاً حينما فعل ذلك, فلو أنه ترجم الجملتين ترجمةً حرفية لتعرضتا لسوء الفهم ولشك القارئ الانجليزي في ما تقع عليه عيناه من جمل وكلمات. فلو قال المترجم: (عذب كالينبوع as sweet as spring ) فربما يتبادر إلى ذهن القارئ الانجليزي أن المقصود هو (فصل الربيع (أي يكون معنى الجملة: عذب أو حلو كالربيع.
لقد استبدل هوجنز بعض العناوين, وهذا ناتج عن وعيه بأنه لو ترجمها ترجمة حرفية لبدت عديمة المعنى له وللقارئ الانجليزي, وكذلك لن تنقل أي نوع من الإيحاء لذلك اتجه هوجنز إلى نوعٍ من التكييف أو التعديل كلما كان ذلك ضرورياً.. وحاول جذب القارئ وإحداث نوعٍ من الأثر في نفسه.. ومن الواضح أنه وضع القارئ الانجليزي نصب عينيه وركز على رد فعله وحرص على أن لا يُخيّب أفق انتظاره.. أما بالنسبة لنا, نحن قراء العربية وكُتابها, فنعتقد أن الترجمة جاءت قريبة من المعنى وفي أغلب الأحيان دقيقة بما يكفي, بحيث ميز المترجم هوامشه هو عن هوامش محمد خضير بحروف طباعية مختلفة.
دقق المترجم في المراجع التي اعتمدها محمد خضير في ما يتعلق بـ (محاورات أفلاطون) و(حكمة الغرب) لبرتراند رسل ودراسة (أمكنة أخرى) لميشيل فوكو, فهذه كلها قرأها محمد خضير بالعربية وضمّنها في كتابه, لكن المترجم عاد إلى هذه الاقتباسات كما وردت في المصادر الانجليزية, وهذا, في اعتقادنا دليل على حرص المترجم ودقته وأمانته. إذ ليس من المعقول أن يترجم من العربية إلى الانجليزية نصوصاً بوسعه أن يجدها منشورةً بلغته الأم في بطون الكتب أو على شبكة الانترنت (كما حصل في دراسة ميشيل فوكو).
نجح المترجم في اختيار مفردات وتعابير مكافئة ومعادلة لما ورد في كتاب خضير, إذ لم يقلْ eternal citizen)) وهي الترجمة الحرفية لكلمتي (مواطن أبدي), وهي الصفة التي خلعها المؤلف على نفسه, فـ eternal citizen تعني للفرد الانجليزي (مواطن خالد أو سرمدي) بل استخدم تعبير permanent citizen أي (مواطن دائم الإقامة في مدينته), وهو بالضبط المعنى الذي قصده محمد خضير. كما أنه لم يترجم عنوان (كرسي الظلام) إلى: darkness seat لأن الظلام بالطبع ليس له كرسي وربما كان الفرد الانجليزي يقع ضحية الترجمة الحرفية وكان سيلتبس عليه الأمر. ولهذا ترجم هوجنز (كرسي الظلام) إلى seat in the darkness وهو ما عناه المؤلف على وجه الدقة. فتحت هذا العنوان كتب خضير عن السينما والأفلام السينمائية التي شاهدها في صباه والطقوس التي ترافق عرض الفيلم السينمائي في الصالة المظلمة.
أما عبارة خضير الواردة في الصفحة 13: «وا عجباً ! كيف أكون فيها ومسافراً إليها في حين ؟ ابناً لها وغريباً عنها في ذات ؟ «فقد ترجمها هوجنز ترجمةً جيدة لكنه لم يضع علامتي الاستفهام في نهاية كل تساؤل يوجهه المؤلف إلى نفسه.
هذه بعض الملاحظات على ترجمة السيد وليم م. هوجنز لـ (بصرياثا).. وإذا كان لابد من إشارة فإنني أقول أن السيد هوجنز ترجم من قبل ثلاثية نجيب محفوظ (قصر الشوق, بين القصرين, والسكرية) إلى الانجليزية.
والحق إن ما من ترجمة تخلو من الأخطاء البسيطة والهفوات حتى إذا كانت جيدة ومقروءة في اللغة الهدف. وقد قرأنا على شبكة الانترنت أن هيلين تريسي لوي – بورتر التي ترجمت جميع روايات توماس مان (عدا [ البجعة السوداء ]) من الألمانية إلى الانجليزية طوال ربع قرن من الزمن, وهي روايات ضخمة ومعقدة (رواية [يوسف وأخوته] بأربعة أجزاء وتقع في 2000 صفحة).. هذه المترجمة الأمريكية التي رحلت عن عالمنا في سنة 1963 ارتكبت بعض الأخطاء ويقال إنها كانت تحذف بعض الفقرات وتضيف للنص الروائي وتغير.. إلخ إلا أن ترجماتها لروايات مان هي وحدها المتوفرة باللغة الانجليزية. وفي مقدمة ترجمتها لـ (الجبل السحري) سنة 1927كتبت هيلين: «لا بد لنا من أن نصب البنفسج في البوتقة. إن العمل الأصلي يجب إعادة تشكيله بلغة أخرى. وطالما أنه في العمل الخلاق: الكلمة والفكر لا يمكن تجزئتهما, لذلك فإن المهمة تكون من النوع الذي ينكمش أمامه الفنانون وتتراجع عنه وجهات النظر العقلانية. «
وفيما يتعلق بأخطاء الترجمة, يقول ميلان كونديرا في حوارٍ أجرته معه أولغا كارلزلي: «وا أسفاه, مترجمونا يخونوننا. إنهم لا يجرؤون على ترجمة اللا مألوف في نصوصنا – ما هو غير شائع, وما هو أصيل. إنهم يخشون أن يتهمهم النقاد بأنهم يترجمون بصورة رديئة. ولكي يحموا أنفسهم, يجعلوننا تافهين, وسطحيين. ليستْ لديكِ فكرة كم أضعتُ من الوقت كي أصحح ترجمات كتبي. «(6)
لقد قرأ هوجنز (بصرياثا) بتأنٍ وعمق إدراكاً منه أن القراءة هي المرحلة الأساسية من عمله, وهي أيضاً فعل تأويلي لأنها مطالبة وقادرة على إضاءة النص ولهذا عمد إلى ما طلبه بورخيس من مترجمه بألا يترجم ما كان يقول وإنما ما يريد أن يقول. نعم, فالمطلوب من المترجم أن يصل إلى أبعد من كلمات النص الأصلي كي يعيد بناء المعنى الكامن الذي يمنحه حياةً جديدةً من خلال نقله إلى لغةٍ أخرى ويصبح مقروءاً من أناس ينتمون إلى خلفية ثقافية واجتماعية ودينية وأيديولوجية مختلفة وربما يقرؤونه في سياق زمني وتاريخي بعيد. ومثال على ذلك, إن (طبل من صفيح) المنشورة بالألمانية سنة 1959 لم تُترجم إلى العربية إلا بعد فوز غونتر غراس بجائزة نوبل للآداب في 30 / 9 / 1999, أي بعد أربعين سنة على نشرها.
(4)
حافظت ترجمة هوجنز على مكانة مؤلف (بصرياثا) وهو الكاتب الأشهر من كتاب القصة القصيرة في العراق فضلاً عن كتاباته السردية والنقدية وثقافته المتنوعة وتمثله لمؤثرات جيله(الستيني) وإعادة تمثيلها فنياً من خلال التجريب والخلق المستند إلى مخيلة خصبة ورؤية واعية للواقع والتاريخ. والحق يقال, كان النجاح حليف المترجم في معظم الأحيان وكانت إضافاته وتعديلاته هنا وهناك ورجوعه إلى النصوص الأصلية المكتوبة بالانجليزية التي اقتبسها محمد خضير ينم عن إخلاصه وأمانته ورغبته في تقديم عمل أدبي ناجح بحيث يثير اهتمام الناطقين بالانجليزية, ولهذا لجأ (وعلى الأرجح دار النشر) إلى تجنيسه كـ (رواية عربية حديثة Modern Arabic Novel A), كما جاء على صفحة الغلاف.
وعلى الرغم من الهفوات البسيطة هنا وهناك, استطاع المترجم الانجليزي وليم م. هوجنز أن يرتقي إلى مهارة محمد خضير ويجعل قراء اللغة الهدف يتفاعلون مع (بصرياثا) وربما يتوقون لرؤية المدينة أو زيارتها بعد أن تستعيد عافيتها وتصبح صالحةً لسكنى البشر.
لقد استطاع هوجنز أن يقدّم محمد خضير بأفضل صورةٍ ممكنة, وأراد لكتاب (بصرياثا) أن يحيا في لغةٍ جديدة. وحسناً فعل, لأن الترجمة تثري الآداب العالمية وتطوّرها, عندما تُدخل إليها ثيمات وأنماطاً أدبية وأساليب روائية وقصصية وشعرية واتجاهاتٍ أدبية مبتكرة, مما يجعل الكتاب والشعراء قادرين على ارتياد عوالم جديدة, واللجوء إلى كتابة مغايرة لا تساير المألوف وتبتعد عن القوالب الجاهزة والمواضيع المكررة.
***
نبذة عن محمد خضير: كاتب عراقي, وٌلد في البصرة سنة 1942 , بدأ النشر أوائل ستينيات القرن الماضي, وذاع اسمه على النطاق العربي إثر نشر قصتيه القصيرتين (الأرجوحة) و (تقاسيم على وتر الربابة) في مجلة الآداب البيروتية. تُرجمت الكثير من قصصه إلى اللغات العالمية, ومنها الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية والألمانية والروسية. نال محمد خضير جوائز عدة من أهمها جائزة سلطان العويس الثقافية بدورتها الثامنة سنة 2004, وجائزة القلم الذهبي من إتحاد الأدباء والكتاب في العراق . لم ينشر خضير سوى عشرة كتب وهي: (المملكة السوداء, قصص قصيرة, 1972), و(في درجة 45 مئوي, قصص قصيرة, 1978), و(بصرياثا: صورة مدينة, 1993), (رؤيا خريف, قصص قصيرة, 1995), و(الحكاية الجديدة, نقد, 1995), و(تحنيط, قصص قصيرة, 1998), و (كراسة كانون, رواية, 2001), و(حدائق الوجوه: أقنعة وحكايات, 2008), و(السرد والكتاب, 2010), و (الرجل والفسيل, 2012), وهذا الكتاب يضم بين دفتيه ثماني مقالات كتبها خضير عن رفيق دربه الأديب العراقي الرائد محمود عبد الوهاب, الذي رحل عنا سنة 2011, كما يحتوى على ما تبقى من قصص لم ينشرها عبد الوهاب إبان سنوات حياته, اختار لها خضير عنواناً أولياً هو: (يوم الأسبوع الثامن). وكما هو واضح يصعب علينا تجنيس بعض إصداراته, فقد أولع خضير بما هو غير مألوف, وغير سائد. وطوال مسيرته الأدبية دأب على الكتابة خارج الأُطر والأجناس والأساليب المتكلّسة, فهو من الأدباء الجادين الذين يسعون إلى تجاوز الأساليب المعروفة التي تميل إلى التقليد والتكرار مما يسبب السأم والضجر.
الإحالات
1. دليل الناقد الأدبي / د. ميجان الرويلي, د. سعد البازعي, المركز الثقافي العربي, الطبعة الخامسة 2007, ص 274, 275.
2. The World As India – The St. Jerome Lecture on Literary Translation – Susan Sontag / شبكة الانترنت.
3. «اللحظة الإبداعية في ترجمة الشعر» مقال بقلم سهيل نجم / مجلة(الأقلام) العراقية – العدد الثالث 2010 ص229.
4. The World As India – The St. Jerome Lecture on Literary Translation- Susan Sontag / شبكة الانترنت.
5. ترجمة الرموز الدينية في رواية «زقاق المدق «إلى الفرنسية / سعيدة كحيل وآمال آيت زيان / مجلة فصول المصرية – العدد 80, شتاء 2012, ص 398.
6. حوار مع ميلان كونديرا / ترجمة علي عبد الأمير صالح / مجلة (البحرين الثقافية) – العدد68, أبريل 2012, ص 111.
1