«الآن هي صور وتذكّـرات، هي لحظات أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. هي رقصات لغة، وشطحات أوهام، ونصوص ورقية ما يبقى منها غير الرائحة القديمة لحبر الحياة، وحبر الكتابة».
(أشجار القيامة، ص 51).
1 ــ الرواية بالجزائر رافد أساس من روافد الرواية في المغرب العربي خاصة، وفي العالم العربي عامة، إلا أنها لم تلق بعد ما تستحق من الدرس والبحث.
لقد ظهرت الرواية بالجزائر أول ما ظهرت، كجنس أدبي حديث، باللغة الفرنسية عقدين أو أكثر قبل أن تظهر باللغة العربية. ونجحت الرواية بالفرنسية في أن تخطو خطوات متقدمة ومتميّزة على يد كتّاب من بينهم مولود فرعون ومحمد ديب ومولود معمري… واستطاع هؤلاء الروائيون، في نظر الناقد المغربي محمد برادة، أن يؤسسوا « الحداثة الروائية بالفرنسية في فترة موازية لنفس التجربة التي تحققت باللغة العربية في أقطار الشام ومصر منذ الثلاثينات»(1)، ومن خلال الكتابة باللغة الفرنسية تفاعلوا مع تجربة شعبهم المستعمر واستوحوا ذاكرته وتاريخه. والى اليوم مازالت الجزائر تقدم أصواتا روائية بالفرنسية تفرض نفسها داخل وخارج وطنها الأصلي.
وبالرغم من أن الرواية بالعربية في الجزائر قد ظهرت متأخرة، وعمرها قد لا يتعدى نصف قرن(2)، فإنها قد حققت تراكما نوعيا من السبعينات إلى اليوم يستحق الاهتمام والعناية، خاصة وأنها قد عرفت تحولات هامة من الثمانينات إلى بداية الألفية الثالثة.
ويمكن أن نزعم أن مرحلة التسعينات وبداية الألفية الثالثة قد شهدت ظهور رواية جديدة باللغة العربية على يد جيل جديد نشأ وسط أحداث العنف الدموي المأساوي، ومن كتّابه: بشير مفتي وعز الدين جلاوجي والخير شوار وأمين الزاوي وحميدة العياشي وأحلام مستغانمي وكمال قرور وعبير شهرزاد وابراهيم سعدي وحسين علام وحميد عبد القادر وجيلالي عمراني وسفيان زدادقة …، ومن أهم خصائص رواياتهم التحرر من قيود الرواية الكلاسيكية، والنزوع إلى الاستقلال عن الخطاب الإيديولوجي المهيمن، وإسماع أصوات الذات المقموعة، والانغماس في قضايا الواقع والتباساته، والعناية بالطرائق الفنية والجمالية، والنزوع إلى التجريب والوعي المتزايد بالكتابة من حيث هي مغامرة في ذاتها.
2 ــ ونفترض أن ما يقرّبنا أكثر من إشكالية الكتابة هو الاشتغال على نصّ ما، ومن خلال الاشتغال نعمل على تحديد معنى الجدّة والخصوصية، أو معنى التجريب والاستقلالية، كما قد نعمل على استكشاف آفاق بكر للكتابة كما للقراءة. وفي هذا الإطار أقترح الاشتغال على نص صدر سنة 2005 تحت عنوان: أشجار القيامة للروائي الجزائري المعاصر بشير مفتي.
بنظرة سريعة، يمكن أن نلاحظ بأن في الرواية عددا من عناصر الحداثة والتجريب:تعدد الرواة، وتكسير خطية السرد، وتقسيم الرواية إلى أجزاء وأقسام منفصلة ومتصلة في الوقت نفسه، والتخييل الذاتي، والخلط بين الأجناس والأنواع الأدبية، النقد والتنظير، الصوغ الموضوعاتي للقارئ، معالجة متوازنة للواقع والخيال… وبقراءة سريعة كذلك، يمكن أن نسجل أن الرواية تنتسب إلى خطاب ثقافي جديد يعيد أو يريد أن يعيد قراءة تاريخ الثورة، بمنظورات نقدية جديدة بعيدا عن دوغمائية الخطاب الإيديولوجي، ويقول المسكوت عنه، يقول الخيانة والفساد، يقول مأساة العنف والدمار، يقول الخوف والقمع والحرمان والقهر والجنون والموت في محيط متعفن فاسد مخنوق..و بهذا، كما بغيره، لم تعد الكتابة هي أن تردد الرواية خطاب الثورة الذي أمسى مسكوكا متخشبا، بل أن تمنح الفرصة للفرد المعزول المهدد لأن يقول ذاكرته وتاريخه ومجتمعه، ذاتيته وغيريته، فكره المضطرب ونفسيته المأزومة، تيهه وجنونه، انتحاره وموته ..
ومع ذلك، تبدو لي هذه العناصر مدرسية معيارية تتردد باستمرار كلما تعلق الأمر برواية تجريبية جديدة، ويبقى شيء ما ناقصا وغائبا هو، ربما، الخيط الرابط بين كل هذه العناصر، أو ربما هو المدخل الذي اختارته الرواية لتقول ما تريد أن تقول، وبالطريقة التي تراها أكثر ملاءمة ودلالة.
ولنفترض أن هذا المدخل هو: الجسد، وهو مدخل يفرضه هذا النص الروائي نفسه، كما سنلاحظ فيما بعد، كما أنه اليوم المدخل الأكثر بروزا على مستوى الإنتاج الروائي بالعالم العربي، كما على مستوى نقده وقراءته.
ومع ذلك، أفترض أن الجسد في رواية: أشجار القيامة يتقدم بمعنى مغاير للمعنيين السائدين: للمعنى الكلاسيكي الرومانسي الايروتيكي، وللمعنى الحداثي البورنوغرافي الشهواني. فرواية بشير مفتي وان كانت تقول الحب والجنس والشهوة واللذة، فإنها لا تقول ذلك إلا في علاقة بالقهر والاغتراب، بالسجن والاعتقال، بالعنف والألم، بالانتحار والموت، بالهذيان والجنون. وهي إذ تقول حكاية الجسد المقموع والمقهور والمسجون والمعذب والمحروم والمقتول، فإنها بذلك تريد أن تحدثنا عن قسوة الحب وعنفه: حبّ الثورة أو حبّ المرأة أو حبّ الكتابة، في عالم فاسد متعفن مخنوق، وفيّ زمن هو زمن الثورة المغدورة، زمن الخيانة والفساد، زمن القتل والموت.
وإضافة إلى ذلك، فالجديد في هذه الرواية لا ينحصر في كون الحكاية هي حكاية جسد ما، وما أكثرها اليوم، ولا في أن الرواية تكتب الجسد بمعنى من المعاني، بالرغم من أهمية ذلك، بل اللافت هو أن الجسد نفسه هو ذات القول والكلام في هذه الرواية، أو على الأقل في أكثر أجزائها قوة وتأثيرا. فالجسد هو الذي يقول ذاته وأخره، تجربته ومصيره، أحلامه وآلامه،والجديد يكمن في الطريقة التي يقول بها الجسد حياته وموته ، عذابه وألمه، حبّّه وحرمانه، هذيانه وجنونه.. وبمعنى آخر، فاللافت في الرواية أن الجسد ليس موضوعا للكتابة فحسب، بل هو ذاتها أيضا، فالجسد هنا هو الذي يقول ذاته، هو الذي ينتج خطابه عن ذاته وجنسه وآخره.
ويستتبع هذا الافتراض أسئلة عديدة من أهمها: كيف تمثلت هذه الرواية الجسد؟ ما معنى أن الجسد موضوع السرد وذاته في الوقت نفسه؟ أمن الممكن أن نتحدث عن رباط ما بين فعل الكتابة برمزيته وأدبيته وأبعاده النفسية والثقافية وبين التجربة الحيّة المأساوية التي تمتلكها الذات عن جسدها وجنسها وآخرها؟ أمن الممكن أن نتحدث عن جدل الجسد والكتابة في رواية أشجار القيامة، وما هي النتائج التي تترتب عن هذا الجدل؟
3 ــ جدل الجسد والكتابة:
3 ــ 1 ــ تفتتح الرواية بلحظة خاصة واستثنائية يعيشها جسد الراوي في اللحظة الراهنة: لحظة يوجد فيها الجسد في غرفة الإنعاش الأشبه بالزنزانة، وهي لحظة الاستيقاظ من غيبوبة لا يعرف الراوي كم استغرقت من الوقت. فبعد محاولة قتله أو انتحاره التي أنقذوه منها، يستيقظ جسده ليجد الحياة، أو ما تبقى منها، تنادي عليه، وتدفعه للمقاومة وتحدّي الموت. إنها لحظة العودة من عالم الموت والغياب إلى عالم الحياة والحضور، لحظة يتوقف فيها الزمن، ويشاهد المرء كل شيء، ويدرك أنه حبيس لحظة: « يالها من لحظة! عمري كله هنا. مجتمع في هذه النقطة … لاشيء ينتهي ولا شيء يبدأ، كل شيء بداية ونهاية» ( ص ص 7 ــ 8).
يتعلق الأمر بلحظة استثنائية طافحة بالشيء وضده، بالفرح والكآبة، والجسد فيها معلق بين الموت والحياة، بين هنا وهناك، ولا يجد جواب اليقين عن أسئلته: « أين أنا الآن؟ بعضي هناك، وبعضي الآخر هنا. لا أعرف أين هنا، ولا أين هناك؟»(ص 10).
وفي هذه اللحظة الخاصة، يشعر الراوي أن ساعة الحسم، ساعة الحقيقة، قد حلّت: ساعة التذكر والنسيان، ساعة تجريب الحكي وتلوين الذاكرة. وما يريده الآن « هو فتح الجرح، وتشريح الجثة، وقول الحقيقة»(ص16)، فبعد أن قطع كل ذلك الطريق اللانهائي نحو الغياب والموت، نحو المجهول واللانهاية، لم يعد يخاف لومة لائم في قول الحقيقة، بل انه لن يبرئ نفسه، فهو سبب من أسباب الجريمة. ولأن أولئك الذين قتلوه وواروه التراب، يريدون بذلك أن يدفنوا تاريخه وذاكرته، فانه سيحكي وسيحكي ضد هؤلاء الذين أرادوا أن ينتهوا منه بهذا الشكل، فذاكرته ما تزال تشتعل بالضوء، وعيناه تحلمان، وقلبه لن يموت أبدا(ص 17). وبالتذكّر واستحضار ما مضى، يحصل الجسد « الميت/الحيّ» على ما يسرّ النفس والقلب.
أول ما يستحضره الراوي هو حالة جسده في غرفة الإنعاش التي قضى بها شهرين. ولم يكن يدرك ما يحدث له: استنطاق وتعذيب، تخدير وتنويم. تستنطقه الممرضة فاتن في مرحلة أولى، ثم يأتي بدلها ممرض أكثر شدة وغلظة، وهما معا لا يسألانه إلا عن أشياء كان يقولها في غيبوبته، عن أوراق يقول انه كتبها عن الثورة، عن امرأة اسمها فاء يتحدث عنها كثيرا عندما يكون غارقا في الحلم والهذيان. يسألانه وهو لم يعد يعرف، لم يعد يتذكر هل كان يعرف امرأة اسمها فاء، أهي امرأة أم حلم أم كابوس، أم هي من صنع خياله، هي المرأة الكتابة، أم هي أناه العميقة والبعيدة؟؟
ويتداعى الراوي مع ماضيه الخاص، ومن دون تفكير، كما يقول، يذهب إلى مناطقه الداخلية البعيدة والمعتمة والحية. والملاحظ أن عنصرين هما اللذان يحضران بقوة في هذه المناطق البعيدة في أعماق الجسد: المرأة والكتابة. وقد يجتمعان معا في عنصر واحد: المرأة ـ الكتابة التي اسمها فاء.
العلاقة بالمرأة تبدأ مع الأم، والراوي يقول إن أمه قد رحلت في الوقت الذي كان بحاجة إليها. ويقول انه تعرّف على كريمة منذ طفولته في حيّهم القذر، وكانا في مدرسة واحدة، وكان يأخذها إلى أماكن بعيدة عن الأنظار، وهناك يطلع كل واحد منهما على جسد الآخر وأعضائه الجنسية. لم يكن يوما يحبها، يعتبرها عديمة الذكاء، قليلة المعرفة. غادرت المدرسة، وواصل هو تعليمه إلى أن صار مهندسا، إلا أن العلاقة بينهما لم تنقطع تماما، ستتزوج كريمة مرارا، وفي كل مرة تحصل على الطلاق، وتعود لتعيش إلى جنب الراوي، فلا أحد آخر يمكن أن يحلّ محلّه، بالرغم من معرفتها بأن الراوي لا يحبها، بل ويحطّ من قيمتها، ويحدّثها باستمرار عن المرأة الأخرى التي يحبّها: زهرة.
بالنسبة إلى كريمة، إسماعيل الذي يحبها وتزوجها، هي لا تحبه وعملت المستحيل من أجل الحصول على الطلاق منه، وحبها للراوي تعرف أنه حبّ مستحيل، فهو لن يبادلها الشعور نفسه، ولو مارس معها الحب والجنس، فانه يبقى مغرما بامرأة أخرى: زهرة. وبعد فشلها في فصله عن تلك المرأة وامتلاكها لنفسها، شرعت في تدميره، في تدمير عقله وأعصابه وجسده، بعقاقير وحبوب سامة، وانتهى بها الأمر إلى تدمير نفسها، ولا ندري هل انتحرت أم استدعت إسماعيل لقتلها كما تقول رسالتها التي اكتشفها الراوي، أم أن هذا الأخير هو نفسه قاتلها.
والشيء نفسه بالنسبة إلى الراوي، فهو يحب زهرة، ولكنها زوجة صديقه ساعد المناضل الذي يحترمه، بل ربما يقدّسه، وهي تحبّّ زوجها، ولا تبادله هو الراوي، على الأقل كما يتصور، الحبّ نفسه. وقد ظلّ الراوي متعلقا بها، وكان يأمل في استمالتها خاصة بعد اعتقال ساعد وغيابه الطويل. وفي الوقت نفسه تقدمت علاقته بكريمة لتنتقل إلى الجنس واللذة، دون أن يمنعه ذلك، هو الذي يكتب رواية، من التفكير في امرأة أخرى اسمها فاء. وانتهى به الأمر إلى الجنون والهذيان ومحاولة الانتحار.
والشيء نفسه بالنسبة إلى زهرة، فهي تحب ساعد، لكن هذا الأخير يعيش بقناعة أن عليه الاستمرار في الثورة والنضال إلى أن يحدث شيء أو يموت، انه من النوع الخاص الذي يضحّـي حتى بجسده من أجل موضوع حبّـه: الثورة. وبعد انتحار ساعد بزنزانته، صارت زهرة تعترف بحبّها للراوي، الحبّ الذي كتمته إلى أن جنّ الراوي وانتحر ساعد.
والشيء نفسه بالنسبة إلى عيد، صديق الراوي، فقد أحبّ سارة وتزوجها، لكن هذه الأخيرة لم تستطع أن تنسى المراهق الذي اغتصبها وأنجبت منه ولدا، فارتكب عيد جريمة قتل، وتمّ اعتقاله وإيداعه السجن…
بالنظر إلى كل شخصية من شخصيات الرواية، نجد أن موضوع الحب غائب أو مستحيل. وإذا ركّزنا على الراوي، فإننا نختزل الأمر بالقول إن هناك امرأة تحبّ الراوي، لكن الراوي يحب امرأة أخرى، وهذه المرأة تحب رجلا آخر، وهذا الرجل يحب شيئا آخر أعلى وأسمى…والجسد في كل الحالات محروم من موضوع حبه ورغبته، موزّع بين الواقع والمشتهى، منقسم بين امرأة الواقع وامرأة الخيال. ولاستحالة امتلاك موضوع الحبّ، كانت نهاية الجسد، في كل مرة، مأساوية: انتحرت كريمة أو قتلت، انتحر ساعد في السجن، أصيب الراوي بالجنون وحاول الانتحار…
وإذا انتقلنا من المرأة إلى الكتابة، فاللافت في الحكاية علاقة الراوي بالكتابة، فمن بداية الحكاية إلى نهايتها نسمع ما يفيد أن الراوي يكتب رواية، بل نقرأ بعض فقراتها ومقاطعها. هي رواية عن الثورة، عن امرأة اسمها فاء..هي رواية تقول الواقع وتقول الثورة، تقول الحلم والحب المستحيل، تقول الألم والأمل، تقول الحقيقة والهذيان، تقول الحلم والجنون… هل تمكن الراوي من أن يكتب الرواية التي يريد؟ هل تمكن من امتلاك تلك المرأة الكتابة التي اسمها فاء؟ هناك الكثير من القرائن التي تكشف أن الراوي لم يكتب كل ما يريد، وأن فاء، كزهرة، بقيت حبا مستحيلا، غائبا، بعيدا… كما أن هناك من القرائن ما يفيد أن الراوي قد كتب الرواية وأطلع عليها مجموعة من القراء أبدوا آراءهم، ونجح في أن يضمّن أوراقه جسده وتاريخه، ألمه وتمزّقه، حماسه للثورة وجنونه، حلمه وهذيانه ..كما يمكن القول إن كريمة قد خلّـفت يوميات فيها اعترافات تكشف أجزاء مهمة من الحكاية، مثلما تكشف أن كاتبتها كانت تكتب وهي تعلم أنها مقبلة على وضع حدّّ لآلام الجسد وأوجاعه… كما ضمّنت زهرة شهادتها آلام جسد أحبّ ساعد إلى أن انتحر بزنزانته، ولم يستطع يوما أن يبوح للراوي بحبّه إلى أن ذهب بعيدا في طريق الجنون والموت…
واختصارا، وإذا ما ركّزنا على الراوي فحسب، فإننا نقول إن قوة هذا النص الروائي تعود إلى حكايته، وحكايته هي حكاية جسد يعيش في الوقت الراهن بين الحياة والموت في غرفة إنعاش أشبه بالزنزانة، وهو يستحضر ذاكرته ليقاوم الموت، وذاكرته تستدعي لحظات خاصة، لحظات يشكو فيها فقدانا في الكينونة، ذلك أن موضوع رغبته غائب ومستحيل باستمرار، والرغبة باعتبارها فقدانا متواصلا هي، كما قال ت. تودوروف3، الموضوع الجوهري الخاص بالأدب: بكلامه عن الرغبة التي تشكو فقدانا يستمر في الحديث عن نفسه.
3 ــ 2 ــ وإذا انتقلنا من اعتبار الجسد موضوعا للكتابة إلى اعتباره ذاتا ومنتجا للقول والكلام، وإذا ما ركزنا على الأجزاء المروية بلسان الراوي فقط، فإننا سنلاحظ أن الظروف التي يعيشها الراوي(محاولة الانتحار، الغيبوبة، محاولة الاستيقاظ، غرفة الإنعاش/الزنزانة،الاستنطاق، محاولة التذكّر ..) هي ظروف تفترض أن الجسد هو منتج القول والكلام وبطريقة مغايرة، إذ في مثل هذه الظروف لا نقول إن الجسد يحكي ويقول، بل الأصح أن نقول انه ينحكي ويقال، فهو ليس في كامل وعيه وإرادته، ذلك لأنه جسد كان في عالم الموت والغياب، وهو يحاول الآن أن يعود إلى عالم الحياة والحضور، أو الأصح أن نقول انه يوجد بين عالمين، ولا يدري أيهما العالم الحقيقي، لا يدري أين كان ولا أين هو الآن، وليس سهلا عليه في هذه الحالة أن يستعيد ذاكرته التي توجد، شأنها شأنه، في « حالة حضور نومي» على حدّ تعبير الراوي نفسه.
وبعبارة أوضح، ففي هذه الظروف « يحدث الشلل في الروح، لا يوجد رأس هنا، أقصد لا أفكر ــ يقول الراوي ــ وأنا أتداعى مع ماضي الخاصّ» (ص 12). والأمر يبدو كأنه يتعلق هنا بنوع ممّـا يسمّـيه الراوي نفسه بــ: التذكّر اللاواعي» الذي يمارسه جسد هو بين الحياة والموت، بين الغياب والحضور، بين الاستنطاق والتنويم … انه التذكّـر الذي يتّـخذ صبغة أخرى عبّر عنها الراوي بهذه الكلمات الشديدة الدلالة:
« هرطقات الروح، تعابير النسيان، فهارس الكلام المنتشي بالخوف والقلق والتصدّع الداخلي الكبير. الكلام الذي يهذي بلا توقّـف، وينتحب بلامبالاة، ويسعى جاهدا لكي يدرك الطريق»(ص 10).
وبمعنى آخر، فالجسد، ذات الكلام، ليس حاضرا كل الحضور، ولا غائبا كل الغياب، انه بين بين، وبالتالي فكلامه لن يكون من النوع المألوف في السرد والحكي، فهو أشبه بكلام الهذيان في تنقّله بين الأزمنة والأمكنة، وفي تفككه وانتثاره، في تدفقه واندفاعه، في تكراره وتوكيده، في انفعاله وحيويته، في كثافته وتفسّـخه، كما في هذا المقطع:
« كرهت حياتي من قبل، كيف كانت يا ترى. عراء الأيام، ودهشة الطفولة، سحر الحبّ. حنان الأمومة.. معابر الذاكرة، شوارع الحبّ المثقوب بالآمال الضائعة، الثورة المغدورة، زمن القتل، والفظاعة، وغياب الطموح، وانكسارات الجسد على سكك القطارات الموبوءة، والخيانات. أزقة الموت، وحروب تقع لتفجّر العالم، عالمنا المنفجر، كرهت زمن الحياة المتعفنة، جنون الاختيارات العشوائية، جنرالات الحرب، الحروب نفسها، حرب نهاية العالم لفونتس، حرب العوالم لويلز، حرب العرب في 48، حرب العرب في 67، حرب العراق في 73، حرب الفيتنام، حرب العراق، حرب أفغانستان، حرب الشيشان، حرب فرنسا للجزائر، حرب المخدرات، حرب المافيات، حرب النيران للغابات .. قاذورات الأغنياء. قصص الأطفال الذين يشيخون باكرا. والنساء المكرهات على تغييب أجسادهن حتى لا يوسمن بالعار، كرهت عارهم وشرفهم. كرهت ثرثرتهم في كل مكان ..»(ص 11).
وكلام الجسد أشبه بالهذيان في مزجه بين الواقع والخيال، وبين الوهم والحقيقة، وبين الشك واليقين، وبين التحقيق والتصوير، والتقرير والترميز، وبين السرد والشعر، كما في هذا النموذج:
« الحلم
فراشة نائمة في صدر الأرض.
بحر بلا شواطئ أو حدود.
ذكريات وارفة الظلال،
وجنان متعبدة للدهشة والذهول.
الحلم
قطعة منك. قطعة مني.
الحلم
لا ينتهي ولا يموت.
أخيرا أحسست بيديك الناعمتين تتسللان إليّ، وبروحها تطفو فوق مياه قلبي الهادئة، وتسبح براحة وسعادة مكتملة، ووجهها الطلق كالرعشات الخفيفة، وهي تغمر جسدا متعبا بالحياة والآمال التي ضاعت في صمت. أخيرا وحدنا يا فاء. وحدنا في هذه الزنزانة، عفوا الزنزانتين المنقبضتين على روحي، أراك مبتسمة مضيئة، نافذة تنفتح في صحراء العدم، وتطلين كعروس بحر، ممتلئة بنشوى الرحيق. بالمطر المنهمر بإيقاعات العشب حينما يتهادى من سعادة اللمس، واحتكاك الريح، أنت في وبداخلي. أنا فيك، وبداخلك، وعندما يذهبون وينتهي العالم، سأكون محتميا بك وفيك.» (ص 102).
واختصار، ففي هذه الرواية نجد الجسد صورا تتداعى، « شلالا من الصور والأحلام والذكريات، والقصص تخرج طليقة كالسهام، غير مصوبة نحو أيّ هدف … تخرج بأشكال هندسية متعددة وفوضوية، وبلا ضابط أو نظام»(ص 51). وهي في كل ذلك تقول الألم وقسوة الحبّ وعنفه: حبّ الثورة، حبّ المرأة، حبّ الكتابة. والرواية « الآن هي صور وتذكّرات. هي لحظات أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. هي رقصات لغة، وشطحات أوهام، ونصوص ورقية ما يبقى منها غير الرائحة القديمة لحبر الحياة وحبر الكتابة.»(ص 51).
4 ــ هل تكفي هذه الإشارات لأن نتساءل: ماذا عن الكتابة التي تقول الجسد في علاقته بالعنف والألم، بالجنون و الهذيان؟ ماذا عن الكتابة التي تقول قسوة الحبّ وعنفه؟ماذا عن الكتابة التي تمارس « التذكّـر اللاواعي»؟ ما هو الأثر الذي يتركه جسد يشكو الفقدان وقسوة الحبّ على بياض الورق، على جسد الكتابة؟
وبالمقابل، نتساءل أيضا: ماذا لو تخلّـينا عن النقد المعياري المدرسي؟ ماذا لو تخلينا عن القراءات والدراسات التي تحكمها عقلانية متضخمة؟ ماذا لو شرعنا في قراءات هذيانية تكسّر الحواجز بين جسد النص وجسد القارئ؟
الهوامش
1 ـ محمد برادة: الرواية في المغرب العربي، من أسئلة التكون إلى مغامرة التجريب، ضمن مؤلف جماعي: الأدب المغاربي اليوم، منشورات اتحاد كتّاب المغرب، الرباط، 2006، ص 9.
2 ــ إلى حدود السنوات الأولى من الألفية الثالثة، لايتجاوز عدد الروايات المكتوبة بالعربية في الجزائر المائة وخمسين رواية إلا قليلا، وهي بذلك تأتي في المرتبة الثالثة مغاربيا بعد المغرب(ما يقارب 600 رواية) وتونس(ما يقارب 300 رواية). و يختلف النقاد حول أول رواية بالعربية في الجزائر: يذهب العديد منهم، ومن بينهم الأستاذان محمد برادة وعبد الحميد عقار، إلى أن أول رواية بالعربية هي: ريح الجنوب التي أصدرها عبد الحميد بن هدوقة بداية السبعينات. وبالمقابل، هناك من يرى أن مؤسس الرواية بالعربية في الجزائر هو الطاهر وطار بروايته: الصادرة سنة 1974، وهناك من يقول إن بن هدوقة والطاهر وطار ورشيد بوجدرة هم الآباء الثلاثة للرواية العربية في الجزائر، وهناك من النقاد من يستحضر روايات صدرت قبل السبعينات، ومن بينها رواية: صوت العاطفة لمحمد المنيعي الصادرة سنة 1967، ورواية: غادة أم القرى لرضا حوحو الصادرة سنة 1947…. واللافت أن مشكلة أول رواية تعرفها باقي بلدان المغرب العربي(المغرب مثلا)، كما تعرفها الرواية العربية مجموعة!
3 ــ T.Todorov, Parole et désir, in, Poétique de la prose, ed. Seuil, 1971, p114.
حـســـن الـمــــودن
كاتب وناقد من المغرب